مراجعة كتاب: (أمير الظل: مهندس على الطريق) للمجاهد الأسير عبد الله البرغوثي

لطالما كانت السيَر أكثر ما يعلق بالذهن، وحكايات العابرين في الحياة وتجاربهم عبرة لكل من يسعى ويعمل، ولذا يأتي هذا الكتاب ليكون درسا لكل من قعد عن العمل وردَّد الأعذار. صاحب هذا الكتاب أسير تحدى قضبان سجون الاحتلال الصهيوني وأكمل جهاده بالقلم كما كان يجاهد قبل اعتقاله وإدخاله في زنازين السجن الانفرادي. يبدأ الأسير عبد الله البرغوثي كتابه: (أمير الظل: مهندس على الطريق) بردٍّ على رسالة ابنته ثم يتوجَّه به السَّرد إلى تقديم تجربته في فلسطين لنا جميعا.

يصعب اختزال هذا الكتاب ببضع كلمات، رغم أن صاحب الكتاب ليس أديبا -بالمعنى المهني- ولا شاعرا، بل هو مهندس مقاوم اختار طريق الجهاد وقد هيأ الله له الأسباب.

في هذه المراجعة سأتجنَّب الكثير من التفاصيل التي يصعب اختزالها وأسلط الضوء على بعض ما ذكره الأسير الذي ما زال يقبع في سجون الاحتلال حتى وقت كتابة هذه الكلمات.

بين يدي الكتاب 

عبد الله البرغوثي أب لابنٍ وابنتيْن مِن أمٍّ فلسطينية. هذا الأسير شهيد حي كما أسمى نفسه فمن يقضي حياته في سجون الاحتلال بالتأكيد صافح الموت مرات فكان شهيدا حيا. وما زال يقضي حياته حاليا في سجون العزل الانفرادي وقد حكمت عليه محاكم المحتل بأكبر محكومية في التاريخ. حكمت عليه دولة الاحتلال بسبعة وستين مؤبَّدًا وخمسة آلاف ومائتي عام، تبدأ حكاية الشهيد الحي وهو الرجل الذي ولد عام 1972م في الكويت لأسرة من أصول فلسطينية سكنت الكويت.

يقظة مبكرة 

طفولة عبد الله البرغوثي لم تكن غير عادية إلا عندما استيقظ يوما ما؛ ليسمع خبر وفاة أقارب له ويقام لهم عرس الشهادة، فالشهداء لا يموتون لتقام لهم المآتم؛ بل هم أحياء اختاروا طريق الجنان. فقد كان الفلسطينيون يقيمون عرس شهادة إذا جاء لهم خبر وفاة أحدهم على يد الاحتلال. ويكبر الطفل مبكرا ويعلم أن له حقا في تلك الأرض التي جاء منها وثأرا طويلا؛ ففي الكويت تعلم حبَّ فلسطين والإسلامِ والولاءَ لله وحبَّ الجهاد. تعلم في الكويت فنون الدفاع عن النفس وجمع بين المدرسة والعمل في ورشة للميكانيكا أحيانا والكهرباء حينا آخر. تقلبت به الأقدار ولم يقنط منها.. لم يدخل الجامعة لقلة ذات اليد وعاد هو وأسرته إلى الأردن وقد كان أكبر إخوته وعليه مساعدة والده.

كبر الطفل رجلا؛ فمَن يتربى على الصلاة يعلم أن الحياة مسؤولية وأن كثيرَ التَّرَفِ يُفسد. لم يكمل الثامنة عشرة عاما إلا وقد تراكمت عليه الديون بعد أن فتح مشروعه الخاص بمحل لإصلاح السيارات، ثم اضطر لإغلاقه، وحمل على عاتقه دَينا احتاج سدادَه، فترك البلد وغادر على أمل أن يساعد أسرته ويساعد نفسه واتجه إلى كوريا الجنوبية، فهناك من يجعله الفقر يقف على الأبواب وهناك من يجعله ينطلق ليعمل؛ فلا وقت للانهيار والبكاء على الأطلال.

كوريا

مَن ذهب لهدفٍ سام لن يلتفت كثيرا حتى يحققه، ومن استعان بالله لن تُعجزه الحيلة. فرحلة الشهيد الحي إلى كوريا كانت غريبة حيث لم يحمل في جيبه سوى عنوان لا يعرف صاحبَه، لكن قيل له إنه سيساعده، لم يكن يملك المال فوصل بعد نوم في الحدائق العامة لأيام. يصل للعنوان فيكتشف أن صاحب العنوان غير موجود وليس العنوان سوى مصنع، ليسوق له المولى عمالا من باكستان يساعدونه ليعمل في المصنع مقابل قليل من الطعام وقليل من المال، لكن أصحاب الأهداف لا يعدمون الحيلة ففي تلك الفترة التي بدأ بها العمل حافظ على لياقته البدنية وعلى صلاته التي نشأ عليها منذ نعومة أظافره. وليأتي الليل ويحاول اختراق جهاز الحاسوب القديم وقد كان الإنترنت في ذاك الوقت محدودا.

