لماذا لا تكتفي بمشاهدة خطب الملثم مرة واحدة؟

*كل مقولة لم تنسب إلى قائل من المقولات المبدوء بها عند كل مقطع هي لأبي عبيدة من خطب متفرقة*

“يا أبناء شعبنا العظيم الصامد في وجه الظلم، يا رمز الكبرياء وعناوين الكرامة والبطولة، يا مجاهدينا الأشداء، يا مقاتلي أمتنا وجماهيرها، يا كل أحرار العالم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”… 

بهذه الكلمات البديعات ومثيلاتها يبدأ أبو عبيدة الملثم الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام خُطَبه التي تتحلق حولها الأجسام، وتشرئب لها الأعناق، وتُطأطأ إليها الرؤوس، وتتسع عند متابعتها الحدقات، وتصغي لكلماتها الآذان، كيف لخطاب قصير بسيط يفهمه كل من يسمعه يقع مثل هذا الموقع في أفئدتنا بل نتشوق لسماعه بفارغ الصبر؟ وقد صرّحت القناة 12 العبرية مرة أن: “في الضفة الغربية، من بين كل 10 أطفال فلسطينيين 9 منهم مثلهم الأعلى أبو عبيدة أو محمد الضيف”، فلعل أبا عبيدة إذن كان حاضرا يوم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وداعيته؟ أم لعله استمع لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يوم خلافته؟ أم صاحب سحبان بن وائل وزياد ابن أبيه أشهر خطيبين في زمانيهما؟ أم لاقى ابن جلا وطلاع الثنايا الحجاج بن يوسف؟! أم أن الأمر لا يتوقف على اللغة والبلاغة فقط وله أبعاد أخرى لمثل هذا الاحتفاء؟

الخطابة رمز الرقي

“الحمد لله رب العالمين، كتب العزة والغلبة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والهوان للمجرمين والمستكبرين، والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد وعلى آله وصحبه ومن جاهد جهاده وبعد”…

لما كان العرب أفصح لسان لسانهم، وأجود قريحة قريحتهم، وأبهى افتخار افتخارهم، وأبسط حياة حياتهم، فأرادوا التعبير عن حاجاتهم، وحشد الجنود لملاقاة أعدائهم، وخطبة الحسناء لساداتهم، والمفاخرة بتاريخ آبائهم، وإعادة أواصر اللُحمة بين القبائل، لم يجدوا سبيلا وهم بهذه الصفات لتحقيق هذه الأغراض إلا بالخطابة، قال صاحب كتاب الوسيط في الأدب العربي في تعريف الخطابة: “خطاب من فصيح نابه الشأن يلقيه على جماعة في أمر ذي بال”، ومن نبهاء الشأن هؤلاء قيس بن ساعدة وخويلد بن عمرو وغيرهم.

ثم بلغت الخطابة غاية كمالها بنزول القرآن الكريم وبعثة أفصح العرب قاطبة، وزِيد فيها من الخصائص ما حلاها كالبدء بالبسملة والحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فاستُعملت للأغراض الدينية كخطب الجمعة والعيدين والمواعظ العامة، والأغراض السياسية كخطب الأمراء والوزراء والفرق المتنازعة، ولها غير ذلك من الأغراض، فلاقت طريقا مفتوحا للسمو، وأصبحت صفة ملازمة لأعلامهم، قال الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي: ” ولأمر ما جعلها الشارع شعار كل إمام في حفل ديني أو سياسي كالجمعة والعيدين وموسم الحج الأكبر، ويوم الصف وكل أمر جامع لنشر فضيلة، أو نهي عن رذيلة أو إعلان نصر، أو تأكيد وصية إلى غير ذلك من الأمور ذوات البال، ولذلك كان دعاة النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى الملوك وأمراء جيوشه وسراياه، ثم خلفاؤه من بعدُ وعمالهم كلهم خطباءَ مصاقع، ولُسُنا مَقاول أعانهم على ذلك أنهم كانوا يخطبون عربا مثلهم، للفصاحة عندهم هِزّة في النفس وروعة في الفؤاد”.

