المرابطون في مرج الزهور: دروس وعبر
على ضفة مياه الوادي الفاتر، قريبًا من جبل الشيخ جنوب لبنان، جلس المُبْعَدُون الفلسطينيون في مرج الزهور يؤرخون لمرحلة لم تكن في حسبانهم، بعد أن ألقت بهم أيادي المحتل الآثم خارج حدود وطنهم في أرض العراء والبرية؛ فقدمت تجربتهم خلاصات ذهبية عن صناعة القوة من الضعف، وتحقيق الأهداف من التلاحم والتنظيم الفعال.
كيف بدأت قصة المبعدين في مرج الزهور؟
يقول الدكتور -المبعد- عاطف عدوان الحائز على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة سالفورد البريطانية، والأستاذ المشارك في كلية التجارة بالجامعة الإسلامية في غزة: “كانت الاعتقالات هوجائية، انتزعوني من بين أهلي، أطفالي يبكون، زوجتي تنظر إلي بحسرة. هي تدري تمامًا أنني لم أرتكب جرمًا، أعاقب عليه بالسجن، حتى بالسجن! أطفالي ينظرون لا يدرون ما السبب؟ أحدهم تعلق بي، لم أجد بدًا من أن أدفعه رويدًا، لكي ألبي طلب الجيش؛ إذ إنني لو لم أفعل ذلك، لربما انتزعوني من بينهم بقوة، انتزاعًا يؤدي إلى زيادة الألم لدي. هذا ما حدث عندما تباطأت لكي أودع الأهل، خرجت، خرج ورائي أهلي جميعًا وجيراني، كل منهم يصرخ عليهم، أنْ ماذا فعل؟ ولكن لا حياة لمن تنادي”.
لم يكن د. عاطف المختَطَف الوحيد الذي انتُزع من أحضان أسرته بهذه القسوة، وبلا أدنى تفسير؛ فقد تم اعتقال 415 آخرين بنفس الطريقة في ليلة باردة من ليالي ديسمبر/كانون الأول من عام 1992م على خلفية خطف أحد جنود الاحتلال الذي رفضت حكومة إسحاق رابين آنذاك مقايضته بالشيخ أحمد ياسين الأسير في سجونها، فتم إعدام الجندي ليأتي الانتقام الصهيوني -لأجل رجل واحد من اليهود- عقابًا جماعيًا يطال العشرات في مختلف مدن فلسطين.
لقد كان أكثر المبعدين لا علاقة لهم بالمقاومة، تهمتهم الوحيدة حسن السمت والالتزام والصلاة في المسجد، ومع ذلك تم انتزاعهم من أحيائهم على حين غرة، وطردهم من بلادهم بقوة السلاح. ولكن كانت هناك مفاجآت أجهضت هذا التخطيط الخبيث لم يحسب حسابها الصهاينة بفضل الله.
عقوبة الإبعاد
ولا شك أن الإبعاد كان عقابًا قاسيًا جدًا، ما يفسر لماذا يسلطه الصهاينة على الفلسطينيين، يذكره القرآن الكريم في آية (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) (النساء: 66)؛ حيث ساوى الله سبحانه بين الموت وبين الإخراج من الديار. فالقتل خروج الروح من الجسد قسرًا، والإخراج من الديار هو الترحيل قسرًا، وكلاهما شاق على الإنسان.
لذلك بالنظر لحجم هذا المصاب، نفهم جيدًا صرخات أم مثل مئات الأمهات الفلسطينيات اللواتي ذقن مرارة فراق الأبناء؛ إنها أم محمد، أم الأبناء الستة، الذين كان نصفهم مبعدًا آنذاك والنصف الآخر في السجون، وعلى جبينها كان لا يزال أثر جرح غائر أصابها أثناء عراك مع جنود الاحتلال، وندرك لماذا كانت تصرخ بصوت يشق ظلام القهر:”يعدوننا إرهابيين، هم الإرهابيون”.
وبنفس شعور القهر والألم وصف المبعدون وعوائلهم لحظات الاعتقال والمصير المجهول الذي كانت تقودهم إليه قوات الاحتلال التي مارست جميع أصناف الإذلال والإهانة والأذية عليهم. في حين لم يكن في علمهم أنهم يتجهون إلى مصير النفي والإبعاد، في أرض غير أرضهم، ولأن السلطات اللبنانية رفضت دخولهم؛ وكذلك رفض المبعدون الدخول إلى لبنان، حطت قوافل ترحيلهم في منطقة مرج الزهور.
لم يكن غريبًا أن يفرح المبعدون برفض السلطات اللبنانية إدخالهم عبر حدودها ليرابطوا بين البلدين؛ بالنظر لحجم وعيهم بخطورة التفريط في حقوقهم وخشيتهم من الانسياق مع تخطيط المحتل.
وهنا خلاصة أولى مهمة؛ ضرورة العمل على إحباط مخطط المحتل، وعدم الانجرار لساحة لعب وفق قواعده بل كسرها لإرباكه.
أمام الأمر الواقع في مرج الزهور
بين الحدود المصطنعة، لفلسطين المحتلة ولبنان، في جو شديد البرودة، وجد المبعدون أنفسهم أمام الأمر الواقع، مُشرَّدين بلا وطن! فسارعوا لأداء أول سنة نبوية، ألا وهي اختيار أمير عليهم ليقود القافلة. فكانت الخطوة الأولى بعد الاتفاق على القيادة، مباشرة مهامها بلا تسويف. وكانت أول مهمة، اختيار مكان الإقامة وتأمين حياة المرابطين.
يحدثنا الشيخ الحاج علي عن ذلك فيقول:”إن اختيار المكان كان بتوفيق الله أولًا واخيرًا. فهو بالأساس معسكر سابق للجيش (الإسرائيلي) ومزود بالطرق والشوارع المزفتة، وبالقرب منه عين ماء وهو في منطقة في غاية الروعة والجمال. وسميناه باسم أقرب القرى إليه وهي قرية “مرج الزهور” التي تبعد عنا 3 كيلومترات، وهي قرية صغيرة قريبة من معبر “زمريا” الحدودي، وأهلها من كبار السن وكانوا متعاطفين معنا”.[1]
وهنا قاعدة مهمة ثانية؛ أهمية اختيار القيادة، ثم تحديد مهامها ومباشرة العمل بلا تسويف.
لقد اجتمعت القلوب واتحدت السواعد فجعل هؤلاء المبعدون من أرض العراء القاسية وطنًا جديدًا، رسموا فيه ذاكرة جديدة للتاريخ. انطلاقًا من خيمة أولى نُصبت ثم عدد من الخيام المتحالفة هُندست، في حضن أرض تحرسها الجبال والثلوج والبنادق المشرعة. خيام تنبض شموخًا وإباءً قد حملت أسماء مدن وشهداء فلسطين، لتذكر المحتل بحتمية العودة واللقاء مع الأهل والأحبة.
وهكذا بين هذه الخيم ومرافق المخيّم، كان يقضي المبعد يومياته في إعادة اكتشاف للأرض وتنظيم دقيق للزمن الجديد. يصنع المبعدون حالة توحد مع ظروفهم يستخدمون أساليب بدائية، صديقهم الحطب، وكل الأدوات التي تمتُّ للعصر البدائي.
ومع أن المبعدين حصلوا على المساعدة من الخارج من الجمعيات الإسلامية والمؤسسات الإغاثية؛ وذلك بتوفير الضروريات في مقدمتها الخيم ومولد للكهرباء والمواد التموينية وهاتف لا سلكي، وغيره من معدات لتسهيل الإقامة في ظروف التخييم. تفجرت طاقات هؤلاء المبعدين وفق قاعدة “الحاجة أم الاختراع”، ذلك أن هذا المجتمع الذي ظهر في ظرف استثنائي على أرضية جرداء، كان يحمل في مكوناته مقومات الدولة المصغرة، مكنته من النجاح رغم صعوبة الظروف عندما أحسن تنظيم حياته مستفيدًا من كل الطاقات التي بداخله على رأسها الطاقات البشرية.
حيث كان بين المبعدين أكثر من 200 خطيب مسجد، وأساتذة الجامعة والأطباء والمهندسون من مختلف الاختصاصات، والصيادلة والدعاة والتجار والحرفيون والطلبة؛ ليتكامل مشهد البذل والعطاء في مختلف ميادينه، بتشكيل عدد من اللجان المتخصصة، تديرها قيادة واحدة واضحة الرؤية والأهداف.
وهنا قاعدة أخرى مهمة: ضرورة اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، والعناية بالاختصاصات وحسن ترشيد الطاقات وتفويض المهام وفق الخبرات، وتكاملها بانسجام لتحقيق الأهداف المنشودة.
اللجان المنظمة
انتظم مخيم مرج الزهور الذي حمل اسم “مخيم القدس للعودة” بشكل لجان متخصصة، لكل منها تفويضها الخاص. وهنا برزت المهارات القيادية لرجال لم يجدوا في أيديهم إلا التراب وبعض المعطيات البدائية، لكنهم صنعوا قوة وغيروا واقعًا مريرًا.
وأخرج التخطيط الذكي:
- لجنة الهندسة والتخطيط: وهي اللجنة التي تدرس الخطط والأهداف وتقرر الخطوات المقبلة.
- لجنة المخزن والمشتريات: وهي اللجنة التي تؤمّن عيش المبعدين ومؤونتهم.
- اللجنة الإعلامية: وهي اللجنة التي ذاع صيتها وبلغ صداها كبريات الصحف والقنوات العالمية؛ نظرًا لكفاءة استراتيجيتها الإعلامية. وكان يترأسها د. عبد العزيز الرنتيسي، المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية آنذاك، والدكتور عزيز دويك المتحدث باللغة الإنجليزية.
- اللجنة المالية: تتكفل بتأمين الميزانية ومتابعة خطط العمل المالية والمصاريف.
- اللجنة الثقافية: كان دورها إدارة النشاطات الثقافية من مهرجانات ومحاضرات ومسابقات، فضلًا عن توفير مكتبة للمخيم ضمت حوالي 1000 كتاب.
- اللجنة الرياضية: تركز اهتمامها على اللياقة البدنية للمبعدين؛ حيث كان من بينهم مدربون للكاراتيه وفنون القتال، وكان لدوراتها الرياضية أثرها الإعلامي الواسع.
- اللجنة الطبية: يشرف عليها كوادر من الأطباء المبعدين من مختلف الاختصاصات، مجهزة بتجهيزات طبية أولية. يدخل ضمن مهامها وضع الخطط لمواجهة أخطار الماء الملوث والبرد القارس ولدغات الأفاعي والحشرات البرية السامة.
ونجحت في توفير عيادة وصيدلية متواضعة، ومع ذلك تمكن الأطباء من إجراء بعض العمليات الجراحية. وكان من اجتهادات هذه اللجنة، الاستفادة من الأعشاب المتوفرة في المنطقة تحت إشراف مختصين فيها. وقد امتدت خدماتها حتى إلى القرى النائية المجاورة.
- لجنة الحراسة: وهي بمثابة منظومة دفاع؛ حيث عملت على تأمين المخيم وحراسته، ومراقبة الداخلين إليه والخارجين منه بشكل منتظم.
- لجنة الأرشيف والتوثيق: وهي لجنة متخصصة في توثيق كل نشاطات المخيم، وكل المراسلات والاتصالات، فضلًا عن تأمين أرشيف مصور يوثّق كل الفعاليات باحترافية عالية. مما يؤكد على أهمية حفظ التاريخ بجهد أصحاب التجربة أنفسهم. وهي خطوة ذكية آتت أكلها فيما بعد.
- لجنة الساحة والعمل التطوعي: وهي لجنة تسد النقص في المخيم باستثمار طاقات المبعدين في الإشراف على المرافق العامة والنظافة والخدمات التي بها ينتظم العيش في المخيم.
- اللجنة التربوية ولجنة الإصلاح: كلاهما تعملان على تقوية الجانب التربوي وحل مشاكل المبعدين في المخيم تحت إدارة مختصين وأهل علم.
وبتكامل وتناغم، قامت هذه اللجان بتنظيم حياة المبعدين وتوجيه كل الطاقات نحو الهدف الرئيسي لمخيم العودة: العودة للوطن.
المسجد بين الخيام
كان المسجد حاضرًا بقوة في هذا المشهد، ليذكرنا بالمكانة الاستراتيجية له في المجتمعات المسلمة، حيث ألقيت أول خطبة جمعة في ظروف استثنائية من البرد والوحل. مع ذلك حرص المبعدون على أدائها كاملة. وكانت كل جمعة تصل أختها بسيل من النصائح والتوجيهات التي تهز قلوب المبعدين فيشتد أزرهم ويقوى عزمهم، ويصل أثرها لبعد أميال.