 تعلم اللغة الكورية واختراق المواقع الإلكترونية التي تُعلِّمُ صناعة المتفجرات وطبَّق ما تعلمه في غابات كوريا.

كانت هذه البداية الصعبة في كوريا ليبدأ شيئا فشيئا، وتكون له تجارته في مجال السيارات ويصدرها لبعض البلدان العربية، ويتزوج من فتاة كورية، ويجد نفسه في شجار يُعتقل على إثره ويتم ترحليه إلى الأردن فقيرا كما جاء منها. لكن بعد عامين استطاع أن يرجع أمواله وتمر الأيام التي تجعلك تتأكد أن الله هو من يدبر الأمر ويهيئ الأسباب.

فلسطين لأول مرة 

تقلبت حياة الشهيد الحيِّ الأسريَّةُ وجاء موعد زيارته لفلسطين لأول مرة، ليدخل أريحا ويرى فظائع السلطة التي وقَّعت اتفاقية الذلِّ أوسلو، ويراها مدينة تحرس ملاهيها الليلية وماهراتها سلطة كان المفترض أن تحرس فلسطين لكنها تاجرت بدماء أطفال الانتفاضة. ويذهب بعد أريحا إلى القدس وصلى في الأقصى لأنه يحمل جواز سفر أجنبي بينما يمنع الفلسطيني من الدخول إلى أقصاه.

من الأقصى ذهب إلى بيت لحم ليزور كنيسة الميلاد فهذه هي فلسطين على بعد أمتار من المسجد المبارك عند المسلمين تكون الكنيسة المقدسة عند النصارى، ومن ثم ينطلق إلى رام الله لتكون مدينة نائمة لم تنتفض لمن قتل من أبنائها على يد الاحتلال فسلطة أوسلو قد أحكمت قبضتها عليها. رام الله ومدن الضفة الغربية والتي من المفترض أن تكون بيد سلطة أوسلو يمشي فيها المحتل بسلاحه بحرية، في الوقت الذي تكون المدن التي باعتها السلطة دون حراسه فقد أصبحت تسمى إسرائيل.

مر على يافا وحيفا واللد والناصرة وكلها مدن محتلة قد أحكم الاحتلال قبضته عليها وأصبحت بلدا له وتسمى إسرائيل. ذهب إلى قريته وبيت جدة وكان في استقباله والده وأهله المرحبين به بحفاوة ليكون الزواج بعد أن ترك زوجته الكورية من أعوام طويلة ويعود إلى الأردن تاجرا لكن لم ينس أنه صاحب حق. فأقدار الله تسوق الإنسان لقدره الذي خلق لأجله، وعمل الإنسان واجتهاده توفيقا من الله لما هو مقدم عليه.

بداية الحكاية 

بعد أعوام من بناء الأسرة والاستقرار تبدأ الحكاية، فالحكايات لا نعدها بالأعوام بل بالأحداث. عاد الشهيد الحي إلى فلسطين وقد كان معه من المال ما يكفيه فعاد تاجرا مقاوما. في تلك الفترة كانت المفاوضات والتنسيق الأمني بين دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية في أفضل حالاتها. من لم تعتقله دولة الاحتلال تتكفل باعتقاله سلطة أوسلو، فمن وقَّع على بيع الأرض اعتاد العيش في ذل العمالة، وتهم الاعتقال غير مهمة؛ فالبحث عن الحرية والمقاومة في نظرهم جريمة يعاقب عليها الحر والعمل للإسلام جريمة، فكيف بمن عاش الإسلامَ والحريةَ؟ بالتأكيد سيكون المطلوب الأول أمنيا.

أول ما بدأ به أنه أدخل أدواته للقدس مِن أسلاك وأجهزة إلكترونية وأدوات كهربائية ومواد متفجرة… كل هذا أدخله بالحيلة فصاحب الهدف لا يعدم الحيلة، كما أنه بخبرته السابقة باختراق الحواسيب استطاع اختراق مواقع اتصالات المحتل ومواقع السلطة أيضا؛ فالخائن عدو. كما أنه بعد عمله في التجارة التي دخل بها كغطاء لما يخطط له كان يسافر إلى المدن المحتلة (ما يسمونه مدن الثمانية وأربعين)، وجوازه الأجنبي ولغته الإنجليزية ساعدته بالتنقل ليعرف جغرافية الأرض التي يريد أن يستعيدها، وتمر الأيام وتأتي الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، يوم دنس شارون رئيس وزراء دولة الاحتلال المسجد الأقصى.

ومن بين التفاصيل التي لا يمكن تجاهلها، غضبه لله حين سمع اثنين يتشاجران: أحدهما يشتم الذات الإلهية فيغضب عليه ويضربه حتى كاد يقتله، ويقول له: هذا ربي لا تشتمه، فقد رزق هذا المهندس بنية جسدية قوية عمل على تدريبها منذ الطفولة، فالمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

مهندس على الطريق 

تسوقه الأقدار ليهتدي إلى طريق البداية ويحمل الأمانة التي خبأها المهندس يحيى عياش؛ ذاك المهندس البطل الذي أتعب دولة الاحتلال حتى اغتالته بمساعدة عميل وبكت على موته فلسطين كلها. بعد أن استلم أمانة المهندس يحيى عياش بعد موته ليعلم أن الوقت حان ليمضي على طريقه.

الكاتب يذكر العديد من الأحداث وكيف بدأ المشوار، وعلم أن القوة التي ربى نفسه عليها سواء القوة المالية أو البدنية تحتاج إلى رفقة تحمل هم التحرير كما حمله. فبحث عن من يوصله ليكون جزءا من الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس ويكون جزءا من القسام وأحد رجال الحركة المهمين، بدأ العمل وقد شاركه ابن عمه الطريق رغم أنه سبقه في العمل ضد الاحتلال لكن كانت كل حيلته في المقاومة الحجارة كغيره من شبان فلسطين.

ليقرر بعد تردد فتح أمانة عياش وتكون حقيبة فيها عبوتان متفجِّرتان، ويبدأ مرحلة الإعداد بالمتفجرات والعبوات الناسفة، والتجربة على أراضي والده الزراعية الخالية، وكانت بداية العمل في رام الله بمشاركة ابن عمه الذي انتقى له الرجال. وقد كان المال متوفرا لاستئجار الشقق التي يكون بها العمل. بدأ العمل تحت اسم القسام في رام الله والتنقل كان يسيرا فقد أتقن التزوير سابقا ولديه من السيارات ما يكفي ليبدلِّها أثناء العمل.

أمير الظل 

وبدأت العمليات واللقاء بالمقاومين في مدن الضفة الغربية لينقل لهم خبرته في العمل الميكانيكي والكهربائي وصناعة المتفجرات وغيرها… وبدأت العمليات بزرع العبوات الناسفة وإيقاع القتلى بالصهاينة، ثم بدأ العمل الاستشهادي وهو العمل الذي لم يكن يفضله الشهيد الحي؛ لكنها: المقاومة والحاجة للعيش بكرامة أو الموت على الشهادة.

أترك تفاصيل العمليات التي ذكرها بالكتاب لمن يقرأ الكتاب؛ فما أكتبه عن الكتاب لا يغن عن قراءته، أول العمليات كانت في أحد مطاعم الصهاينة في القدس ليذهب فيها 15 صهيونيا ويجرح المئات. بعد هذه العملية تكفلت السلطة الفلسطينية باعتقال المهندس عبد الله لعدة أسابيع وخرج وأصبح مطاردا ينهب الأمن الوقائي كل ماله ويعتقل الصهاينة مَن عمل معه ويستشهد الباقيان.

وتأتي العملية الأصعب، عملية ثلاثية خطط لها البرغوثي ردا على عربدة الصهيوني واغتياله لقيادات مهمة في القسام، تفاصيل العملية لن أذكرها لكن قام بها استشهاديان والتفجير الثالث في السيارة التي تركاها خلفهم، ليصبح بعدها لأمير الظل صورة في جيب كل العملاء للبحث عنه ومطاردته في المساجد وفي كل مكان.

هاجمت قوات الاحتلال قريته في رام الله وبيت أبيه فاشتبكوا مع المقاومة الذي هو جزء منها واستشهد من القرية 8 واعتُقل الكثير، وانسحب العدو بعد أن قُتل منهم عدد ليس بالقليل. ويكمل أمير الظل عملياته وكمائنه بجيش الاحتلال ويصاب ويتعافى ويدرِّب خيرة شباب فلسطين على ما عنده من علم ليكملوا المشوار إن أصابه مكروه.