ثم إن للعربية الفصحى وقعًا خاصًا يلمس الجنان، وتركيبة نادرة تأسر الأركان، كما قالت المستشرقة الألمانية زيفر هونكة: “كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة”. 

ولعل خطب أبي عبيدة تضاف لفصول الخطابة في كتب الأدب العربي إن شاء الله، وتكون المجددة لهذا الثغر العظيم وقدوة للخطباء والمتصدرين.

عطش إلى الجد وسآمة من الهزل

“الثقة بالمقاومة لا تعفي كل فرد في ربوع أمتنا من واجبه تجاهها”،” فليجدكم العدو حيث يحذركم”…

ومن جماليات خطب الملثم التي اخترقت القلوب، أنها أعادت تقبل الجمهور للخطب الجادة الصارمة بغير هزل، ففي عصر التفاهة الذي يعلي من قيمة المزاح والمرح صار الحديث يُقاس ويُتقبل بمدى احتوائه على قدر من الفكاهة والتسلية، أما كلام الجد فعنه يهربون ومنه يتأففون.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب كلامه شديدًا صارمًا -والفرق بين الأسلوب الشديد والأسلوب البذيء واضح- كما في الحديث الذي يرويه جابر رضي الله عنه قال: “كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يقولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، ويقولُ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرُنُ بيْنَ إصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، ويقولُ: أَمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بدْعَةٍ ضَلَالَةٌ…” أخرجه مسلم

قال النووي شارحًا: قوله: (إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش) يستدل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب. ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا وتحديده خطبًا جسيمًا. اهـ

وهذا بعكس ما نراه اليوم من انتشار الرقة غير المحمودة والأسلوب الناعم في غير موضعه؛ هربًا من الاتهام بالتشدد والعصبية والانفعالية -ولعل الحركات النسوية والإنسانوية لها يد في هذا الأمر- فغاب خطاب الجد، وانخفض صوت الدعوة، وبردت حرارة النصيحة، وأصبح حال المنذر كحال المبشر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلله در الملثم أتم الفريضة وأحيا السنة.

العزة

” لا نتنياهو ولا حكومته ولا صهاينة البيت الأبيض يستطيعون تحرير جندي واحد والعملية الفاشلة أثبتت ذلك”، “نبشر نتنياهو وأركان حربه أنهم سيجثون على الركب في نهاية المعركة والحرب في غزة ستكون نهايته السياسية”…

ها قد تحقق الحلم! ما كنا نسمعه في القصص التاريخية من مقولات عظماء المسلمين بما فيها من قوة وشدة على أعداء الله أصبح حقيقة، ألا ترى أنه يُخيل إليك عند سماع خطبه رسالة خالد بن الوليد رضي الله عنه “فإذا أتاكم كتابي، فأسلموا، تسلموا، أو اعتقدوا منا الذمّة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلاّ والله الذي لا إله إلا هو لأسيرنّ إليكم بقوم يحبّون الموت كما تحبّون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدُّنيا”، أو قول هارون الرشيد “بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام”، أو غيرها من خطب العزة والإباء المستنارة بنور الحق.

قارن بين المقولات السابقة هذه وبين خطب القادة السياسيين العرب التي نخرت في أجساد الأمة الذلة والضعف، وكأنهم تمثلوا قول الحق سبحانه (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وتذكر تلك المواقف التي ما فتئ قلبك اشمئزازًا منها ومن حال المتصدرين وكلماتهم الركيكة.

فلا غَرْوَ لشهية الفرد المسلم الجائعة لما سمعته من مقولات أئمة أمته القديمة، المعرضة عن مقولات المتصدرين حديثًا، أن تستمتع بوقع كلمات العزة على قلوبها وتنهل من حروفها رِيًّا بعد كل هذا الصيام، وزيادة على ذلك فإن هذا الباب فيه تحقيق لصفات القوم المستعملين في سبيل الله ومنها الشدة على الكافرين، كما قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وفيه اقتداء بهدي الصحابة رضوان الله عليهم كما قال سبحانه: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، فسبحان القائل (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا).

العمل قبل الكَلِم

“مجاهدونا قتلوا ستة وثلاثين جنديًا وأوقعوا عشرات آخرين بين قتيل وجريح”، “تمكن مجاهدو القسام خلال الاثنتين وسبعين ساعةً الأخيرة من تدمير اثنين وسبعين آلية عسكرية كليًا أو جزئيًا”، “هاجمنا قوات راجلة متحصنة في البنايات بقذائف مضادة للأفراد وأجهزنا عليها من مسافة صفر”…

للتربية النبوية معالم خاصة ربى عليها أصحابه من أهمها تعظيم العمل وذم الكلام وكثرة السؤال والقيل والقال، وأن الإسلام دين عمل وهو المقياس الحق على كونك صادقًا في كلامك أم لا، ويدل على هذا المَعلم قول سيدنا نواس بن سمعان رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم: “أَقَمتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدينةِ سَنَةً ما يَمنَعُني منَ الهِجرَةِ إلَّا المسأَلةَ، فإنَّ أحدَنا كان إذا هاجَرَ لم يَسأَلْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شَيءٍ” فطالما أنك التحقت بالمدرسة النبوية فاترك الكلام والسؤال وابدأ العمل، ويغني عن سَوق الأدلة للاستشهاد لهذا المعلم مع كثرتها حال الصحابة أصلًا وما كانوا عليه من البذل والتضحية وقلة اختلافهم وتنازعهم وقدر الإنجازات التي فتح الله عليهم بها، ثمرةً لتلك التربية المباركة.

أما في عالم الـ “تريند” فالكلام أصبح أصلا وعليه مدار الأمر، بل العجب الآن ممن يعمل مباشرة دون ساعات من الجلوس في قاعات الثرثرة، ثم الخروج بتصريحات فارغة لا أثر لها في واقعٍ لا يعترف إلا بالعمال المشمرين عن سواعدهم الباذلين جهودهم الساكتين لتُسمع نبضات قلوبهم وتساقط عرق جبينهم.

ومن هذا الباب حديث أبي هريرة كما عند البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ”.

 فطوبى للملثم كلمات قليلة في مقابل أعمال كثيرة.

قدسية القضية

“وأنتم الذين اصطفاكم الله برباط عسقلان وما حولها، وأنتم الذين تحملون لواء القتال والجهاد في وجه أعداء الله، قتَلة الأنبياء، إخوة القردة والخنازير، فكونوا على ثقةٍ بربكم أنه لن يخذلكم، وأن النصر مع الصبر”، “المحرقة التي يقوم بها العدو تهدف لكسر شوكة مقاومتنا، لكننا قدر الله، ونقاتل على أرضنا في معركة مقدسة كتبت علينا لإساءة وجه هذا الاحتلال الهمجي”…

لاحظ الكثير من المحللين أن هناك تغير لنوعية المحادثات التي كانت سائدة بين الأوساط الشبابية بعد السابع من أكتوبر وأرجعوا ذلك إلى أمور على رأسها قدسية القضية وثقلها مما جعل كفتها أثقل في ميزان الماجريات، فإن القضايا المركزية الإسلامية خصوصًا التي تمس أساس العقيدة حين تظهر على الساحة تختفي على إثرها كل التفاهات والنزاعات وتضمحل مساحات تعاطيها سواء على منصات التواصل أو شاشات التلفاز أو حتى الأحاديث اليومية العادية.

فإذا كان هذا حالنا فكيف بحال من ينقل لنا المشهد بكلمات موجزات من قلب القضية، فينبه كل غافل، ويذكر كل ناسي، ويربط على قلب كل مشارك، ويثبت قدم كل سائر، ويُسَرِّي بها عن كل حامل، فرددها عاليًا “وإنه لجهاد نصر أو استشهاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

عمار يسري

مهتم باللغة والفكر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى