العمل الخيري بين الرسالية والوظيفيّة (01)
لم يعرف الشعب الجزائري الجمعيات والنشاط الجمعويّ إلا بعد انتفاضة 1988 وتعديل الدستور الذي فتح المجال أمام تأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات. وكلّ ما كان موجودًا من الجمعيات قبل هذا التاريخ –على قلّته– كان تابعًا للحزب الحاكم الواحد ويدور في فلك السلطة ويخدم أهدافها وخططها مع رداءة واضحة وغياب شبه تامّ في الميدان مع حضور وتسويق إعلاميّين لنفخ هذه الجمعيات وتلميعها.
ولأنّ فترة الانفتاح السياسي والحريات العامة بعد أحداث أكتوبر 1988 لم تدُم أكثر من ثلاث سنوات فقد كان عدد الجمعيات الخيريّة –وهي موضوع حديثنا في هذه المقالة– قليلًا وكان تأثيرها محدودًا. ومما يمكن ملاحظته أن أكثر الجمعيات التي تأسست كانت في الحقيقة تابعة لأحزاب سياسية أو تيارات فكرية وكانت بمثابة الأذرع التي تمكّن هذه الأحزاب والتيارات من التغلغل والانتشار في أوساط الشعب.
وقد كان من أشهر الجمعيات التي تأسست في هذه الفترة (جمعية الإرشاد والإصلاح) وجمعية (كافل اليتيم) التي كانت في حقيقتها أكبر من مجرّد جمعية. فقد كانت تمثّل الغطاء القانوني لنشاط الإخوان المسلمين المرتبطين بمكتب الإرشاد في مصر وبالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وكان نشاطها ثقافيًا وتربويًا وفكريًا وسياسيًّا قبل تأسيس حركة حماس (حركة المجتمع الإسلامي) بقيادة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى، مع حضور بارز ومتميّز للعمل الخيري والإغاثيّ.
غير أنّه وفي وجود الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسيّ قوي ذي شعبية جارفة وحضور طاغٍ في الساحة واكتساح للمجالس البلدية والولائيّة فقد كان نشاط جمعية الإرشاد والإصلاح غير معروف بما يكفي إلا للمنتسبين إليها والقريبين منها أو المستفيدين من خدماتها، أو الإعلاميين والسياسيين المتابعين للأحداث والتفاصيل.
ولأن حركة (حماس) الجزائرية لم تكن قد تأسست بعد كحزب سياسي، ولأن حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يكن يمتلك ذراعًا أو امتدادًا جمعويًا بينما كانت تمتلك ذراعًا نقابيًا ممثلًا في (النقابة الإسلامية للعمل)، وذراعًا طلابيًا ممثلًا في (الرابطة الإسلامية للطلبة)، ولأنّ تلك الفترة عرفت هبوطًا في أسعار النفط أثّرت في المستوى المعيشي للشعب الجزائري وفي مداخيل الدولة الجزائرية باعتبارها دولة ريعية تعتمد بشكل شبه كلي على النفط؛ فقد كانت مظاهر الفقر والعوز تظهر وتنتشر بوضوح لا تخطئه عين المراقب العادي فضلًا عن عين السياسي ورجل الاستخبارات والخبير الاقتصادي.
في عام 1990؛ وفي الفترة التي كانت فيها أكثر البلديات تسيّرها مجالس يهيمن عليها منتخبو الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ظهرت فكرة (أسواق الرحمة) أو ما صار يُعرف لاحقًا بالأسواق الإسلامية. وهي أسواق تتفاوت في حجمها وانتشارها بين بلدية وأخرى لكنها يجمعها أن المشرف عليها هم منتسبو الجبهة الإسلامية. وقد كانت فكرة المبادرة بتوجيه من قيادة الجبهة، وتُركت التفاصيل للمنتسبين ليتصرفوا بما تسمح به مواردهم وإمكاناتهم.
