ملخص كتاب لماذا سقطت الخلافة العثمانية.. قراءة في عوامل ضعف الأمة
عندما نسمع بكتاب يتحدث عن فترة تاريخية لا يدور في ذهننا سوى السرد التاريخي لأحداث ومراحل تلك الفترة. ولكن الدكتور غازي التوبة تناول في كتابه “لماذا سقطت الخلافة العثمانية.. قراءة في عوامل ضعف الأمة” التاريخ بصورة مختلفة؛ فلم يترك للسرد التاريخي إلا مساحة صغيرة، وتوسع في تحليل عميق لتلك الفترة وجذور أسباب السقوط، مستدعيًا المثال النبوي الواجب اتباعه، وكيف عالج جذور الأسباب التي تؤثر على استمرار الدولة.
وقبل البدء بتقديم تلخيص الكتاب نتعرف على مؤلفه الشيخ الدكتور غازي التوبة.
من هو الشيخ الدكتور غازي التوبة؟
الشيخ والدكتور في العقيدة، ولد في حي الميدان في مدينة دمشق لعام 1939. ذو أصول فلسطينية من قرية صفورية قضاء مدينة الناصرة من لواء الجليل. ولد في بيتٍ مهجّر، واعيًا على القضايا، حاملًا للهمّ منذ الصغر. فوالده هو القائد القسامي أحمد التوبة “أبو غازي”، والذي قام بعملية الاغتيال الشهيرة للجنرال الإنكليزي لويس أندروز حاكم لواء الجليل.
حصل الدكتور غازي التوبة على الليسانس من جامعة دمشق، والماجستير من الجامعة اللبنانية في لبنان، والدكتوراه من الولايات المتحدة الأميركية. يعتبرُ الدكتور غازي التوبة من المفكرين الإسلاميين القلائل، الذين كان لهم جهد كبير وباع طويل في تحصين الفكر وبناء الوعي في هذه الأمة، في عصرنا هذا. كتب عشرات المقالات والكتب في مختلف المواضيع الإسلامية والفكرية والسياسية والتربوية والحضارية، ونشرَها في صحف ومجلات في عدد من البلدان.
درَّس الدكتور التوبة علومَ اللغة العربية، والدراسات الإسلامية، وكذلك العقيدة. وعمل في الحقلين: الدعوي والتربوي، في عدد من البلدان العربية والإسلامية والأجنبية. كما أن الدكتورَ غازي التوبة عضو في هيئة علماء فلسطين في الخارج، وكذا في المجلس الإسلامي السوري، ويتولى حاليًا رئاسة رابطة العلماء السوريين، ويشرف على موقع منبر الأمة الإسلامية للدراسات والبحوث.
ماذا يحتوي كتاب “لماذا سقطت الخلافة العثمانية.. قراءة في عوامل ضعف الأمة”؟
بدأ هذا الكتاب بالحديث عن النموذج الذي بناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وكيف بنى الفرد الصحابي والأمة والدولة، وعن العوامل التي أضعفت الأمة الإسلامية وكانت السبب غير المباشر لسقوط الدولة العثمانية؛ والتي كانت موجودة قبل الدولة العثمانية لكنها لم تبذل جهدًا في علاجها وإصلاحها. وهي:
- تداخل مناهج بشرية مع أصول الدين.
- التصوف.
- الفِرَق.
- القصور بتطبيق الشورى.
- القصور بتطبيق المساواة والعدل.
ثم تحدث عن العوامل المباشرة وهي: الاستعمار، مساعدة الغرب بعض الأحكام للانفراد بالسلطة، وإشعال الثورات، واستغلال الغرب للطوائف، وإضعاف الخلافة اقتصاديًا، وتأجيج الصراعات القومية.
والكتاب يتألف من خمسة أبواب:
الأول: يقدم فيه الكاتب طرحًا لم يسبق إليه، و يشير إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يبني الفرد والأمة في آن واحد، وأن بناء الأمة سبق قيام الدولة، وأنه استمر عبر العصور وتناول الكاتب صفات الأمة كما وردت في القرآن الكريم.
الثاني: ذكر فيه عوامل ضعف الأمة الخمسة: تداخل أفكار بشرية مع أصول الدين، والتصوف، والفِرَق، والقصور بتطبيق الشورى، والقصور بتطبيق المساواة والعدل.
الثالث: تحدث عن الدولة العثمانية، وكيفية تعاملها مع ما سبق ذكره من عوامل قوة وضعف الأمة.
الرابع: تناول الأسباب المباشرة لسقوط الدولة العثمانية. وهي: الاستعمار، مساعدة الغرب بعضَ الحكَّام للانفراد بالسلطة، وإشعال الثورات، واستغلال الغرب للطوائف، وإضعاف الخلافة اقتصاديًا، وتأجيج الصراعات القومية.
الخامس: استعرض أهداف الغرب. وأهمها تمزيق الأمة وحدد أدوات التمزيق.
الباب الأول: بناء المسلم والأمة والدولة
بنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته ومن خلال مرحلتي الدعوتين المكية والمدنية ثلاثة أمور. وهي: الفرد المسلم، ثم الأمة المسلمة، ثم كانت الدولة الإسلامية.
الفصل الأول: بناء الفرد المسلم الصحابي
شكل القرآن الكريم أساس الكيان الحضاري للمسلمين وركيزة بناء هذا الكيان. وأثمر اعتماد القرآن كمرجعية لهذا الكيان بناء أمرين. هما:
بناء النفوس العظيمة: والتي بناها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبر بناء عناصر التوحيد القلبية من تعظيم الله، والخضوع له والخوف من ناره ورجائه وحبه. وجاءت الشعائر التعبدية لتغذية هذه الجوانب ضمن آلية الهدم والبناء المذكورة في عدة آيات قرآنية.
