قراءة في كتاب “أليس الصبح بقريب” عن التعليم العربي الإسلامي

بين أيدينا كتاب “أليس الصبح بقريب” عن التعليم العربي الإسلامي، لأحد أشهر أعلام جامع الزيتونة، محمد الطاهر بن عاشور (1296 هـ/1879م-1393 هـ/1972م). يقدم فيه دراسة تاريخية وآراء إصلاحية من وحي بحثه وتجربته.

واختلف في تاريخ تأليفه، فقيل ألفه منذ سنة 1322هـ (1903م)، وانتهى منه بعد ثلاث سنوات، وقيل ألفه في سنة 1321ه (1902م) وقيل في سنة 1326هـ (1907م). وبغض النظر عن تاريخ تأليفه ومدى تأثره بواقع تونس آنذاك فإن دعوة الكاتب تعتبر الأولى في العالم الإسلامي، جاءت في وقت لم تعد تستجيب فيه المعايير التعليمية إلى التطلعات التحرّرية لجيل “النهضة”، بل أصبحت من أسباب تخلف العالم الإسلامي. فضلًا عن أنها جاءت في وقت الاحتكاك الثقافي والتربوي بين حضارتي الإسلام والغَرب، فقدم الكتاب محاولة لتقويم مسيرة التعليم في العالم العربي والإسلامي.

ولعل من أهم ما قدمه الكتاب هو تلك القيمة التاريخية بعرض كاتبه لملخص جامع مختصر لتطور المعرفة ومناهجها ومقرراتها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وإشكالاتهما بحسب رؤية الكاتب وتجربته. وإن كان قد مضى أزيد من قرن على صياغة هذه الأفكار الإصلاحية، إلا أننا نستخلص منها خلاصات لا تزال مفيدة لزماننا.

ويقع الكتاب في نحو 231 صفحة، بما فيها الفهرس ولوازم عرض الكتاب. قسّم الكاتب فيها أفكاره على عدة أبواب وعناوين متصلة، نتعرف عليها فيما يلي: 

لماذا نسعى إلى إصلاح التعليم؟

يرى المؤلف في كتابه “أليس الصبح بقريب” أن من الواجب على كل داعٍ إلى التعليم أن يوضح لطالبيه الغايات التي يحصلونها من مزاولة ذلك التعليم، سواء كانت غاية دنيوية أو أخروية؛ لأن لكلتا الغايتين طلابًا. ووراء هاتين غاية هي أسمى وأعظم، إنها إنتاج قادة للأمة في دينها ودنياها، وهداة هم مصابيح إرشادها ومحاصد قتادها، ومهدئو نفوسها إذا أقلقها اضطراب مهادها. فصلاح التعليم من مميزات الأمم، وبحسب ارتقاء عاداتهم ولغاتهم يكون تفاضلهم ثم يكون التفاضل بالأداء.

وضرب المؤلف أمثلة بعلماء أولوا اهتمامًا بتحسين أساليب التعليم، كالقاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسي وشيخ ابن خلدون، محمد بن إبراهيم الأبلي السليماني.

تصحيح مفهوم التنافس على السلطة

ومما استوقفني خلال مراجعة كتاب “أليس الصبح بقريب” قول الكاتب: “ولم يزل التنافس على السلطة على التعليم خلقًا قديمًا للدول والأحزاب، فقد حجر عثمان على أبي ذر أن يبث مبادئه في اقتسام الأموال، وعلى ابن مسعود إشهار قراءته. وحجر الفقهاء على الناس قراءة الفلسفة، وترددوا في إباحة تعلم علم المنطق، وحجر ملوك بني أمية بالأندلس على الناس دراسة ما عدا مذهب مالك بن أنس من مذاهب فقهاء الإسلام”.

وأرى هنا مغالطة تاريخية وقياسًا لا يستقيم: فعثمان بن عفَّان رضي الله عنه ناظر أبا ذر في مسألة علمية، ولم يكن عثمان منفردًا بقوله فقد وافقه كبار الصحابة عليه، بل كان قول عثمان هو قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والتابعين، وقد كان أبو ذر قد اجتهد في مسألة المال وأخطأ -رضي الله عنه- وأرضاه. ولا يصح ما يتهم به عثمان -رضي الله عنه- من نفي أبي ذر أو أذيته أو الحجر عليه، فكل هذه الإشاعات أثارها مبغضو عثمان -رضي الله عنه- للتشنيع عليه. ولا بد من التنبيه إلى أن أبا ذرٍّ -رضي الله عنه- قرر النزول في الرَّبذة باختياره، فحين رأى أن اجتهاده لم يوافقه أحدٌ عليه، طلب أن ينزل بالرَّبذَة الّتي كان يغدو إليها زمن النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن نزوله بها نفيًا قسريًّا، أو إقامةً جبريَّة، ولا حجرًا! ولم يأمره الخليفة الراشد بالرُّجوع عن رأيه؛ لأن عثمان -رضي الله عنه- كان يرى له وجهًا مقبولًا وفيه اجتهادًا من صادقٍ، لكنَّه يرى أيضًا أنه لا يجب على المسلمين الأخذ به[1]. من هنا لا يصح نسبة ما وقع بين الصحابيين -رضي الله عنهم- عثمان وأبي ذر إلى التنافس على السلطة على التعليم، إنما هو القول الشاذ مقابل القول الصحيح! قول الفرد مقابل الإجماع.

وكذلك الحال مع ابن مسعود -رضي الله عنه- فلم يكن قولًا انفرد به عثمان؛ إنما كان إجماعًا من الصحابة -رضي الله عنهم-. ومن يرجع لتلك الحقبة يشاهد كيف كان خلق ابن مسعود، فهو الذي قال مدافعًا عن عثمان حين أتم الصلاة في منى، وكان قد صلى مثله، فاعترض عليه الناس. فقال: “ولكن عثمان كان إمامًا للمسلمين، فخشيت أن أخالفه، فإن الخلاف شر كله”. وبذلك أوصى عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-، بل كان آخر من جلس مع ابن مسعود لحظات موته عثمان وصلى عليه! فهكذا كانت قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- طاهرة من الأحقاد والضغائن ولم يكن يحكمهم إلا حب الخير وإقامة الإسلام كما يحب الله ويرضى، لا منافسة على أي سلطة وإن كانت للتعليم!

أما حجر الفقهاء على الناس قراءة الفلسفة فهذا معلوم لخشيتهم من فتنة الناس وإبعادهم عن القرآن والسنة، ولما أحدثته من تفريق للأمة وانقسامها على مذاهب المبتدعة. فبقيت الفلسفة مخصصة لأهل الاختصاص للرد على المخالفين ومنع العامة منها. وهو مما وجب التنويه له في هذا المقام. أما بقية الأمثلة التي سردها الكاتب بعد ذلك فهي أنسب لجزئية التنافس التي طرحها الكاتب.

أطوار التعليم في عصر الأمة العربية قبل الإسلام

أليس الصبح بقريب

انتقل كتاب “أليس الصبح بقريب” بعد ذلك إلى تلخيص أطوار التعليم في عصر الأمة العربية قبل الإسلام، فالتعليم بين الأمم من أصول المدنية البشرية، بل هو من نظم الحيوان أيضًا، وهو في الإنسان أكمل وأرقى.

