معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين

اقترن ذكر اسم معاوية بن أبي سفيان بالكثير من الجدل واللغط بين مترضٍ عليه أو غال فيه وبين ناقم عليه لا يملك كبح جماح غضبه عند سماع اسمه، وليس هذا وليد هذا العصر؛ بل كان ذلك منذ أزمان غابرة وتلقف هذا الأمر من بعدهم بعض من لديه مخططات -الله بها عليم- هنا و هناك يقلّبون صفحات الماضي ليجدوا أي موضع عثرة يسلطون أضواءهم عليه علّهم ينالون من هذا الدين العظيم، فتُرى من هو معاوية بن أبي سفيان؟

نسبه وصفاته

هو مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بنِ حَرْبٍ بْنِ أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبٍ، يشترك نسبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في جده عبد مناف، أسلم وقت عمرة القضاء وأعلن إسلامه يوم فتح مكة. والده أبو سفيان صخر بن حرب أحد أكبر سادة قريش وذاق منه المسلمين الويلات قبل إسلامه، لكنه أسلم يوم فتح مكة وحسن إسلامه وفقد عينيه في سبيل الله. والدته هي هند بنت عتبة التي كانت -قبل أن تدخل الإسلام- سببا في استشهاد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ثأرا لأبيها، وقد حسن إسلامها. ولا يضير أبا سفيان ولا هندا ما فعلوه قبل إسلامهم فإن الإسلام يجُب ما قبله وأولى من ذلك أن لا ضير على معاوية. أخته هي أم المؤمنين أم حببية بنت أبي سفيان زوج رسول الله. وقد كان معاوية طويلا أبيض اللون مهيبا مخضب اللحية، يشتهر بحلمه ودهائه وحنكته السياسية حتى أنه يُضرب به المثل في وزن الأمور فيقال «شعرة معاوية».

فضائله:

أعظم مكانة بشرية بعد النبوة هي صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد حازها معاوية، فقد صحب رسول الله وجاهد معه وروى عنه الأحاديث، وروى عن معاوية بعض كبار الصحابة وآل البيت مثل ابن عباس ومحمد بن علي بن أبي طالب. وقد دعا النبي له بالهداية ودعوة النبي مستجابة فقد أورد الألباني في سلسلته الصحيحة أنه ثبت عن رسول الله قوله عن معاوية «اللهم اجعله هاديًّا مهديًّا، واهدِ به»، كما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أَوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتي يَغْزُونَ البَحْرَ قدْ أوْجَبُوا، قالَتْ أُمُّ حَرامٍ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ أنا فيهم؟ قالَ: أنْتِ فيهم، ثُمَّ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لهمْ، فَقُلتُ: أنا فيهم يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا)).

وأول جيش غزا البحر في التاريخ الإسلامي كان بقيادة معاوية بن أبي سفيان في عهد خلافة عثمان بن عفان وكانت الوجهة جزيرة قبرص وقد فتح الله عليهم وكلمة «أُوجبوا» أي وجبت لهم الجنة. كما ائتمنه رسول الله على الوحي فقد كان مِن كتبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ورد في صحيح مسلم أن أبا سفيان قالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «يا نَبِيَّ اللهِ، ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ، قالَ: نَعَمْ، قالَ: عِندي أَحْسَنُ العَرَبِ وَأَجْمَلُهُن؛ أُمُّ حَبِيبَةَ بنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، أُزَوِّجُكَهَا، قالَ: نَعَمْ، قالَ: وَمُعَاوِيَةُ، تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بيْنَ يَدَيْكَ، قالَ: نَعَمْ، قالَ: وَتُؤَمِّرُنِي حتَّى أُقَاتِلَ الكُفَّارَ، كما كُنْتُ أُقَاتِلُ المُسْلِمِينَ، قالَ: نَعَمْ». 

كما أثنى عليه وعلى علمه جمع من الصحابة، فها هو ابن عباس -حبر الأمة وترجمان القرآن- يشهد له بالفقه فقد قيل له : «هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ، قال: إنه فقيه»، كما كان موضع ثقة لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ولاّه على الشام، ومعلوم عن عمر شدته في الحق وحرصه وتثبته من عدالة من يؤمِّره على المسلمين، وقد تلاه عثمان بن عفان وجدد الثقة في معاوية أميرا على الشام. وعلى هذا النهج كان ابن عمر -رضي الله عنه- فقد قال: «ما رأيت بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم– أسود من معاوية، قيل : ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه، وكان هو أسود من عمر» رواه الخلال في السنة بسند صحيح. ومعنى أسود قيل: أسخى وأعطى للمال، وقيل: أحكم منه. ومن فضائله تنازل سبط رسول الله الحسن بن علي -رضي الله عنه- له عن الحكم حقنًا للدماء وتوحيدًا لكلمة المسلمين مصداقًا لما أخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته؛ كما ورد في صحيح البخاري أن أبا بكرة بن الحارث قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -والحسن إلى جنبه- ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة، ويقول ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين». وعُرف معاوية بالعدل بين رعيته، وأحبه أهل الشام، وقد فتح الله على يديه أمصارا عدة وحاصر القسطنطينية لكن لم يتمكن من فتحها لقوة حصونها وتوفر مؤنها بداخلها، وقد حاول كثير من الحكام المسلمين بعده فتحها ولكن لم يتيسر ذلك لهم حتى فتحها السلطان محمد الفاتح، ولا ينسى التاريخ أن معاوية كان مؤسس أول أسطول بحري إسلامي والذي كان نواة لقوة المسلمين الضاربة في العصور التالية التي مكنتهم أن يجعلوا البحر المتوسط أقرب بحيرة إسلامية.

موقف الفرق المختلفة من معاوية

بعد مقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان، كانت بيعة الخلافة لعلي بن أبي طالب والذي كان يرى تأخير أخذ ثأر عثمان، وعلى الجانب الآخر طالب بعض المسلمين بدم عثمان وكان على رأسهم معاوية بن أبي سفيان كوليٍّ للدم لقرابته بعثمان، وبايعه أهل الشام على الإمارة لأخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان، وبهذا تفرّق المسلمون.

يقول الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء:«وَكَانَ النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّيْنَ عَلَى أَقسَامٍ:

أَهْلُ سُنَّةٍ: وَهُم أُوْلُو العِلْمِ، وَهُم مُحِبُّوْنَ لِلصَّحَابَةِ، كَافُّوْنَ عَنِ الخَوضِ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُم؛ كسَعْدٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بنِ

سَلَمَةَ، وَأُمَمٍ.

ثُمَّ شِيْعَةٌ: يَتَوَالَوْنَ، وَيَنَالُوْنَ مِمَّنْ حَارَبُوا عَلِيّاً، وَيَقُوْلُوْنَ: إِنَّهُم مُسْلِمُوْنَ بُغَاةٌ ظَلَمَةٌ.

ثُمَّ نَوَاصِبُ: وَهُمُ الَّذِيْنَ حَارَبُوا عَلِيّاً يَوْمَ صِفِّيْنَ، وَيُقِرُّوْنَ بِإِسْلاَمِ عَلِيٍّ وَسَابِقِيْه، وَيَقُوْلُوْنَ: خَذَلَ الخَلِيْفَةَ عُثْمَانَ.

فَمَا عَلِمتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ شِيْعِيّاً كَفَّرَ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ، وَلاَ نَاصِبِيّاً كَفَّرَ عَلِيّاً وَحِزْبَهُ، بَلْ دَخَلُوا فِي سَبٍّ وَبُغْضٍ، ثُمَّ صَارَ اليَوْمَ شِيْعَةُ زَمَانِنَا يُكَفِّرُوْنَ الصَّحَابَةَ، وَيَبْرَؤُوْنَ مِنْهُم جَهلاً وَعُدوَاناً، وَيَتَعَدُّوْنَ إِلَى الصِّدِّيْقِ -قَاتَلَهُمُ اللهُ-. وَأَمَّا نَوَاصِبُ وَقْتِنَا فَقَلِيْلٌ، وَمَا عَلِمتُ فِيْهِم مَنْ يُكفِّرُ عَلِيّاً وَلاَ صَحَابِيّاً» .

ولم يختلف الأمر كثيرا في عصرنا هذا عن العصر الذي عاش فيه الإمام الذهبي -رحمه الله- كما سنبين فيما يلي:

موقف الشيعة

تطاول غالب الشيعة في زماننا على معظم الصحابة ونال معاوية النصيب الأكبر، فقد أخرجوه من حياض الإسلام ونعتوه بالكفر وهو ما لم يفعله علي بن أبي طالب نفسه الذي كان يقاتله، بل على العكس كان يقر له بالإيمان، فقد أورد ابن تيمية في كتابة (حقوق آل البيت) عن أميرِ المؤمنينَ علِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ أنَّهُ لما قاتل أهلَ الجملِ لم يَسْبِ لهم ذُرِّيَّةً، ولم يغنم لهم مالًا، ولا أجهَزَ على جريحٍ، ولا اتَّبَع مُدبِرًا، ولا قتل أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلى الطَّائفتينِ بالجمَلِ وصِفِّينَ، وقال: «إخوانُنا بَغَوْا علينا»، ولا تعجب إذا رأيت الكثير من النصوص التي ألفها متعصبو الشيعة لينالوا من معاوية وجميعها أحاديث لا تصح.

موقف النواصب

على الجانب الآخر، ترى النواصب يرون أن الحق كان مع معاوية ويرفعونه فوق قدره وهو على خلاف ما يقوله معاوية نفسه، فمعاوية يعلم أنه ليس أفضل من عليٍّ ولا هو أولى منه بالخلافة وهذا نراه جليا فيما ذكره الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري) «وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْن سُلَيْمَان الْجُعْفِيُّ أَحَد شُيُوخ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب (صِفِّين) فِي تَأْلِيفه بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة أَوَ أَنْتَ مِثْله؟»، قَالَ: «لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَان قُتِلَ مَظْلُومًا وَأَنَا ابْن عَمّه وَوَلِيّه أَطْلُب بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَع لَنَا قَتَلَة عُثْمَان».

فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: «يَدْخُل فِي الْبَيْعَة وَيُحَاكِمهُمْ إِلَيّ…».

موقف أهل السنة والجماعة

طالما كان أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية لتمسكها بما كان عليه الرسول وأصحابه من الوحيين، فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فكيف لقلب مسلم أن يحمل غلا لصحابي من صحابة رسول الله؟! وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ))، والصحابة كلهم عدول وفي مرتبة أعلى ممن سواهم مهما علا فضل غيرهم فقد سئل عبد الله بن المبارك رحمه الله أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلَّى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا ؟ ووعى علماء السلف غرض معظم الطاعنين في الصحابة فيقول الإمام النسائي:« إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام: الصحابة، فمَن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام؛ كمَن نَقَر الباب إنما يريد دخول الدار».

مسلسل معاوية

أطلت علينا شبكة mbc هذا العام بإعلان عن عمل درامي يدور حول الصحابي معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- ولا يخفى على قريب أو بعيد توجهات القائمين على الإعلام في بلادنا العربية للأسف! وهو ما جعل الجمهور المسلم متوجسًا من هذا العمل الدرامي لأنهم اعتادوا من نفس الإعلام على تشويه كل متدين والاستخفاف بكل ما يبدو عليه الطابع الديني عموما والإسلامي خصوصًا فما بالك إذا كان ذلك المتدين صحابيًا! بل إن فكرة تجسيد ممثل للصحابي عليها انتقادات كبيرة من علماء الشريعة والجمهور العام، فعلماء الشرع تدور معظم آرائهم حول حرمة هذا الفعل لا سيما وأن ذلك الممثل لن يقتصر عمله التمثيلي على هذا الدور بل يمكن أن يقوم -أو أن يكون قام بالفعل- بأي دور آخر يلعب فيه دور الرجل الفاجر أو الفاحش مما يتسبب في صورة ذهنية للمشاهد وربط لا واعٍ بين الشخصيتين، ناهيك عن أحداث الفتنة الشائكة التي منهج أهل السنة فيها هو السكوت عنها وعدم الخوض فيها! فالله نسأل أن يحفظ الإسلام والمسلمين من كيد الكائدين.

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى