فلسفة التاريخ عند ابن خلدون
حظي ابن خلدون بعناية كبيرة في العصر الحديث واهتمام واسع في الشرق والغرب ونال من الاهتمام من قبل المدارس العلمية في العلوم الإنسانية بصفة عامة والعلوم الاجتماعية والفكرية وفي مجال التاريخ بصورة أخص من أي مؤرخ مسلم غيره، وقد شكل ما كُتب عن إنتاجه المعرفي الزاخر والتنوع ما يشكل مكتبة علمية عظيمة تليق بمفكر مسلم ينتمي إلى حضارة عظيمة كان لها الفضل في الحفاظ على تراث الحضارات السابقة مع ما أضافته لها من العلوم والمعارف التي أبدعها علماؤها ومفكروها، ما جعلها مفخرة في العلم وصاحبة الفضل على الأمم والحضارات السابقة واللاحقة.
يعتبر ابن خلدون مفخرة النتاج الفكري الإنساني ومعلم من معالم حضارة الإسلام تمثلت في فكره الرائد والسابق في مجموعة من العلوم والمعارف التاريخية والاجتماعية والحضارية والفلسفية الذي تمثل في تلك الدراسات التي قام بها العديد من العلماء والباحثين العرب والعجم والتي شملت فكره العام كظاهرة موسوعية علمية أنجبتها الحضارة الإسلامية ليعم نورها كل المحافل العلمية العالمية.
وقد غطت هذه الدراسات جوانب متعددة ومتنوعة من أفكاره وأطروحاته في التاريخ والاجتماع أو المنطق أو الفقه أو اللغة وغيرها من العلوم التي تناولها بالدراسة والبحث وأضاف لها الجديد أو صحح مفاهيمها التي وجد فيها انحرافًا أو خللًا مع وضع القواعد العلمية والأصول والمناهج للدراسة والبحث في مجالها.
بهذا فعلًا استحق ابن خلدون هذا الاهتمام المنقطع النظير دون غيره من علماء ومؤرخي الإسلام وما زال تراث ابن خلدون يحتاج إلى البحث والدراسة وإعادة التحليل والنظر ووضع إنتاجه العلمي والفكري تحت مجهر البحث والتقصي والتحليل؛ فهو تراث علمي عالمي يقدم الجديد ليس في منهاج البحث التاريخي فقط بل في كافة العلوم الإنسانية ويتوافق مع الطرق العلمية المعاصرة في مناهج البحث العلمي.
نظرية ابن خلدون في فلسفة التاريخ
ارتبط ابن خلدون بواقعه الحضاري الإسلامي مما جعله يعتمد فلسفة خاصة مرتبطة بمنهجيته في دراسة التاريخ التي تعتمد على التقصي والتدقيق في قبول الأخبار. ثم تفسيرها تفسيرًا حضاريًا وفق مرتكزاته الأساسية النابعة من فلسفته في تحليل الأخبار التي تعتمد على النقد للحدث من خلال عدة عوامل جعلت من الاستشهادات الخلدونية تحتمل أكثر من وجهة نظر اعتمد فيها ابن خلدون في نظرية فلسفة التاريخ على عدة عوامل أو مفاتيح تتمثل في النقاط التالية:
السنن الكونية والاجتماعية
التي تتمثل في القوانين التي أوجدها الله تعالى في الطبيعة، والكشف عنها يعني توضيح القوانين الإلهية في الكون بدراسة عملية تحديد نشأتها وتطورها ونظامها والعلاقات التي بينها، ومراقبة حركتيها ضمن قوانينها الثابتة المتوافق على صحتها ووجودها وثباتها.
والقوانين الاجتماعية هي أيضًا سنة الله التي سنّها في العمران البشري وسار الناس عليها، وهي علم يكشف سنن الله في المجتمع من خصائص وتنوع وحركية وتطور.