ونبه الكاتب في طرحه إلى أنه يروم تعليمًا يفيد ترقية المدارك البشرية وصقل الفطر الطيبة لإضاءة الإنسانية وإظهارها في أجمل مظاهرها فيخرج صاحبها عن وصف الحيوانية البسيط وهو الشعور بحاجة نفسه خاصة، إلى ما يفكر به في جلب مصلحته ومصلحة غيره، بالتحرر من الخلل والخطأ بقدر الطاقة وبحسب منتهى المدنية في وقته.

وشرح في هذا الباب كيف ظهر التعليم في بادئ أمره ضيقًا ضئيلًا عند الجماعات الأولى من البشر. وكان يتوكأ أولًا على التجربة فيسير سيرًا بطيئًا مع الزمان والأحوال؛ ثم كيف كان أول رقي التعليم بعد تلك البساطة بظهور الديانات الأولى، وفي مقدمتها الشرائع السماوية التي انتشلت الناس من حضيض الهمجية وأهلتهم لترقية المدارك وتهذيب الأخلاق وتديينها إلى سلطان قوة عليا مشخصة لديها ومعظمة ومعضدة بالأدلة الإقناعية والعظات المتكررة الموصلة إلى حد الخشية من سخطها والطمع في رضاها وكان ذلك قبل تدوين التاريخ.

اقتصر التعليم آنذاك على ما يبلغ إلى غاية استخدام النفوس في مقاصد الدين، لأن معظم نظام الأمم كان مستمدًا من الأديان في الكليات والجزئيات، وحملته وأمناؤه هم الذين يملون ذلك على إخوانهم. وبذلك يرى الكاتب أنه كان يومئذٍ اختصاصيًا لحملة الأسرار الدينية؛ وهم الكهنة والسدنة. لذلك لا ترى في التاريخ القديم عالمًا غير المختصين بالخدمة اللاهوتية، لعل لذلك سببًا آخر بعد سبب احتكار السلطة أن العلم لم يكن عليه إقبال العامة. لأن الناس يجعلون للعلم القيمة متى دخل العلم في عداد حاجاتهم.

وكان أكثر ما يظهر يومئذ ما يبرزون فيه العلوم التي تعين على استبقاء سلطانهم على الشعب لاحتياجه إليهم فيها، وهي الطب والحكم والتنجيم وعلى هذه السنن جرى الحال عند الهنود والقبط والفرس وسائر الأمم المتعاصرة في عصور التاريخ الأولى.

وأخذ اليونان صولجان الزعامة في العلوم، وكان العبرانيون ماسكين أزمة التعاليم الدينية في الشرق الأوسط، وبقيت أمم الشرق الأقصى من الصين والهند في عزلة، مغتبطين بعلومهم القديمة غير مبتغين لها بديلًا.

وانقسمت المعارف اليونانية إلى شعبتين: الشعبة الأفلاطونية وأصحابها يدعون الإشراقيين، والشعبة الأرسطاليسية وأصحابها يدعون المشائين. ويرى الكاتب أن اليونان بنظام التعليم والمدارس وتقاسيم العلوم كانت قدوة للأمم، وأن الرومان إنما ساروا على أثرهم حذو النعل بالنعل، إلا تغييرات طفيفة قضت بها الاختلافات القومية.

كما أشار الكاتب لحال المدارس العليا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من التاريخ المسيحي في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، وكيف امتد التحقيق والبحث من إيطاليا إلى أوروبا كلها. وظهرت يومئذ الفكرة في إصلاح التعليم وتحسينه بما ظهر من الجدال بين مقاومي الطريقة المدرسية (أنصار فلسفة أفلاطون)، والمدافعين عنها (أنصار فلسفة أرسطو).

ثم ظهر التقدم العلمي في القرن الرابع عشر في جرمانيا (ألمانيا) وهولاندة، مع هذا كله يقول الكاتب، لم يزل التعليم بصيغته الدينية والمعلمون أساتذة اللاهوت غالبًا، كما كان تعليم اللغة العبرانية لزوميًا في كثير من المدارس.

وكان أزهى عصر عني فيه بنظام المدارس عصر “فرديريك الكبير” في بروسيا بالقوانين التي وضعها لذلك سنة 1209هـ (1794م)، ثم تلتها فرنسا، واقتبست منها كثيرًا. وكانت الأخيرة منذ تأسيس الجمهورية الأولى قد فتحت مدارس الصربون والجروندين واليعقوبيين، لتلقن مبادئ الجمهورية للناشئين. وساد ذلك أوروبا كلها حتى أصبح من القواعد المقررة، أن شيوع التعليم وتقليل الجهالة تزيد الثروة وتقلل الجرائم والذنوب بإحصائيات حقيقية أثبتها التاريخ.

أطوار التعليم العربي الإسلامي

انتقل كتاب “أليس الصبح بقريب” لبيت القصيد، واللبنة التي لها طلع نضيد، وبدأ بالتعليم العربي قبل الإسلام، حيث كان العرب يلقنون أبناءهم وبناتهم ما يحتاجون له من المعارف، يعدونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم. وقد اشتهر زمانهم بالتدريب على الفصاحة، وإن كانت جبلة فيهم. ثم بعد تعليم اللسان، يأتي في الدرجة الثانية تعليم الأخلاق الجميلة والصفات العلية، يظهر ذلك في أمثالهم الحكمية ووصاياهم الشعرية والنثرية وقصصهم التأديبية.

وكان تعليم البنات متخصصًا في تدبير المنزل والتربية وتلقين خصال الكمال للمرأة والسيرة الصالحة لها، والأخلاق الحميدة المناسبة لها، مثال على ذلك قصة أم زرع[2]، الجامعة لمختلف أخلاق الأزواج ومعاملتهم لهن. وكانت الفتاة في ذلك الزمان تتعلم حسن التبعل للزوج والشفقة في تربية الصغار.

ثم يأتي بعد ذلك علمان في الدرجة الثالثة: علم الشعر وعلم الخطابة.

لقد حفظ العرب لغتهم من التغيير؛ فعدوا الخطأ واللحن فيها عيبًا يتعيّر به، وأعلنوا بدائع شعرهم وخطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج، فكان علمهم الحق هو أدب لغتهم، هو علمهم العقلي الوحيد.

ولهم معارف وتقاليد حافظوا عليها كانوا يعدون العلم بها من صفات الكمال، أهمها معرفة أنسابهم واتصال قبائلهم بعضها ببعض. ومنها الفروسية والرماية، إضافة إلى العلوم المتخصصة في بعض أفرادهم كالتنجيم، والكهانة والطب. وخلاصة القول فيهم كما لخصها الكاتب، أن العلوم فيهم كانت جارية على ما تقتضيه حاجاتهم فأخذوا من العلوم ما يحتاجه حال تمدنهم.

أما الكتابة فكانت جد نادرة في معظم بلاد العرب؛ إذ كانت الأمية غالبة على الأمة العربية، فأما بلاد الحجاز وتهامة ونجد فما كانت الكتابة إلا ضعيفة في أفذاذ منهم. ولكن الأمة كانت تشعر بها، ويستكتبون من يكتب لهم متى اضطر أحد إلى ذلك، وذكر الكاتب بعض من عُرف بالكتابة في ذلك الزمان.