وقد حاول العلمانيون واليساريّون وحزب جبهة التحرير يومها أن يتّهموا منتخبي الجبهة باستغلال ميزانيات البلديات في شراء الخضر والفواكه وغيرها من أجل دعم وتموين أسواق الرحمة واستغلالها لاحقاً في الدعاية السياسية والانتخابية للجبهة الإسلامية. بينما كان واضحاً جدًّا يومئذ أن البلديات التي كانت تسيّرها الجبهة كانت تعاني من حصار مالي تسبّب في شللها وتعطيل مشاريعها، وأن قانون البلديات نفسه صيغ بطريقة تجعل رئيس البلدية أقرب للموظّف الذي لا يملك أي سلطة حقيقية في بلديته حتى لو انتخبته الأغلبية المطلقة، وأن رؤساء البلديات أنفسهم لم يكونوا يتقاضون مرتباتهم من طرف وزارة الداخلية، حتى أن مناضلي الجبهة الإسلامية كانوا يجمعون من أموالهم ومن الشعب أجور رؤساء البلديات. وأقصى ما كانت تقدمه البلديات لأسواق الرحمة هو الشاحنات والمركبات المتوسطة لنقل المؤونة والسلع أو إصدار الرخص لنشاط هذه الأسواق.
كانت (أسواق الرحمة) رحمة للفقراء والمساكين والبطالين. وكانت أسعار السلع فيها منخفضة حتى كانت أشبه ما تكون بالتبرعات المجانية. وكان العاملون فيها في أغلبهم متطوعين والعاملون منهم يتلقون أجرتهم من مداخيل البيع. وكان الفلاحون والمزارعون يتنافسون في التبرع والصدقات لهذه الأسواق بسخاء وتناقل الجزائريون يومها حكايات أشبه بأحاديث حاتم الطائي.
تسببت أسواق الرحمة في حرج كبير للسلطة التي أوعزت للصحف والجرائد بمهاجمتها والتشكيك فيها. وأظهرت عجز السلطة عن توفير الحدّ الأدنى من الرعاية للطبقات الشعبية الفقيرة. وقد كانت هذه الأسواق مستقلة تمامًا عن مؤسسات الدولة وحتى عن تسيير حزب الجبهة الإسلامية المباشر في التفاصيل، ورفعت من أسهم الجبهة في الانتخابات التشريعية التي انقُلب عليها سنة 1992.
إن تجربة أسواق الرحمة كانت أول تجربة يشعر فيها النظام بالحرج من مبادرة خيرية محدودة في الزمان والمكان، لأنه لا يريد مبادرات وجمعيات خارج هيمنته ولا تخدم أهدافه بل ربما تفعل عكس ذلك تمامًا. حدث الانقلاب ومرّت عشر سنوات عجاف من القمع والمجازر والحرب واستفرد النظام بكلّ شيء وكاد العمل الخيري الشعبي أن يتوقف، لولا جهود بُذِلت وكانت محفوفة بالمخاطر أبقت عليه حيًّا في أدنى مستوياته.
ثم جاءت سنة 1999 ووصل معها سيّء الذكر عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الدولة في الجزائر، بتخطيط وتحضير واتفاق بين جنرالات العسكر والمخابرات النافذين يومها، والذين ما كان أحد يجرؤ في الداخل أن يرفض لهم أمرًا أو يخالف لهم قرارًا.
وكانت أول أعمال بوتفليقة أن يعطي انطباعًا بأن الدولة تتخلّص من العسكرة والتوجّه الأمني الاستئصالي، إلى التوجّه المدني الذي تتبوّأ فيه الجمعيات والنقابات والأحزاب مكانة بارزة ومؤثّرة في الحياة العامّة.
طبعًا لم يكن بوتفليقة يريد من وراء هذا سوى التسويق لانفتاح موهوم وحياة مدنية مزعومة، تكون في خدمة أهدافه في التسلّط والهيمنة والانتقام من أعدائه وتلمّع صورته أمام الإعلام والساسة الغربيين، الذين كان حريصًا أشدّ الحرص على إرضائهم.
حدث إذن بعد عام 2000 أن تأسست مئات الجمعيات الخيرية بين وطني وولائي وبلدي، تعتني بالأيتام والأرامل والفقراء والمرضى والأمّيين، وتغيث الجزائريين في النكبات والكوارث، وترفع عنهم آثار الفاقة في المناسبات مثل رمضان والعيدين ودخول المدارس.
وكان واضحًا أن هذه الجمعيات سدّت نقصًا هائلًا وغيابًا شبه كامل للدولة في العناية بهذه الفئات ومرافقتها. كما كان واضحًا أنها لم تكن تحصل من الدولة إلا على الفتات من الدعم المالي بينما كانت الأموال توزّع بسخاء على جمعيات التملّق للرئيس وحاشيته وعلى الفنانين والمهرجانات الفنية والثقافية، زعموا.
ولعل من أبرز ما يمكن ملاحظته أن الغالبية العظمى من هذه الجمعيات كان مؤسسوها ومنتسبوها والناشطون فيها إما الإسلاميين، أو من الشباب والكهول المتدينين والمحافظين الذين لا يُعرف لهم انتساب تنظيمي واضح للتيار الإسلامي.
وقد كان مفهومًا توجّه الإسلاميين شبابًا وكهولًا إلى العمل الخيري بقوة، فقد حرمهم النظام من أي مشاركة حقيقية وفعّالة في الشأن العام وهمّشهم وأقصاهم ولم يُبقِ لهم بابًا مفتوحًا لخدمة شعبهم والحضور في الميدان إلا من خلال العمل الخيري بتأسيس الجمعيات، التي كان يتحكّم في منحها الاعتماد القانوني ويتعسّف أحيانًا كثيرة في ذلك لأوهى الأسباب ويتشدّد في تجديد مكاتبها ومراقبة وثائقها والتدقيق في حساباتها بما لا يفعله إلا نادرًا مع الجمعيات الموالية له أو السائرة في ركابه.
كما أن هناك سببًا آخر لتوجّه شباب وكهول الإسلاميين نحو العمل الخيري، وهو أنه كان المجال الأبعد عن المخاطرة ومصادمة النظام، وأن كثيرًا جدًا منهم كانوا ناقمين على ما آلت إليه أحوال العمل الإسلامي سواء في شقّه الجهادي المسلّح الذي كان ظاهرًا أنه انهزم وفُكك، أو في شقّه السياسي الذي كان ظاهرًا أيضًا أن النظام استطاع احتواءه وسحبه إلى مربّعه؛ بل والتحالف معه في معادلة غريبة نشاز ما زالت غير مفهومة في كثير من تفاصيلها إلى يوم الناس هذا.
عشرون سنة كاملة مضت من العمل الخيري. مئات الجمعيات التي ما تركت نشاطًا خيريًا إلا أسهمت فيه. آلاف من الشباب المستقيم النزيه المتديّن أو المحافظ الذي يصل ليله بنهاره في جمع الأموال والمساعدات وتوزيعها. أوقات وجهود وموارد ضخمة تُنفَق في هذه الجمعيات. ضغوط وتعقيدات إدارية كبيرة ومثبّطة تتحملها هذه الجمعيات وتصبر عليها وتتعامل معها بخليط من الذكاء والصبر والملاعبة والمداهنة والمهادنة بل والإذلال أحيانًا.
وبرغم ذلك كلّه وصل إحسانها وخيرها إلى كل بادية وقرية ومدينة وريف؛ بل إن جمعيات مثل (هيئة الإغاثة) التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين و(الإرشاد والإصلاح) و(جزائر الخير) و(البركة) وغيرها تعدّى نفعها إلى شعوب أخرى، في البوسنة والهرسك وفلسطين وبورما ومخيمات اللاجئين من الصحراء الغربية وغيرها.
ويبقى السؤال الملحّ: ماذا استفادت هذه الجمعيّات بعد بذل كلّ هذه الجهود؟ من يستفيد من هذه الأموال والموارد والنفقات الضخمة؟ الشعب أم السلطة أو هما معًا؟ هل تتعامل السلطة ببراءة وحيادية مع بذل وعطاء وتوسع هذه الجمعيات؟ أم هي توظّفها في مشروعها الكبير وتجعلها ترساً في منظومتها الغالبة المتسلّطة؟ هل تدرك وتعي قيادات هذه الجمعيات أين تنتهي الرسالية في مشروعاتها وأين تبدأ الوظيفية؟ أم ترى ذلك غير مؤثّر ولا مهمّ؟
وأسئلة أخرى كلها متفرّع عن هذه الأسئلة أو مرتبط بها بشكل أو بآخر.
من منطلق إيمانيّ صِرف لا شكّ أن الأجر والثواب مضمون لكلّ من يفعل الخير، ويغيث الملهوف ويحمل الكَلّ ويتعاون على البرّ ويدخل السرور على المسلمين ويقضي عنهم ديونهم ويسعف مرضاهم، إذا صدقت المقاصد وخلصت النيّات. ومن منطلق اجتماعي لا شكّ أن العمل الخيري يحيي مشاعر التراحم والتكافل، التي هي أحد مرتكزات البناء الاجتماعي للأمة المسلمة. ومن منطلق أخلاقيّ لا شك أن بذل المال من طرف الأغنياء أو بذل الجهد والتنظيم والإحصاء والتحرّي من طرف الجمعيات، يطهّر الأنفس من الشحّ والتعلّق بالمال ويخلّصها من فردانيتها وانكفائها على ذاتها.
هذه المقاصد الجميلة والغايات النبيلة متحققة كلها في العمل الخيريّ. ويشعر بها ويعيشها من انتدبوا أنفسهم وسخروا جهودهم في هذا الباب لسدّ هذه الثغرات والثغور.
لكن هل يكفي جمال القصد ونبل الغاية وحده في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية والشاذّة غير السويّة التي تعيشها شعوب الأمّة المسلمة؟ في أي نهر تصبّ جهود الجمعيات؟ وأيّ مشروع تخدم؟
لا أحد لديه مسكة من عقل ويشعر بالانتماء إلى شعبه وأمته ويدرك روابط الولاء ومقتضياته، يدعو إلى وقف الإحسان أو قبض الأيدي والشحّ بالمال وترك المسلمين يموتون جوعاً وبرداً ومرضاً وتشرداً بلا مأوى؛ بل لعلّ ذلك قد يكون جريمة إيمانية وأخلاقية وإنسانيّة عند تحقق القدرة ووجود الموارد الماديّة والبشريّة.
في وضعٍ لا تأبه فيه الأنظمة ومؤسساتها بمئات الآلاف من الفقراء والمشردين وتجد من الحجج والمبررات الاقتصادية والسياسية والحسابات والإكراهات الحقيقية أو المتوهمة أو الكاذبة، ما يجعل السذّج والطيبين يصدقونها ويلتمسون لها الأعذار ويرجعون باللوم على أنفسهم ويتّهمون عقولهم، بينما يجتهد إعلام الأنظمة وسحرته في التدليس والتلبيس وإخفاء الحقائق وتبرئة المجرمين الحقيقيين.
إن المطلوب هو توجيه هذه الأموال والموارد والجهود والعطاء السخي والبذل الكريم نحو وجهة ترضي الله تعالى، وتحقق مقتضيات الإيمان به والولاء للمؤمنين والبراءة من الظالمين والمجرمين، وترشيدها بحيث تؤدي دورها في إحياء الأمة ونهضتها وخلاصها من الاستبداد والفساد والطغيان وأداء دورها في الشهادة على الأمم.
فكيف تنظر الجمعيات لهذا الأمر؟ وهل تفكّر فيه وتستحضره في تخطيطها ومشروعاتها أصلاً؟ وما التحدّيات التي تنتج عن هذه الغفلة؟
سيكون ذلك موضوع الجزء الثاني من هذه المقالة إن شاء الله تعالى..
الكاتب: الصغير منير.