العصبية
وهي ما يعتبره ابن خلدون تلك الرابطة الاجتماعية التي تربط أبناء القبيلة أو أي جماعة أخرى، وتجعلهم يتعاونون في الشدة والرخاء والمكره والمنشط؛ وقد لاحظ ابن خلدون أن هذه العصبية تكون قوية كل القوة في البداوة وبين القبائل، وهي السبب في التنازع فيما بينها وتعتبر من أبرز خصائصها، وتزول هذه العصبية وتتلاشى بسبب الدعوة الدينية والتأثير الديني الذي يدعو إلى نبذ العصبية بكافة أشكالها ومنها التعصب القبلي، وتضعف هذه العصبية جراء انغماس أصحابها في الترف الحضاري، ويعتبرها شرطًا أساسيًا لتأسيس الدول وقيام الممالك، وحدد الطبيعة التلازمية بينها وبين النبوة، وبينها وبين الدولة.
الدين
ركزت دراسات ابن خلدون على التكوين الاجتماعي، والروحي للعرب ودورهم الحضاري بعد ظهور الدين الإسلامي، وانتشاره بينهم، ورأى أن للدين أثره الفاعل في ترويض النفس العربية، وأصبح محركًا مباشرًا وفاعلًا لهم نحو البناء الحضاري وكان للدين أثره البالغ في حياة وتاريخ العرب فاق أثر البيئة والطبيعة والتربية فأصبح إلى حد كبير هو العامل الأساسي والمفصلي المؤثر في جمع مظاهر حياتهم اليومية عبر العصور اللاحقة لظهوره وانتشاره بينهم.
منهج ابن خلدون ومصطلح فلسفة التاريخ
من أهم ما يتميز به منهج ابن خلدون من خصائص هو السعة والشمول في مفهوم فلسفة التاريخ من حيث الامتداد الزماني والمكاني، وذلك من خلال محاولته دراسة التاريخ من أوسع أبعاده الزمانية والمكانية -البعد الزماني والبعد الجغرافي- الأمر الذي أعطاه صفة المؤرخ ذي النزعة الشمولية الواسعة في تدوينه التاريخي، وكذلك في علم الاجتماع السكاني لتوجهاته الحضارية وربطها بحركة التاريخ فعمد إلى ربط نشاط البعد السكاني (الاجتماع السكاني) وتأثيره وتأثره بحركة التاريخ للوصول إلى الحقيقة التاريخية.
إن المنهج الفلسفي الحضاري الذي اعتمده ابن خلدون في تدوينه التاريخي لا ينحصر في الاستشهاد أو تفصيل الحوادث التاريخية للعهود والأزمنة السابقة، وإنما تجاوزها إلى طرح تصورات وطرق تحليل إضافية وعميقة للتحولات والأحداث البارزة في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وحتى الصنائع والعلوم التي أنتجتها حضارة الاجتماع السكاني محل نظر ابن خلدون.
كان ذلك في إطار معالجته للقضايا التاريخية وفق منهجية حضارية أعطت لإنتاجه الفكري طابعًا إسلاميًا لاعتماده على منهج الربط بين الإسلام، والقرآن، واعتبار ذلك أهم وأنجح الوسائل المساعدة في معالجة الفرد، والمجتمع، وإقامة الحضارة. فكانت فلسفته الحضارية ذات طابع لمفكر ينتمي إلى الحضارة الإسلامية التي نشأ فيها ومن معارفها نهل عقله، وبها نضج فكره، وهي نفس البيئة العلمية التي كانت محل الدراسة والبحث عند هذا المفكر المسلم الكبير؛ وبهذه الأطروحات يتفوق ابن خلدون على جميع من سبقه ومن جاء بعده من المؤرخين لمدة تزيد على أربعة قرون من الزمن.
موازنة بين المؤرخين القدامى وابن خلدون
استفاد ابن خلدون من منهج المؤرخين الذين سبقوه مثل الطبري وابن إسحاق، وغيرهم من العلماء والمحدثين من منهجية الجرح والتعديل في التحقق من صحة النصوص الخاصة بتدوين السيرة والحديث، واعتمادها في التعامل مع قبول ورفض الأخبار التاريخية، وزاد على ذلك اعتماد منهجية تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها فكان له السبق في ذلك.
كما سلك ابن خلدون منهجًا جديدًا يختلف عمن سبقه من المؤرخين الذين كانوا يعتمدون نظام الحوليات والوقائع التاريخية وفق ترتيب السنوات وعلاقتها بالأحداث التاريخية، واستطاع أن يتخطاه إلى طريقة أكثر ترتيبًا وتنظيمًا من خلال تقسيم مؤلفه في التاريخ “العبر” على هيئة كتب وكل كتاب قسمه إلى فصول متصلة فيما بينها في تناول الأحداث، وتتناول تاريخ كل دولة على حده مع مراعاة نقاط التواصل، والتداخل بين الدول، والأحداث التاريخية التي تحدث في نفس الزمن.
فامتاز وتميز بهذا المنهج على من سبقوه من المؤرخين ببراعة التنظيم وحسن الربط بين الأحداث، وتفرد بالدقة والوضوح في تبويب الموضوعات والأحداث التي يتناولها بالدراسة والبحث. كما اعتمد منهج النقد والتمحيص وأسلوب الرفض والقبول للنصوص والوقائع التاريخية وفق منهجيته التي اعتمدها وارتضاها كمنهج للكتابة والتدوين مما قربنا إلى مناهج البحث الحديث في علم التاريخ.
منهج ابن خلدون الفريد
استطاع ابن خلون أن يتخطى الأساليب السائدة في عصره من جمود وتقليد، بالعودة إلى المنابع الأصلية، وحسن الاتصال والاعتماد على القيم والأفكار النابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية؛ واستفاد إفادة واسعة باطلاعه على كتب الرحالة والجغرافيين العرب التي وفرت له معلومات غزيرة كافية ساعدته على تعزيز كتاباته واعطائها مصداقية وقيمة زائدة. خاصة في مجال العمران الإنساني المتصل بعلم الجغرافية ومدى تأثيرها على الإنسان في كافة مجالات حياته.
أبدى ابن خلدون اهتمامًا واضحًا بالظواهر التاريخية التي تتعلق بالنواحي السياسية، وذلك من خلال إيمان عميق بأن الظواهر الاجتماعية التي ترتكز عليها كثيرًا هي ظواهر متشابكة ومعقدة، ومتعددة الجوانب، وما السياسة إلا إحدى فروعها.
ووفق هذه الرؤية الصائبة والمنهجية المتكاملة التي صاغها ابن خلدون في مجال دراسة التاريخ والكتابة فيه وفي غيره من العلوم، استطاع ابن خلدون أن يُكوِّن فلسفة جديدة لم يسبقه من قبل فيها غيره من العلماء المتقدمين له في الزمن ولا من تلاه بأربعة قرون وهي فلسفته في دراسة التاريخ التي انتجت علمًا جديدًا يدرس حركة المجتمع السكاني وعلاقته بحركة التاريخ وهو العلم الذي عرفه علماء الغرب بعد عدة قرون وأطلقوا عليه اسم “علم الاجتماع” ونسبوه لأنفسهم.
بينما ظلت فلسفة ابن خلدون في دراسة التاريخ من خلال المجتمعات السكانية مدرسة رائده في مجال التاريخ وعلم لاجتماع وإن أنكرها بعض المغرضين من الغربيين إلا أنها حقيقة تفرض نفسها في الكثير من الجامعات والمؤسسات البحثية التي تعتمد قواعد البحث العلمي المجرد والبعيدة عن تبني الأحكام المسبقة أو التوجهات السياسية أو الدينية أو العرقية فنجدها تحتفي بابن خلدون وفكره ويحظى فيها بالتقدير والاحترام كأحد أبرز علماء الإنسانية وكرمز لتقدم وسبق ونبوغ الحضارة الإسلامية الرائدة.
فرج الكندي شكرا جزيلا على مقالك المثلج الرائع فقد بينت جميع النقاط التي نحتاج اليها بوصف شامل حول فلسفة ابن خلدون في التاريخ اعتمادا على المجتمعات العربية