بعد ظهور الإسلام

لما جاء الإسلام وأبطل من عادات الجاهلية ما أبطل وأبقى منها ما اختار الله بقاءه، فهدم معارفهم الباطلة من كهانة وسحر وتنجيم وغيره. انفرد الإسلام من بين سائر الأديان بالتنويه بفضل العلم، قال الله تعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9] وقال تعالى ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)﴾ [العلق: 3-4] والكثير من الأحاديث الجميلة عن فضل العلم حملها الإسلام.

وما لبث هذا الدين العظيم بعد أن استقل بظهوره من بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، حتى اشتغل أتباعه بتعلم القرآن والشريعة والتخلق بأخلاق الرسول. قال تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21].

كانت العرب أمة أميّة فعالج الإسلام هذا النقص؛ حيث جاء في كتب السيرة أن فداء بعض الأسرى الذين أسروا ببدر كان بأن يعلّم كل أسير عشرة من غلمان الأنصار الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداء الأسير. بينما كان جيرانهم اليهود من بعض البلاد متحيزين في قراهم وحصونهم تقتصر مخالطتهم العرب على التعامل بالأموال والتجارة، وقد استعربوا وظهر فيهم شعراء مثل شعراء العرب، وكان أحبارهم يتجنبون مخالطة العرب كراهية للإشراك المحذّر من أهله في التوراة.

لما جاء الإسلام عني العرب بتلقي الدين وحفلوا به احتفالًا عظيمًا؛ فشغلوا بتلقيه وكان رياضة أنفسهم وقانون معاملتهم، فلذلك أول تعليم تلقوه وكتب عليهم يومئذٍ حفظ ما تيسر لهم من القرآن. وقد جمع القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلى ذلك أيضًا صرفت غاية الخليفتين، أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- حتى جمع القرآن بالعراق على عهد عمر سبعمائة رجل فما ظنك بغيره.

وأعطى عمر الناس غير المهاجرين والأنصار وأبنائهم من بيت المال بمقدار ما عندهم من القرآن، واتخذ المكاتب لتعليم الصبيان، لقد جمع بعض الصبيان في زمن مالك بن أنس القرآن وهو ابن سبع سنين.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس لأصحابه بالمسجد ليعلمهم الدين، ويرشد السائلين ويؤدب ويحدث عن الأنبياء السابقين، ويحدد للناس سيرة نظامهم ويوصي ولاة الأمور ويكتب للأمراء، ويعلمهم مواقع السيرة الرشيدة. وكان غالب المتلقين للعلم يومئذ كبارًا من رجال ونساء. وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أياما معينة لتعليم النساء. وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتعلم أبناء المسلمين القرآن في المدينة مثل عبد الله بن عباس وأسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير.

علوم الشريعة

كان الصحابة حريصين على تعلم ما يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وربما تناوبوا لحضور مجالسه -صلى الله عليه وسلم-، ليبلغ الحاضر الغائب ما يسمعه في مغيبه. فتلقى الصحابة علم الشريعة مدة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، من علم القرآن ومعانيه وسنة النبي ومواعظه وأقضيته.

وقام الصحابة بعد وفاة النبي ببث ذلك، فكانت المدينة معهد علم الإسلام في حياة النبي ومدة الخلفاء من بعده، واستمر تهمم الصحابة ببث علم الإسلام فيما يتلقاه صغارهم عن كبارهم. وانتشرت العلوم الإسلامية في زمن خلافة علي -رضي الله عنه- في الكوفة وفي مكة وفي البصرة وفي الشام. وذكر الكاتب في هذا المقام كيف حرص الصحابة على حفظ ميراث النبي من القرآن والسنة.

ثم دهمت الناس في فتنة عثمان -رضي الله عنه- وقتله، واختلفوا شيعًا وظهرت الأحزاب. فنجم الكذب في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لتأييد الدعايات والتحزبات، وقلّ التثبت واختلط الناس، ولما دنت شمس بقية الصحابة من الأفول وظهر الاحتياج إلى استحفاظ ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأقوال والأفعال والأقضية، ظهر تلقي علم السنة عن البقية من أصحاب النبيّ؛ حيث يقول البخاري في كتاب العلم: “رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد”.

ملخص عن أصل كل علم وتطوره

أليس الصبح بقريب

ولخص بعد ذلك الكاتب كيف كان حال التعليم في ذلك الزمان؛ حيث مبدأ ظهور علم اللغة وتفسير القرآن والأدب العربي وتدوين السنة وتدوين اللغة وتدوين الحديث والفقه وأصول الفقه وعلوم البلاغة، وكيف كان يُلقن كل علم ومراحل تطوره وتأثره بالنظام السائد والظروف الموازية.

وأشار إلى ظهور علم الأخبار والسير في الثلث الأول من القرن الثاني. وهو مبدأ علم التاريخ في الإسلام، وأول من صنف فيه محمد بن إسحاق الحافظ (توفي سنة 151هـ)، ودون عنه سيرته ورتبها عبد الملك بن هشام الحميري (توفي سنة 218هـ)، ثم تلاه الناس فألف البخاري تاريخه وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري تاريخه، وهاته الثلاثة أصل ما يعتمد في تاريخ العصور الأولى من الإسلام.

وأما العلوم التي استحدثها المسلمون ونشأت مع مدنيتهم وشبّت بشبابها فهي اثنى عشر علمًا بحسب ما خلص الكاتب. وهي: تفسير القرآن، الحديث، النحو، الصرف، التصوف، الوعظ، العروض، الفقه، أصول الأدب، البلاغة، التاريخ .

وهكذا تطور التعليم العربي الإسلامي من ابتداء نشأته؛ فإن نشأة العلوم العربية الإسلامية وعلوم اللغة العربية، كانت متولدة من التعليم الإسلامي.

عصر العباسيين

ثم بعد أن رأى الخلفاء العباسيون هذه العلوم قد أخذت مستقرها التفتوا إلى نقل العلوم الفكرية عن الأقدمين من الفرس والهنود واليونان والنسطوريين. فكان ابتداء عنايتهم بذلك في زمن أبي جعفر المنصور في حدود سنة 140هـ، فهو الذي اعتنی بترجمة كتب الفلك المنقولة عن كتب الهند والفرس. وذكر الكاتب أسماء من برع في هذا الباب، وكيف اتسع الطب في زمانهم. ثم أشار إلى حقبة المأمون، وكيف ترجمت كتب أرسطاطاليس في الفلسفة وبطليموس وإقليدس في الهندسة، وبرز الفارابي وابن سينا باهتمامهم بالفلسفة، وتمت ترجمة كليلة ودمنة على يد عبد الله بن المقفع.

ظهور النحل في العقائد

لكن مع ذلك، كان لهذا التطور تبعاته على الأمة؛ حيث أعقب ترجمة آراء اليونان اضطرابات العقائد، وكانت مبلولة من قبل بآثار الدخلاء في الإسلام، فظهرت صنوف من المبتدعة في الدين عن قصد وعن غير قصد. وهم يرجعون إلى فريقين -بحسب تقسيم الكاتب-:

منهم من كان يسير حسوًا في ارتغاء، فيغطي بأقواله مقاصد سیاسية وأغراضًا دنيوية ثورية، أو حزبية مثل الباطنية والغبارية.

ومنهم من أراد خیرًا فاستعمل شرًا، وجاء إلى الحق من طريق الباطل كغُلاة الصوفية والمرجئة والجبرية.