كان كلما تشتد عربدة المحتل تأتي العملية أكبر من التي قبلها؛ فالعملية التي تليها كانت قريبة من بيت شارون رئيس وزراء دولة الاحتلال في ذاك الوقت، وتوالت العمليات في كل المدن لا في القدس وحدها (عملية في نابلس وأخرى في الخليل وغيرها… ما ذكرته من عمليات ليست سوى شيء قليل مما قام به أمير الظل) فالمدن كلها كانت تتنافس لتُكَبِّد المحتل الويل. وتفاصيلُ الهروب والسلاح وتعامل المقاومة فيما بينها يصعب ذكرها ببضع كلمات؛ لهذا أتركها لمن يقرأ الكتاب ويفهم كيف أن الجهاد عقيدة لا يقدر عليها إلا من جاهد في ميدان نفسه أولا قبل أن يذهب لميادين القتال.

اعتقال أمير الظل

تم اعتقال أمير الظل على يد عملاء سلطة أوسلو ليبقى في السجن حتى اليوم ويلقى صنوف العذاب لكن بعزة الحر الذي لا يخضع إلا لله. هذا الكتاب كل حرف فيه عزيز قوي أخذَ العزة من تلك العقيدة الراسخة بأن الحقوق تنتزع، وأن المقاومة هي من ستعيد الأرض وتعيد الأقصى، صاحب هذه الكلمات في السجن الانفرادي يحكي حكايته لتكون عبرة لمن خمل وكسل وتاه عن الطريق ليكون نموذجا لكل من ظن أنه لا يستطيع فالحياة واحدة فلتكن حياة لله. 

وليعلم كل من يقرأ الكتاب أيضا أن المجاهد بعد اعتقاله لم يترك الجهاد واختار أن يجاهد بقلمه ويتحدى السجان ويوصل كلماته بالحيلة. ومن خلال الكتاب كله يتأكد القارئ أن الحاجة أم الاختراع وأن من أراد شيئا لله سخر الله له الأسباب. وليعلم من يقرأ أن الأقصى عقيدة، وأن العمل لله شرف لكل عامل فلا تعدم الحيلة وابحث عن ثغرك واعمل حتى ترى ثمرة عملك أو تُتوفى وأنت تعمل لله. 

مِن كلمات الشهيد الحي أمير الظل عبد الله البرغوثي 

«أعلم أنني اليوم أعيش في ظلمة العزل الانفرادي منذ سنين طويلة جدا حتى أنني لم أعد أحصيها… ولكن قبل دخولي إلى العزل عشت ستة أشهر في زنازين التحقيق شاهدت خلالها الموت: كلمته وكلمني، لمسته في لحظات عديدة ولكن تغلبت عليه بعون الله القادر القهار؛ أذكر أنني عشت قبل ذلك أجمل وأروع أيام عمري؛ فقد رفعت رأسي عاليا ورفعت راية التوحيد والجهاد في زمن الذل والهوان… وغدا تأتي قطرةُ زيت لتضيء سراج الأقصى وقناديل القدس… غدا قادم فلا تقنطوا من رحمة الله».

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. شكراً على هذا العمل، منذ مدة كتبت شيئاً عن هذه المذكرات ودمجتها مع مذكرات شبيهة سأقوم بالاهتمام بها أكثر حتى انتهي منها وسأحاول نشرها على تبيان

  2. الله عليك في عمل الخلاصه مبدعه من يومك
    لخصتي كل النقاط المهمه التي توحي ماداخل الكتاب بما اممي لم تقرا الكناب بس حسيت انني قراته
    مزيد من التقدم منتضررين الكثير منك

  3. هذي الفترة بصراحة كنت ادور كتاب من قلب الحدث من أقلام ناس عاشوا الفترة الزمنية من النكبة إلى الانتفاضة والعديد من الفترات المهمة الي كنت أجهل ماهيتها وقررت اقرا لاهم قائد في حماس الا وهو يحيى السنوار كتاب “شوك القرنفل” لكن ما حسيت بروعه وتشويق ملخصك اتمنى اتمنى الكتاب يكون ولو ٥٪ من روعه تلخيصك اتطورتي عن المرات الي فاتت ولسه ابغى اشوف الأفضل أن شاء الله

  4. خلاصة جد جد ممتازة لخصتي كل النقاط المهمة التي في الكتاب. صراحة أنا لم أقرأ الكتاب لكن من خلال ملخصك جعلتني أرغب في قراءته.
    جزاك الله على هذه الخلاصة 🥰🥰

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى