السلطان محمد الفاتح ومعركة فتح القسطنطينية
بعد أن توقفنا في حديثنا السابق عن كيفية تربية مراد الثاني لمحمد الفاتح، هناك قرار آخر اتخذه مراد الثاني؛ وهو أن يتنازل عن العرش إلى ابنه الصغير محمد الفاتح -وذهب إلى مانيسا للعزلة فيها- وهو الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره؛ وكان ذلك القرار بسبب حوادث الموت المفاجئ في أفراد العائلة العثمانية والتي كانت تحدث في أيام شبابهم؛ فقد مر عليه موت محمد جلبي والده وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، ومات السلطان بايزيد الأول جده وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ومات ابن من أبنائه في سن الثامنة عشر من عمره.
فأراد أن يعتزل الناس للتعبد لله، وأيضًا شعر أن مستقبل الدولة العثمانية في خطر كبير بعد فقد ولي العهد الثاني فلم يبق إلا الأمير محمد الفاتح، فأراد أن يكون التنازل له نوعًا من دعم استقرار الدولة مستقبلًا، حتى لو انسحب إلى مانيسا فهو يراقب الأمر من بعيد وسيكون جاهزًا للظهور في أي لحظة تحتاجها الدولة، ولم يكن هذا القرار صائبًا في هذه الفترة؛ لأن الدولة العثمانية لم تكن مستقرة.
مع أن مراد الثاني قام بكثير من المعاهدات بين المجر وبولندا، ولكن هذه الدول استغلت هذا الانسحاب وجاءت جيوش المجر وبولندا مع فرق عسكرية من جنوبي رومانيا وكذلك مع بعض المتمردين من بلغاريا ليشنوا هجومًا على الدولة العثمانية، وهكذا وجد السلطان الجديد محمد الفاتح نفسه أمام أزمة قد تعصف بالدولة كلها، فقام بإرسال رسالة ذكية إلى أبيه وقال له: “إن كنا نحن الباد شاه فإننا نأمرك، تعالوا على رأس جيشكم، وإن كنتم أنتم، فتعالوا دافعوا عن دولتكم”. وجاء أبوه بجيش كبير.
موقعة فارنا 1444م
وفي يوم العاشر من نوفمبر عام 1444م دارت موقعة فارنا؛ وكانت من أهم معارك التاريخ الأوروبي كله مع أنها كانت معركة يوم واحد فإن نتائجها كانت حاسمة للغاية، هذه المعركة قتل فيها ملك بولندا والمجر فلاديسلاف الثالث، ومُزق الجيش الصليبي بين قتيل وأسير، وهرب القائد المجري الشهير، وكان نصر فارنا العظيم يومًا من أيام الله حقًا، وأحدثت المعركة دويًا كبيرًا في أوروبا وهدأت الممالك المجاورة. وعاد السلطان مراد الثاني إلى معزله في مانيسا مرة أخرى، واستمر محمد الفاتح في الحكم سنتين، ونظرًا لصغر سنه ازدادت الأمور سوءًا وازداد عدد المتمردين، وكان حكمه هشًا لم يدم سوى سنتين، ورجع مراد الثاني للحكم ثانية.
ومن هنا فائدة عظيمة حيث انعكس الأمر على محمد الفاتح بإيجابية كبيرة، لقد استفاد منه عدة خبرات منها:
- معرفة آليات الحكومة والإدارة.
- ممارسة كيفية التعامل مع الوزراء.
- أهمية التعامل مع قادة الجيش بحزم وصرامة.
- وأهم من ذلك كله قبول الحكومة والشعب فكرة وجود محمد الثاني على كرسي العرش.
وبذلك يكون أبوه مهد له الطريق إلى الحكم في نفسه وفي نفس الشعب.
وعاد مراد الثاني إلى الحكم ثانية وفي هذه الفترة استقرت أحوال الدولة الداخلية والخارجية، وكان حكم مراد الثاني مليئًا بالفتوحات والتوسعات ومدّ رقعة الدولة العثمانية وفتح الحصون، وكان يشارك محمد الثاني في فتوحاته، وقد أكسبته هذه التوسعات والفتوحات الخبرة العسكرية والقيادة الفذة فمن تعلم على يد أبيه أصبح تلميذًا فذًا.
موت مراد الثاني
بعد ذلك انتهت حياة مراد الثاني رحمه الله في الثالث فبراير عام 1451م وهو في السابعة والأربعين من عمره ليترك المجال لابنه محمد وهو في التاسعة عشر من عمره. وقبل الانتقال إلى كيفية إدارة محمد الفاتح للحكم من بعد أبيه أريد أن أتوقف هنا مع شهادات أثبتت أن العظماء يصنعون عظماء بإذن الله.
الشهادة الأولى: شهادة المؤرخ لاونوكيوس قال: “كان رجلًا يحب العدل والقانون، وكان موفقًا تسير الأمور إلى جانبه، كان يقاتل للدفاع فقط، ولم يبدأ أي أعمال عدائية لكنه كان يقاتل فورًا من قاتله”.
الشهادة الثانية: شهادة المؤرخ البيزنطي دوكس قال: “أعتقد أن الله عامل الرجل بحسب الأعمال الصحيحة الصالحة التي قام فيها من أجل مصلحة الشعب التي أبداها للمعوزين، ليس فقط من أمته المحتاجين وأبناء عقيدته، بل للنصارى كذلك الأيمان التي عقدها وأقسم عليها كان لا ينقضها أبدًا حتى النهاية”.
هذه أخلاق تربى عليها البطل المغوار محمد الفاتح، فهنيئًا له بأبيه وهنيئًا لأبيه به.
نعم الأخلاق زُرعت في نعم الأبناء هكذا الابن غِراس أبيه، فليحسن أحدكم غراسه.
التمهيد من أجل فتح القسطنطينية
كان تولي محمد الفاتح قيادة الدولة العثمانية من أكبر النقلات النوعية في تاريخ الدولة في تاريخ المسلمين، لم يكن من السهل أن يتسلم شاب في التاسعة عشرة من عمره حكم دولة مترامية الأطراف وخاصة الدولة العثمانية؛ حيث إنها موجود بها شبكة كبيرة معقدة من العلاقات الخارجية مع عدة دول في العالم.
لم يكن الأمر سهلًا ويسيرًا على محمد رغم أن مراد الثاني ترك الدولة هادئة نسبيًا إلا أنه كانت هناك العديد من المشاكل التي أرقت حكم الفاتح منها القسطنطينية؛ لأنها كانت محطة متقدمة من محطات القتال التي يستعين بها الأوروبيون في غزو العالم الإسلامي، وخاصة أنها كانت تمثل مأوى للمتمردين. فعرض محمد الفاتح أمر فتح القسطنطينية على قواده ووزرائه، وشرع في الأمر.
الاستعدادات من أجل معركة فتح القسطنطينية
استقرأ الإمبراطور البيزنطي أن ساعة الصفر لحصار القسطنطينية قد حانت؛ فلذلك استغل الإمبراطور البيزنطي البابا الخامس واتفق معه على ضم الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية تحت زعامة البابا الكاثوليكي، وهذا طبعًا شرط مذل ولكنه وافق على معاونة البابا في مواجهة العثمانيين، لكن البابا لم يكن مؤثرًا في ملوك أوروبا بالدرجة التي تجعلهم يطيعونه في عملية إنقاذ القسطنطينية لذلك لم يكن ليُمده إلا بمائتي جندي فقط.
كانت المساعدة الوحيدة الجدية في فتح القسطنطينية هي مساعدات جمهورية جنوة الإيطالية، التي على الرغم من معاهدتها مع السلطان محمد الثاني إلا أنها أرسلت فرقة مؤلفة من سبعمائة مقاتل محترف من جنوة وجزيرة خيوس التابعة لها كانت هذه على الجانب البيزنطي.
أما استعدادات الجيش العثماني كانت تجري على قدم وساق؛ فقد نجح أوربان “مهندس ميكانيكي من البيزنطيين” في تصنيع مدفعه العملاق، حيث قام السلطان محمد الثاني بتجريبه في أدرنة فكان قادرًا على إيصال طلقته الكبرى لمسافة خمسة أميال تقريبًا.
وبدأ التخطيط الفعلي لحركة الجيش ومعداته من أدرنة إلى القسطنطينية، وكذلك بدأت استعدادات الأسطول العثماني وأغلق مضيق الدردنيل؛ وذلك لمنع السفن القادمة من البحر الأبيض المتوسط من الوصول إلى القسطنطينية، أما سفن البحر الأسود فكانت قلعتا روملي حصار وأناضولو حصار كفيلتان بمنعهما تمامًا من الوصول إلى المدينة.
وكان السلطان محمد الثاني مهتمًا كذلك بالدور العظيم الذي يقوم به العلماء في تحقيق النصر؛ ولذلك أرسل إليهم ليصحبوا الجيش في مهمته الكبرى ليقوموا بتحميس المقاتلين على الجهاد في سبيل الله وتبشيرهم بالنصر في المعركة، وأرسل إليهم الشيخ آق شمس الدين ليُبشرهم بالنصر وذكرهم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مدح من يفتح القسطنطينية وأنهم سيكونون نعم الجيش بإذن الله.
كانت آخر خطوات السلطان محمد الفاتح قبل تحديد الوقت الذي سيغادر فيه الجيش من أدرنة إلى القسطنطينية هي إرسال فرقة من العمال لتمهيد الطريق بين المدينتين، وهي ليست مهمة سهلة لأن المسافة تزيد على مائتي كيلومتر، والغرض من تمهيد الطريق ليس استيعاب الجيوش الكبيرة فقط ولكن تسهيل عملية نقل المدافع العملاقة؛ والتي ستستخدم في الحصار ويجرونها الثيران.
نظرة على القسطنطينية
كان الموقع الجغرافي على شكل مثلث يبرز داخل مدينة مياه بحر مرمرة في أقصى شرق أوروبا، وهذا الشكل أعطاها حماية طبيعية من المياه في شمالها الشرقي حيث يوجد خليج كبير اسمه القرن الذهبي، وجنوبها الشرقي حيث يوجد بحر مرمرة، وصارت ناحيتها الغربية هي المتاحة إليها برًا، ومن ثم فعند بناء أسوار قوية تحمي هذه الجهة الغربية ستصير للمدينة حماية طبيعية صناعية تمنع العادين من دخولها، ففكر قسطنطين الأول في بناء سور كبير مكون من طبقة واحدة ليصل من القرن الذهبي في الشمال إلى بحر مرمرة في الجنوب؛ وبذلك تُغلق المدينة تمامًا من ناحية البر.
أما المقاتلين الذين يقاتلون للدفاع عنها لا يزيدون عن خمسة آلاف مقاتل وألفًا من المرتزقة، إذًا فقد أصبحت القوة المدافعة عن القسطنطينية هي سبعة آلاف فقط وهذا رقم ضئيل جدًا، ولكن الإمبراطور البيزنطي بالاشتراك مع قواد جيشه قام بتوزيع نفسه والقيادات والجنود على الأماكن الاستراتيجية في الأسوار؛ ليكون الجيش منظمًا تنظيمًا يعوض قلة عدده. أما عن الأسطول البحري فإنه كان ستة وعشرين سفينة، ولكنه كان يتميز بكبر حجمه وأنها كلها سفن شراعية والسفن العثمانية كلها كانت صغيره بالمجاديف، وكذلك مهارة وحرفية البحارة في هذا الأسطول البيزنطي تتفوق عن مهارة البحارة العثمانيين بكثير.
الحصار تمهيدًا من أجل فتح القسطنطينية
استمر الحصار أربعة وخمسين يومًا كاملًا، ويتبلور الحصار تحت ثلاث محاور:
أولًا: محور القوات البرية: كان الجيش العثماني في حدود المائة ألف مقاتل تقريبًا، وأيًا ما كان الأمر فإن هذه القوات كانت منظمة للغاية وكانت ذات تكنيك واضح، وحرفية عالية وانضباط أدائي رائع، قيمهم السلطان على أن يكونوا عن يمين الأسوار ويسارها ويكون السلطان في قلب الجيش.
ثانيًا: المدفعية في حصار القسطنطينية: كان الجيش العثماني مزودًا بأحدث المدفعيات الموجودة في زمانه، بل كانت به بعض أنواع المدافع التي لم تكن متوفرة في أي جيش من جيوش العالم، وهذا يعطينا فكرة عن مدى الاستعداد التقني الذي كان عليه الجيش، وذكرت الكثير من المصادر أن عدد المدافع العثمانية في الحصار كان سبعين مدفعًا.
ثالثًا: الأسطول البحري العثماني: يتكون من اثنين وتسعين سفينة وقد يصل عدد السفن إلى أكثر من ذلك، ومع أن الأسطول العثماني كان في بدايته فإن الروح القتالية عند البحارة كانت عالية وهمتهم كبيرة، وهذا يعطيه هبة لا تتوازى على وجه الحقيقة مع إمكانياته العسكرية.
تحرك الأسطول العثماني في الدردنيل شمالًا، ثم بحر مرمرة، وأخيرًا دخل مضيق البوسفور حيث رسى على بعد ثلاث كيلومترات شمال مدينة القسطنطينية عند ميناء العمودين.
وهكذا اكتمل ترتيب الجيش العثماني بفرقه المتعددة في 6 إبريل، ولم يضيع السلطان وقتًا إنما بدأ من فوره قصف المدينة الحصينة وبدأ المدفع السلطاني يعلو دويّه واستمر القصف لعدة أسابيع، وفي كل مرة يقصف فيها السلطان الأسوار يعيد تصليحها البيزنطيون، واستمر الحصار أسبوعين كاملين ولم يدخل المدينة أي إعانات خارجية، وكان الحصار قويًا عنيفًا، ظهرت بوادره على القسطنطينية حيث قلت المؤن وخاصة الخبز، وتفاقم الأمر وازدادت الأمور سوءًا في القسطنطينية.
وبعد سبعة وثلاثين يومًا من القصف المستمر كان لابد للسلطان أن يرفع الحصار وأن يهجم على القسطنطينية، ووافقه على ذلك الشيخ آق شمس الدين وأيضًا الصدر الأعظم خليل جندرلي وعدد من القوات والجنود والوزراء. وبدأ يُعد الجيش لساعة الصفر.
الإعداد للهجوم النهائي لفتح القسطنطينية
لقد اهتم الفاتح اهتمامًا بالغًا بالإعدادات؛ فكانت الأمور تجري على قدم وساق وكان كل شيء مُعدًا ومجهزًا تجهيزًا كاملًا بتوفيق من الله، وسنتحدث عن هذا في محاور:
أولًا: محور الجانب التقني: كانت هناك أعمال عسكرية كثيرة في هذين اليومين تمهيدًا للهجوم العام الذي سيتم يوم التاسع والعشرون من مايو؛ وكان أهمها:
- استمرار القصف المدفعي: لقد استمر القصف المدفعي بشكل متواصل حتى يُمكن من إحداث أكبر أثر ممكن ليُعطي الفرصة للجنود في الاقتحام.
- كانت هناك فِرق كبيرة تقوم بملء الخندق الموجود حول الأسوار بالحجارة وبالأخشاب والتراب وكل ما يُمكن أن تصل اليه أيديهم؛ وذلك لتوفير طريق سهل للجنود والمدافع وآلات الحصار عند اللحظة المرتقبة.