بناء العقول الكبيرة: وقد بناها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبر مفهومي الميزان والحكمة. والميزان كما فسره ابن تيمية بأنه الأقيسة العقلية التي يحتاجها الناس في حياتهم؛ ليكون حكمهم على الأشياء وتعاملهم مع الكون صحيحًا سليمًا. ومثال ذلك ربط الأسباب بالنتائج والتعليل والتحليل. وقام الرسول بإرساء طريقة التفكير هذه عبر تعامله ونقاشه مع الصحابة وهذا ما نقلته الأحاديث الشريفة. وأما الحكمة؛ وفي تفسيرها عدة أقوال، (منها أنها السنة، والمتفق عليه بين الأديان، والإصابة في القول والعمل) وما يجمع بين هذه الأقوال أنها ترتبط بالفهم والإدراك والعقل.
والخلل الذي وقع لاحقًا في بناء النفوس والعقول أدى إلى خلل في التعامل مع الكتاب، والذي بدوره أدى إلى إضعاف الفرد وإرهاقه. وكان التصوف أحد أسباب هذا الخلل؛ فقد أدى إلى استلاب نفسي للمسلم وضعف فاعليته العقلية.
الفصل الثاني: بناء الأمة المسلمة
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبني الأمة والفرد في آن واحد. وكان حريصًا على هذه الأمة الناشئة وتمتين بنائها التنظيمي في كل مرحلة من مراحل الدعوة بما يناسبها. والصحابي حين يدخل الإسلام يصبح فورًا عضوًا في هذه الأمة له حقوق وعليه واجبات.
١- الأمة المسلمة مقابل القبيلة:
لم يعرف العرب قبل الإسلام نموذجًا للتجمع سوى القبيلة؛ لذلك كانت الأمة المسلمة جماعة فريدة في البيئة الجاهلية. فاللقاء كان على أساس الأخوة الإسلامية، فكانت الجماعة الجديدة نواة للأمة الإسلامية التي تخالف المجتمع الجاهلي بالركائز والأصول.
٢- بعض صور ارتباط الصحابي بالأمة المسلمة:
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربط المسلم بالأمة فور إسلامه. وسندرس مظهرين من مظاهر الحياة الاجتماعية التي يحياها الفرد المسلم بعد دخوله الإسلام:
الأول: التعلم والتعليم: كان الصحابي يباشر بتلقي العلم فور إسلامه، ثم يعلم الصحابي غيره كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة.
الثاني: نشر الدعوة والاستقطاب: لقد ساهم الصحابة بفاعلية في نشر الدعوة وتنمية التجمع الصحابي (الأمة). وكان هذا مظهرًا عمليًا على فاعلية الصحابي وارتباطه بالأمة.
صفات الأمة الإسلامية:
بينت آيات القرآن صفات هذه الأمة؛ فتحدثت أنها: أمة واحدة، ذات شخصية مستقلة وسطًا، وتحدثت عن خيرية هذه الأمة.
الصفة الأولى: أمة واحدة:
ذكر القرآن معظم الأنبياء السابقين. وكانت الآيات تعقب بآية (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)؛ وبذلك بينت الآيات أن أمة الأنبياء جميعهم أمة واحدة.
معاني الأمة الواحدة: هناك معنيان للأمة الواحدة:
- الأول: وحدة الدين والملة: وتعني الأمة الواحدة أن الأنبياء جميعهم ينتمون لدين وملة تجمعهم. وقد صرّح الأنبياء في أكثر من آية عن اتباعهم ملة الإسلام.
- الثاني: وحدة الجماعة: والأمة الواحدة تعني الجماعة الواحدة، فالإسلام دين عريق ساهم بوجوده كل الأنبياء السابقون، وأتباعهم كانوا جزءًا من هذه الأمة.
العوامل التي ساعدت على تحقيق وحدة الأمة عبر العصور:
الوحدة الثقافية والعلماء
أولًا: الوحدة الثقافية:
قام علماء الأمة بواجبهم تجاه القرآن والسنة عبر حفظهما، وإيجاد آلية واضحة لتحديد معانيهما:
- القرآن الكريم: قام الصحابة بجمع القرآن ونسخه في مصاحف، وأيضًا شكلوه وألفوا علوم القرآن بما يكفل توحيد قراءته وفهمه.
- السنة المشرفة: جمع العلماء الصحاح والأسانيد وألفوا في علوم الحديث بما يعين على حفظ وفهم السنة.
- اللغة العربية: وهي أساس فهم القرآن والسنة؛ ولأهميتها هذه ابتكر العلماء عدة علوم لضبطها وإتقانها.
- السيرة والتاريخ: هدف السيرة والتاريخ الاقتداء بالنبي أولًا، والاعتبار ثانية. وقد ساهمت سيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، والطبقات في تحقيق هذا الهدف.
- علم أصول الفقه: وابتكره الإمام الشافعي للربط بين النص الثابت والواقع المتغير، ولتقنين الاجتهاد.
قامت العلوم السابقة: بحفظ النصوص، ووضع آلية واضحة لتحديد معانيها وتوحيد فهمها. ساعد هذا على إيجاد ثقافة واحدة حافظت على وحدة الأمة لقرون عديدة.
ثانيًا: ظاهرة العلماء تحقيق لوحدة الجماعة:
برزت ظاهرة العلماء بسبب حث الإسلام على العلم وتقديره للعلماء. وساهمت قيادة العلماء للأمة في تحقيق وحدتها.
الصفة الثانية: أمة وسطًا:
والمقصود بـ “أمة وسطًا” أيْ أمة العدل والهدى والخير والشرف والفضل. ولتؤدي دورها بالشهادة على مستويين:
تشهد على الأمم التي سبقت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتكون الدليل الذي يثبت دعوى الرسل وتبليغهم لأقوامهم. والأمم التي جاءت بعد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- من خلال الدعوة للتوحيد وعبادة الله. وهذا واجب الأمة، وهو الذي أثمر انتشارًا واسعًا للإسلام بالدعوة وليس بالسيف.
الصفة الثالثة: الخيرية:
وقد وصف الله -سبحانه- هذه الأمة بأنها خير أمة؛ وذلك لقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ما دور هذا الخُلق في بناء الأمة الإسلامية؟
أوجب هذا الخُلق على المسلم أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في محيطه يدعو لمبادئ دينه؛ ما جعل هذه المبادئ تستمر حية، وتستمر الأمة بتطبيقها.
الفصل الثالث: بناء الدولة الإسلامية
بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أقام دولة المسلمين الأولى. فمن الأصول التي قامت عليها الدولة الإسلامية:
١- التشريع والحكم لله: فالشرع والأحكام من الله أوحاها لنبيه -صلى الله عليه وسلم-. وهي غير منحازة لأحد، وهي مناسبة للفطرة، وتستهدف مقاصد خمسة ذكرها العلماء هي: حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض.
٢- الشورى واجبة: قامت هذه الدولة على الشورى. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول المشاورين رغم غناه عنها. واستمرت في حياة المسلمين وكان الخلفاء الراشدين لا يبرمون أمرًا بلا شورى. والشواهد في هذا الباب كثيرة، وتم اعتماد الاختيار أصلًا في شرعية منصب خليفة المسلمين.
فقد أصبح أبو بكر خليفة بعد اختيار الصحابة له في سقيفة بني ساعدة، واعتبرت كتب السياسية الشرعية والأحكام السلطانية أن شرعية الخليفة عند أهل السنة والجماعة تأتي من اختيار المسلمين له بخلاف الشيعة.
والتقعيد لأمر اختيار الخليفة كانت خطوة متقدمة في تاريخ البشرية.
٣- المساواة: اعتبر الإسلام أن المؤمنين إخوة، وآصرة الدين هي أصل اللقاء الذي يجمع بينهم، وألغى باقي الروابط من عرق وجنس وغيرها، وكان القرآن هو كتاب الله للعالم أجمع. وقد حققت الأمة الإسلامية جوهر التعارف بين الأعراق والأجناس، وأعطى هذا التعارف حيوية عظيمة للأمة وتنوعًا بالقيادة.
٤- العدل: أقام الإسلام حكمه على العدل وتجلى في تطبيقات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين بأروع صوره.
أقام الإسلام دولته على هذه القواعد، ومرت هذه الدولة بأحداث وعصور. ولكن تناقل بعض الباحثين تحقيبًا منقولًا عن الغرب يقسم هذا التاريخ لمراحل، ويعتبر عصر المماليك والعثمانيين عصر انحطاط. تبعه مرحلة نهضة، تبدأ بدخول نابليون بونابرت للمنطقة. ولا شك أن هذا التحقيب خاطئ؛ فلم تعرف أمتنا عصر انحطاط والذي يعني موت العقل ووجوب تغيير المرجعية. وهذا ما سيعرضه المؤلف في الباب التالي.
الباب الثاني: ما الذي أضعف الأمة؟
يميز المؤلف بين مصطلحي الانحطاط والضعف. فالانحطاط يعني أزمة شاملة وتناقضًا مع الفطرة وموت العقل. وهذا يتطلب تغيير المرجعية من أجل بناء مجتمع وحياة جديدة كما حدث في أوربا. ولكن الضعف يتطلب معالجة عوامل الضعف لكن من خلال ذات المرجعية.
الفصل الأول : هل عرف تاريخ المسلمين عصر انحطاط؟
وصف بعض الباحثين العهدين المملوكي والعثماني أنهما عهد انحطاط. وأبرز مظاهره: جمود العقل وقلة الإبداع العلمي، والتكرار والاجترار في الإنتاج العلمي. وأبرز من شرحوا هذه الحالة مالك بن نبي في مشكلات الحضارة ومحمد عابد الجابري في كتابيه تكوين و بنية العقل العربي.
حيث اعتبر مالك بن نبي أن هناك عوامل تعارض داخلية في المجتمع بلغت قمتها مع دولة الموحدين، ولم يعد معها الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة بل أصبحت عناصر خاملة. وربط بين الانحطاط وقابلية الاستعمار فهو معامل باطني يستجيب للمعامل الخارجي. وأبرز نتائج هذا المعامل الباطني هو البطالة وانحطاط الأخلاق وتفرق المجتمع، ما يؤدي لفشل الناحية الأدبية.
أما الجابري فقد عبر في كتابيه تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي، أن عصر التدوين هو أهم عامل ساهم في تكوين العقل العربي. ثم درس الأنظمة المعرفية التي شكلت بنية العقل العربي وهي البيان والعرفان والبرهان. وكانت تجربة أبوحامد الغزالي الروحية وإنتاجه الفكري تمثيلًا لتصادم وتداخل هذه الأنظمة الثلاث. وبناءً عليها قسم الجابري العقل العربي لمرحلتين: الأولى من عصر التدوين إلى لحظة الغزالي، وكان العقل فاعلًا منتجًا؛ والثانية ما بعد الغزالي أصبح العقل جامدًا بسبب التداخل التلفيقي بين الأنظمة المعرفية الثلاثة (البيان والعرفان والبرهان).
ولكن الدكتور جورج صليبا، وفي كتابه الفكر العلمي العربي توصل لنتائج مخالفة بعد اتباعه منهجية جديدة. فوجد أن العصر الذهبي لعلم الفلك هو نفسه ما يطلقون عليه عصر انحطاط، وهذا واضح في كتاب الطوسي تحرير المجسطي (١٣٤٧) والتذكرة في الهيئة. وبرزت نظرياته بعد ثلاثة قرون بأعمال كوبرنيك والمستشرق كارادي. ولم يقتصر الأمر عند الطوسي فكان شمس الدين الخفري يظهر دور الرياضيات في صياغة العلوم.
لذلك فاعتبار هذه المرحلة عصر انحطاط في المجال العقلي غير دقيقة. ومن أراد أن يقوّم هذه المرحلة يجب عليه دراسة هذه المرحلة جيدًا كما فعل الدكتور صليبا. ففيها أسماء لامعة ذات عقلية فذة مثل: ابن تيمية وابن خلدون والعسقلاني والذهبي والشاطبي، واختراعات في الجغرافيا والميكانيكا والرياضيات.
العوامل التي أضعفت المسلم والأمة والدولة
قام الكيان الإسلامي على ثلاثة عناصر؛ وهي الفرد والأمة والدولة. ورغم غياب الأخيرة بسقوط الدولة العثمانية إلا أن العنصرين الباقيين مستمران. والعوامل التي أضعفت كل عنصر:
العوامل التي أضعفت الفرد المسلم :
- تداخل أفكار بشرية مع أصول الدين.
