الإعلام بين المهنية والتضليل
من المفترض أن العملية الإعلامية بشقيها (الإعلاميون والجمهور) قائمة على المهنية والمصداقية، ومنها اشتق اللغويون كلمة «إعلام» التي تعني الإخبار وتندرج تحت مظلتها عمليات نقل الخبر وتحليله وتقيمه بل وبناء التوقعات المستقبلية والاحتمالات التتابعية .. وهذا بالطبع من شأن الإعلاميين، أما شريحة الجمهور فيقع عليها مسئولية توظيف هذه الوجبات الإعلامية والمدد المعرفي توظيفا عمليا يعود عليها وعلى مجتمعها بالخير والبركة.
إن الإعلام نوع من الشراكه بين طرفين: مرسل/ إعلاميون , متلقي/الجمهور .. وهي كأي شراكة تحتاج لكافة المعايير القيمية والأخلاقية والمهنية، كما في الحديث النبوي الشريف: (إن الله تعالى يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما) [أبو داود] .. فقوله: (ثالث الشريكين) أي بالمعونة وحصول البركة والنماء، بشرط الأمانة وذلك لأن كلاً منهما يسعى في نفع صاحبه، واللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما). [متفق عليه]
إذا مكمن الخطورة في انسلاخ الرسالة الإعلامية عن مضمونها الإنساني والمعرفي، وتحويل مسارها الطبيعي والأخلاقي في نقل الوقائع والمعرفة إلى منحى خاص يخدم أهداف معينة ويتبنى أجندات خاصة، خصوصاً –كما يقول أ. عماد أحمد- وأن رؤوس الأموال التي تقف وراء الكثير من الوسائل والرسائل لم تعد حكراً على استثمارات تجارية أو اتجاهات سياسية، بل أن بعضها يعتمد على أموال ذات مصادر دينية أو طائفية أو استخباراتية أو حتى إرهابية خطيرة، ومن أجل الحصول على أصوات داعمة، تلجأ هذه المصادر إلى نزع الإعلام من سياقه الإخباري واستخدامه كسلاح فعّال وكفخ محكمٍ للاصطياد، متخذة الدعاية والتضليل والحذف والقص والتقزيم والتضخيم وجلد المتلقي كذباً والتلاعب بالصورة .. أدوات لتحقيق مآربها ودس سمومها في عقلية ونفسية المتابع لما يُعرض عن الحدث.
سياسة التضليل الإعلامي
– التضليل بالعبث بالمضمون والثوابت:
مثل ظهور شخصيات هامشية مشبوهة وتبوئها مراكز الريادة والتوجيه، وتقديمها تحت مسميات من قبيل: “الباحث، والخبير الاستراتيجي، والخبير في شؤون كذا، والمفكر، والإسلامي المستنير”. هذه الشخصيات لا هم لها إلا العبث بمفاهيم أساسية وراسخة في الوعي الجماهيري مثل مفاهيم: “المقاومة، التحرير، الانتفاضة” ومحاولة تغيير دلالاتها وتفسير محتواها الحقيقي على أنه إرهاب وعنف وتطرف. أيضا شيطنة التيار الإسلامي وبث الرعب تجاه مصير الفنون والثقافة والحريات في حالة تسلمهم زمام السلطة، ومنها كذلك تمييع قضايا الهوية والمواطنة والانتماء.
– الحرب النفسيَّة:
وتشمل الإحصائيات واستطلاعات الرأي غير الحقيقية، والتلاعب بالصور، والحوارات الموجهة، وتشمل أيضا التضليل بتكرار الفكرة الخاطئة وترسيخها مهما تكن خاطئة، وتعزيز السلوك المنحرف وترسيخه مهما يكن منحرفاً، وذلك بالتكرار المستمر المتواصل حتى تستقر في وعي الجمهور.
– سياسة المقص:
أو الانتقائية المتحيزة، أو التضليل بقلب المشهد، حتى يصل الأمر أحياناً إلى تصوير المجرم بأنه ضحية، والضحية هو المجرم المعتدي.
– التعتيم:
وصَرْف الناس عنِ الحقيقة، أو تجاهل الخبر وتهميش الحدث، أو غض الطرف عن الخلفيات والدواعي مما يعطي صورة غير مكتملة أو شوهاء للموقف، أو التلاعب بالمعلومات والأخبار مثل عدم التمييز بين الأخبار من ناحية والرأي والتحليل والتعليق من ناحية أخرى، فلا يعرف المتلقي هل هذا جزء من الخبر؟ أو هو رأي المحلل ووجهة نظره.
– إشغال الناس بالبرامج التافِهة:
حيث تبنت بعض وسائل الإعلام التأثير على الوعي العام وتتفيه اهتمامات الشباب من خلال برامج الواقع وصناعة النجوم، ولعل ما يحصل من بكاء وإغماءات بالجملة لمشاهدة نجم فني أو رياضي مثلا خير مثال على ذلك!
– التضليل بإغراق الجمهور بمعلومات لا تهمه:
ولا يحتاج إليها، مما يطلق عليه «النفايات المعلوماتية».
– الإهمال الكلي لمدى أهمية الخبر لدى المتلقي:
فالتغطية الإخبارية التي رافقت الانتخابات الأمريكية مثلا هي نفسها التغطية للمجازر في بورما أو العراق أو غزة، بل سقطت بعض فضائياتنا في «صراع التغطية الأفضل» بين القنوات الإخبارية. وهذا من شأنه أن يحول اهتمام المتابعين بعد تجاوز الصدمة الأولى بشكل ما إلى مراقبة وتقييم أداء الوسائل الإعلامية، بحيث أصبحت التغطية الأفضل مدعاة رضى وارتياح لدى المشاهد والتغطية السيئة هي مدعاة السخط والغضب!!
هذا الأسلوب أثر على الجمهور نفسه بحيث أصبح يتعامل مع الحدث خلال ساعاته أو أيامه الأولى وبعدها يتحول إلى أمر اعتيادي جدا، وفي حال انتهى التركيز الإعلامي عليه يدخل طي النسيان حتى لو كان مستمرا على أرض الواقع، فمثلا التفاعل مع احتلال العراق والتفجيرات شبه اليومية التي لا تزال تحصل على أرضه ويذهب ضحيتها عشرات الأبرياء لم تعد تثير اهتمام أحد في الشارع وتمر في الشريط الإخباري مثل أي خبر عن عابر.
ويقول المراقبون: لقد أصبح التركيز على «فورية الخبر» أولوية من أولويات الوسائل الإعلامية، من خلال التعامل معه كسلعة «سريعة التلف» فيما يعرف إعلاميا بالحصري أو السبق الصحفي، كل هذا دون العمل على تقديم محتوى معرفي يلقي الضوء على خلفية الأحداث بقصد لفت الأنظار لها والعمل على حث الجهات المسئولة لمعالجتها، أو لخلق وعي شعبي اتجاه ما يدور حولهم.
– التضليل بالدعاية والبروباجندا الإعلامية:
يقول الأستاذ زياد حافظ: القارئ العربي يعرف من هو توماس فريدمان أو دافيد اغناسيوس أو بول كروغمان أو شارل كروثهامر أو جورج ويل، وهم من كبار المعلّقين في الصحف والوسائل الإعلامية في الولايات المتحدة. ولكن في المقابل لا يعرف من هم المعلّقون الروس أو الهنود أو الصينيين أو من دول أميركا اللاتينية.
من يقرأ بيبي اسكوبار أو م.ك. بهدراكومار أو ديمتري كالينيشنكو أو نيكولاي ستاريكوف؟ هل يعلم القارئ العربي من هو ألكسندر دوغين وما هو دوره في صنع القرار في روسيا؟
أي بمعنى آخر نعرف من هو في الغرب وماذا يقول، بينما نجهل بشكل واضح من هم اللاعبون في الأروقة السياسية في روسيا ومن هم المعلّقون حول ما يحصل.
وينجرّ أيضاً الحديث عن كبار المعلّقين الآسيويين كسفير الهند السابق لطهران وأنقرة والذي خدم أيضاً في السفارة الهندية في روسيا، أي م.ك. بهدراكومار. من يقرأ صحيفة «آسيا تايمز» وهي من أرقى الصحف الإلكترونية الآسيوية والتي تستقطب العديد من المعلّقين الجيوسياسيين الآسيويين والأوروبيين ومن أميركا اللاتينية كبيبي اسكوبار يجد العديد من المعلومات المغيّبة في الإعلام الغربي، ومن التحليلات الموضوعية للواقع الإقليمي والدولي. فالقارئ العربي الذي يقرأ ويتابع مقالات وتعليقات من ذكرناهم وهم فقط على سبيل المثال وليس الحصر، يخرج برؤية مختلفة عن مسار الأمور ويصبح المشهد الدولي مختلفاً كلّياً عما يرسمه الإعلام الغربي.