الخلافة، تصحيح مفاهيم!
لم يعرف مفهوم من المفاهيم الإسلامية تشويهًا وتحريفًا بقدر ما عرفه مفهوم “الخلافة”، خاصة في العقود التي أعقبت سقوط آخر كيان إسلامي رفع شعارها قبل قرن من الزمن. ومقالنا اليوم محاولة بسيطة ترمي لإعادة الروح لهذا المفهوم العظيم وإزالة ما لحقه من تشويه ممنهج من خصومه، وسوء فهم من بعض أنصاره، فريق سعى جاهدا لشيطنة الخلافة عبر تصورات جائرة، وآخر اختزلها في مرحلة مقتطعة من التاريخ وحصرها في صور رمزية لا تخلو من السطحية والسذاجة! هذا هو التحدي الذي علينا رفعه اليوم في سبيل التمهيد لبعث أعدل نظام عرفته البشرية، التي خسرت الكثير بغيابه عنها.
ما هي الخلافة؟
الخلافة في لسان العرب من الجذر اللغوي (خلف)، وهي أن يقوم شخص مقام آخر وينوب عنه في بعض شأنه. أما اصطلاحًا فقد عرّفها علماء الإسلام بكونها رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ورد اللفظ بلواحقه في القرآن الكريم عديد المرات، تأكيدًا على أهميته وتعلقه بمبدأ وجود الإنسان على هذه البسيطة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة) (البقرة: 30).
كان آدم عليه السلام أول خليفة من بني البشر على هذه الأرض، ثم توارث الأنبياء والصالحون من بعده خلافة الله في أرضه على مر العصور. والاستخلاف منوط بالأرض، خلقها الله تعالى لتكون مستقر الإنسان (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ)، نجاحه في مهمة الاستخلاف مقترن بمدى قيامه بأعبائها، ويا سعدَ من أدّى حق الأمانة وصان الوديعة! ولأن الاستخلاف مؤقت (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة: 36)، فارتباطه بالأرض يعني نهايته بزوالها أو بالتقصير في أداء حق الله فيها، ويا ويح من فرّط فيه وضيّعه. وهناك مفهوم آخر مهم يؤدي نفس المعنى ألا وهو “وراثة الأرض”، فهذا اللفظ قد ورد في محكم التنزيل أيضا للدلالة على أحقية الإنسان الصالح بوراثة الأرض وعمارتها في قوله الكريم: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ یَرِثُھَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105). بمقتضى هذه السنة الإلهية العظيمة حلّ أقوام صالحون محلّ الفاسدين، وورثوا الأرض عنهم وخلفوهم فيها.
والخلافة نوعان: عامة وخاصة، وإذا عرفنا الفرق بين النوعين فستبطل كل تصورات خاطئة أو قاصرة أصابت هذا المفهوم، أما المعنى العام الذي استعصى على الأنصار قبل الخصوم، فبدأ بأبينا آدم عليه السلام، واستمر حتى آخر خليفة قبل قرن من الزمن (باستثناء الفترات التي شهدت فيها الأمة ميلًا عن الجادة لأسباب متعددة كانقطاع الوحي أو غياب القادة المصلحين، أو الوقوع تحت ظرف احتلال خارجي). كما أن نظامه واحد ورابطته العقدية واحدة، مصدره واحد هو الوحي الإلهي الخالد، مقياس صلاحه وفساده واحد هو الشريعة الإلهية، تاريخه واحد تتوالى فيه الأمم وتسلّم كل أمة مشعل الهداية والقوامة على وحي الله تعالى والقدرة على تحقيق الغاية الإلهية من الخلق للأمة التي تليها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام: 165).
فحين كذب قوم نوح عليه السلام نبيهم واستضعفوه ومن معه استخلفه الله وقومَه (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (يونس: 73).
وهذا هود عليه السلام يدعو قومه ويذكّرهم بما حدث لقوم نوح فيقول: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (الأعراف: 69)، فلما يئس من إصلاحهم قال لهم: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود: 57).
وهذا صالح عليه السلام يُذكّر قومه بما أنعم الله عليهم إذ جعلهم خلفاء من بعد عاد، ويحذرهم عاقبة الفساد في الأرض (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الأعراف: 74).
وقد حذر الله عز وجل هذه الأمة أن تتشبه بمن سبقها من المفرطين فقال عز وجل: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران 105.
ننتقل إلى المعنى الخاص، فنبدأ من حيث انتهت إليه آخر رسالة سماوية، فدول الإسلام التي تعاقبت بعد وفاة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، رغم أنها عرفت أشكالاً متعددة من المَلَكية الوراثية في معظم تجاربها بدءًا بالأمويين ثم العباسيين وانتهاء بالعثمانيين، وعلى ما في هذه النماذج من سلبيات، إلا أنها احتفظت بروح الخلافة، فلم تُلغَ الشريعة الإسلامية، ولم يَغِب الوحي الإلهي عن سدة الحكم ومنصة التشريع، ويؤكد ذلك العلامة ابن خلدون رحمه الله في شهادته: (فقد رأيتَ كيف صار الأمر إلى المُلك، وبقيت معاني الخلافة من تحرّي الدين ومذاهبه، والجري على منهاج الحق). ولعل أوضح مثال على ارتباط المسلمين بهذا المفهوم وحرصهم على تطبيقه ووعيهم بأهميته الدينية والدنيوية، ما قام به المماليك بعد سقوط بغداد بسنوات حين أعادوا تنصيب “خليفة عباسي”، رغم أنهم كانوا القوة السياسية والعسكرية الأولى في هذا العصر، ومع ذلك حرصوا على اجتماع المسلمين حول خليفة لهم ولو بشكل رمزي، وتسجل كتب التاريخ كيف كان ذلك اليوم أشبه بيوم العيد لما أبدى الناس من مظاهر الفرحة والسرور، إذ لم يحدث قبل ذلك التاريخ أن غاب منصب الخليفة عن واقع المسلمين لقرون.
الخلافة بين التكليف الإلهي والشرط الرباني
من جملة المفاهيم الباطلة، الزّعم بأن الخلافة إنما يقصد بها “عمارة الأرض”، وهذا فهم سقيم، لأنها ستصبح في هذه الحال “منحة” أو “هبة” ينالها من هبّ ودبّ! وغاب عن أصحاب هذا الزعم أن الله تعالى وضع شروطًا أساسية يجب أن تتوفر في خليفته، فالاستخلاف إنما يكون على الوجه الذي يقرره صاحب الملك الأصلي، وهو الله تعالى القائل: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (النور: 56)، وذلك تأكيد على أن الاستخلاف منوط بتحقيق العبودية لله وحده، والسمع والطاعة لرسوله في معادلة بسيطة: إيمان بالله وعمل صالح، يقتضى الفوز بالوعد الإلهي: استخلاف، وتمكين، فأمان!
ذلك وعد الله تعالى الذي تجسد مع نبي الله الخاتم صلى الله عليه وسلم، حين أدى الأمانة وبلّغ الرسالة، وانتقل الوعد الإلهي إلى أصحابه الميامين من بعده حين خلفوا نبيهم وحملوا رسالة التوحيد لمختلف أصقاع العالم، ونصروا الله فنصرهم، ودانت لهم العرب والعجم، وأبدلهم الله عزاً بعد ذل وأمناً بعد خوف، وقوةً بعد ضعف: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 40-41)، ومن أصدق من الله وعداً؟
وبالمثال يتضح الحال، هَبْ أن صاحب دكان مثلًا قد استخلفك على رزقه بعض الوقت، واطلعك على أسعار السلع وكل ما يتعلق بتسيير المحل، فهل يحق لك أن تتصرف في شيء من الأسعار بالزيادة أو النقصان؟ طبعًا سيكون جوابك الرفض -إن كنت أمينًا طبعًا- ثم لنفرض أنك كمُسْتَخلَف قد أسأت التصرف في ملكية المالك أو أخللت بأحد شروطه، أليس من حقه أن يستغني عنك ويستبدلك بمن هو أقدر منك وأكفأ؟ وسيكون جوابك بالإيجاب -إن كنت نزيهًا أيضًا- ولله المثل الأعلى والحكمة البالغة! هذا رد بسيط على من اغتر بنفسه الضعيفة وظن أنها أقدر على التصرف بمعزل عن الإطار الذي حدّده العليم الخبير!
هل في الإسلام نظام حكم؟
سؤال تكرّر كثيرًا، انبرى له علماء المسلمين منذ القرن الثالث الهجري، بيّنوا طبيعة نظام الحكم في الإسلام وعدّدوا أحكامه وشروطه، لدرجة أنهم لم يدعوا لنا شيئًا إلا سبقونا إليه تبيانًا، لكن الفرق بين علماء الأمة الأوائل وبيننا نحن المتأخرون هو اختلاف الظروف السياسية للأمة، لأنهم عايشوا مفهوم الخلافة عن قرب ولامسوه في واقعهم، وهو العامل الذي لم يتوفر لدينا.
يدّعي خصوم الخلافة بأن الإسلام لم يضع شكلاً محدّداً لنظام الحكم، وزعموا أن دولة الخلافة الراشدة التي قامت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، إنما جاءت باجتهاد شخصي من الصحابة الأولين لا يُلزم من يأتي بعدهم! وهذا القول العجيب هو قول من لم يَعِ حقيقة الاستخلاف ولا معنى الخلافة أصلًا! هل يعقل أن الإسلام الذي ضبط أدق تفاصيل حياة المسلم، وبيّن أحكاماً تفصيليةً لأبسط معاملاته اليومية، ووضع آدابًا للطعام والكلام والنوم وحتى للعلاقة الزوجية، أيعقل أن يغفل عن رأس الأمر الذي يضبط للمسلم نظام حياته كلها؟
لقد بيّن الرسول عليه الصلاة والسلام أهمية وجود رأس للنظام يضبط الأمور ويرضاه الناس حكمًا، سواء عظُم الشأن أم صغر، فنصّ على ضرورة تنصيب أمير حتى وإن اقتصر الجمع على ثلاثة نفر: (لَا يَحِلّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُم)، إن كان هذا في الاجتماع اليسير فما بالكم بما هو أكبر من ذلك كولاية أمر الناس والقيام بأمور دينهم ودنياهم!؟ وعلى هذا المنوال نسج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: (يجب أن يُعرَف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها)، وهذا ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون حين قال في مقدمته: (إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا دالًا على وجوب نصب الإمام).
والرسول صلى الله عليه وسلم أقام وترأس أول “دولة إسلامية”، فبعد ظهور هذا الدين على من عاداه، بدأ نبي الله بتشييد أركانها. فعلى الصعيد الاجتماعي أسس مجتمعًا إسلاميًا متماسكًا أصلح فيه بين المتنازعين، وآخى بين الأنصار والمهاجرين، وبيّن الحقوق والواجبات، وأقام الحدود الشرعية. عسكريا، نظّم الجيوش وعقد الألوية لنشر دينه والذود عن دولة الإسلام الفتية، وفي السياسة، أرسل الرسل والسفراء إلى ملوك الأمم المجاورة، وعقد الاتفاقات والعهود، ورتب أحكام الحرب والسلم. في الاقتصاد، تولى بيت مال المسلمين وتصرف فيه كما أمر الله عز وجل، وفي الإدارة، عيّن الأمراء والقضاة لتدبير شؤون المسلمين، وغير ذلك من مظاهر الدولة ووظائف الرئاسة. يؤكد ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: (ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا).
لم تكن إقامة الدولة هي الهدف الأسمى، إنما هي وسيلة لازمة من لوازم هذا الدين الذي لا يتم إلا بها.
وحين يزعم الخصوم أن الدعوة إلى إقامة الخلافة دعوة مثالية غير واقعية، فإن أول من يكذبهم هو التاريخ الذي وثّق وشهد على تجسّد هذا النظام بكل خصائصه لما يربو عن ألف عام، فكيف يمكن إنكار تجربة ثبت نجاحها وتفوقها تاريخيا؟ بل إن هذه التجربة الثرية والراسخة في جذور أمتنا هي موضع احتجاج المسلمين على خصومهم وليس العكس!
خلافتنا… لا ديمقراطيتهم!
يصرّ خصوم الخلافة على استحالة تطبيقها بمقاييس العالم الحديث، ويصرون على الربط بينها وبين النظم الاستبدادية التي عاشتها أوروبا في عصورها المظلمة، ولأنهم يربطون تحرّر أوروبا من قيود الجهل والانحطاط بتحررها من سلطة الدين الممثل بالكنيسة -وذلك أمر ثابت تاريخيًا- يصرّون أيضا على أن الحلّ الأوحد للخروج ببلادنا من واقعها المتخلف، يكون بتطبيق التجربة الأوروبية بحذافيرها وبنفس أدواتها، أي: بالقيم والمبادئ التي انبثقت عن الثورة الفرنسية كالعلمانية والليبرالية والمواطنة وغيرها، وهذا قياس فاسد ينمّ عن جهل صارخ! لأنهم وقعوا في فخ القياس على تجربة بشرية مختلفة في واقع سياسي واجتماعي مختلف وظروف دينية وفكرية مختلفة تماما، ولم يدركوا طبيعة حضارتنا الإسلامية وتفردها، فديننا لم يحارب العلم ولم يجرّم العلماء، لأنه الدين الذي أمر بطلب العلم وحثّ على إعمال العقل والتفكر والتدبّر، وما أقلعت حضارتنا الإسلامية وأنارت العالم إلا بوقود هذا الدين، وما أفل نجمها إلا بنبذ تعاليمه وتحجيم أثره في حركة الحياة. فما لهم كيف يحكمون؟
ويحاول البعض تمرير فكرة التطابق بين الديمقراطية ونظام الحكم في الإسلام، بل ويجعلونها من الدين حين يقرونها بمبدأ الشورى! لا ننكر وجود شبه طفيف في بعض آليات الممارسة كالانتخاب والرقابة واستقلالية السلطات وغيرهما، لكن ما يفرق بن الفكرتين أكبر وأعمق وهو كالآتي:
- اختلاف المصدر: فالشورى تشريع رباني خالص، شرعه الله تعالى وحيًا: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38). أما الديمقراطية فنظام وضعيّ بشري انبثق من ظرف تاريخي وسياسي واجتماعي خاص.
- الخبرة والتخصص: فالشورى تأخذ رأي العقلاء من أهل العلم والاختصاص، ويطلق عليهم “أهل الحل والعقد”. أما الديمقراطية فلا اعتبار فيها لما سبق، بل الكل مدعوّ لإبداء رأيه، العالم والجاهل، الحليم والسفيه، الصالح والطالح، والرأي رأي الأغلبية والأكثرية كيفما كان الأمر، وذلك تحت شعار المساواة المطلقة.. والظالمة! كيف تكون المساواة مبدأ ظالما؟ قد يسأل سائل، فنقول: المساواة بين رأي العالم والجاهل هي منتهى الظلم، بل قد يرجح قول الجاهل على العالم، وهذا يجعلها مساواة من يستحق بمن لا يستحق، حقيقة يقرّها المولى عز وجل في قوله: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9).
- تباين المرجع: فالشورى مقيدة بنصوص الوحي (الكتاب والسنة)، لا تحيد عنهما ولا تتجاوز أحكامهما، وترجع إليهما إذا طرأ الخلاف. أما الديمقراطية فلا ضابط ولا معيار لها تحتكم إليه، الاعتبار كله بقول الأكثرية الذي قد يتناقض ويتضارب من حين لآخر، لغياب مرجعية دينية أو أخلاقية واضحة.
لكن هؤلاء ما انفكّوا يواجهوننا بالقول إن التاريخ الإسلامي شاهد على استعانة المسلمين بتجارب غيرهم من الأمم، كاقتباسهم نظامي الدواوين والبريد من الفرس، فما يمنعنا من الاستعانة بتجارب الغرب وأنظمته التي حققت رفاهيته؟ نعم، لقد اقتبس المسلمون من تجارب الحضارات المجاورة “نُظُم إدارة”، لأنهم كانوا حديثي عهد بالنظام وإدارة الدولة التي ما عرفوا لها طعمًا إلا في عصر النبوة، إذ كانوا قبل ذلك في قبائل متفرقة لا تقيم وزنًا لنظام ولا لسلطة عليا يحتكمون لها مكتفين بالأعراف القبلية والعشائرية. لكنهم لم يقتبسوا “نُظُم حكم”! ذلك أن الإسلام متفرّد ومتميز بنظام فريد لم يُعرف في الشرق ولا في الغرب، هو نظام الخلافة! نظام تكون فيه السيادة لشرع الله وحده، والسلطان للأمة. وشتان بين الأمرين!
الخلافة الإسلامية هي المؤسسة التي تضبط حياة الناس ضمن إطار العقيدة الإسلامية وتقوم عليها من ألفها إلى يائها، تمامًا كما تقوم حياة الفرد المسلم على العقيدة الإسلامية التي حددها الله تعالى القائل: (قُل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتيَ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، نفهم من هذا التوجيه الرباني أن كل ما يتعلق بنظام الحكم من دساتير وقوانين وتشريعات وأحكام وعلاقات إنما ينبثق من الكتاب والسنة، وبهذا التأصيل تسقط تصورات فاسدة نادت بها النظم الغربية وتلقفها المسلمون دونما تمحيص، ودون أن يأخذوا بالاعتبار اختلاف الظروف التاريخية وتباين طبيعة المجتمعات في الشرق والغرب، فنتجت أنظمة ممسوخة مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، لا هي حققت الرفاهية والعيش الكريم لشعوبها، ولا هي حافظت على قيمها وأصالتها وهويتها!
اطمئنوا، الخلافة ليست كهنوتا!
حتى لا يُفهم أن نظام الخلافة الإسلامية “نظام ثيوقراطي”، أو يؤسس لدولة دكتاتورية “كهنوتية” بالمفهوم الكنسي، فلا بد أن نبيّن أن نظام الخلافة الإسلامية على النقيض من ذلك تماماً، فحكومة رجال الدين التي كانت سائدة في أوروبا لم يعرف لها الإسلام وجودًا حتى في عهده الأول، بل إن مصطلح (رجال الدين) دخيل على ثقافتنا الإسلامية أصلًا!
والحكم في الإسلام أساسه الشورى، مبدأ إسلامي أصيل أفرد له الله تعالى سورة كاملة باسمه، مبدأ قرره الله تعالى كما سبق بيانه، ونظام الخلافة اختيار وبيعة وشورى، وهو نظام يقوم عليه بشر ينتخبون من بينهم إماماً تنطبق عليه صفات شرعية محددة، يبايَع على الحكم بما أنزل الله في كتابه العزيز، وبيّنه نبيه في سنته الشريفة. ولا سلطة مطلقة ولا حصانة دبلوماسية لهذا المنتخب، إن أصاب يُشكَر، وإن أخطأ يُنصَح، وإن أصرّ على خطئه يُقوّم، وإن أصاب حدّاً يُقام عليه الحدّ، وإن زاغ يُعزَل… لأن السلطان بيد الأمة، الحاكم مسؤول أمامها، وهي رقيبة على عمله. ولا يملك الحاكم ولا المحكوم حق التشريع لأنه حق إلهي. كما لا يملك الحاكم حق التصرف المطلق في المال العام كما لو كان مالكاً له، إنما هو وكيل وأمين عليه فقط، لا يتصرف فيه إلا وفق ما أجازته الرعية في إطار الشرع، لقاء أن يُصرَف له ما يكفيه ويغنيه عن الاشتغال بأي نشاط يشغله عن أمر الناس.
لا عصمة لحاكم إذاً، فالسيادة للشريعة، الكل يخضع لها حاكماً ومحكوماً، والسلطان للأمة وعلى رأسها نخبة العلماء والمصلحين وذوي الرأي والمشورة. ولنا في سيرة خير الورى القدوة والأثر، إذ لم يستأثر بالحكم دون أصحابه، ولم ينفرد بصناعة القرار حتى في أحلك الظروف، فتراه يشاور أصحابه في شؤون السلم والحرب، وهو النبي المعصوم المؤيد بالوحي! ثم لنا في سيرة الخلفاء الراشدين خير المثال، فهذا أبو بكر أفضل الناس يومئذ يقولها: “وُلِّيتُ عليكم ولستُ بِخيركم، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”، وهذا خليفته الفاروق يقول على منبره: “إن رأيتم فيّ اعوجاجًا فقوّموني”… لم تكن مجرد شعارات براقة رفعوها، بل تجسدت حرفيًا على أرض الواقع، وشواهد ذلك كثيرة في تاريخنا الحافل.
ثم ألم تُغَيّب الخلافة الإسلامية عن بلادنا منذ قرن من الزمن؟ ألم تُقْصَ شريعة الإسلام من الحكم والتشريع؟ ألم يحلّ محلها أنظمة تغنّت بالديمقراطية وتدثّرت بالعلمانية لا زالت تحكم إلى يومنا هذا؟ ألم ترفع شعارات من قبيل “الشعب مصدر السلطة” و”السيادة للشعب”، دون أن يكون لمعناها أدنى أثر في واقعنا؟ بل ما عرفنا سوى الاستبداد والفساد والذل والشقاء والتبعية واستئثار الأقليات بثروات الأغلبية، وما عشنا سوى الخيبات والنكسات وضياع المقدسات! لأن الأمة سقطت رهينة نظام دخيل عليها، نبتة خبيثة غُرست في أرضها بقوة الحديد والنار، ومن ذا الذي يجني من الشوك العنب!
أليست هذه مدة كافية للارتقاء بشعوب الأمة وانتشالها من مستنقع التخلف والجهل الذي تتخبط فيه؟ ألم يقرؤوا في التاريخ عن دولة سادت العالم وأطاحت بإمبراطوريات عريقة في مدة لا تتجاوز الثلاثين عامًا؟ لا بأس بتذكير هؤلاء أن مدة عشر سنوات هي كل ما احتاجه خليفة من خلفائها ليقيم أعدل دولة عرفتها البشرية قاطبة، بينما كانت مدة سنتين كافية لخليفة آخر ليقدم للعالم أبهى مثال على دولة الحق والعدل والرخاء… وبشهادة الأعداء!
العمل للخلافة فرض لازم
يقول عز وجل: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة: 48)، هذا الأمر الرباني لنبيه الكريم إنما هو أمر لأمته أيضا، وهو تأكيد على أن إقامة الخلافة فرض واجب على المسلمين لأنها النظام الأوحد الذي يضمن إقامة الدين وتطبق الشريعة وصيانة كرامة الإنسان، وهذه أصل واجبات الاستخلاف. وقد أجمع علماء الأمة على وجوب العمل لإقامتها في حال غيابها، واستدلوا على ذلك بما فعله الصحابة الكرام حين قدّموا تنصيب الخليفة على دفن نبي الله عليه الصلاة والسلام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ بَعْدِي خُلَفَاءَ فَيَكْثُرُونَ” متفق عليه، فالخلافة هي ميراث النبوة، وقد بشر بها النبي المصطفى في حديثه الشهير الذي استعرض فيه مراحل الحكم في أمة الإسلام: “تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً رَاشِدَةً مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضّاً ثُمَّ يَرْفَعُهُ اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهُ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيّةً ثُمَّ يَرْفَعُهُ اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهُ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ سَكَتَ” رواه أحمد، لقد تحققت كل المراحل المذكورة في حديث من لا ينطق عن الهوى، باسثناء الأخيرة “ثم تكون خلافة”، وسكت المصطفى عندها ليدل على أنها مسك الختام بإذن الله.
هلمّوا يا إخوة الإسلام لنشارك ونسابق في بناء هذا الصرح الإسلامي العظيم.
المصادر:
- غياث الأمم في التياث الظلم / الجويني.
- الأحكام السلطانية والولايات الدينية / الماوردي.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية / ابن تيمية.
بارك الله فيك يا أخي وجزاك الله كل خير على هذا المقال الطيب .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياك الله وبارك بك أخي نائل
لا أظن أن “عدم جاهزية” الشعوب وصف دقيق، بل أراه “جهلا” من الشعوب بحقيقة الشريعة المغيبة منذ زمن بعيد، هذا الجهل كرسته المناهج التعليمية الفاسدة التي تشربتها شعوبنا على مدى عقود، فأنتجت قصورا في فهم حقيقتها وأصبحت ملاصقة لحدود قطع اليد والرجم والجلد وغيرها، ما جعل الناس ينفرون من هذا المصطلح للأسف!
وهذا يجعلنا ملزمين أكثر بالاجتهاد في تصحيح المفاهيم الفاسدة ونشر الوعي الصحيح والتربية الإسلامية القويمة حتى نهيئ الشعوب لعودة الشريعة لواقع حياتها، فلو عرفت الشعوب حقيقة الشريعة ووقر في أذهانها أن التحاكم إلى شرع الله هو مقتضى شهادة التوحيد، فسيسهل الباقي ويصبح تطبيق الشريعة مطلبا شعبيا، هذا ما نحاول الدفع باتجاهه عبر صفحات مجلتنا المتواضعة بعون الله وتوفيقه.
وإذا حدث وتشكلت حكومة إسلامية في قطر ما وسعت لتطبيق الشريعة الإسلامية فإنه لا يجوز لها أن تعرض شريعة الله لتكون محل استفتاء على الناس. أما الثورة المحتملة على دعوة تطبيق الشريعة واستبدالها بالقوانين العلمانية أراه أمرا غير منطقي، فالعلمانية ليست في موقع “البديل المحتمل” لأنها أصلاً مكرسة في سياسات أقطارنا الإسلامية منذ أول يوم غابت فيه الشريعة، وما عرفت شعوبنا مع العلمانية غير التخلف والذل والقهر، إذا فنحن من يجب أن يطالب بتنحية العلمانية لفشلها.. الشريعة حينها ستكون البديل.
لعل الصحوة الطفيفة في السنوات الأخيرة بداية مشجعة لأننا لمسنا عودة شعارات تطبيق الشريعة، في مقابل تنامي الغضب والحنق الشعبيين على أنظمة علمانية دكتاتورية بوليسية.
السلام عليكم
جزاكم الله خيراً للفائدة التي جنيتها من قراءة هذا المقال الغني أما بعد , فما هو ردكم على من يقول أن الشعوب الإسلامية ليست جاهزة لتطبيق شرع الله و قد تثور على من يطالب بذلك وتسبتدله بنظام علماني يبعد تلك الشعوب أكثر عن دينها ويفسد عقيدتها أكثر.