- التصوف.
أما العوامل التي أضعفت الأمة فهي:
- تكون الفرق كالخوارج والشيعة.
- ضعف الأداء الشورى.
- غياب الاختيار في تنصيب الخليفة.
- القصور في المساواة والعدل.
الفصل الثاني: عوامل ضعف الأمة
العامل الأول: تداخل أفكار بشرية مع أصول الدين الإلهي
وقد شرح المؤلف في كتب أخرى كيف دخلت هذه الأفكار في بنية الدين الأساسية، والتأثيرات السلبية في المجال النفسي والعقلي عند المسلم، وعرض لتاريخ هذا التداخل.
كان مذهب الذرة هو أول الأفكار البشرية التي تداخلت مع أصول الدين على يد أبي هذيل العلاف. وانتقل هذا المذهب (تحت اسم علم الكلام) لأهل السنة والجماعة على يد أبو الحسن الأشعري. واعتبر أن أصول مذهب الذرة وأدلته مبثوثة في القرآن، وساهم تأليف الأشعري لكتاب الإبانة عن أصول الديانة في قبول مذهبه عند أهل السنة. ولكن الباقلاني يعتبر هو البداية الحقيقية للعقيدة الأشعرية، وكتابه التمهيد يؤصل لذلك؛ حيث يطرح مصطلحات مذهب الذرة مثل الجسم والعرض والجوهر، وتداخل مذهب الذرة مع قضايا إسلامية مثل صفات الله ووجوده.
ثم في مرحلة أخرى تم تداخل المنطق مع العقائد والفقه والأصول على يد الغزالي (في كتابيه الاقتصاد في الاعتقاد، المستصفى)، وابن حزم (في التقريب لحد المنطق). وأنتجت هذا التداخل أمرين: الأول الفقر النفسي، والثاني ارتكاسات في مجال البناء العقلي.
الأول: الفقر النفسي
بنى القرآن والسنة الجانب النفسي والعقلي عند المسلم؛ فملآه تعظيمًا لله وخضوعًا له وحبًا وثقة وخوفًا ورجاء. لكن تداخل الأفكار البشرية في البناء الثقافي الإسلامي أدى لإفقار المسلم نفسيًا؛ فمثلاً على صعيد العقيدة تم تحديد صفات الله التي نؤمن بها بعدد قليل، وتم تأويل الصفات، وتأويل وتعطيل بعض أفعال الله تعالى وصفات الذات بحجة التنزيه. وهذا كله ولًد عدة مشاكل ودفع المنهجية الإسلامية إلى حشد الدلائل على وجود الله رغم أنها مسألة فطرية، والتساؤل عن صفات الله هل هي عين الذات أم غيرها.
وأيضًا من المشاكل التي ولًدها هذا المنهج عدم الأخذ بحديث الآحاد في مجال العقيدة، وغياب الحديث عن الأمراض التي تهدد الإيمان مثل الشرك والوسائط. وكل ذلك أدى إما لإفقار الفرد نفسيًا أو إشغال المسلم بأمور لا تجدي على حساب بنائه النفسي.
الثاني : ارتكاسات في مجال البناء العقلي
كان لتداخل التراث الفلسفي مع مرجعية الأمة أثر في ارتكاس البناء العقلي وتجسد هذا الارتكاس عبر: التنكر للسببية، وتوهم تعارض العقل والنقل، والتشكيك في قيمة أصلَي الحياة الإسلامية القرآن والسنة.
التنكر للسببية
إن الاعتراف بالعلاقة والنتيجة أمر بديهي لبناء العقل السليم، وأقره الإسلام ودعا إليه القرآن والسنة. ولكن اهتز على يد الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين؛ فقالوا الله هو الفاعل وحده، فالسكين لا تقطع والنار لا تحرق إلا بمشيئة الله؛ مما هدم جانبًا كبيرًا في البناء العقلي والعلمي الذي يقوم على التجربة العلمية.
توهم تعارض العقل والنقل
لا يوجد تعارض؛ فكما قال ابن تيمية التعارض ناتج إما لعدم صحة النقل أو لعدم صواب العقل. ولكن المتأثرين بالفلسفة توهموا التعارض. ولحل هذه المعضلة قاموا إما بتقديم العقل على النقل أو التأويل. وكلاهما أخضع الشريعة للعقل وتأويل الفلاسفة.
التشكيك في قيمة أصلَي الحياة الإسلامية: القرآن والسنة
ولّد الأخذ بالدليل (قرآن أو سنة) والثقة المطلقة به يقينًا في مختلف مجالات حياة المسلم. ولكن -وفي مرحلة تالية- برزت مقولات تشكك في قيمة هذا الدليل السمعي، (كما عند الرازي الذي وضع شروطًا كثيرة للأخذ بالنقل ورد عليه العلماء)، وقيمة حديث الآحاد (وكان الخلاف في هذه القضية بداية بين مدرسة الرأي وأهل الحديث. ولكن الشافعي ومن بعده ابن حنبل أغلقا القضية بالأخذ بحديث الآحاد. ولكن بعدهما حدثت انتكاسة)
العامل الثاني في ضعف الأمة: التصوف
يقسم المتصوفة الدين إلى ظاهر وباطن، وإلى شريعة وحقيقة. وهم يعتبرون أنفسهم أهل الباطن والحقيقة، ويعتبرون الولاية نقطة الانطلاق كالشيعة. ويرى المتصوفة الولاية ضرورية لبقاء الأمة وحفظ دينها، وهي ثالث البراهين؛ فهناك برهان خبري قوامه القرآن والسنة، وبرهان عقلي قوامه الحجج العقلية، وبرهان عياني وهو ما يؤديه أولياء التصوف من كرامات.
ومرتبة الولاية تنتهي بالوصال، وأدنى الوصال مشاهدة العبد ربه بعين قلبه. والأولياء يأخذون عن الله ورسوله بالكشف. وعلاقة المريد بشيخه علاقة طاعة مطلقة. ويجعلون للولاية هيكلية كهيكلية الدولة. وهي كما يلي: الغوث، ويليه أربعة عمد، ويليهم سبعة أخيار، ثم أربعون من البدلاء، ثم سبعون من النجباء، ثم ثلاثمائة من النقباء. وهؤلاء لهم تصرف بالكون لذلك فالمطلوب من المسلمين الاتجاه لهم بالدعاء والاستغاثة والاستعانة.
وأما قضية الشطح عند المتصوفة فيعتذر لهم ابن خلدون بأن حالة الوجد عندهم أكبر من طاقتهم فتجعلهم يتلفظون بألفاظ كهذه. ويقول الصوفية بإمكانية الاتصال بذات الله عبر الحلول، والاتحاد، واكتشاف وحدة الوجود بعد أن يقتل المتصوف الجانب المادي في جسده من أجل إطلاق روحه من أسر الجسد. وهذا مخالف لأوامر الإسلام التي جعلت ذات العبد منفصلة عن ذات الله، وكلما ازدادت عبودية العبد ازداد شرفه وهذا ما وصف به الله رسوله الكريم.
فكان من آثار التصوف الاستلاب النفسي عند المسلمين، واستهلاك طاقتهم بتفريغها بأوهام السعي للاتحاد بالله. في حين العبادة في الإسلام شحن إيجابي للنفس. وأدى التصوف للابتعاد عن السببية؛ فالعلم عند المتصوفة يأتي بالكشف، وأدى التصوف لانسحاب المتصوف من المجتمع، وانشغاله بذاته انطلاقًا من (دع الخلق للخالق)، ويسعى المتصوف في نهاية طريقه إلى سقوط التكاليف عنه.
وقد ظهر تصوف فلسفي مثل تصوف الحلاج وابن سينا وغيرهم. وهو منقول عن تصوف سابق على الإسلام، وهو الموروث العرفاني؛ حيث أخذوا منه فكرة المقام أو الدّرج حيث يتدرج الصوفي بالمقامات.
العامل الثالث في ضعف الأمة: نشوء الفرق
كان لنشوء فرق كالخوارج والشيعة والمعتزلة دور في إضعاف الأمة. والعامل الرئيسي الذي ولّد الفرق هو عدم تطابق فهم هذه الفرق مع فهم القرآن والسنة وتأثير الموروثات السابقة.
الخوارج:
انشقت عن علي -رضي الله عنه- بعد معركة صفين؛ لأنه رضي التحكيم مع معاوية، ثم تبلورت أفكارها فيما بعد، ووردت بهم أحاديث كثيرة تدل عليهم.
صفات الخوارج: من خلال استقراء الأحاديث الواردة فيهم نستطيع تحديد صفاتهم: كثيرو قراءة القرآن ولكن قراءتهم سطحية، وكثيرو العبادات ولكن لا تؤثر بسلوكهم، من شر خلق الله لأنهم لم يستعملوا عقولهم لتدبر النصوص، ويدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقتلهم ويمدح من قاتلهم. وعلى الأرجح فإن هذه السطحية وعدم التدبر جاءت من بيئتهم البدوية فلم يستطيعوا الارتقاء بعقولهم.
الشيعة:
وينسب الشيعة (زورا) إلى جعفر الصادق الذي بدأ تقنين قواعد المذهب؛ حيث يذكرون أنه كان تحت يده مجموعتان علميتان، الأولى بإشراف ابنه موسى الكاظم، والثانية بإشراف ابنه اسماعيل. ونتج عنهما الشيعة الاثني عشرية الإمامية والإسماعيلية.
وتعتبر الإمامة من الأصول التي قامت عليها الشيعة الأمامية. ولها جانبان سياسي وديني:
الإمامة سياسيًا: الإمامة ليست اختيار الأمة، بل هي قضية أصولية وركن من أركان الدين؛ فالرسول قد نص على تعيين علي، وكل إمام من بعده يتم النص عليه، فلا تترك الإمامة هملًا.
الإمامة دينيًا: اعتبر الشيعة أن الإمامة من أركان الدين، وتعطي الإمام سلطة إلهية مثل النبي (وأكثر أحيانًا). والفرق بين النبي والولي عندهم أن الولي لا يحل له من النساء أكثر من أربعة. فهناك مرتبة الرسول الذي يوحى إليه ويكلف بتبليغ الرسالة، وهناك مرتبة النبي والإمام. وهما يوحى إليهما أيضًا لكن دون التكليف بالتبليغ برسالة جديدة.
وفي مجال التشريع والفقه: تلتقي الشيعة مع أهل السنة في القرآن، ولكنها تختلف في البقية كالسنة والإجماع والقياس. ولا تعترف بمراجع الحديث كالبخاري ومسلم، فمصادرها مثل “الكافي” للكليني. فهم يشترطون أن يروى الحديث عن طريق واحد من آل البيت؛ لذلك فمن الطبيعي أن توجد اختلافات في الفتاوى والأحكام الفقهية.
ويقرر الجابري أن أصل العرفان الشيعي مستمد من العرفان الهرمسي السابق على الإسلام؛ لذا فهو ليس استنباطًا ولكن تضمينًا لألفاظ القرآن أفكارًا مستقاة من موروث عرفاني قديم.
المعتزلة:
وأبرز رجالها معبد الجهني وغيلان الدمشقي وجعد بن درهم وجهم بن صفوان. واجتمعت كل آرائهم عند واصل بن عطاء الذي عاصر الحسن البصري، وكان هو المؤسس الرئيس واعتزاله يقوم على أربعة آراء مأخوذة عمن سبقه. وهي:
- نفي صفات الباري من علم وقدرة وإرادة.
- القول بالقدر كما قال الجهني وغيلان (لا قدر والأمر أُنف).
- القول بالمنزلة بين المنزلتين للفاسق.
- القول بفريقي معركة الجمل وصفين، وإن أحدهما فاسق لا محالة.
أما أبوهذيل العلاف فقد قال بالصفات، وأخذ مذهب الذرة متأثرًا بالفلاسفة، وقال إن الإجماع والقياس ليسا بحجة، ثم تداخل المنطق وشتى علوم الفلسفة مع أصول الدين.
نتائج وجود الفرق: من الواضح أن هذه الفرق أضعفت كيان الأمة وخلخلت بنيانها، فكانت سببًا في حروب وإنهاك الأمة؛ كحرب الخوارج وفرق الشيعة التي كونت دولًا وعصابات.
العامل الرابع في ضعف الأمة: قصور الأداء الشوري وغياب اختيار منصب الخليفة
أوجب الإسلام الشورى، وأخذ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- رغم استغنائه عنها. وتم اختيار الخلفاء الراشدين بمشاورة الناس وانتخابهم لهم. ولكن التفريط بهذه الأصول لاحقًا أدى لنزاعات واصطراع بين الورثة والوزراء. ولكن لم يكن غيابها يعني فساد الحياة السياسية بشكل كامل، بل ابتكر المسلمون حلولًا تخفف من وطأة غياب الشورى كقيادة العلماء، ودور القضاة والحسبة.
العامل الخامس في ضعف الأمة: التقصير في تحقيق العدل والمساواة
وتم التقصير في تطبيقه بدءًا من الأمويين الذين قربوا بعض الرجال والقبائل وفضلوا العرب، ثم جاءت ردة فعل مقابلة في العهد العباسي وما بعده بتقريب الفرس ثم الترك وانتشار الشعوبية.
الباب الثالث: الخلافة العثمانية.. نشأتها وتكونها وموقفها من عوامل ضعف الأمة
نشوء الخلافة العثمانية وتكونها
يعتبر عثمان هو المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية، أسسها على العدل وقرب العلماء وأخذ برأيهم، أما ابنه أورخان الذي أسس الجيش الانكشاري دائم التواجد بالثكنات صاحب الإسهام الكبير في الفتوحات. واتسعت دولته وعبر للضفة الأوروبية عبر الدردنيل وكان حلم فتح القسطنطينية يراوده.
وجاء بعده مراد الأول الذي نقل عاصمته للجانب الأوروبي إلى أدرنة؛ ليكون جهده منصبًا على الغزو والفتح في أوروبا. ثم جاء بعده السلطان بايزيد الذي هزم جيش أوروبا المتحالفة الكبير، وأصبح سلطانًا بعد أخذ مباركة الخليفة العباسية، وحاصر القسطنطينية ولكنه فك الحصار. وهزم أمام تيمورلنك ووقع بالأسر. وجاء بعده ابنه محمد جلبي الذي أنهى الحرب الأهلية ووحد السلطنة. ثم جاء بعده مراد الثاني الذي قمع التمردات وهو أبو السلطان محمد الفاتح الذي كانت له إنجازات كبيرة على رأسها فتح القسطنطينية. ثم جاء بايزيد الثاني، ثم سليم الأول الذي توجه للشرق فهزم الصفويين والمماليك وأخذ الخلافة عن العباسيين. ثم جاء السلطان سليمان القانوني الذي وصل حتى فيينا وحاصرها. واستمر تتابع السلاطين حتى إلغاء الخلافة على يد أتاتورك 1924.
موقف الخلافة العثمانية من عوامل ضعف الكيان الإسلامي
لم يصحح العثمانيون عوامل ضعف الأمة، بل ازداد بعضها كالتصوف الذي انتشر في العهد العثماني؛ فكانت الفرقة البكتاشية قريبة من الجيش العثماني. وأما بالنسبة للفرق فإنها رغم انتهاء بعضها إلا أن أفكارها بقيت، وقامت حروب مع بعضها كالشيعة الصفويين. وأما بالنسبة إلى القصور في الشورى والقصور في العدل والمساواة فقد استمر.
الباب الرابع: العوامل المباشرة التي أدت لسقوط الدولة العثمانية
لم تقم الدولة العثمانية بمعالجة عوامل ضعف الأمة بل تعززت، إضافة إلى عوامل أخرى كان الغرب وراء أكثرها. فقد استفاد الغرب من نشوء البروتستانتية متاثرًا بالمسلمين بالتعامل مع النص الديني وعدم ربطه بتفسير رجال الدين، والنهضة العلمية التي اعتمدت التجريب الذي أخذته من المسلمين.
وساهم في دعم النهضة الغربية المال والذهب الذي سيطرت عليه من اكتشاف أمريكا. فموَّل تجاربها العلمية، وموَّل حملات الغرب الذي سيطر على بعض الولايات العثمانية، وتدخل في شؤونها، وساعد ولاتها الطامعين؛ ما سرَّع سقوط الدولة العثمانية.
العامل الأول: استعمار بعض البلدان الإسلامية
حيث احتلت بريطانيا عدن، واحتلت فرنسا الجزائر ثم تونس، ثم احتلت بريطانيا مصر. ومع كل احتلال كانت الدولة العثمانية تضعف وتذهب خيراتها وتتشتت جهودها.
العامل الثاني: مساعدة الأوروبيين بعض ولاة الدولة العثمانية للانفراد بالسلطة
ومن أمثلتهم علي بك المُلقَّب بشيخ البلد، الذي حاول الاستقلال بمصر بمساعدة روسية وحارب العثمانيين. ثم ثار عليه أحد بكوات المماليك الملقب بأبي الذهب، لكن تم القضاء عليهم جميعًا.
وجاء محمد علي باشا بعد طرد الحملة الفرنسية على مصر، وحاول الاستقلال بشؤونها. وبنى جيشًا حديثًا بمساعدة جنرالات وخبراء أوربيين بعد الإيقاع بكل منافسيه. واستطاع أن يؤسس لاستقلال فعلي وعجزت الدولة العثمانية أن تُخضعه؛ فقد زحف الجيش المصري حتى وصل لأضنه، وانتصر على كافة الجيوش العثمانية المرسلة لمحاربته. حتى أضحت السلطنة بعد وفاة محمود الثاني بلا جيش بري بسبب كثرة الهزائم، وبلا أسطول؛ حيث انحاز أسطول الدولة بقيادة أحمد باشا إلى ميناء الإسكندرية وأسطول محمد علي باشا بسبب خلافات على المناصب. أما القرار السياسي فأصبح بيد الدول الغربية التي أصبحت تفرض معاهدات على الدولة العثمانية.
العامل الثالث: إشعال الثورات في الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية
فتحت الخلافة العثمانية أجزاء كبيرة من أوروبا، ولكنها تركت لهم حرية الاختيار بين الإسلام ودياناتهم السابقة، ولم تفرض عليهم الدين الإسلامي.
وفي عام 1812 عندما ثار الصرب استطاع العثمانيون إسكاتهم. ولكنها كانت البداية حيث تجددت بعدها بدعم ومساعدة وتمويل وتخطيط الدول الأوروبية. وضغطوا على الدولة العثمانية لتوقيع اتفاقيات منح الدول استقلالها. وكان دعم تلك الدول ظاهرًا بشكل كبير في حرب اليونان؛ حيث دعمت أوروبا المتمردين بالمال والسلاح، وحتى بعض أشراف الأوروبيين قاتلوا مع المتمردين من أمثال واشنطن ابن جورج واشنطن محرر أمريكا، والشاعر الإنجليزي بايرن وغيرهما. وتم الضغط على العثمانيين لمنح الاستقلال لدول مثل بلغاريا وإقليم بغدان والأفلاق، ومن بعدها بلاد الصرب، ومن بعدها اليونان. ونلاحظ مما سبق التدخل السافر من قبل الأوروبيين في الجزء الأوروبي من الخلافة العثمانية؛ حيث حركوا الجاليات المسيحية ودعّموهم بشتى أنواع الدعم.
العامل الرابع: استغلال الغرب للطوائف:
استغلت الدول الغربية وجود طوائف متعددة تحت ظل الخلافة العثمانية؛ فحاولت إشعال الفتن بينهم لتستطيع التدخل. كما في لبنان؛ حيث يوجد الدروز والموارنة. ولم يقبل الأوروبيون تعيين والٍ عثماني عليها رغم أنه يحل المشكلة، ولكن تعمدت وجود والٍ لكل طائفة. ولا شك أن هذه التدخلات أضعفت الخلافة العثمانية.
العامل الخامس: إضعاف الخلافة اقتصاديًا:
أقدمت الدول الغربية على فرض اتفاقات اقتصادية تكبل الخلافة العثمانية، وتربطها اقتصاديًا بالسوق العالمي. وكان لباب الامتيازات الأجنبية أثر الكبير في ضعف اقتصاد الخلافة.
العامل السادس: دفع العرب والأتراك للاقتتال:
قام الغرب بإشعال نار العداوة وتأجيج الفتنة عن طريق الفكر القومي وتعزيزه. وكان لدسائس الأحزاب القومية ومحاولة فرض التتريك على باقي الرعية أثر، وأحدث رد فعل كثورة الشريف حسين.
الباب الخامس: تمزيق الأمة وتفتيتها وتدميرها والتمهيد لإلغائها واستئصالها
لقد اجتهد الغرب في تمزيق الأمة، من خلال عدة أدوات:
الأداة الأولى: قيام حكومات بفرض النموذج الغربي:
بعد سقوط الخلافة قامت حكومات العالم العربي والإسلامي بفرض نماذج غربية؛ فكان الفكر القومي العلماني بعد الحرب العالمية الأولى، والقومي الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية.
فبعد الحرب العالمية الأولى قام ساطع الحصري منظّر القومية العربية، والذي رافق الملك فيصل في العراق؛ قام بفرض النموذج القومي العربي المستقى من القومية الغربية. كما قام سعد زغلول بمحاولة فرض القومية المصرية، وفي تركيا فرض أتاتورك القومية التركية.
وبعد الحرب العالمية الثانية ساد النموذج الاشتراكي، وكانت مصر أول بلد عربي دعا للاشتراكية، ثم انتقلت بعدها للبلدان العربية. معتبرين أن الدين سبب التخلف، والغيب أوهام، فتزعزعت القيم والمثل. ولكن القومية والاشتراكية خفتت بعد نكسة حزيران.
الأداة الثانية: إيجاد أكبر عدد من التقسيمات السياسية:
واجتهد الغرب بتقسيم المنطقة لأكبر عدد من الدول، ومستمر في تجزئة المجزأ.
الأداة الثالثة: إقامة إسرائيل:
وكان للغرب دور كبير في إقامتها ودعمها بكل سبل البعث والإيجاد. وذلك كونها ستلعب دورًا كبيرًا في إضعاف الأمة وترسيخ تقسيمها وأداة تفتيتها.
الأداة الرابعة: إثارة النعرات العرقية والطائفية:
ومنها إثارة النعرات لدى الأتراك والأكراد والبربر، ومحاولة تكريس الفرقة وتأجيج الفتنة والصراع. ومنها تحريك الطوائف وإثارتها على بعضها وتبني كل دولة طائفة لاستمرار الصراع.
الأداة الخامسة: التشكيك في الثوابت التي تقوم عليها الأمة، وزعزعة الثقة بها:
لكل أمة ثوابت. وأبرز ثوابت هذه الأمة هي القرآن الكريم والحديث والتوحيد واللغة والتاريخ الإسلامي. لكن قامت محاولة تشكيك بهذه ثوابت. ومنها:
– كتابات طه حسين: في كتاب الشعر الجاهلي؛ حيث يقوم بإنكار أمور ثابتة في القرآن، ويسميه أساطير. ويعتبر بعض القصص الواردة غير صحيحة، ويطعن في كبار الصحابة مثل عمر بن الخطاب. وكتاب مستقبل الثقافة في مصر الذي يحوي كمًا كبيرًا من المغالطات المنقولة من الغرب. وطه حسين يدعو بشكل واضح وصريح للإسراع بالأخذ بالثقافة الأوربية حلوها ومرها، وما نحب وما نكره، ويساوي بين تراث الإسلام وغيره من تراث فرعوني ويوناني وروماني.
كُتاب آخرون قاموا بدور تشكيكي: ومنهم سلامة موسى الذي دعا لاستعمال اللهجة العامية وترك الفصحى، وعلي عبد الرازق الذي قال إن الإسلام دعوة فقط وليس فيه حكم.
الأداة الخامسة: التشكيك في ثوابت الأمة بعد الحرب العالمية الثانية:
حسين أحمد أمين الذي اعتبر الحدود وجدت لظرف تاريخي انتهى، ومحمد سعيد العشماوي الذي اعتبر الحجاب طارئًا، ونصر حامد أبو زيد الذي شكك بالنص قطعي الثبوت، ومنهم حسن حنفي وأدونيس ومحمد شحرور.
أدونيس ودوره التشكيكي: حيث ألف كتاب الثابت والمتحول، والذي يقسم الدين لثابت ومتحول. وهذا المتحول يخضع للإبداع، كما في الخلافة والسياسة، والتي تعرضت لإبداع عندما قامت ثورة على عثمان. ويتكلم عن الفرق واعتقادها، ويتكلم بعدها عن التأصيل والأصول ودور الشافعي. ويصنف التصوف في مجال الإبداع.
نلاحظ من كتابات أدونيس أنه يستخف بالثوابت التي تقوم عليها الأمة، ويعلي من شأن كل من يخرج على هذه الثوابت.
محمد شحرور ودوره في التشكيك بثوابت الأمة:
حيث ألف كتابًا ضخمًا (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة)، حوى جملة من المغالطات والآراء الشاذة والتشكيكات، معتمدًا على المنهج اللغوي لتحديد معاني الألفاظ. وفي مناقشة آراء شحرور نشير لما يلي: كرر الدكتور خطأ المعتزلة في عدم التمييز بين الألفاظ والمصطلحات، وقد حمل بعض الألفاظ معاني لا تحملها والاعتساف بتفسير بعض الألفاظ. والدكتور شحرور حرص على فتح ثغرة في فهم المسلمين للنص قطعي الثبوت والدلالة، فقد تناولها كلها بفهم مخالف لكل الأفهام السابقة، معتمدًا على عقله فقط في تفسير الكثير من الآيات. وكان شحرور قد دندن حول أفكار الجبرية والقضاء والقدر، وحاول إعادة إحيائها رغم أن الأمة تجاوزتها، وتجاوزت الفهم الخاطئ لها؛ بسبب جهود المصلحين وانحسار التصوف.
نظرة على مجمل القراءات الحداثية المشككة في ثوابت الدين الإسلامي:
تنوعت هذه القراءات؛ فبعضها يلغي القداسة والغيب عن القرآن ليصبح كغيره من النصوص، وبعضها يعتبر آيات الحدود تناسب زمانها فقط. وكلها اندرجت ضمن ثلاثة محاور:
خطة الأنسنة: وتستهدف رفع القدسية ونقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي للوضع البشري. ويتم هذا عن طريق: حذف عبارات التعظيم، واستبدال مصطلحات قديمة بأخرى جديدة، وتسوية الاستشهاد بالقول بين أقوال البشر والآيات، والتفريق بين مستويات الخطاب الإلهي (الوحي، التنزيل، المصحف). وهذه المنهجية تجعل القرآن نصًا لغويًا مثل أي نص بشري.
خطة العقلنة: وتستهدف رفع عائق الغيبية. وآليتها إزالة هذا العائق بالتعامل مع الآيات بكل وسائل النظر التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة. مثل: نقد علوم القرآن، والاستعانة بمناهج علوم الأديان وعلوم الإنسان والمجتمع وإنزالها على النص القرآني، وإطلاق سلطة العقل فلا يوجد حدود يقف عندها العقل. ومن نتائج تطبيق هذه الآلية: تغيير مفهوم الوحي، وعدم اتساق النص القرآني، وغلبة الاستعارة في النص القرآني.
خطة الأرخنة: وتستهدف رفع الحُكمية؛ أيْ أن القرآن ما جاء بأحكام ثابتة وأزلية. وتتم بوصل الآيات بظرفها وسياقها الزماني، وذلك عبر: توظيف المسائل التاريخية في تفسير القرآن، الفصل بين الحكم وبين القاعدة القانونية، تقليل آيات الأحكام، إضفاء النسبية على آيات الأحكام، وتعميم الصفة التاريخية على العقيدة.
إذن فالأنسنة تسقطنا في المماثلة اللغوية، والعقلنة تسقطنا في المماثلة الدينية، والأرخنة تسقطنا في المماثلة التاريخية.
الأداة السادسة : مشاريع أمريكية لتفتيت الأمة:
تم طرح مشروعي الشرق الأوسط (الجديد والكبير)؛ بهدف إخضاع الأيدي العاملة والثروات العربية للعبقرية الصهيونية.
ولكن ما الهدف من هذه المشاريع؟
تلتقي على أهداف دعائية ولكن لا تبقى بحدود الدعاية؛ فهي تحرك مشاريع التقسيم والتفتيت التي تستهدف الأمة. وتهدف هذه المشاريع أيضًا دمج إسرائيل بالمنطقة، والحصول على بترول المنطقة. ومن المؤسف أن تساهم إيران في التفتيت والتقسيم، وتلتقي مع أهداف هذه المشاريع.
ولكن السؤال كيف نستطيع مواجهة هذا التمزيق والتفتيت للأمة؟
– تعميق العلم وتوسيع ساحة الوعي بعقائد الدين الإسلامي وأفكاره وتشريعاته ونظرياته في مختلف المجالات والرد على الشبهات.
– السعي لإقامة الدولة الإسلامية التي تعبر عن الأمة وتحفظ وحدتها. وهذا هو واجب الوقت العيني على كل فرد.
خاتمة
وفي نهاية الكتاب لا بد من الإشارة للفكرة الرئيسية للكتاب، والتي أراد الكاتب الإشارة لها؛ وهي عدم تناول التاريخ بسطحية، وقراءته بعمق؛ كونه يؤثر في واقع الأمة ومستقبلها، وعدم الفصل بين مكونات الكيان الحضاري الإسلامي وهي الفرد والأمة والدولة. فهي مترابطة، وكل منها يؤثر بالآخر بشكل مباشر. ولا بد من مراعاتها بشكل متوازن، وفهم العدو التقليدي للأمة الأسلامية؛ وهو الغرب الذي استطاع أن يؤثر بشكل مباشر في سقوط الخلافة العثمانية، ولا يزال يكيد للأمة بهدف إضعافها وتمزيقها.