جامعة ابن تيمية في قلب المرج
لعل أبرز مشاريع المبعدين التي أقيمت في مخيم العودة كان جامعة حملت اسم قامة علمية سامقة، إنها جامعة الإمام ابن تيمية، بإشراف 17 أستاذًا من أساتذة الجامعة المبعدين، ليكون العلم معلمًا بارزًا يشمخ بين الصخور فيضفي رونقًا لمشهد الرباط في مرج الزهور. وكم كان ملهمًا مشاهدة الأستاذ المحاضر يلقي الدرس وحوله 88 طالبًا من مختلف الجامعات، ينصتون بشغف، سقفهم السماء وأرضهم حشاش الأرض!
إنها أول جامعة في العراء، جمعت المرابطين للاستقواء بالعلم والاستنارة به في لحمة خاصة. وذلك نتيجة طبيعية حين تجتمع الهمم في أي ظرف كان، تصنع مجتمعًا وتخرج طاقاتها بشكل منتظم فالمجتمع ظاهرة تاريخية.
ومن المثير للاهتمام حرص الأساتذة الشديد على اعتماد شهادات هذه الجامعة بعد ذلك في جميع الجامعات في فلسطين. وهكذا لم يتطلب إنشاء جامعة فعالة إلا بعض الخيام وأساتذة وطلاب بهمم عالية. وتأكد للجميع أن إنشاء جامعة ليس بأمر مستحيل حتى في أسوأ الظروف أمام الواجب الأهم؛ استمرار حركة التعليم بهمة لا تنضب.
ثم لم يقف بث العلم على الجامعة؛ بل حرص المبعدون على إلقاء دورات التجويد وحفظ القرآن والخط والخطابة وغيرها من الخبرات والعلوم الدينية والدنيوية.
وهنا قاعدة ذهبية أخرى عن أهمية الاستناد إلى العلم والعناية باستمرار التعليم، والاستفادة من الخبرات داخل المجتمع، والحرص على إنارة العقول وإن افتقدت المباني الفاخرة والتفاصيل الشكلية والكماليات، ثم أهمية حفظ الإنجاز.
أهمية العمل الإعلامي
لقد كان للأداء الإعلامي تأثيره اللافت، فقد استقطب عدسات الصحافة من كافة أنحاء العالم، وأقبل المراسلون من كل الاتجاهات، تجذبهم قدرة الإنسان على مقاومة الظلم والصمود في أسوأ الظروف والحالات.
وشملت نشاطات وفعاليات المبعدين الإعلامية أشكالًا متعددةً، وأجرت اللجنة الإعلامية مؤتمرات صحفية ونقلت أخبار المبعدين ومشاعرهم بتغطية كاملة، التي كان من ضمنها المبارزات الرياضية ولم تكن لمجرد التسلية. يقول عنها روبرت فيسك المحلل السياسي، في صحيفة الإندبندنت البريطانية:” المبعدون واعون جيدًا، للحرج الذي تتعرض له إسرائيل، وتمارينهم الرياضية التي اتخذت من الجبال الباردة مسرحًا لها ليست لصحتهم البدنية فقط، بقدر ما هي إغراء لطواقم التصوير العالمية، لم يحدث لأحد في المنطقة، أن جلب هذا العدد من الصحفيين، كما فعل الفلسطينيون، بابتساماتهم وعذاباتهم، فوق تل مرج الزهور”.
أما مراسل مجلة هولندا الحرة، أدياتوس دندون فقال:”لقد مرغت إسرائيل وجهها بإبعادكم؛ فأنتم أصحاب حق، لستم إرهابيين، لقد لمست فيكم حب العقيدة والفكر الثوري وثقافة المقاومة. عاش الصحفي أسبوعًا كاملًا في خيام المبعدين واعدًا بنقل معاناتهم”.
وبفضل سياسة إعلامية مدروسة، استطاع المبعدون تحويل “الإبعاد من عقاب إسرائيلي، إلى قضية رأي عام دولي إقليمي وعالمي ساهمت بشكل كبير في إحراج إسرائيل على جرائمها المتكررة بحق الشعب الفلسطيني” كما أشار لذلك روبرت فيسك.
لقد كان الإصرار على العودة ونقض قرار النفي لافتًا، في أول بيان رسمي لقيادة مخيم “القدس للعودة”؛ حيث جاء فيه: “سنموت هنا بين الصخور ولن نغادر إلى لبنان، سنموت هنا ولن نذهب إلى أي بلد في العالم. لن نغادر هذه البقعة إلا إلى وطننا”.
وهنا قاعدة مهمة في المعركة مع المحتل؛ وهي أهمية الإعلام كآلة حرب أخرى لا تقل أهمية عن كل الآلات في المواجهة مع الأعداء، يجب أن تدار باستراتيجية مدروسة لإيصال الحقائق وإحباط خطط التشويش والشيطنة.
إغاظة المحتل في مخيم مرج الزهور
لم يكتف المبعدون بتنظيم حياتهم لخير عطاء ولا بإسماع صوتهم للعالم، بل أصروا على أن يكون لهم نصيب من إغاظة المحتل وإزعاجه؛ فكانوا يقيمون مسيرات العودة عند حواجزه فيشعلون النيران ويستفزونه بما تيسر لهم من أسباب، فلا يجد أمامه إلا الرد المدفعي الجبان كعادته.
كذلك جعل المبعدون مخيم العودة حلقة وصل تمتد إلى عمق فلسطين، فيعايشون آلام من في الداخل ويرثون شهداءهم بطريقتهم الخاصة ويؤكدون على انتمائهم لأمتهم مما يغيظ المحتل.
وهكذا احتفل المبعدون بالمناسبات والأعياد وقاموا بتقديم واجبات العزاء لمن حولهم،كما أقاموا سنة العقيقة؛ حيث رزقوا في فترة إبعادهم بـ 108 مولود ما بين ديسمبر 1992 إلى أيلول 1993، لتصل الرسالة إلى المحتل أن أجيالًا من أهل الأرض يتوارثون العهد.
وفي هذه الأثناء، تقمص المبعد دور الحكواتي ليحكي قصة التجربة الفريدة؛ حيث نظمت العديد من القصائد وكتب الكثير من النثر.
ومما بقي أثره من ذلك، نَظَمَ شيخ مبعد مسليًا عن رفاقه في قلب المرج ومؤرخًا بطريقة الشعراء:
حلت على الأرض العراء جموعهم *** رفضوا الدخول كلاجئين يشردوا
عزموا البقاء على التلال بصخرها *** بعزائم من ربها تتزوَّدُ
ما بين زامريا ومرج زهورهم *** اتخذوا العراء مقامهم وتجلدوا
في زمهرير البرد يلسع جلدهم *** وشعارهم قدر الإله مؤكدُ
نصبوا الخيام من الشتاء ضرورة *** لولا الضرورة ما رضيها واحدُ
في الضفة المقابلة .. داخل فلسطين
في الضفة المقابلة، قصة كفاح أخرى أبطالها الأمهات والأطفال بقلوب ثكلى ووفاء عظيم، يتواصون بالصبر والحق، وبصدق المشاعر وجمال الوصف، نشاهد ذلك في كلمات أم عمرو -زوجة الشيخ بسام جرار- آنذاك، وهي تشد أزر النساء في الجمع المكلوم فتقول: “من قال: إنَّا لا نحزن؟ من قال إنَّنا لا نبتئس؟ أطفالنا كالزهور الذابلة، منذ شهر لم تُسْقَ بقطرة حنان، أطفالنا يشتاقون لحضنة الوالد، نحن لا نريد البكاء، يا أخواتي، نريد الصبر، ولكنا نريد أن نسمع العالم أنَّا مكلومون، ابكي ولكن لا تبكي أمام طفلك، لا تريه أنك ضعيفة”.
وعلى غرار الزوجة، ابنة بارة تنادي أباها:
أبي الحبيب، رغم الألم الذي يعتصر في قلبي، أنا وأمي وإخوتي وأخواتي والمسلمين أجمعين، سنبقى صامدين صامدين، ثابتين ثابتين، مرابطين إن شاء الله.
وهكذا تقف النساء في موقعها الطبيعي في معارك الحق مع الباطل، فلا تتزعزع من مكانها وإن أثخنتها الجراح بل تسقي أبناءها من ترياق العز والثبات ليكتمل مشهد التعاون على البر والتقوى ورد العدوان والظلم.
هذه قصة وقعت أحداثها في القرن العشرين الذي يرفع فيه ساسة العالم والدول الكبرى، شعار حقوق الإنسان، لكنها حقوق تتحطم عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، وتخرس الألسن وتخمد الأقلام وتتلعثم ألسنة المراسلين والسياسيين. فحقوق المرأة والطفل والمستضعف كلها تداس بلا رحمة مع نظام يحارب الإسلام ويطارده.
نهاية قصة معكسر العودة في مرج الزهور
رغم كل ما واجههم من صعوبات ولدغات عقارب وحيات، وساعات ضعف وشدة، لم يستجب المبعدون لهذه النازلة باليأس والتخاذل بل جمعوا صفوفهم متراصين مستمسكين بحبل الله، حتى مكن الله لهم العودة من جديد. حيث أحرج رباطهم المحتل، واضطره للإذعان في الأخير لمطالبهم، فعادوا إلى فلسطين على مراحل في بداية خريف عام 1993م. وكان أول العائدين مجموعة زعمت حكومة الاحتلال أنها أبعدتها بالخطأ. ومن المبعدين من عاد وسجن ومنهم عدد قليل رفض العودة. ومع ذلك بقيت كلمات المبعدين يتردد صداها إلى اليوم: “أرادوها لنا منفى ونكبة، واخترنا أن تكون رحلة وتجربة وعودة حتمية”.
مقومات النهوض في داخل المجتمع
تأخذنا تجربة المرابطين في مرج الزهور بالذاكرة إلى أيام المرابطين في القرن الخامس والسادس الهجري؛ حين أُبعد الشيخ عبد الله بن ياسين من قبائل جدالة وأخرج من ديارهم بشكل فظّ، فانعزل في جزيرة في المحيط قرب مصب وادي السنغال لتتحول لنقطة رباط له للعبادة وطلب العلم. يُرَجَّح أنها تقع في منحنى نهر النيجر، على مقربة من مدينة تنبكتو.
واستقطب هناك تجمع عبد الله الكثير من الناس، ولما بلغ عدد هؤلاء المرابطين ألفًا وحازوا من نصاب العلم والقوة ما يعد بالكثير، أمرهم عبد الله بالخروج للجهاد. فخرجت معهم أعداد غفيرة من الجدوليين واللمتونيين يحركهم حب الإسلام.[2] فكان ما كان لهم من بطولات خلدها التاريخ فيما بعد.
هكذا كانت البداية من العراء والخيم، من التنظيم والإعداد والتزود بالإيمان والعلم والعمل، ثم النجاح في تحقيق الأهداف. هي استراتيجية تتكرر مع كل ابتلاء إن أحسن المبتلون الأداء.
فالمبعدون في مرج الزهور، حققوا هدفهم بإجهاض قرار الاحتلال إفراغ فلسطين من الكوادر والهمم المؤثرة ونفيها بعيدًا عن موطنها، وكان لهؤلاء المبعدين ذلك، عندما رفضوا أن يتنازلوا عن حقهم في العودة ورابطوا عليه في الخيم وعملوا على إجبار المحتل على التراجع، حتى تحقق لهم مرادهم.
وكذلك المرابطون على ضفاف وادي السنغال، كان هدفهم إعلاء راية الجهاد وإدخال الناس لدين الله أفواجًا، فكان لهم ذلك، بإقامة دولة إسلامية ممتدة على مساحة قارتين ونشر الإسلام في قارة إفريقيا.
وعلى الرغم من البداية المتواضعة إلا أنها كانت صادقة وجادة فكانت ثمار المغامرة عظيمة مباركة.
وهنا قاعدة مهمة: كل نجاح مرتبط بدرجة الصبر على تحقيقه وصدق السعي في تحقيقه.
كلمة أخيرة
إن التاريخ ليس مجرد حدث منعزل؛ إنه أحداث متشابكة متتابعة وكل حدث عبارة عن حلقة في سلسلة تشكل تاريخ الأمم. والاستفادة من أحداث هذا التاريخ ضمان لاختصار الوقت وترشيد الجهود للأفضل. وفي زماننا نحن بحاجة ماسة لدراسة الأحداث التي وقعت في ظروف القهر والاحتلال والضعف ومع ذلك أظهرت قوة ونجاحًا بشكل من الأشكال. نحن بحاجة لاستخراج عوامل القوة من كل تجربة لنعلمها للأجيال ونعمل بها.
ولعل أهم درس نخرج به من تجربة مخيم العودة في مرج الزهور، أن الرباط عبادة، يستعين بها المسلم لقضاء حوائجه، وتحقيق أهدافه، وقهر أعدائه. رأس المال فيها الإيمان واليقين والزاد فيها الصبر والعمل، والتوفيق فيها بقدر الإخلاص والصدق.
فـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
المصادر
- رحلة في مرج الزهور
- تاريخ الإسلام في شمال أفريقيا: دولة المرابطين
- وثائقي “على حدود الوطن – حكاية المبعدون”، قناة الحوار.
- مذكرات الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
- مقالات صحفية من الشبكة.