ثانيًا: محور الجانب البدني: من أروع الأمور في قيادة السلطان محمد الفاتح هو الجانب الواقعي العملي في هذه القيادة، لقد أمر الجنود براحة تامة لكل القوات لمدة يوم كامل؛ وذلك ليستقبلوا المعركة وهم في كامل لياقتهم البدنية وصحتهم الجسدية.
ثانيًا: محور الجانب النفسي: وقد سلك محمد الفاتح عدة مسالك يمكن إيجازها في نقاط:
- تحرك العلماء بقيادة آق شمس الدين بين صفوف الجنود والتقوا معهم بشكل مباشر، وكانوا يقرؤون عليهم آيات الجهاد وأحاديثه، ويذكرونهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك بالصحابي العظيم أبي أيوب الأنصاري وأنه مات في محاولة فتح القسطنطينية.
- أمر السلطان أن يصبح الجيش كله صائمًا يوم الإثنين الثاني والعشرين من مايو، وأن يقضوا وقتهم كله في الدعاء والتضرع إلى الله بالنصر، وأمر أن يكون هناك إفطار جماعي لكل فرقة من الجنود لتقوية الرابطة بينهم.
- وازن السلطان بين ترغيبه الأخروي وترغيبه الدنيوي حيث أعلن إعلانًا عجيبًا غير متكرر في التاريخ كثيرًا؛ وهو أن كل ثروات المدينة بذهبها وفضتها وثرواتها النفيسة سواء في قصر الإمبراطور أم في بيوت النبلاء أم في عامة الناس ستكون للجيش بكاملها ولن تحتفظ الدولة لنفسها بشيء إلا بالمباني والأسوار، وأيضًا كل من سيبقى حيًا يأخذ أجره مضاعفًا مدى الحياة.
رابعًا: المحور النفسي الخاص بالقسطنطينية:
- تحويل الليل إلى نهار؛ فقد أمر السلطان أن تشعل شعلتان أمام كل خيمة من خيام الجيش وأن تشعل الشعلات كذلك في كل السفن الموجودة في القرن الذهبي، فكانت إضاءة غير معتادة حتى ظن المحاصرون أن النيران قد أمسكت بالمعسكر العثماني، ولكنهم فوجئوا أن المعسكر في كامل الاستعدادات؛ مما زادهم خوفًا ورهبة وتوترًا ورعبًا.
- صيحات التوحيد التي كانت تهز أركان المكان وهي ترتفع إلى عنان السماء، وكانت تهز أرض القسطنطينية هزًا، وتملأ قلوب المحاصرين رعبًا.
- سلاح الصمت؛ أمر بالصمت التام في المعسكر العثماني في الثامن والعشرين من مايو، وقد أدى هذا الصمت المفاجئ إلى اضطراب أهل المدينة المحاصرة واختلافهم، فقد ظنوا أن المسلمين ينسحبون من الميدان، ولكن خاب ظنهم؛ لقد حانت ساعة الصفر.
وحدد السلطان وقت الهجوم، وأنه سيكون معهم بنفسه في أرض الميدان وأنه سيرى عمل كل واحد منهم ويريد أن يرى أكبر طاقتهم وأعظم أعمالهم في هذه اللحظات المجيدة.
وقبل منتصف الليل بقليل أُطفئت أنوار المعسكر العثماني كله وساد الهدوء والظلام في هذا المكان، وعند منتصف الليل تقريبًا شق صمت المكان مدفع عظيم. لقد حانت ساعة الحقيقة.. حانت ساعة الفتح.. حانت ساعة النصر.
معركة فتح القسطنينة “ساعة الصفر”
كانت طلقات المدفع هي علامة البدء وكأن القيامة قد قامت، تحول الصمت الشامل الذي يلف المكان إلى ضجيج عنيف، وتحول الظلام الدامس الذي كان يغرق فيه المعسكر العثماني إلى نور ساطع، وأضيئت المشاعل التي حولت الليل إلى نهار في لحظة واحدة. هذه هي الخطة العثمانية في الهجوم الأخير؛ بأن يكون منتصف الليل هو البداية.
الموجة الأولى
أقبل جنود الباشي بوزوك بحَمية عظيمة وهم يصيحون صيحات عالية ويدقون الطبول بعنف، كانت فرقة الباشي فرقة غير نظامية في الجيش العثماني وبالتالي هي أقلهم احترافية، ولكن الروح العالية التي كانت عندهم جعلتهم يقبِلون على الأسوار في محاولة جادة للتسلق، فكان ردة فعل المدافعين عنيفًا؛ بدأوا في إلقاء الزيت المغلي والأحجار الكبيرة على المتسلقين للأسوار، وبذلك سقط عدد كبير من الشهداء إلا أن البقية أكمل الصمود ونجح بعضهم في الوصول إلى الأسوار وخاصة منطقة الحائط الشائك، وقد أدى الباشي دورهم بنجاح، ومع أن تركيز هجومهم كان على منطقة الحائط الشائك فإنهم انتشروا على مساحة واسعة من الأسوار لتشتيت المدافعين، وبعد ساعتين من القتال المستمر أصدر السلطان أوامره بالانسحاب لتنتهي بذلك الموجة الأولى من الهجوم.
الموجة الثانية
ثم تأتي بعد ذلك الموجة الثانية من الهجوم الأخير، وكانت القوات بقيادة قوات الأناضول، وهذه القوات مختلفة تمامًا عن قوات الباشي بوزوك فعلى قدر عشوائية فرق الباشي بوزوك كانت قوات الأناضول في غاية التنظيم، لقد أقبلوا كتلة واحدة في غاية التنظيم يتحركون في خطوات مدروسة ومفهومة، غايتهم الوصول إلى الحائط الشائك الذي يسد ثغرات الأسوار، يقول القس خيوس الجنودي ليوناردو:
مازالوا يتحركون نحونا يستخدمون الدروع لحماية أنفسهم من الصخور والطلقات ويحاولون إقحام أنفسهم نحو الحائط الشائك، قتل منهم عدد مذهل قذفنا عليهم طلقات مميتة وسهامًا على كتلتهم المتحركة، ولكنهم مازالوا يتقدمون.
وقبل الفجر بساعة خضعت جميع الأصوات لصوت أعلى منها جميعًا؛ هو مدفع أوربان الكبير، طلقة منه أصابت الحائط الشائك وأحدث به ثقبًا في وسطه يكفي لاختراق الرجال، كانت فرصة ثانية لدخول المدينة، وفي لحظات تسلل ثلاثمائة من قوات الأناضول إلى داخل المدينة، ولكن المدافعين أسرعوا بإلقاء الحجارة والأخشاب لسد الثغرة التي أُحدثت في الحائط الشائك، وفي لحظات وجد العثمانيون أنفسهم محصورين داخل المدينة وكانت النتيجة مؤلمة؛ لقد استشهد معظمهم، وصدرت الأوامر بالانسحاب الكامل لقوات الأناضول، وبهذا تكون انتهت المهمة الثانية من الهجوم النهائي.
كان السلطان يعلم أن النجاح برمته يتوقف على الموجة الأخيرة، وأنه في حال فشلها فإن الجيوش العثمانية تنسحب كلها على الأغلب وتعود إلى نقطة الصفر، ولكن مع خطورة هذا الموقف دفع السلطان بنفسه إلى رجاله الإنكشارية وخاطبهم بقلبه وعقله قائلًا: “أيها الأصدقاء لقد امتلكنا! المدينة مدينتنا، إنهم بالفعل يهربون منا، إنهم لا يستطيعون الثبات أكثر من ذلك، لقد صارت الأسوار خالية من المدافعين. إن الأمر يحتاج إلى قليل من الجهد وسوف تؤخذ المدينة. لا تضعفوا، ولكن اعملوا بكل طاقتكم، كونوا رجالًا، وأنا سأكون معكم”.
هذه الكلمات تأكيد واثق أن النصر متحقق، وتبرير عقلي أن القضية محسومة، واستنهاض كامل للهمم، ومشاركة تُلهب حماس الرجال، ثقة في الله بالنصر ويقين فيه، هكذا الأبطال ثقتهم في الله تفوق الخيال.
الموجة الثالثة
وبدأت فرقة الإنكشارية بالتحرك، كانت حركة الإنكشارية مختلفة عن حركة الجيوش العثمانية السابقة، كانوا يتقدمون بهدوء عجيب، وبصفوف غاية في النظام، وبصيحات واثقة ثابتة.
سُمعَتُهم معروفة في أوروبا، وصيتُهم ذائع في كل مكان! يقول المؤرخ الأمريكي توماس مادين:
لأسباب جيدة لم يكن ينظر نصارى أوروبا إلى الإنكشارية إلا بكامل الرعب والفزع.
هجم الإنكشارية بضراوة على الأسوار دون أي تردد، وكان هجومهم على مساحة واسعة منها لتشتيت المدافعين، وسرعان ما ثبتوا سلالمهم على الأسوار، وبدأوا في الوصول إلى المنصة بين الأسوار الداخلية والخارجية، ومع بزوغ النهار كان ثلاثمائة من الإنكشارية قد وصلوا إلى المنصة ودار قتال عنيف بينهم وبين الحامية البيزنطية والإيطالية التي كانت تحت قياده الإمبراطور وجوستييناني، وكان القتال سجالًا، وفي هذه الأثناء نسي أو فشل أحد الجنود في إغلاق بوابة مهجورة منذ سنين تسمح بالدخول إلى القسطنطينية في إغلاقها في وقت قريب من أحداث القتال.
وبالتالي لاحظها بعض الجنود العثمانيين وسرعان ما تسللوا إليها وصعدوا على سلالم البرج حتى وصلوا إلى أعلى الأسوار، ونزعت الأعلام البيزنطية ورُفع العلم العثماني لأول مرة فوق أسوار القسطنطينية، رأى الإنكشارية الراية وهم يقاتلون فصاحوا بأصوات عالية: “لقد أخذنا المدينة” وازدادت ضراوة القتال وأصيب القائد الغنوي شديد الأهمية چوستينياني!
وكانت هذه نقطة تحول في المعركة؛ حيث طُلب من الإمبراطور مفاتيح البوابة ليُحمل داخل المدينة، وحينها أسرع رجال الإنكشارية لاغتنام الفرصة؛ فاندفعوا بالآلاف نحو البوابة، ولم يجدوا مقاومة تُذكر عند صعودهم الأسوار.
وكان هذا الدخول عند شروق الشمس مباشرة، وحدثت حالة من الذعر الشديد إذ انطلق الكثيرون ينادون في الشوارع “لقد أُخذت المدينة”. وأسرع الجنود العثمانيون ليفتحوا بقية الأبواب لتنهمر جموع الجيش العثماني داخل المدينة!
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)
ختامًا
هكذا انتهت قصة بطل أبى إلا أن يصنع للإسلام عزًا، أراد أن يحجز لنفسه مكانًا فوق سوامق القمم، أبى أن يعيش على هامش التاريخ، أراد أن تكون حياته ذات معنى، ذات مغزى، ذات هدف، لقد مات ولكن أثره مازال حيًا لم يمت، صار رجلًا صنعه الإسلام، وصنع للإسلام مجدًا.
فلنكن فتحًا لقلوب الناس، لطفًا على أنفسهم، رحمة بهم، فإن لم نستطع فتح الأمصار فإننا نستطيع فتح القلوب لدين بإذن الله.
المصادر
كتاب قصة السلطان محمد الفاتح، د. راغب السرجاني.
كتاب قصة السلطان محمد الفاتح