أما كثير من الفرق؛ فلم يكن الخلاف بينها إلا في أمور اصطلاحية أو تشیُّعات حماسية نحو السلفية، والمعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والإباضية، وبعض الصوفية. فقد نشأت هاته الفرق من المنازع الفلسفية، والنظر في الدين والاعتقاد. فكانت ترجمة العلم الإلهي أحد سببي الافتراق في الدين -بحسب ما خلص الكاتب-.

فتنة خلق القرآن

أليس الصبح بقريب

ثم ظهرت في زمن المأمون والواثق فتنة خلق القرآن وإنكار بعض العقيدة السمعية فأتت بذلك أهوال وامتحنت فحول؛ مما دل على ضعف في خلق المأمون وأشياعه ولقد كان في سعة من ذلك. فتصدى العلماء للرد على هاته الفرق ويقول الكاتب: “من أشهر من تصدی للرد عليهم بطريق فلسفية أبو الحسن الأشعري (توفي سنة 330هـ) وأملى كثيرًا من الرد في تفسيره الذي سماه “المختزن” في خمسمائة جزء. وهو التفسير الذي يقال إن الصاحب بن عباد أغرى خازن مكتبة بغداد فبذل له عشرة آلاف دينار فأحرقه مع غيره من كتب الخزانة وقامت طريقته بانتصار أصحابه له، مثل أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين والأستاذ ابن فورك، فتمخض القرن الثالث عن تجديد حالة علمية فكرية”.

وأبو الحسن الأشعري كان ممن قال بداية بخلق القرآن ثم تأثر بتحذير أئمة السنة من هذه البدعة، فتراجع عن ذلك. قال ابن تيمية عنه: “وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول بخلق القرآن .. وإني تائب معتقد الردّ على المعتزلة [3]”.

يقول الكاتب: “مضى القرن الثالث بما أنتجه وترك في الناس تهیمًا لعموم حالة جديدة في أهل العلم، فانبلج القرن الرابع عن تغير واضح في أحوال العلم والعلماء بسبب ظهور علوم الحكمة والعقليات، وتوسع طرق النظر والخروج من طريقة النقل والحفظ إلى طريقة التأمل .وكان الباعث على ذلك سببين عظيمين :

أولهما شيوع العلوم النظرية وهي العلوم المعقولة من فلسفة وغيرها، والسبب الثاني أن علوم الشريعة لما دونت وهذّبت وظهر المجتهدون الذين دونت عنهم المذاهب نشأ الخلاف والجدل في الاحتجاج والمناظرة بين الفقهاء؛ فتولدت من العقول قواعد نظرية في الجدل تفرعت تدريجيًا حتى صارت علما يعبر عنه بعلم أصول الفقه.

فانكشف القرن الرابع عن حالة جديدة في العلم وهي حالة النقد والتصحيح والتعليل. والتمحيص وكان أشد ظهور هذه المشاركة بالمشرق.

صفة التعليم الإسلامي وأساليبه ومناهجه في مختلف العصور

انتقل كتاب “أليس الصبح بقريب” بعد ذلك ليذكر فضل العلم في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم الصحابة، بالتركيز على تعليم القرآن، الذي بدأ في المساجد وحلقات الذكر، ثم تم تخصيص بيوت المعلمين لتعليم القرآن بالكتابة بالألواح أو التلقين باللفظ، الأولى تسمى طريقة النظر والثانية تسمى طريقة الظاهر، وكان يعلم الغلمان والجواري بلا اختلاط، قال سحنون: كانوا يعدون تعليم الجواري مع الغلمان فسادًا.

فيكتبون في الألواح بالمداد فإذا حفظ التلميذ ما كتبه محا اللوح وكتب فيه قرآنًا آخر. ثم إذا تعلم الصبي الكتابة صار يكتب من القرآن كل يوم في لوحة مقدارًا مناسبًا لمقدرته إلى أن يجمع القرآن. ثم يلقن من شعر العرب ما فيه حكم وأمثال وآداب. ويلقن من اللغة كتاب “الفصيح” المنسوب إلى أبي العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بثعلب.

منهاج التعليم

إن مناهج تعليم العلوم تختلف باختلاف العصور والأقاليم وصفاتها، وبمقدار ما يتزايد من العلوم متسلسلة من القرن الأول الإسلامي، وهي المستمدة من كيفية تلقي العلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن الكيفيات التي بث أصحابه بها العلم بعد انتقال النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الرفيق الأعلى.

واستمر تلقي حفظ القرآن وتلقي علوم الدين على هذه الطريقة مدة خلافة أبي بكر الصديق وصدرًا من خلافة عمر، ثم انقسم التعليم في خلال ذلك رويدًا إلى درجتين: درجة تعليم القرآن وكتابته للصبيان ومن في حكمهم، ودرجة تعليم معاني القرآن وأحكام الشريعة للكبار. ولم يرد عن خلافة عثمان ما يفيد تغيير ذلك.

كان التعليم درجتين

إحداهما التعليم الابتدائي ويسمى بالتأديب ويسمى معلمه المؤدب والمكتب وموضعه يسمى الكتاب، وتلامذته أبناء الكتاب أو أبناء المكتب، وهو التعليم الذي يتلقى فيه الصبي حروف الهجاء والكتابة تدريجيًا ويلقن سور القرآن القصيرة.

وكانت لهم طريقتان في تعليم القرآن: طريقة تبتدئ القرآن من سورة البقرة ثم السور التي بعدها إلى ختم القرآن على ترتيب المصحف، وطريقة تبتدئه من آخر سور القرآن على ترتيب المصحف من المعوذتين، وكانوا يبتدئون بفاتحة الكتاب في كلتا الطريقتين. وكان تعليم القرآن في بيوت المعلمين أو في بيوت مخصصة للتعليم. ويعتنى بتلقين الحديث كذلك والفقه وكذلك بالمنظومات لتسهيل الحفظ.

أما الدرجة الثانية وهي التعليم الذي فوق الابتدائي فهو تلقي دروس العلوم بالفهم وشرح المتون التي حفظت في التعليم الابتدائي، ثم يرتقون في دراسة كتاب العلوم بشروح وحواش، وينتقلون من انتهاء كتاب إلى أوسع منه في علمه ببسط شرح وزيادة مسائل، وهذا التعليم لا منتهی له وهو يجمع ما يعادل التعليم الثانوي والتعليم العالي، ولهم في هذه الدرجة من التعليم ثلاثة طرق شرحها الكاتب.

تفاصيل عن كيفية التعليم

أليس الصبح بقريب

وأشار الكاتب بشكل مفصل لأهمية معرفة الأهلية للتصدي للتعليم وناقش صفة الدروس، وكيف كانت طريقة اجتماع الطلبة بالشيخ. حيث كان الطلبة يكتبون ما يسمعونه وكلّ يكتب ما يرى نفسه بحاجة إلى تقييده. وكانوا يجلسون حلقًا ويقفون قائمين ويكتبون من جلوس ومن قيام، وكان مالك يكره الكتابة من قيام.

وتناول الكاتب أيضًا مواضع التعليم، حيث أول ما ظهر التعليم في الإسلام كان غير معين المحل، فكانوا يعلم بعضهم بعضًا القرآن في منازلهم وفي مجامعهم ولكن لما كان المسجد هو المجمع للناس في المدينة كان هو الموضع المتعين للتعليم لمن لم يجد موضعًا، وأول من جمع الصبيان في المكتب عمر بن الخطاب، وأقام عامر بن عبد الله الخزاعي، يلازمهم للتعليم وجعل له رزقًا من بيت المال وأمره أن يجلس للتعليم بعد صلاة الصبح إلى الضحى العالي، ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ويستريحون بقية النهار. ولما رجع عمر من تفقده بلاد الشام رتب للصبيان المتعلمين الاستراحة يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع. وأكثر ما كان في المساجد مجالس الوعظ والقصص ومجالس التفسير.

فكرة المدارس

ويرى الكاتب أن فكرة وضع المدارس لدراسة العلوم في الإسلام ما نشأت إلا من أثر امتزاج التمدن في عصر الدولة العباسية بين مدنية الإسلام ومدنية اليونان، لأنهم لم يغفلوا حين ترجمتهم كتب اليونان عن ذكر مدرسة أفلاطون، وما ظهرت المدارس في الإسلام لمزاولة العلوم إلا في بغداد لما وضع أبو جعفر المنصور حلقة الطب التي فرض أمرها إلى “فرات بن سحتاثا” الفارسي الطبيب في حدود سنة 140هـ.

ثم كانت المدارس بعد ذلك ببغداد للعلوم الشرعية ووسائلها فكانت المدرسة النظامية وقد سبقته المدرسة النظامية في نيسابور، التي أسسها نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان السلجوقي.

فحصل من مجموع هاته المعاهد العلمية ببغداد ما يعبر عنه بعض المؤرخين والكتاب المتأخرين بـ”جامعة بغداد”، أو “كلية بغداد”، تعبيرًا يقول الكاتب إنه سرى إليهم من عبارة إفرنجية يقصد منها مجموع الطريقة العلمية، فترجمها بعض المترجمين بلفظة “جامعة” أو “كلية” ترجمة جافة، ونقلها المتعلمون عنهم فتصوروها بما يرادف اسم “جامعة” أو اسم “كلية” في المصطلح البيداغوجي. أما التاريخ لم يثبت أن في بغداد مدرسة كلية عامة أو جامعة، ولكن مجموع هاته المدارس وتعدد ما يقرأ في كل منها من العلوم يتكون منه تعلیم عام بجميع مراتبه، وهكذا القول ما يدعوه الغربيون جامعة قرطبة أو كلية قرطبة، فلا يؤخذ هذا اللفظ على ظاهره بحسب ما خلص الكاتب.

ولقد حاكت بغداد معظم بلاد الإسلام التابعة لها، ثم المشتقة منها مثل مصر وبلاد فارس. وتحدث الكاتب عن تاريخ التعليم في مصر. 

تعليم المرأة

كانت الأمم التي دخلت في الإسلام مقتصرة في العناية بالتعليم على صنف الذكور دون الإناث من حيث وجدوا حالة سائدة على معظم الأمم هي حالة اقتصار المرأة من تلقاء نفسها على تدبير المنزل وتربية الأبناء ولا ترضى أن تفارق ذلك. لأن الدخول فيما يجاوز ذلك كان في تلك الأزمان يصرفها عن الاهتمام بحالة أولادها وبيتها ويرهق قواها فيما تتطلبه حالة الرجل من حماية العائلة والانضمام إلى حماة الحي والقبيلة من اعتداء المعتدين على عائلاتهم وأموالهم.

فقنعت النساء بتلقي نظام الحياة من أمهاتهن وكبيراتهن، وبتلقي واجبات الديانة من أسرهن، وقد تتجاوز المرأة مثيلاتها في حالات نادرة كما كان حال عائشة وأم الدرداء أو سكينة بنت الحسين وغيرها.

وشواهد التاريخ دلت على أنه لم يوجد في تاريخ البشر قبل القرن الثالث عشر الهجري أمة حاولت إلحاق المرأة بالرجل في المعارف، ولا قبل القرن الرابع عشر إلحاقها في التكاليف الاجتماعية.

فكان تعليم النساء لا يجاوز تلقين القرآن وفقه العبادات والمعاشرة وأنواعها من الأدب والأخلاق والكتابة، وذلك قصارى تعليم المرأة من أول ظهور الإسلام. وفي مطالعة أحوال نساء النبي والصحابة ما ينفع من وصف تلك الحالة، ثم التدريب على قوام المنزل. وقد روى في كتب السيرة ما يثبت مشروعية تعليم المرأة الكتابة، وكان تعليم النساء في بيوتهن على يد آبائهن وأزواجهن ومحارمهن، ولم يكن النساء يحضرن دروس العلم مع الرجال في اختلاط. وأعاد الكاتب الحديث عن تعليم النساء مرة أخرى أثناء عرضه تاريخ التعليم وكيفيته في الأمصار المختلفة. وأشار إلى أن بعض النساء كانت تشذّ فتبرع في الأدب والشعر كما عرفت ذلك الأندلس.

انبثاث العلوم الإسلامية في أقطار الإسلام

أليس الصبح بقريب

تحدث كتاب “أليس الصبح بقريب” تحت هذا العنوان عن انتشار العلوم في أشهر الأقطار الإسلامية المتأثرة بالأحوال السائدة في قواعد الخلافة الإسلامية، واقتصر من ذلك على أهم الأقطار التي سعدت بالفتوح الإسلامية وعظمت فيها سمعة علوم الإسلام وهي: مصر وإفريقية والأندلس وبلاد فارس وما وراء النهر والمغرب الأقصى.

ومع كمّ الفوائد التي لخّصها الكاتب عن أحوال انتشار العلم في هذه الأقطار إلا أنه تحدث في فقرة عما يستوجب التفصيل والإيضاح، حيث قال الكاتب عن حال العلم في إفريقية: “ولكنه لم يخل من خليط من المذاهب الشاذة الخارجة عن الجماعة إلى أن قام المهدي بن تومرت يحمل الناس على مذهب مالك وعلى الأشعرية، في سنة 520هـ ثم خليفته عبد المؤمن سنة 525هـ، الذي ألزم البربر بمتابعة عقيدة الأشعري وكان الحال قبل ذلك غير مستقر (يقصد عصر المرابطين) والأمن غير موجود كثيرًا ما حدث الفتن والمقاتلات بين المذاهب”.

وللأسف هنا مغالطة تاريخية كبيرة وقع فيها الكاتب بشأن واقع الحركة العلمية في عصر ابن تومرت، وليس ابن عاشور أول من دافع عن مؤسس دولة الموحدين، فقد أثنى على ابن تومرت العديد من الأشاعرة، فيما يظهر تعاطفًا مع ما كان يظهره ابن تومرت من مذهب الأشاعرة.

وعصر ابن تومرت جاء بعد عصر المرابطين وكان معلومًا اشتغالهم بالعلم ونشرهم له وتوحيدهم للناس على منهج أهل السنة، وتصوير عصر ما قبل الموحدين على أنه كان منفلتًا بالخلافات لم يعرف وحدة، لا يستقيم خاصة وأن سلطان المرابطين امتد إلى الأندلس في قوة وانسجام لا تكون إلا بقاعدة عقدية ودينية ممتدة بين أبناء الأمة. وخاصة وأن دعوة المرابطين بدأت على يد عبد الله بن ياسين بجمع الطلاب المجاهدين على قاعدة العلم. ومن ذلك حملت اسم المرابطين. وقد اشتهر مذهب مالك في زمن المرابطين أكثر بكثير منه في زمن ابن تومرت لعناية المرابطين به. أي أن المنطقة عرفت وحدة دينية قبل الموحدين.

وعلى عكس ما يظهر في فقرة المؤلف هنا، فقد عاش أهل العلم في الدولة الموحدية أبشع حالة اضطهاد وأحرقت الكتب بما فيها كتب الحديث الصحيحة، وكتب المذاهب الأربعة بما فيها المالكي وضيّق على دعاتها، وفرض المذهب الظاهري بالقوة، كما أجبر الناس على ما يقول الكاتب إنه عقيدة أشعرية ولكنه في الواقع خليط من عقائد الأشاعرة والمعتزلة والصوفية والشيعة، التي فرضها ابن تومرت بحد السيف وكان قد حملها من رحلته إلى المشرق، فكانت حقبة مظلمة قتل فيها وسجن وعذّب الكثير من العلماء وطلبة العلم، ويكفي من ذلك ذكر امتحان التمييز الذي قتل فيه ابن تومرت عشرات الآلاف وإعلان سلاطين الموحدين المتأخرين البراءة من مؤسس دولتهم ومنهجه في آخر حقبة للدولة الموحدية، وكنت قد فصلت ذلك في تلخيصي لتاريخ دولة الموحدين فيرجع له.

ويكمل كتاب “أليس الصبح بقريب” يحدثنا عن أهل الأندلس كيف لم يقفوا عند العلوم الدينية بل اقتطعوا من علوم العربية والرياضية بتردادهم ورحلاتهم إلى المشرق ما غبطهم عليه كثير من المشرقيين وقد كان الكثير من علماء بغداد يهاجر إلى الأندلس، فظهر تقدم الأندلسيين في أنواع العلوم وفاقوا الطريقة النظرية في الفقه.

وكان ظهور الدولة العبيدية بالقيروان الحائل الحقيقي بين أهل إفريقيا وبين الزيادة من العلوم، وتقدمت الأندلس تقدمها السريع على القيروان. حيث وقع الصدام بين القيروان والعبيديين في عصر اضطهاد وتحقير لعلماء السنة. هذا الاضطهاد وإن ضر بالقيروان إلا أنه كان سببًا لشيوع العلم بجهات إفريقية المظلمة، بسبب تفرق العلماء في الجهات.

كما أشار الكاتب لتاريخ العلم في بلاد فارس، حيث برز عبد الله بن المبارك من خرسان، ويحيى بين يحيى النيسابوري، والبخاري الذي قال: “أتممت الحديث في المكتب وأنا ابن عشر سنين (ولد سنة 194)”. وما انتهى القرن الثاني حتى طفحت بلاد فارس بجهابذة العلماء.

وأشار الكاتب إلى انتشار علم الكلام في سمرقند. وضرب مثلًا الماتريدي في إملائه على كلام أبي حنيفة في العقيدة مسائل شتی من أقوال علماء سمرقند في الكلام.

وبنفس الطريقة تناول تاريخ العلم في المغرب الأقصى

ورغم إشارة الكاتب هنا لازدهار الحركة العلمية في عصر الأدارسة مع قدوم وفود من أهل العلم من الأندلس، وثنائه على جهود ابن تاشفين العلمية حيث قال: “حتى ظهر فيهم القائم يوسف بن تاشفين سنة 453هـ فقد نصر العلم باتخاذ المكاتب للصبيان، وجعل الاستفتاء للفقهاء وحكم الفقهاء في القضايا والنوازل بعد أن كانوا يتحاكمون إلى جهال رؤسائهم” ما يؤكد على أن الحركة العلمية كانت مزدهرة في عصر المرابطين وموحدة للناس، إلا أن الكاتب يرجع من جديد ليثني على ابن تومرت فيقول: “فما ظهرت دولة المهدي بن تومرت صاحب دعوة الموحدين سنة 514هـ حتى وجدت العلوم قد دبت في نفوس البربر فزادها شوعًا واستدرج البربر لحفظ القرآن بتعليمهم فاتحة الكتاب وحسّن عقايد المسلمين وأظهر فيهم عقيدة الأشعري التي يدعي أنه قرأها على أبي حامد الغزالي، وألف لذلك عقيدته المرشدة”.

وهنا مغالطة تاريخية يشهد عليها تعليق الكاتب اللاحق عن عقيدة ابن تومرت المضطربة حيث قال عنه في نفس الفقرة: “مع أنه دسّ لهم شيئًا من عقيدة الصوفية المنتزعة من الشيعة في إثبات الإمام المعصوم لغرض سیاسي، وألف في ذلك كتابه (أعز ما يطلب) “.

وحين يقول الكاتب عن ابن تومرت: “واستأصل المذاهب الفاسدة إلا ما بقي منها بجهات قليلة ( بالجريد وجربة وبني مزاب ) وشيد لهم (رابطة) للعبادة والعلم”، فهنا تعميم لا يستقيم لأن اضطهاد ابن تومرت لأهل العلم من أهل السنة كان معلمًا بارزًا في سيرته، ولا يمكن الثناء على هذا الاستئصال الذي حرقت فيه كتب أهل السنة وأجبروا على عقيدة ابن تومرت المضطربة، ولا يمكن أن يكون هذا تحسين عقيدة أصحاب المذاهب الأربعة التي حظرها ابن تومرت، وهو ما عارضه سلاطين الموحدين أنفسهم بعد ذلك حيث تلاشى هذا الاضطهاد بعد وفاته تدريجيًا مع تبرأ خلفائه من منهجه ورجعت حركة العلم لأفضل مما كانت عليه في عصره بعد تخلصهم من اضطهاد مدّعي المهدية.

مواضع التعليم في إفريقيا والمغرب

انتقل كتاب “أليس الصبح بقريب” لعرض مواضع التعليم في زمانهم ولم تخرج عن إطار الكتاتيب والمنازل والمساجد.

انتشار العلم في الأندلس

أليس الصبح بقريب

وخصص الكاتب فصلًا عن انتشار العلم في الأندلس وأساليب التعليم فيها ومواضعه. وبحسب ابن عذارى في البيان المغرب، أن الحكم خليفة قرطبة المستنصر اتخذ المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حوالي المسجد الجامع بكل ربض من أرباض قرطبة، وأجرى عليهم المرتبات وبلغ عدد هذه المكاتب سبعة وعشرين مكتبًا.

وما بنيت المدارس بالأندلس إلا في القرن الثامن بغرناطة، وكان المدرسون لا يأخذون أجرًا  وكانوا يأخذون ربع الأوقاف المعينة لهم. ودام تقدم الأندلس وانتهت إليها سائر علوم المشرق المتقدم بأحسن من طرائقهم بحثًا وسعة حتى رماها التقهقر بنبله عند تفرق ملوكها.

طور التفكير العلمي والمشاركة في العلوم

أما القرن الرابع فانكشف عن حالة جديدة في العلوم وهي حالة الميل إلى النظر والتفكير والنقد والتصحيح، وهاته الحالة اقتبست من طريقة الفلاسفة وهي حالة محمودة بحسب الكاتب، غير أنها قارنتها حالة أخرى استتبعتها هي حالة الميل إلى التوسع في كثير من العلوم والمشاركة فيها.

وهذا مما يستدعيه حب الحكم والنقد في العلوم، ومما يستدعيه أيضًا تشبه أصحاب العلوم الإسلامية بأصحاب العلوم الفلسفية. وانتفع العلم بهذه الحالة مدة طويلة؛ إذ انكب العلماء على النقد والتحرير فهذّبوا العلوم والتآليف وأجادوا التقاسيم والتفاريغ.

لكن الميل إلى المشاركة استفحل في طلبة العلم فأضرّ برسوخهم في العلم بانصراف طلبته عن تحقيق العلوم، حتى أن من يكون في طبعه الميل إلى التحقيق إذا جمع بين التحقيق والمشاركة توزعت مواهبه، فوقفت العلوم عن الزيادة ثم صارت التآليف منحصرة في طرر وحواش ونقود وردود وكان أكثر تأثير ذلك على تأخر الأدب العربي.

وذكر الكاتب مواضع التعليم في تونس بعد عرض للتعليم في هذه البلاد. وسلط الضوء على حال جامع الزيتونة والدولة الحفصية ثم عرض جريدة لأسماء بعض علماء من العصر الحفصي. وأشار إلى وبائين جارفين ضربا تونس استأصلا بقية أهل العلم، وبسط قصة العلم في تونس. مشيرًا لتأثير السلطان في الحركة العلمية وكيف تفرق العلماء في طلب الرزق بسبب الظروف المعيشية. كما تناول درجات التعليم وكانت ثلاثَا في تونس وعرفنا على ما يسمى شهادة التطويع وما يتصل بها في ذلك الزمان.

وأشار الكاتب إلى أن التعليم في الجزائر وتلمسان والمغرب الأقصى كان يشبه تونس إلا أنه كان في تلمسان أرقى لما بينها وبين الأندلس من الاختلاط القديم في الحكومة على عهد بني مرين، واستمرت في شباب إلى أن فتر الأمر فيها بكثرة فتن الدعاة والثائرين في القرنين التاسع والعاشر. والمغرب كذلك، أما الجزائر فأقل وأضعف في العلم منذ القدم حتى اليوم. وكانت تونس في كل عصر غرة الجميع، وأهلها أقرب إلى التحقيق وإلى التقدم السريع بحسب خلاصة أحد أعلام جامع الزيتونة.

ونلاحظ اهتمام الكاتب بذكر مواضع التعليم في كل حقبة وبلد، بما في ذلك تونس، كما خصص فصلًا بدروس الجمعية الخلدونية (1314هـ). التي كان دورها إكمال ما يحتاج إليه مزاولو العلوم الإسلامية من العلوم التي تندرج في برامج تعليمهم أو اندرجت فيها ولم تتوجه إلى مزاولتها عناية الطلبة فآلت إلى الإهمال. ثم المدرسة التأدبية (العصفورية) (1312هـ)، التي كان دورها تخريج مؤدبين متأهلين للقيام بمهمة التعليم الابتدائي.

أسباب تأخر التعليم ونظرة في الإصلاح

انتقل بعد ذلك كتاب “أليس الصبح بقريب” مباشرة إلى أسباب تأخر التعليم ونظرة في الإصلاح. وكنت أتمنى لو أشار ولو بشكل عابر، لتأثير الاحتلال الغربي على الحركة العلمية في بلاد المسلمين، لخبرته في سبر أغوار المؤسسات التعليمية.

ولعله انتقل مباشرة لأسباب تأخر التعليم لأنه موضوع الطرح الأساسي. وقال في هذا الصدد: “إذا فصحنا أسباب تأخر التعليم وجدناها نوعين: نوعًا يرجع إلى الأسباب العامة التي قضت بتأخر المسلمين على اختلاف أقاليمهم وعوائدهم ولغاتهم، ولكن ذلك بحث يشغل بياض مجلدات، ومرجعه إلى أسباب التأخر العام في العالم الإسلامي.

ونوعًا يرجع إلى تغير نظام الحياة الاجتماعية في أنحاء العالم تغيرًا استدعى تبدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية. وهذا التغيير قد استدعى تغير أساليب التعليم ومقادير العلوم المطلوبة، وقيمة كفاءة المتعلمين لحاجات زمانهم، كل ذلك نشأ نشئًا سريعًا وسار سيرًا فسيحًا والمسلمون وخاصة أهل العلوم الإسلامية في سبات عميق حال دونهم ودون إصلاح برامج تعاليمهم”.

وأشار الكاتب إلى بساطة الحياة الاجتماعية في عصر السلف التي كانت أكبر عون على ما دعتهم إليه هممهم، إذ كانت الفضيلة وبساطة العيش يومئذٍ متلازمتين غالبًا. وشتان ما بين تلك الحالة التي كان عليها سلفنا والحالة التي انبثق عنها فجر الحياة الاجتماعية في هذا القرن؛ من عدم رغبة الجمهور في رؤية السيماء القديمة لأهل العلم بل وعدم انتفاع المجتمع العصري بمثل تلك الطرائق السالفة، وأيضًا عدم رضا طلبة العلم بذلك الانغماس والتمحض العلمي الذي كان عليه الناس.

وأشار الكاتب إلى أن فساد التعليم يكون إما بفساد المعلم أو من فساد التآليف، أو من جهة النظام العام وأن الغرض من طرحه تبيان فساد النظام، مع أنه خص المعلم والتآليف، وما يرجع إليهما من العلوم والامتحان بشرح وافٍ. وانتهى البحث بالكاتب بسرد أسباب التأخر: وناقش أثناء ذلك قضية الإصلاح وتعثرها في تونس.

واقترح من المبادئ لضبط التعليم بصفة طردية أربعة أمور: جعله إلزاميًا، وضبط أوقات المدرسين، وضبط محل التعليم وتقسيم التلامذة على العلوم والدروس. كما تحدث عن ضبط الطالب والمعلم وفصّل هذه العلاقة تفصيل صاحب إحاطة وتجربة واسعة.

وبعد سرد مطول لأسباب التأخر، وإن كان عد هذه الأسباب ناقصًا، حيث نفتقد السبب الثاني والسبب الثامن، انتقل الكاتب إلى:

النظر في الإصلاح وترقية أفكار التلامذة

أليس الصبح بقريب

حيث ناقش التعليم، وقدم اقتراحاته ونقل في أثناء ذلك تقارير ومراسلات في زمانه ذات قيمة تاريخية.

وتحت عنوان “وصف إجمالي لحال التعليم في وقت تحريرنا هذا الكتاب”. وصف تحت عنوان فرعي “النظام“، حال التعليم بالجامع الأعظم ومدرسيه وحال الطلبة والنظام يومئذ. قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى سبر أغوار أحوال الدروس ومدرسيها. وأحوال الفنون والكتب وأحوال التلامذة والتآليف وما وصفه بـ”حدوث العالم من حدث الأعراض مع تلازم”.

وأشار إلى مقاصد التأليف في الأبيات الشهيرة:

ألا فاعلمنْ أن التآليف سبعةٌ *** لكل لبيب في النصيحة خالصِ

فشرحٌ لإغلاقٍ وتصحيحُ مخطئٍ *** وإبداعُ حَبْرٍ مُقْدِمٍ غير ناكصِ

وترتيبُ منثور وجمعُ مُفَرَّقٍ *** وتقصيرُ تطويلٍ وتتميمُ ناقصِ

وجوه من الإصلاح

وتحت هذا العنوان يرى الكاتب الإصلاح أشد وجوبًا يوم كثرت العلوم واستدعت عقل المتعلم لأن يلم بغالبها، وظهرت عزة الوقت وصار الامتحان يطالب بتسعة علوم ناهيك بما يطالب به معترك الحياة عند الدخول في تياره الكبير، وفي هذا المقام عرض الكاتب جملة نصائح وتوجيهات.

إصلاح العلوم

وخصص الكاتب في كتاب “أليس الصبح بقريب” فصلًا لإصلاح العلوم، وقسّم العلوم من جهة ثمرتها إلى قسمين:

  • أولهما: ما تنشأ عنه ثمرة هي من نوع موضوعات مسائله، لكنها تخالفها باختلاف الاعتبار كعلم النحو، فإن الثمرة التي تجتنى منه هي من نوع موضوعاته التي يبحث عن عوارضها، الذاتية، أي أنها ثمرة لفظية محضة.
  • وثانيهما: ما يبحث عن أشياء لا لذاتها، بل لاستنتاج نتائج عنها، مثل علم التاريخ، الباحث عن أحوال الأمم، وأسباب صعودها وهبوطها.

أطوار العلوم في الأمة

يقول الكاتب: “وإن أطوار العلوم في الأمة تشبه أطوارها في الأفراد، ذلك أن العلم في الأمة كما هو في الفرد له أربعة أطوار:

  • الأول: طور الحفظ والتقليد والقبول للمسائل كما هي من غير انتساب بعضها من بعض ولا تفكر في غايتها بل لقصد العمل.
  • الثاني: طور انتساب بعضها من بعض وتنويعها والانتفاع ببعضها بعض.
  • الثالث: طور البحث في عللها وأسرارها وغاياتها.
  • الرابع: الحكم عليها باعتبار تلك العلل بالتصحيح والنقد وهو طور التضلع والتحرر.

أسباب التأخر

وتحت هذا العنوان يؤكد الكاتب أن لأسباب تأخر المسلمين عمومًا رابطة وثيقة بأسباب تأخر العلوم، وليس من غرض هذا الكتاب بحث ذلك، إنما بيان أسباب تأخر كل علم على حدة، وتقديم بعض أسباب تعم جميع العلوم.

وبعد أن عد خمسة عشر سببًا لتأخر هذه العلوم، انتقل إلى باب: النظر في أسباب تأخر العلوم المتداولة على وجه الخصوص حيث تناول تعريف كل علم ثم الأسباب التي أدت إلى تأخره وشمل ذلك علم التفسير وعلم الحديث وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وعلم الكلام. وفي خلاصة الكاتب عن علم الكلام أشار إلى انقسام الأمة وتفرقها على أربع طرائق:

  • الطريقة الأولى: التي رفضت البحث والفلسفة وتمسكت بظواهر الشريعة وفي هاته الفرقة كثير من السلف ومنهم المالكية والحنابلة والظاهرية والخوارج والجبرية والمرجئة فمنهم غالٍ ومنهم متوسط.
  • الطريقة الثانية: رفضت الشريعة للفلسفة وفي هاته الطريقة الملاحدة كلهم.
  • الطريقة الثالثة: من أولوا الشريعة لأجل موافقة الفلسفة وهم الباطنية ومنهم طائفة “إخوان الصفاء” والحكماء مثل ابن سينا وابن طفيل وكثير من الصوفية.
  • الطريقة الرابعة: من أولوا الفلسفة لتوافق الشريعة وهم الأشاعرة والماتريدية، والمعتزلة والشيعة.

ثم نشأ بعد هذا التفرق والاختلاف أسباب أخرت العلم في نفسه.

وقد يستغرب القارئ أن يخرج مثل هذا الكلام من كاتب على مذهب الأشاعرة إلا أن المطلع على سيرة الشيخ ابن عاشور وغزارة علمه وسعة اطلاعه، يعلم أنه خالف أصحابه الأشاعرة في بعض المسائل أو بعض التقريرات، ووقع في تناقضات لم يسلم منها إلا موفّق.

وتحت عنوان “فكرة في الإصلاح”، أولى الكاتب اهتمامًا كبيرًا بعلوم اللغة العربية وحياة اللغة والعوائق أمامها وسبيل الإصلاح. وأفرد بابًا بعنوان “الإنشاء والشعر”، يتبعه آخر عن “النحو والصرف” حيث بسط أسباب فسادهما  لينتقل بعد ذلك إلى علم البلاغة المعاني والبيان والبديع وعلم المنطق وعلم التاريخ والعلوم الفلسفية والرياضية مقدمًا أسباب تأخر كل منها على التوالي.

ويؤكد الكاتب تحت عنوان فرعي: “المعلمون“، على أن إصلاح حالهم ركن عظيم من إصلاح التعليم وقد صنّف المدرسين في خمسة أنواع، وهي: النحرير والمتمرن والنقلة وأناس يفهمون ويدرسون ولكنهم لا يميزون في ذلك الصحيح من الفاسد ثم طائفة كثيرة دأبها صراح الخطأ، وزلق الخطا، والستر على العيب بغطا. مؤكدًا على أن من أخص واجبات الأساتذة أن يكونوا قدوة لتلاميذهم.

الامتحان والمناظرة

وفي هذا الفصل يناقش الكاتب الامتحان والمناظرة، وتحته عنوان “المناظرة للتحصيل على خطة للتدريس”، وبعد عرض طويل لتفاصيل تجربته في تونس ختمها بوصية عن واجب التواصي بالحق. ليأتي آخر فصلين في الكتاب: تذييل النهوض للإصلاح، والشروع الفعلي في طلب الإصلاح، يحكي فيهما الكاتب عن تجربته الإصلاحية في تونس ومطالب المصلحين ونتائج مساعيهم.

ويظهر سبب تسمية الكاتب لكتابه بـ”أليس الصبح بقريب” في الخاتمة حيث يقول: “وقد تحقق العملُ بكثير من الملاحظات والمقترحات التي اشتمل عليها هذا الكتابُ، فأسفر بها وجه الصبح الذي رجوتُ له قُربًا، ولم أفتأ كلما وجدتُ فجوةً أن أرْتقيَ بالتعليم مرتقًى وإن كان صعبًا، حتى قلتُ إن الصبح أعقبَ بضحاه، ورأيت كثيرًا من الناصحين توخَّى سبيلَنا وانتحاه، واللبيب لا يعوزه تنظير الأحوال وفي الخبر أن ابن آدم لا ينتهي ما له من آمال ونسأل الله على عون المسلمين على إصلاح الأحوال”.

وبهذا نكون عرضنا أبرز ما حواه كتاب “أليس الصبح بقريب” الزاخر بالفوائد، فجزا الله كاتبه خيرًا، ونفع بتجربته وخلاصاته المسلمين في كل مكان.

المصادر

  1. وأصحُّ ما روي في قصَّة أبي ذرٍّ رضي الله عنه ما رواه البخاريُّ في صحيحه عن زيد بن وهبٍ، قال: مررت بالرَّبذة، فإذا أنا بأبي ذرٍّ رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشَّام، فاختلفت أنا ومعاوية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*} [ التوبة: 34]. قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا، وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتَّى كأنَّهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فكنت قريباً. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيّاً؛ لسمعت، وأطعت. 
  2. (رويت في صحيح البخاري في كتاب النكاح).
  3. بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية الجزء 5 صفحة 343.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى