الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. وخرافة إنقاذ البشرية!
في الثاني من سبتمبر عام 1945م؛ وضعت الحرب العالمية الثانيةُ أوزارها، وهدأت فوهات المدافع والدبابات؛ وانقشع غبار القذائف والقنابل كاشفًا عن حجمٍ مهولٍ من الدّمار، وعن مأساة بشريّة لم يشهد التّاريخُ الإنسانيّ لها نظيرًا؛ عشرات الملايين من القتلى، حوالي النصف منهم مدنيّون، ومثلها من الجرحى والمشوّهين وأصحاب العاهات المستديمة والمجانين؛ إضافةً إلى الخسائر الاقتصاديّة والتحوّلات الجذريّة في خريطة القوى العالميّة.
ما دفعَ النُّخب السياسيّةَ والثقافيّةَ في أوروبّا إلى التّفكيرِ في اتّفاقيّة تضمن عدم تكرار المآسي والانتهاكات التي شهدتها البشريّة خلالَ هذه الحرب، فَـ”من أنقاض الحرب العالميّة الثّانية جاءت دعوةٌ لِتكريس حقوق الإنسانِ الأساسيّة“. [1]
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ هذا التّفكير لم يكن وليد هذه اللحظةِ، ولا أسبابُه كانت منحصرة في مآسي الحرب؛ فما الحرب العالمية الثانية إلا النقطة التي أفاضت الكأس، إذ تُوجدُ دوافعُ عديدةٌ جعلت الأوروبّيّين يفكّرون في صياغة قانون يحمي الإنسان؛ من إجراءات التعذيب الوحشيّة في السّجون مرورًا بجرائم الحرب المروّعة ضدّ المدنيّين وانتهاءً بالهولوكوست وما ذُكر حولها من أشكال للإبادة العرقية وغير ذلك من المذابح.. وغيرها الكثير مما اعتبرته هذه النخب انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان.
ولادة الإعلان
بناءً على ما سبق بدأ العمل على هذا المشروع سنة 1946م؛ حيثُ مرّ على يد لجنة الفلاسفة التي شكلتها منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والآداب؛ المعروفة اختصارًا ب(UNESCO)، ثم لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة برئاسة إليانور روزفلت (زوجة فرانكلين روزفلت)، ثمّ أخيرًا تولت الصياغةَ لجنةُ صياغةٍ رسمية؛ ليتمّ سنة 1948م الإقرار ب”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” (UDHR) في باريس.
هذا باختصار شديد تاريخُ صياغةِ الإعلان، لمْ أرد الإطالة بسرد التّفاصيل كون هذا خارجًا عن هدفنا في المقال. لكن يمكن لمن أراد الاستزادة في هذا البابِ الرجوعُ إلى فصل “تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” من كتاب غوردن براون. [2]
الملاك المنقذ
برأيك ما هي الصورة التي ستتبادر إلى ذهنِ طفلٍ في المرحلة الابتدائية؛ عند سماع عبارة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”؟ أظنّك توافقني الرّأي على أنّها في الغالب ستكون قريبة من الصورة التّالية: ملاكٌ مجنّحٌ يجُوب الأرض ناثرًا وُرودَ الحُبّ وفراشات السّلام، يحمي المستضعفين ويربّت عليهم، ويُعاقبُ الظّالمين والمجرمين والمستبدّين! وأغلب الظنّ أنّها لن تختلف كثيرًا حين يكبر، ستبقى الصورة نفسها مع إزالة عنصر الفانتازيا؛ لكن أصل الفكرة سيبقى كما هو: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منقذ البشرية. وهذا اعتقادٌ طبيعيّ جدّا في ظلّ ما تقدّمه المناهج التربويّة في العالم حول الإعلان.
”فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع (…) إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية!“ [3]
بهذه الكلمات يستقبلك نص الإعلان؛ قبل أن يسرد عليك موادّهُ الثلاثين، تلك المواد التي “ينبغي أن تستهدفها كافة الشعوب والأمم!” ؛ على أنها أعلى مستوًى وأسمى حدٍّ وصلتْ إليه البشرية طيلة تاريخها فيما يتعلق بتحقيق كرامة الإنسان وحقوقه.
الوجه الآخر
هذا لِحدّ الآن عرضٌ مُقتضب عن تاريخ نشأة إعلان حقوق الإنسان، وسياق ظهُوره والعوامل التي دفعت لصياغته؛ ثمّ وصفٌ لصورته الملائكيّة في أذهان الشعوب. وقد حان الوقتُ لتسليط الضّوء على بعض الجوانب المظلمة ونفض الغبار بعض الشّيء عن تلك الصورة الورديّة المستهلكةِ لآيديولوجيا حقوق الإنسان بشكل عام، وللإعلان بشكل خاصّ.
مع التّأكيد على أننا لسنا ضد مفهوم حقوق الإنسان من الأساس؛ بل ندعو لحفظ الكرامة الإنسانيّة ونُدينُ أي انتهاكٍ مورِس ضدّها أيًّا كان مُرتكبه، ولكنّنا ضدّ فرضِ مرجعيّة موحّدةٍ لتحديدِ ما يندرُج ضمن انتهاك حقوق الإنسان وما يندرج ضمن احترامها. أما الآن؛ فدعنا نستكشف سويّا شيئًا من تلك الجوانب المذكورة، ونحاول معًا التّفكير خارج الحدود التي يرسمها الإعلام والتعليم والثقافة المعاصرة.
إغفال خصوصية السّياق الحضاري والفكريّ
من الأمور المهمّة التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن حقوق الإنسان بمفهومها المعاصر؛ أو عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما يرتبط به من منظّمات وهيئاتٍ حقوقيّة، أن تلك المفاهيم وتلك المؤسسات إنما هي نتيجة تطوّرٍ حضاريّ وفكريّ شهدته أوروبّا، وأنها ظهرت كجواب على مشاكل عانتْ منها الشّعوب الأوروبّيّة حصرًا؛ وتبلوَرت في ظلّ صراعٍ فلسفيّ حدث بين تيّارات فِكريّة ومذاهب دينيّة داخل السياق الحضاريّ الأوروبّيّ. ما يعني أن افتراض وجوبِ اتّباع بقية شعوب العالم للمفهوم الغربيّ لحقوق الإنسان؛ يغفل جانبًا مهمّا وهو الخصوصيّة الثّقافيّة لهذه الشعوب! إذ لا يصحُّ أن نسْحبَ نتائجَ تجربةِ شعبٍ معيّن على شعبٍ آخرَ له تجربةٌ مغايرةٌ! فاختلافُ التّجربة سيؤدّي حتمًا إلى اختلاف المفهومِ.
وهو المعنى الّذي يوضّحهُ عالم الاقتصاد والأكاديميّ المصريّ الرّاحل جلال الدين أحمد أمين مشيرًا إلى عدّة مستوياتٍ يؤدّي الاختلافُ فيها إلى اختلاف مفاهيم الشعوب عن حقوق الإنسان؛ حيثُ يقول: ”لا يمكنُ أن نتوقّع أن تعترِفَ كلّ المجتمعاتِ، على مرّ العصورِ، ومع اختلافِ ظروفها الجغرافيّة والتّاريخيّة والاقتصاديّة، ومع اختلافِ درجة نموّها الاقتصاديّ وتطوّرها الاجتماعيّ والخلقيّ، ومع اختلافِ ما تدينُ بهِ من أديانٍ ومذاهب، بالحقوق نفسها لأفرادها، وأن تشترك فيما تعتبره من حقوق الإنسان وما لا تعتبره كذلك“. [4]
إنّ مطلبَ توحيدِ العالم بأسرهِ تحتَ مظلّةٍ حقوق الإنسانِ، أو بالأحرى “حقوق الغرب للإنسان”؛ لا يعدو كونَه رؤية حالمَةً غارقةً في الوهم، ونحنُ وإن كنّا لا ندّعي أنّ وضع حقوقِ الإنسانِ مُرضٍ ولا يستوجب أي تدخّلٍ إصلاحيّ، لكننا في الآنِ ذاته نرفضُ ”ذلك الصلف والغرور اللذين تعبّر بهما بعض الدّول، في عصرنا الحاليّ عمّا يعتبر ولا يعتبر من حقوق الإنسان، إذا تحاول أن تفرض مفهومها الخاص لحقوق الإنسان على بقيّة خلق اللّه، وكأنّ إفرازات ثقافتها الخاصّة هي التّعبير الأسمى عن حكمة الإنسان وتحضّره وعقلانيّته!“ [5]
الارتكاز على المبادئ اللِّبراليّة
اللِّبراليّة إجمالًا فلسفةٌ سياسيّة واجتماعيّة تنبني على عدّة مبادئَ أهمّها الحريّة والمساواةُ؛ ظهرت في أوروبا خلال ما يُعرف بعصر الأنوار، ثمّ برزت أكثر بسبب الشّعبيّة الكبيرةِ التي اكتسحتها في صفوفِ الفلاسفة والمفكّرين.
وباعتبار أن اللّبرالية هي الآيديولوجيا المهيمنة في أوروبا خلال العصر الحديث؛ وَاستنادًا على ما ذُكر آنفًا حول نشأة حقوق الإنسان في السياقِ الغربيّ، فإنه لا مجال للاستغراب من كون الإعلان العالميّ مبنيّا بالأساس على مقدّمات وسرديّاتٍ لبرالية، وتكفي إطلالةٌ بسيطةٌ على نصّ الإعلان للتحقّق من ذلك.
يقولُ غوردن براون مُفتخِرًا بما حقّقه الإعلان من فرض لمفهوم المساواة المطلقة ومواجهة كل من يرفض الإيمان بها: ”قد واجه أولئك الذين يسعون للتّمييز على أساسِ العرقِ، الدين، النوع، والتّوجّه الجنسيّ جدار الإعلان العالي!“ [6] ؛ فالإعلانُ يمنعُ تمامًا أيّ فصل في الحقوق أو الواجبات على أيّ أساسٍ، ويذيبُ كل الفروقات بين النّاس سواء كانت طبيعية أو مكتسبة! وهذا فضلًا عمّا فيه من عدم مراعاةٍ للاختلافات بين البشر؛ وسلبٍ لهويّة الإنسان وتفريغها من كلّ معنى، وغير ذلك من نقاط الخلل التي يمكنُ مراجعتها في الانتقادات الموجّهة للّبراليّة، فإنّه يستحيلُ تحقيقه عمليًّا [7] ؛ أضِف إلى ذلك أنّ إرغام غير المتبنّين للرّؤية اللِّبراليّة على آيديولوجيا حقوق الإنسان الغربيّة يعدُّ إقصاءَ هويّةٍ طالما نبذهُ المدافعون عن حقوق الإنسان!
الارتكاز على النّزعة الإنسانويّة المستغنية
يُقصد بالنّزعة الإنسانوية المستغنية تلكَ الفكرةُ الّتي تقضي بأن الإنسان قد بلغ قدرًا من التطوّر والتّحضّر والارتقاءِ صارَ معهُ قادرًا على الاستغناء بنفسه عن أي مصدر خارجيّ فيما يخصّ تشريع القوانين والإجابة عن الأسئلة الكبرى، وأنه مركزُ الكون والمعيار الّذي تُحاكم إليهِ كُلّ قيمة. ومجرّدُ النّظر في اللحظة التّاريخيّة التي ظهر فيها الإعلانُ، التي تكلمنا عنها في فقرة ولادة الإعلان، يجعلنا نستنتج أنه فعل مبنيّ على هذه النزعة.
فقدْ صِيغَ باعتبارِ أن موادّه نتيجةٌ للتطوّر الحضاري للجنس البشريّ، أو لنقل للشّعوب الأوروبّيّة تحرّيا للدِّقّة، بمعزلٍ عن أي مرجعيّة متجاوزة للعالم، وتم تقديم مبادئه على أنها غايةُ ما يمكن أن يوجد من رُقيّ وحكمة. وهذا كما نعلمُ يتعارضُ مع هويّة الشّعوب الّتي تعتمد وحي خالق الكون والإنسان كمصدرٍ أساسيّ للتشريعات والقوانين، وتحديد الحقوق والواجبات.
التّعامل على أساس بدهيّة المفهوم الغربيّ لحقوقِ الإنسان
من المفارقات الطّريفة في عصرنا هذا أنك تستطيعُ بسهولةٍ إقناعَ شخصٍ يعيش في إحدى غابات الهند ويقدّس البقر؛ أنّ تقديسَ البقرِ خاصٌّ به وبطائفته فحسْبُ، ولا يلزمُ بقيّة سُكّان الكوكبِ، لكن من الصّعب جِدّا إقناعُ شخصٍ يتبنّى المفهوم الغربيّ لحقوق الإنسان ويعيش في أحد أبراج لندن أو ناطحات سحاب نيويورك؛ أن مبادئ حقوق الإنسان الّتي يتبنّاها خاصّة بأصحاب الرّؤية اللِّبراليّة الإنسانويّة فقط، وأن بقية شعوب العالم تستطيعُ صياغة مفهومها ورؤيتها الخاصّة لحقوق الإنسان دون أن تصيرَ همجيّةً ومتخلّفة! ذلك أنه يتعاملُ دومًا على أن مبادئ حقوق الإنسان شيءٌ بديهي وفطريّ، وأنه بمجرد ذكر عبارة “حقوق الإنسان” أمام أحدهم؛ فإنه يصبح مُرغمًا على استحضار صيغتها الغربيّة، وإلا فهُو جاهلٌ وهمجيّ وعليه أن يرتقي لمستوى الإنسان الغربيّ النّبيل، وهذا يتضمّن درجة عالية جدًا إما من السذاجة أو من الغطرسة!
استخدام حقوق الإنسان كأداة هيمنة واحتقار
على السّاحل الشّماليّ لجزيرة بورنيو في جنوب شرق آسيا، تقعُ سلطنة صغيرة تُسمّى بروناي، قررت هذه الدّويلة قبل بضع سنواتٍ أن تصوغ قانونًا مُستمدّا من الشّريعة الإسلامية؛ ما استثارَ حالة سُعارٍ عالميّ تندّد بهذا القرار المتوحّش! حيث صرّحت المفوضة السّامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت بأن ”قانون العقوبات المعدل في بروناي ينص على عقوبات لاإنسانية“ [8] على الرّغم من أن هذه العقوبات كانت ستطبّق على السكّان المسلمين حصرًا، والذين يُفترض أنهم يؤمنون بأن هذه التشريعات هي الأفضل لهم، دون أن يظهروا أي معارضة للقرار !
وقد كانت حملة السّعار هذه بطبيعة الحال مستندة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنطلقة من حب الإنسان الغربيّ للنظر إلى بقية الشّعوب على أنها في حاجة ماسّة إلى تدخّله البطوليّ في المشهد لكي ينقذ الوضع، لذلك لا تستغرب تدخّله السّافرَ هذا في شؤون دولة تقع على الجانب الآخر من الكرة الأرضية. هذا مثال بسيط فقط، وأمثلة كهذه كثيرة جدًا، كثيرة إلى الحدّ الذي يجعل المقام يضيق بذكرها.
هكذا تصير آيديولوجيا حقوق الإنسان سيفًا يُشهره أصحابها على كل من سولتْ لهُ نفسُهُ الخروج عن النّسق العالميّ، حتى وإن كان ذلك بكامل إرادته وحريّته التي يُفترض أن يضمنها الإعلان!
خِتامًا
أودّ خِتامًا التّنبيه على أنّ المقال لا يهدف لاستقصاء جميع نقاط الخلل واستيعاب جميع العيوب الموجودة في آيديولوجيا حقوق الإنسان، وفي ذلك الكتاب المقدس المسمى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ؛ بقدرِ ما يهدفُ إلى تحريك الذّهن وإعمال الفكرِ في أشياءَ طالما تم تقديمها على أنها من البدهيّات والمسلّمات الّتي لا تقبل النقاش، وإلى الحثّ على التّفكير خارج صندوق العالم المعاصر وقيمه والتمرّد على الحدود الّتي يرسمها لعقولنا وكسر الأغلال التي يُكبّلها بها.
فمن السّخيفِ حقّا أن تتحوّل أداةُ هيمنة حضاريّة وإقصاءٍ ثقافيّ، وأيقونةُ غطرسةِ حضارةٍ وولعها بلعب دور القاضي على البشريّة الذي يصنّف النّاس من عليائه ويزدري من يشاء منهم استنادًا إليها؛ إلى رمزٍ لتحرّر الإنسانية وتحقيق أعلى مستويات الكرامة لها! وأسخفُ من هذا أن تتمكن هذه الحضارة بسهولةٍ ليس من إقناع بقيّة الشعوب بالإيمان الأعمى بآيديولوجيا حقوق الإنسان فقط، بل من تجنيدهم وضمّهم لصفّ المدافعين عن القيدِ الذي يُكَبّلون به!