نشأة فكرة المُخلِّص عند اليهود وتحريفها
الطريقة التي يصل بواسطتها الحاكم إلى كرسي الحكم، والنهج الذي ينهجه في حكم الشعب، مشكلتانِ خطِرتان. هذا ولقد قدّم الإنسان في مختلف الأقوام والأمم، والأجيال والعصور، لهاتين المشكلتين، حلولًا مختلفة، عملية ونظرية، تفاوت حظها بين الفشل والنجاح تفاوتًا نسبيًا. ومما لا شك فيه أن هاتين المشكلتين ستبقيان ما بقي الإنسان.
أمّا السرُّ في خطورة هاتين المشكلتين، وعدم مقدرة الإنسان على حَلّهما حلًا نهائيًا؛ فلما لهما من علاقة متينة بنفسية الإنسان المعقدّة، والمتغيّرة بحسب أهوائها، وما يوسوس به الشيطان لهذه النفسية التي تميل إلى حبّ السلطة.
وقد أورد ابن خلدون في مقدمته آراء قيّمة بهذا الشأن الإنساني. فقال: (لمّا كان الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحّش والتأنس والعصبيّات، وأصناف التغلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال).
وقال أيضًا: (ثمّ إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر، وتمّ العمران، فلا بدّ له من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم من العدوان والظلم… فيكون ذلك الوازع واحدًا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة؛ حتى لا يصل أحدٌ إلى غيره بعدوان؛ وهذا هو معنى الملك). وأضاف قائلًا: (ويكون له حكم بشرع مفروض من عند ﷲ، ولا بد لمن يكون حاكمًا أن يكون متميزًا عنهم بما يودع ﷲ فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف، وهو مما خصّه الباري سبحانه). وهو الحاكم عليهم، خلافة ﷲ في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام ﷲ في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع.
لأجل ذلك، كان لا بدّ من حاكم معيّن من عند ﷲ يحكم بين الناس بشرع ﷲ، وعلى هذا فالحاكميّة هي من الأمور العقديّة التي يجب أن يؤمن بها. لذا فإنّ إرسال الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين ودعوة الأمم بالاحتكام إلى أمر ﷲ، لكي لا يكون للناس حجة يوم القيامة إلى عدم اتباع حكم ﷲ. ولقد وردت في القرآن الكريم معانٍ عدة للحكم منها، ما ورد بصيغة الأمر ومنها ما هو بصيغة المضارع.
فأحكُمُ: ﴿إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون﴾. تحكم: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما﴾. ﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾.
و«الحَكَمَ» اسم من أسماء ﷲ، ومن حقيقة التوحيد إفراد ﷲ في الحكم والتشريع والأمر والنهي. قال تعالى: ﴿ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾. فهذه من معاني «حقيقة التوحيد» أنّ ﷲ هو خالق هذا الكون كله، وخالق الإنسان نفسه وخالق سائر الأشياء التي يستفيد منها الإنسان في هذا العالم. قال تعالى: ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق﴾، ﴿قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ﴾. وﷲ هو مالك هذا الخلق وحاكمه ومدبّر أمره قال تعالى: ﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض﴾.
إنّ الحاكميَّة في هذا الكون ليست لأحد غير ﷲ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه، وليس لأحد الحق في أن يكون له نصيب منها. وأن جملة صفات الحاكميّة وسلطاتها مجتمعة في يده سبحانه، وليس في هذا الكون أحد قط يحمل هذه الصفات أو ينال هذه السلطات. فهو قاهر كل شيء، ومسيطر على كل شيء، عليم بكل شيء، منزَّه عن العيب والخطأ، قدُّوس مهيمن مؤمن يهب جميع خلقه الأمن والأمان، حيّ قيّوم، قادر على كل شيء، بيده كافة السلطات، كل شيء خاضع لأمره قهرًا، بيده النفع والضر، ليس في مقدور أحد غيره أن ينفع أحدًا أو يضرّه إلا بإذنه، ولا أحد يملك الشفاعة عنده إلا بإذنه. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، لا معقّب لحكمه لا يُسأل عمّا يفعل ويَسْأل الجميع عمّا يفعلون، حكمه نافذ ولا قدرة لمخلوق على ردّه أو تأخيره أو المماطله فيه.
هذه الصفات كلّها –صفات الحاكميّة- يختص بها سبحانه لا شريك له فيها أبدًا ﴿إنه هو يبديء ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد﴾، ﴿إن الله يحكم ما يريد﴾. فالله وحده هو الحاكم، وله حقّ الحاكميّة، وحقّ الحكم والقضاء ليس لأحد غيره. وعلى الإنسان أن يطيعه ويعبده، وهذا هو الطريق الصحيح والمسلك القويم. ومعنى ذلك رفض الخضوع لكل حكم غير حكم ﷲ، وكل قانون غير شرع ﷲ، وكل وضع أو فهم أو فكرة لم يأذن بها ﷲ.
ومن قَبِلَ شيئًا من ذلك؛ فقد أبطل حقيقة أساسيّة من حقائق التوحيد، لأنه ابتغى غير ﷲ حكمًا. فكانت هذه دعوة جميع الرسل والأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيين والمرسلين محمد ﷺ. ولقد عرض القرآن الكريم قصصاً للأنبياء مبيّنة دعوة كل نبّي ورسول. ولأنّ إبراهيم هو أبو الأنبياء من بعد نوح، ومن سلالته جميع الأنبياء من بعده؛ سأبدأ الحديث عن سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، الذي لم يكن يهوديًا وأنّ سلالة أبنائه من إسحاق هي السلالة المتأصّلة في شعب ﷲ المختار من عند ﷲ.
بعثة سيدنا إبراهيم ورفع القواعد
إبراهيم هو أبو الأنبياء، بعثه ﷲ نبيًا ورسولًا إلى قومه؛ حيث كان يقطن في بابل في بلاد العراق، وكان قومه يعبدون الأصنام. ولقد عرض ﷲ مراحل دعوته الأولى حينما كان في بابل موطنه الأصلي، والثانية في الأرض المباركة فلسطين. ففي المرحلة الأولى كانت دعوته لأبيه وقومه والملك الذي اشتهر بالظلم، فلم يستجب له أحد من هؤلاء؛ وإنما عزموا على قتله بإحراقه في النار، ولكنّ ﷲ نجّاه.
هاجر إبراهيم إلى البلاد المقدّسة؛ أيْ فلسطين، مع زوجه سارة، لينتقل من ثمَّ إلى مصر وليعود ثانية إلى بيت المقدس ومعهما هاجر. وجاء الأمر الإلهي له بالزواج من هاجر، ثم الانتقال بعد إنجابها إسماعيل إلى الحجاز، ليقوم هناك بإنفاذ أمر ﷲ، برفع قواعد أول بيت من بيوت ﷲ في مكة المكرمة. وبعد أربعين عامًا تمّ بناء بيت المقدس. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم﴾.
يعقوب عليه السلام، وجعل النبوة في ذريته
عاش إبراهيم في بيت المقدس، وشهد ولادة إسحاق من السيدة سارة، ومن بعدها شهد ولادة يعقوب. قال تعالى: ﴿وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب﴾. فكان فضل ﷲ على إبراهيم وزوجه سارة أن مدّ ﷲ بعمرهما، وشهدا حفيدهما يعقوب؛ تكريمًا لإبراهيم، جزاء له على نصرته للدين ودعوته لربّ العالمين.
جاء ذكر يعقوب في القرآن الكريم باسمين: يعقوب وإسرائيل، أما ذكر اسمه الثاني فقد جاء مرتين في القرآن الكريم، في المرة الأولى قد جاء في قوله تعالى: ﴿كل الطعام كان حلًا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين﴾، والمرة الثانية في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا﴾.
جعل ﷲ النبوة والكتاب في ذريّة إبراهيم وحفيده يعقوب. ولقد استمرت النبوّة في الفرع الإسرائيلي عدة قرون؛ حيث بعث ﷲ أنبياء عديدين إلى بني إسرائيل. أولهم نبي ﷲ إسرائيل نفسه، كان نبيًا لأبنائه، ثمَّ ابنه يوسف، ثمّ الأنبياء الآخرين لبني إسرائيل، مثل موسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وآخرهم هو عيسى -عليهم السلام-. كان يعقوب مقيمًا في بيت المقدس مع أبنائه، وأثناء مكوثه هناك وقعت حادثة يوسف مِنْ غدر إخوته له، إلى أن انتقلت العائلة الكريمة من جنوب فلسطين واستقرت مع يوسف في مصر.
يوسف عليه السلام
كان هذا سببًا لانتقال يعقوب إلى مصر حيث ابنه يوسف؛ بعد أن ابيضت عيناه حزنًا على فقده، إلا أن ﷲ كافأه وجمعه بابنه في مصر، مُقِرًا بفضل ﷲ عليه ﴿فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم﴾.
انتقل يعقوب مع أهله جميعًا: أبنائه وعائلاتهم وخدمهم وعبيدهم… من جنوب فلسطين إلى مصر؛ ليستقروا جميعًا عند يوسف عزيز مصر. وعاش بنو إسرائيل فترة من الزمن فيها، إلى أن أقدم الفراعنة على اضطهاد بني إسرائيل الذين كانوا يعبدون ﷲ ولا يشركون به شيئًا، بينما كان المصريون يعبدون الأوثان معتبرين فرعون الإله الأعلى﴿وقال فرعون ياأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين﴾.
موسى عليه السلام
بدأ فرعون تعذيب بني إسرائيل. قال تعالى: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين﴾. وجاء أيضًا في العهد القديم: «فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل أعمال الحقل».
تزامنت ولادة موسى مع وجود بني إسرائيل في مصر، وقصته تكاد لا تغيب عن الأذهان منذ ولادته إلى حين خروجه من مصر، عندما أصبح شابًا، هربًا من فرعون، ليعود مرة ثانية إليها، بعد أن تنزّل عليه الأمر الإلهي باصطفائه نبيًا ورسولًا إلى بني إسرائيل من على جبل الطور، وأمره ﷲ رأفة ببني إسرائيل؛ بإخراجهم من مصر وإعادتهم إلى بيت المقدس. وقد ورد ذلك في الكتاب المقدس: فتجلى ﷲ على موسى وقال له: «أنا إله أبيك إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى ﷲ. فقال الرب إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخّريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا. إلى مكان الكنعانيين والحثيين والآموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين. والآن هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى لي، ورأيت أيضًا الضيقة التي يضايقهم بها المصريون. فالآن هلمّ فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر».
إلا أنّ ذلك كان متعذَّرًا على موسى؛ لأن اضطهاد فرعون لبني إسرائيل بلغ مبلغه، إلى درجة كانوا لا يملكون فيها حرية الاختيار في البقاء أو الرحيل عن هذه الأرض؛ إذ كانوا عبيدًا لفرعون بكل ما في الكلمة من معنى، ومكرهين على الإقامة في هذا المصير. لذا طلب ﷲ من موسى التوجه إلى فرعون، وإبلاغه بأنه مرسل من ربّ العالمين؛ ليصدع بأمره بإخراج بني إسرائيل من مصر. إلا أن فرعونَ أبى وتجبّر، ولم يستجب لطلب موسى، بل لم يستجب لأمر ﷲ. قال تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين﴾. ولكن ﷲ أتمّ أمره، إذ إنه مدّ موسى بمعجزات تكون فيها نجاة بني إسرائيل؛ وكان منها انشقاق البحر له ولقومه قال تعالى: ﴿ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى﴾.
ويصوّر لنا العهد القديم حالة الظلم والاستبداد التي كان يعيشها بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا فصعد صراخهم… حدث في تلك الأيام الكثيرة، أن ملك مصر مات. وتنهد بنو إسرائيل من العبودية، وصرخوا فصعد صراخهم إلى ﷲ من أجل العبودية. «فسمع ﷲ أنينهم فتذكر ﷲ ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب».
وبعدما نصر ﷲ سيدنا موسى، خرج بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى منطقة سيناء. وهناك، وعلى جبل الطور حيث كلّم ﷲ موسى لأول مرة، وأخبره بأنه النبي المرسل؛ أخبره في المرة الثانية وعلى الجبل نفسه أنّ الكتاب المنزل في الألواح هو التوراة. وأمرهم ﷲ بأمرين:
الأول: التمسّك بكتاب ﷲ؛ وهو التوراة، والالتزام بما فيه من تشريعات وتوجيهات وأحكام، والعمل بما فيه بقوة وجدّية ونشاط وألا يضعفوا في ذلك، قال تعالى: ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون﴾. الثاني: ﴿واذكروا ما فيه﴾: تعلّموا ما في كتابنا، واذكروه واعلموه، لتعرفوا المطلوب منكم فَتُنَفِّذوه وتؤدّوه. ولكن بني إسرائيل نقضوه وخالفوه، وتولّوا عن شرع ﷲ.
وبعد تذكير موسى لهم بجميع النعم التي أنعم ﷲ عليهم بها، وبعدما أنقذهم ﷲ من ذلّ العبودية ليصبحوا أحرارًا، طلب سيدنا موسى منهم دخول بيت المقدس مجاهدين في سبيل ﷲ. ولكنهم جبنوا وخافوا، ونكصوا عن الجهاد، وتمرّدوا على موسى؛ فتبرّأ موسى منهم، ودعا ﷲ عليهم فعاقبهم ﷲ بالتيه في سيناء أربعين سنة، وحرمهم من شرف الجهاد والتمكين قال تعالى: ﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين 5 قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون 6 قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين 7 قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون 8 قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين 9 قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين﴾.
بنو إسرائيل في عهد يوشع بن نون
ظل بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة إلى أن عادوا على يد فتى موسى يوشع بن نون؛ حيث كان يساعد موسى في تربية وإعداد بني إسرائيل لدخول بيت المقدس للمرة الثانية. وبعد وفاة موسى تولّى القيادة بعد إعداد بني إسرائيل للجهاد، وليدخلوا الأرض المقدسة مجاهدين في سبيل ﷲ. كما أمرهم ﷲ أول مرة بأن يدخلوا الأرض المقدسة.
ودخل يوشع بن نون وبنو إسرائيل الأرض المقدّسة، وقاتلوا الكفار فيها، ونصرهم ﷲ على أولئك الكافرين. ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري تحت باب حبس الشمس على يوشع بن نون لفتح بيت المقدس، برواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول ﷲ ﷺ: «ما حبست الشمس على بشرٍ قَطْ، إلاّ على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس».
بعد النصر المعزّز بمعجزة من عند ﷲ، أمر ﷲ بني إسرائيل دخول بيت المقدس سجّدًا، شكرًا لله، وأن يطلبوا منه أن يغفر لهم ذنوبهم. قال تعالى: ﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون﴾.
خالف بنو إسرائيل أمر ﷲ، ولم يدخلوا الباب سجّدًا، وإنما دخلوا يزحفون على مؤخراتهم، وإسْتاههم، وبدل أن يقولوا حطّة قالوا: حبة في شعرة. وقد ورد ذكر هذه المخالفة أيضًا في حديث عن رسول ﷲ ﷺ فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول ﷲ ﷺ: «قيل لبني إسرائيل: ﴿وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة﴾ فبدّلوا، فدخلوا يزحفون على إستاههم، وقالوا حبة في شعرة».
لقد كفر اليهود بنعمة ﷲ، التي أنعم بها عليهم؛ إذ أنجاهم من فرعون، ومن التيه عند دخولهم بيت المقدس، وأمرهم بالنصر. ولم يقفوا في مخالفتهم عند هذا الحد، بل هم خالفوا أمر ﷲ فعلًا وقولًا حين أمرهم بالدخول سجّدًا، وأن يقولوا حطّة. فدخلوا على مؤخراتهم وقالوا حبة في شعرة.
لمّا بدل بنو إسرائيل أمر ﷲ، قال تعالى: ﴿فبدل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون﴾. أوقع ﷲ بهم العذاب، فأنزل عليهم الرِّجز والرِّجس كما ورد في الحديث هو الطاعون. فقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول ﷲ ﷺ: «الطاعون رجس، أرسل على طائفة من بني إسرائيل…».
الفكرة المتأصلة في العقل اليهودي «المخلِّص من نسل داود»
قصة طالوت مع جالوت
وهكذا عاش بنو إسرائيل في بيت المقدس، إلى أن ابتعدوا عن شرع ﷲ، وعصوا الأنبياء وخالفوا أقوال ﷲ، فأوقع ﷲ بهم عذابه ونقمته. إلى أن وصلت بهم الحال إلى أنّ حربًا قامت بينهم وبين جيرانهم في الأرض المقدسة. وكانت نتيجة هذه الحرب انتصار جيرانهم واستيلاءهم على التابوت المقدس الذي كانوا يحتفظون به. وشعر بنو إسرائيل بالخطر، وأرادوا التغيير، وبحثوا عن مخرج، لما أنهكتهم الحروب وقهر الأعداء لهم، فسألوا نبيًّا لهم في ذلك الزمان طلبوا منه الحلّ. فقال لهم إن الحلّ في توحدهم تحت حكم ملك، يكونون تحت طاعته ليقاتلوا الأعداء من ورائه، ومعه وبين يديه فقال لهم: ﴿قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله﴾. أي وأي شيء يمنعنا من القتال ﴿وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا﴾، ويقولون نحن محروبون موتورون؛ فحقيق بنا أن نقاتل عن أبنائنا المقهورين، المستضعفين فيهم، المأسورين في قبضتهم.
قال تعالى: ﴿فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين﴾ كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل، والباقون رجعوا عن القتال: ﴿وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا﴾. فقالوا له: ﴿أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم﴾. أي لمّا طلبوا من نبيّهم أن يعيّن لهم ملكًا منهم، عيَّن لهم طالوت، وكان رجلًا من أجنادهم، ولم يكن من بيت ملك فيهم؛ فاعترضوا إذ كيف يكون ملكًا علينا وهو فقير، لا مال له يقوم بالملك، وليس صاحب جاه ولا زعامة أو سلطة، ولا من الملأ الأعلى ولا من الأسر المتنفّذة. أجابهم النبي قائلًا إن ﷲ اختاره لكم من بينكم، وﷲ أعلم به منكم، وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم، وأشدّ قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة فيها، أي أتمّ علمًا وقامة منكم.
ومن هنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه. ثم قال: ﴿والله يؤتي ملكه من يشاء﴾ أي ﷲ هو الحاكم الذي ما شاء فعل، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه. ولهذا قال: ﴿والله واسع عليم﴾ أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه. قال تعالى: ﴿وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين﴾. يقول لهم نبيهم إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد ﷲ عليكم التابوت الذي كان قد أخذ منكم ﴿فيه سكينة من ربكم﴾ قيل فيه الطمأنينة والهدوء، فوجود التابوت بينهم يحقّق لهم هذه السكينة والطمأنينة لما يرمز إليه من معنى دينيّ مقدّس، فعندما يشاهدونه عندهم يطمئنّون ويرتاحون، فيندفعون للقتال ضدّ الأعداء. وفي هذا التابوت أشياء مادية، كان بنو اسرائيل يحتفظون بها ويحرصون عليها: ﴿وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون﴾، وهذا التابوت توارثه بنو إسرائيل منذ أيام موسى، وكان مقدساً عندّهم، وكان فيه سكينة لهم، وكانوا يضعون فيه ما توارثوه منذ عهد موسى.
وحملت الملائكة التابوت، وتحقّقت الآية المعجزة وأتت به إلى بني إسرائيل. وبذلك عاد تابوتهم لهم. ولما شاهد بنو اسرائيل هذه الآية، علموا أن ﷲ هو الذي رضي لهم طالوت ملكًا، وهكذا تملك طالوت المؤمن الصالح الفقير على بني اسرائيل وصار بذلك أول ملك فيهم، فهو «مؤسّس» المملكة الإسرائيلية.
وقام طالوت بتجهيز جيش بني إسرائيل، حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل. وكان جيشه يومئذٍ فيما ذكره السدّي ثمانين ألفًا. الله قال ﴿إن الله مبتليكم بنهر﴾ أي مختبركم بنهر. قال ابن عباس وغيره، هذا النهر وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني نهر الشريعة المشهور. قال ﷲ: ﴿فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين﴾.
فالمؤمنون القلائل الذين عبروا النهر مع طالوت ينقسمون إلى قسمين؛ قسم نكصوا عن القتال، ورفضوا خوض المعركة، وقالوا: ﴿قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾، والقسم الثاني هم الذين ثبتوا، وصمّموا على دخول المعركة ﴿فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾. وهكذا دخل طالوت المعركة الفاصلة ضدّ جالوت بهذه الأقلّية المؤمنة. وقبيل نشوب القتال توجه المؤمنون إلى ﷲ بالدعاء ﴿ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين﴾. وأثناء المعركة برز جندّي مجاهد من بينهم هو داود، وتوجّه داود نحو قائد الكفار جالوت، وقاتله فقتله: ﴿فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾.
داود عليه السلام الخليفة وإنشاؤه لأول خلافة
ذكر القرآن الكريم قتل داود جالوت، ثم ذكر ما أنعم ﷲ على داود بعد ذلك ﴿ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين﴾؛ حيث كانت بداية داود جنديًا في جيش طالوت المجاهد، ولم يخبرنا القرآن الكريم ولا الأحاديث النبوية، عن حياة داود، ولِمَ كان مع جيش طالوت؟ ولا عن حياته ولا عُمره ولا أهله ولا إخوته وأبيه، ولا عن تفاصيل جالوت ولا كيفية قتل داود لجالوت.
إلا أنّ كل ما أخبرنا به القرآن الكريم هو قتل داود جالوت، وأن ﷲ آتاه الملك والحكمة والعلم، فكان داود ملكًا حكيمًا عالمًا. ودلَّ هذا الأمر على أنّ أول من وحَّدَ بني إسرائيل بعد موسى هو داود؛ حيث جمع بين النبوة والملك عند بني إسرائيل.
وقد جعل ﷲ داود خليفة في الأرض، قال تعالى: ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾. هذه الآية تدلّ على أنّ داود أوّل من كان خليفة لبني إسرائيل يحكم بينهم بحكم ﷲ، وأنه أنشأ أوّل نظام للخلافة لبني إسرائيل. والسبب في ذلك أن داود أوَّل نبيّ رسولٍ يجمع بين النبوة والملك.
فالأنبياء قبله لم يكن أحدٌ منهم ملكًا، ولم يحكم أحد منهم قومه بالمعنى الخاص بالحكم، ولم يُنشئ أحدٌ منهم دولة، حيث الأنبياء ابتداءً من سيدنا نوح، ومن ثم هود، ثم صالح وإبراهيم وإسماعيل وموسى وهارون –عليهم الصلاة والسلام-، لم يقم أحد منهم بتأسيس دولة بالمعنى السياسيّ للدولة، حتى أن يوسف وصل إلى مركز عزيز مصر، إلا أنه لم يكن ملكًا على مصر. وذلك يعني أنه لم يكن خليفة. وبيّن القرآن الكريم أنّ داود، وبالمعنى الصريح للعبارة، خليفة ﷲ، جعله خليفة في بني إسرائيل، ومن لطائف القرآن الكريم أنّ كلمة «خليفة» لم ترد في القرآن الكريم إلا مرتين.
الأولى: في قصة آدم عليه السلام، قوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾.
والثانية: في وصف داود عليه السلام بأنه خليفة: قوله تعالى: ﴿ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾.
وفي هذا دلالة لطيفة: فآدم هو أبو البشر، وهو أول خليفة في الأرض بالمعنى العام للخلافة، وهو الاستخلاف في الأرض وتعميرها وإصلاحها على منهج اﷲ وشرعه. والخليفة الثاني في القرآن هو داود! فما معنى ذلك؟ .. إن داود خليفة بالمعنى الخاص للخلافة، وليس بالمعنى العام الذي تحقّق في خلافة آدم! إنه خليفة بالمعنى الشرعيّ، المتمثّل في إيجاد نظام حكم ما صرحت به الآية: قال تعالى: ﴿فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله﴾. وهذا المعنى لم يذكر في الآية التي أخبرت عن استخلاف آدم.
إن داود هو مؤسس «المملكة الإسرائيليّة الإيمانيّة»، لأن مُلْكَ طالوت كان تمهيداً لِمُلْكِ داود. ولهذا نصَّ القرآن الكريم على جعل داود خليفة في الأرض، ولعله أول خليفة في التاريخ بالمعنى الشرعي الخاص، أي: أول خليفةٍ بنى دولة وأنشأ مملكة، وأوجد نظام خلافة على أساس شرع ﷲ. إذن كان داود أول نبي وملك، وأول من كان خليفة، وأول من أنشأ خلافة إيمانية. فقد بنى داود دولة لها نظام سياسيّ، دام هذا الملك والنظام إلى ابنه سليمان. لكنّ هذه الخلافة لم تدم طويلًا في بني إسرائيل، إذ سرعان ما تهاوت بعد سليمان. وبما أنّ داود نبيٌ رسولٌ فقد أنزل ﷲ عليه كتاب الزبور، قال تعالى: ﴿وآتينا داود زبورا﴾.
وهنا لا بد من الإشارة أنه، وعلى ضوء ما ورد في القرآن الكريم، يمكن القول بأن تسمية ﷲ لداود بالخليفة يعني أنه حاكمٌ من عند ﷲ، والحاكم موكل بتطبيق شرع ﷲ وأحكامه. وأما من حيث تسميته بالملك فالملكية تتوارث، فمن هنا لم يكن هناك ما يخالف شرع ﷲ في وراثة ابنه سليمان الملك من بعده. ولكن ذاك كان محالًا لو أنّ تسمية ﷲ داود اقتصر على لقب «الخليفة».
عصر انهيار مملكة بني إسرائيل
قبل بعثة عيسى، قامت سلسلة من الحروب على بني إسرائيل، فكانت فترة عصر الانقسام والزوال، بخاصة بعد وفاة سيدنا سليمان. وقد سطّرت كتب العهد القديم ما آلوا إليه من ضياع وحروب، كان في نهايتها ما تعرّضوا له من حرب البابليين في عام 597 ق.م. وسقوط أورشليم سنة 586ق.م. على يد بختنصر، حيث قام البابليون بذبح بني إسرائيل، وسيق الناجون منهم أسارى إلى بابل. وحول ذلك يقول أحد الكتاب: «إن اليهود الذين سيقوا إلى بابل هم الذين وضعوا بذور فكرة التعصّب العنصريّ لليهود، وهم أصحاب فكرة العودة إلى صهيون، ودعاة أسطورة شعب ﷲ المختار». أما مدن بني إسرائيل فقد خرّبت تخريبًا تامًا، وهدم بيت المقدس (الهيكل بزعمهم).
عاش بنو إسرائيل في بابل، وهذه الفترة من التاريخ كانت حسرة عليهم لتركهم بيت المقدس، فصاروا يقفون على الأطلال وقلوبهم في لهفة للعودة إليها. وجاء المزمور «المئة والسابع والثلاثون 137»:
على أنهار بابل هناك جلسنا *** فبكينا عندما صهيون تذكرنا
على الصفصاف في وسطها *** علقنا كِنَّاراتِنا
هناك سألنا الذين أسَرونا نَشيدا *** والذين عذّبونا طربًا:«أنشِدوا لنا من صِهيونَ نَشيدًا»
كيف نُنشِدُ نشيدَ الرَّبّ *** ونَحن في أرض الغُربة؟
إن نَسيتُكِ يا أُورَشليم *** فلتُشَلَّ يَميني
وليلتصق لساني بحنكي *** إن لم أذكرك
إن لم أرفع أورشليم *** إلى أوجِ فرحي.
أذكر يا رب بني أدوم *** في يوم أورشليم
القائلين: انسفوا *** حتى أساسها انسُفوايا ابنة بابل الصائرة إلى الدمار طوبى لمن يُجازيكِ على ما جازيتنا به
طوبى لمن يمسك أطفالك *** ويضرب بهم الصَّخرَة!
تناقل الحاخامات من جيل إلى جيل روايات التوراة المحرَّفة، وهي تفسِّر هذه الروايات حتى عرفت بالتلمود. فالمصدر الثاني للديانة اليهودية هو التلمود، وفيه شرح وتفسير للمعارف العقدية، والشائع أن موسى هو المصدر، ويذهبون في تأويل ذلك، إلى أنه عندما كان موسى على جبل سيناء لتسلم الشريعة المكتوبة من الرب، تسلم أيضًا بصورة شفهيّة تفاسير وشروح ما هو مكتوب، وهو ما يُدعى أو يعرف بالقانون الشفوي، وجاء في التلمود أن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها أو تغييرها ولو بأمر ﷲ. والتلمود مستودع شرور اليهود.
ومن التلمود الرهيب، استمدّ اليهود (الحكماء) إلى وضع «بروتوكول». وهو المخطط الذي وضعه رجال المال والاقتصاد اليهود لتخريب المسيحيّة والبابوية، ثم الإسلام، حيث يعتقد اليهود الصهيونيون، أنهم سيستولون على العالم، ويقيمون ملكًا يهوديًا داوديًا، له من الحيلة والوسيلة ما يمكنهم وهم أقلية ضئيلة، من حكم العالم بأسره حكمًا (أوتوقراطيًا).
فاليهود يعيشون في جميع أقطار الأرض إلا المملكة العربية السعودية! وسكان أقطار العالم من اليهود هم طابور الصهيونية الخامس في داخل تلك الأقطار، يعملون للصهيونية في دهاء وخبث، ولئلا تفطن الشعوب لصهيوينتهم ميّزوا بينها وبين اليهودية، حتى لا يضار اليهود في البلدان التي يقطنونها، وحتى يسهل عليهم التعامل مع أفراد الشعب.
وكل يهودي على وجه الأرض، ينتظر قيام دولة إسرائيل، فكتابهم المقدس يعدهم بقيام الدولة التي ينتظرونها، «المملكة» التي استعملها ساسة بني إسرائيل الصهيونيون عند قيام دولتهم، إذ زعموا أن هذه الدولة بعث لمملكة داود.
ولكي نعلم مقدار الجهد الذي بذلته الصهيونية للاستيلاء على فلسطين، منذ خراب أورشليم الأول إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ فلنتابع دراسة تاريخ تحرّكاتهم وجمعيّاتهم ومنها:
استغل اليهود هذه القرون عن طريق عشرات الجمعيّات والمنظّمات التي شكلوها في هذه المرحلة من تاريخهم ومنها، حركة المكاببين التي قامت في سنة 163 ق.م. بزعامة الكاهن اليهودي (متاثيا) وأولاده وقضي على هذه الحركة قضاء نهائيًا سنة 37 ق.م.
ثم حركة باركوخيا في سنة 117م، التي تزعمها باركوخيا اليهودي. وهي حركة تدعو اليهود إلى التجمّع والتكتّل لإنشاء دولة لهم في فلسطين، تعيد بناء الهيكل، ويكون مَلِكُها من نسل داود، إلا أن هذه الحركة لم يكتب لها النجاح أيضًا.
أما الجمعيات السرية التي عرفتها أوربا فمنها: الكابالا والماسونية وفرسان المعبد وجماعة (الصليب الوردي). وهذه الجمعيات تعمل للصهيونية في سرّيّة تامّة منذ ذلك الوقت. فجميع اليهود اليوم يتطلعّون إلى قيام دولة إسرائيل -على حد زعمهم-، وينتظرون الحاكم من عند ﷲ أميرًا لهم من نسل داود.
إذن، هذا النشاط السريّ، كان الهدف منه تجهيز الأرض المقدّسة كما يزعمون وطنًا لهم في آخر الزمان باعتبارهم شعب ﷲ المختار، وسيأتي مخلصهم (المهدي) ليحكم الأرض مطبقًا الدين اليهودي. ويعيد لليهود عزَّهم ومجدهم، ويستعبد جميع الشعوب ويسخرهم لخدمة اليهود.
المخلص (المهدي) في العهد القديم
نبذة عن العهد القديم (التوراة)
تعتبر التوراة أحد المصادر الأساسية للديانة اليهودية بعد التلمود. يؤكد الباحثون أن التوراة دُوّنت بعد عهد موسى بأكثر من سبعة قرون، إبان السبي البابلي، ففي الوقت الذي كان فيه يهود السبي يمارسون شعائرهم وطقوسهم الدينية بحرّية؛ وجد رجال الدين اليهود أن الشريعة والطقوس عرضة للضياع والتشويه بسبب تقادم الزمن وحالة الشتات التي كان يعيشها الشعب، وتأثير عقائد الأقوام، الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيهم، على العقيدة. وتلافيًا للضياع والتشويه، قاموا بتدوين التوراة، إلا أَنَّهم أثناء التدوين أضافوا وحذفوا ما يخدم ميولهم وذوي الشأن منهم. إضافة إلى ذلك، جنحوا إلى تمجيد الشعب اليهودي، وجعله صفوة مختارة من بين جميع الشعوب. ومهما يكن من أمر فلا بُدَّ من القول إِنّه في التوراة، تتشابك الحقيقة والأسطورة والخرافة والخيال. وعلى كثرة ما فيها من شعائر وطقوس سحرية، وأساطير وممارسات؛ فإن بعض ما جاء فيها لا يتّفق والعقل والمنطق السليمَيْنِ، وفيها ما هو مُنافٍ للعدل والإنصاف، كما فيها الكثير من البطش والعنف والقسوة، عدا أنّ الكثير من موادّها مستقى بصورة رئيسية من تراث وادي الرافدين وثقافتهم بالدرجة الأولى، ومن تراث البابليين والكنعانيين وثقافتهم وأساطيرهم، ومن ثقافة وتراث وادي النيل وثقافته.
تتألف التوراة المعترف بها من قبل معظم علماء اليهود من 39 كتابًا — سفرًا. وهناك سبعة أسفار حذفوها رُغْمَ اعترافهم بها في بادئ الأمر؛ فالتوراة عند البعض تتألف من 46 سفرًا.
تُقسم التوراة إلى ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: ويسمى كتاب الشريعة أو كتاب موسى، ويتألف من الأسفار الخمسة الأولى وهي: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية.
- القسم الثاني: ويسمى (نبيّيم) أي الأنبياء ويضم 22 سفرًا، وهي الأسفار المتعلّقة بالأنبياء الأول والمتأخرين الذين ظهروا في الحقبة الزمنية بعد زمن موسى، ابتداء من تسلّم يشوع الزعامة. ومن ضمن هذه الأسفار «سفر صاموئيل الأول، وسفر صموئيل الثاني، ثم سفر الملوك الأول والثاني». ويقصد بالأول الملك شاول ويقصد بثانيهما الملك داود. وهذا القسم عبارة عن تدوين تاريخ بني إسرائيل، ويروي قصة امتلاك الأرض، وتوزيعها والحروب التي خاضوها، وأعمال بعض القضاة، وعهد الملك داود والملك سليمان وبناء المعبد وانقسام الدولة والسبي… إلخ.
- والقسم الثالث ويسمى (كتوبيم) أي الكتابات، ويتكوّن من اثني عشر سفرًا، وقد كتب خلال فترة طويلة من الزمن من قبل عدّة أفراد من بينهم داود وسليمان. ويتألف من المزامير وهي قصائد لتمجيد الربّ والشكر وطلب الغفران. ويبلغ عددها 150 مزمورًا منها، 37 مزمورًا كتبها داود، وهناك 51 مزمورًا لا يُعرف كاتبوها.
ما ورد عن المخلص (المهدي) في التوراة المحرفة
جاء في سفر أشعياء: 59 تحت عنوان (مزمور توبة)، يذكر بما سيحدث في العالم من غشّ وسفك للدماء وطرق دمار وخراب وبُعدٍ عن العدل: (فلبس البِرَّ كدرع وخوزَةَ الخلاص على رأسه، وارتدي ثياب الانتقام لباسًا، وتجلبب بالغيرة رداءً على حسب الأعمال هكذا يجزى: فالغضب بخصومه والانتقام لأعدائه، ويجزي الجزر الانتقام فيخشون من لمغرب اسم الرَّبّ ومن المشوق مجده فإنه يأتي كنهر منحصر تدفعه ريح الرب ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى الراجعين عن المعصية من يعقوب يقول الرّبّ).
وفي سفر أشعيا: الإصحاح 11، تحت عنوان سليل داود حيث يصف في الحاشية أنّ المخلص أو الفادي من سلالة داود يقول: يخرج غصن من جذع يَسَّى، وينمي فرع من أصوله، ويحل عليه روح الربّ، روح الحكمة والفهم، روح المشورَةِ والقوة، روح المعرفة وتقوى الرب، ويوحي له تقوى الرب، فلا يقضي بحسب رؤية عينيه، ولا يحكم للضعفاء بالبر، ويحكم لبائسي الأرض بالاستقامة، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت الشرير بنفس شفتيه، ويكون البر حِزَم حَقْوَيه، والأمانة حزام خصره، ويلعب الرضيع في حجر الأفعى، ويضع الفطيم يده في حجر الأرقم، لا يسيئون ولا يفسدون، في كل جبل قدسي، لأن الأرض تمتلىءُ من معرفة الرب، كما تعمر المياه البحر. وفي هذا السفر يذكر كيف ستعم الأرض قسطاً وعدلاً بقدوم المخلص من نسل داود.
كما ورد في سفر زكريا: «ابتهجي كثيرًا يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك آتيًا إليك بارًا مخلصًا وضيعًا، راكبًا على حمار وعلى جحش ابن أتان.. وسيكون سلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى النهر.
أما في حاشية الكتاب المقدس فقد جاء: «إن مدني ستعود تفيض خيرًا، والرب سيعود يعزي صهيون ويختار أورشليم»، حيث تستعيد المملكة المشيحة وحدتها القديمة كما أيام الملك داود، إذا نضحت إلى مملكة يهوذا أسباط الشمال، وسكون ملكها من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، ومن الفرات، إلى أقصى الجنوب. في العنصرة تحقيق لهذه النبوءة فالخلاص يشمل البشرية كلها.
المزمور 72: ( 1.لسليمان، اللَّهم، هب للملك حكمك ولابن الملك عدلك، 2.فيقضي بالبر لشعبك وبالإنصاف لوضائك. 3.لتحمل الجبال للشعب سلامًا والتلال برًا، 4.وضعفاء الشعب ينصفهم وبنو المساكين يخلصهم. والظالمون يسحقهم… 6.ينزل كالمطر على العشب وكالرذاذ الذي يسقي الأرض. 7.البر في أيامه يزهر والسلام يعم إلى أن يزول القمر، 8.ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض… 11.جميع الملوك له يسجدون وكل الأمم له يخدمون. 12. لأنه ينقذ المسكين المستغيث والبائس الذي بلا نصير. 13.يعطف على الكسير والمسكين ويخلص نفوس المساكين. 14.من الظلم والعنف يفتدي نفوسهم ودمهم في عينيه ثمين… 19.وتبارك للأبد اسمه المجيد ولتمتلىء الأرض كلها من مجده، آمين ثم آمين.
وجاء في سفر المزامير أن المهدي من نسل داود:
المزمور 89: ( 1.تعليم لأتيان الأزراحي. 2.بمراحم الرب للأبد أتغنى وإلى جيل فجيل أعلن بفمي أمانتك. 3.لأنك قلت: «الرحمة تبني للأبد وفي السموات ثبت أمانتك. 4.مع مختاري عهدًا قطعت ولداود عبدي أقسمت. 5.لأثبتن نسلك للأبد ولأبنين عرشك مدى الأجيال»، 6.فتشيد السموات يا رب بعجيبتك وفي جماعة القديسين بأمانتك… 12.لك السموات ولك الأرض أيضًا أنت أسست الدنيا وما فيها… 14.ذات جبروت ذراعك قوية يدك ورفيعة يمينك. 15.البر والإنصاف قاعدة عرشك الرحمة والحق يسيران أمام وجهك. 16.طوبى للشعب الذي يعرف الهتاف يارب، بنور وجهك يسيرون، 17.باسمك طوال النهار يبتهجون وببرك ينتصبون. 18.لأنك أنت فخر عزّتهم وبرضاك تعزز قوتنا. 19.لأن للرب ترسنا ولقدوس إسرائيل ملكنا. 20.خاطبت قديمًا أصفياءك في رؤيا وقلت: «إني نصرت جبارًا ورفعت من بين الشعب مختارًا. 21.وجدت داود عبدي ومسحته بزيت قداستي. 22.معه تثبت يدي وذراعي أيضًا تقويه).
سفر حزقيال الإصحاح 37: 1.وكانت على يد الربّ، فأخرجني بروح الربّ، ووضعني في وسط السهل وهو ممتلئ عظامًا، 2.وأمرني عليها من حولها، فإذا هي كثيرة جدًا على وجه السهل. وإذا بها يابسة جدًا. 3.فقال لي: «يا ابن الإنسان، أترى تحيا هذه العظام؟» فقلت: «أيها السيد الرب، أنت تعلم». 4.فقال لي: «تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة، اسمعي كلمة الرب. 5.هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: ها أنا ذا أدخل فيك روحًا فتحيين وتعلمين أني أنا الرب». 7.فتنبأت كما أمرت، فكان صوت عند تنبؤي، وإذا بارتعاش، فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه. 8.ونظرت فإذا بالعصب واللحم قد نشأ عليها، وبسط الجلد عليها من فوق ولم يكن بها روح. 9.فقال لي: «تنبأ للروح، تنبأ يا ابن الإنسان وقل للروح: هكذا قال السيد الرب: هلم أيها الروح من الرياح الأربع، وهب في هؤلاء المقتولين فيحيوا». 10.فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فعاشوا وقاموا على أقدامهم جيشًا عظيمًا جدًا جدًا. 11.فقال لي: «يا ابن الإنسان، هذه العظام هي بيت إسرائيل بأجمعهم. ها هم قائلون: قد يبست عظامنا وهلك رجاؤنا وقضي علينا. 12.لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي، وآتي بكم إلى أرض إسرائيل، 13.فتعلمون أني أنا الرب، حين أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي. 14.واجعل روحي فيكم فتحيون، وأقركم في أرضكم، فتعلمون أني أنا الرب تكلمت وصنعت، يقول الرب).
ما جاء حول المهدي في التلمود
أما في التلمود فقد جاء تحت عنوان: «المسيح وسلطان اليهود» ما يلي: «لما سيأتي المسيح تطرح الأرض فطيرًا، وملابس من الصوف، وقمحًا حبه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة. وفي ذلك الزمان ترجع السلطة لليهود، وكل الأمم تخدم ذلك المسيح وتخضع له، وفي ذلك الوقت يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه، وثلثمائة وعشرة أكوان تحت سلطته!.
ولكن لا يأتي المسيح إلا بعد انقضاء حكم الأشرار (الخارجين عن دين بني إسرائيل).
هذا، ويتابعون مصورين حال اليهود، وحال العالم قبل مجيء المخلص أو المسيح كما يدّعون، وأنه يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض حتى تبقى السلطة لليهود وحدهم، لأنه يلزم أن يكون لهم السلطة أينما حلُّوا، فإن لم يتيسر ذلك لهم يعتبرون بصفة منفيين وأسارى. وإذا تسلّط غير اليهود على أوطان اليهود، حقّ لهؤلاء أن يندبوا عليها ويقولوا: يا للعار ويا للخراب. ويستمر ضرب الذلّ والمسكنة على بني إسرائيل حتى ينتهي حكم الأجانب. وقبل أن تحكم اليهود نهائيًا على باقي الأمم يلزم أن تقوم الحرب على قدم وساق ويهلك ثلثا العالم، ويبقى اليهود مدة سبع سنوات متوالية يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر.
وحينئذ تنبت أسنان أعداء بني إسرائيل بمقدار اثنين وعشرين ذراعًا خارجًا عن أفواههم!. وتعيش اليهود في حرب عوان مع باقي الشعوب منتظرين ذلك اليوم. وسيأتي المسيح الحقيقي ويحصل النصر المنتظر، ويقبل المسيح وقتئذ هدايا كل الشعوب، ويرفض هدايا المسيحيين. وتكون الأمة اليهودية إذ ذاك في غاية الثراء؛ لأنها تكون قد حصلت على جميع أموال العالم.
وذكر في التلمود أن هذه الكنوز ستملأ (سرايات) واسعة لا يمكن حمل مفاتيحها وأقفالها على أقل من ثلثمائة حمار حينها. وكما يدّعون، ترى الناس كلهم حينئذ يدخلون في دين اليهود أفواجًا، ويقبلون كلهم ما عدا المسيحيين، فإنهم يهلكون لأنهم من نسل الشيطان. ويتحقق وعد الأمة اليهودية المنتظر بمجيء إسرائيل، وتكون تلك الأمة هي المتسلّطة على باقي الأمم عند مجيئه».
لذا يرى اليهود ضرورة تنصيب وحي بعد النبي، يقوم مقامه في إرشاد الناس من بعده، فقد جاء في سفر العدد: «فكلّم الربُّ موسى قائلًا، ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلًا على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم، ويخرجهم ويدخلهم لكيلا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها، وضع يدك عليه…». فهذا النصّ يدلّ دلالة واضحة على ضرورة تنصيب إمام أو ملك من بعد موسى. وأنّ هذا الاختيار هو من عند ﷲ؛ ولذا فالحاكم هو من اختيار ﷲ بالنسبة إليهم.
تلك الفكرة استحوذت عليهم في إعادة تلك المملكة التي كرّسها داود لهم، والتي يعتبرونها قد سلبت منهم ويعملون على إعادتها. ومن ناحية ثانية، فإنّ فوقيتهم وعنصريّتهم دعتهم إلى الإيمان أنهم وارثو الأرض وأول الموقع؛ الأرض المقدسة التي يدّعون أن ﷲ كتبها لهم بقطعه وعدًا لإبراهيم ويعقوب، بأن تكون الأرض إرثًا لهم. وقد ورد ذكر وراثة الأرض في الزبور قال تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون « إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين﴾.
من هنا تبرز تلك الهجمة القوية على فلسطين بصورة عامة والقدس على وجه الخصوص؛ لتكون عاصمة لهم، فيكونون بذلك قد وضعوا أقدامهم على أول طريق وراثة العالم من خلال إقامة كيانهم في جميع أنحاء المعمورة. إن لم يكن من خلال وجودهم، فمن خلال أفكارهم وآرائهم التي ينشرونها والتي لا يمكن لعاقل أن يكون غافلًا عنها. ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل تمضي أحلامهم إلى أبعد من ذلك من خلال المخلص (المهدي) الذي يرون أنه من نسل داود، أي أنهم يمضون في أحلامهم وتصوراتهم كون المهدي والمخلص فيهم.
فقد سطرت بروتوكولات حكماء صهيون «أن الحاكم من عند ﷲ هو من النسل الداودي». وعليه فقد اعترفوا هم أنهم قد قاموا بالتخطيط وصولًا إلى غايتهم، ألا وهي اجتماع اليهود في بيت المقدس لأنهم هم شعب اﷲ المختار. ولا بدّ من مخلّص يخلصهم في نهاية المطاف من شرور العالم وآثامه، ويكون هو المهديّ. يصبح الحاكم المطلق الذي بعثه ﷲ والذي هو من النسل الداودي. وذلك مقارنة بشخص داود الذي خلصهم في تلك الفترة مما كان واقعًا فيهم من ظلم.
إلا أن الأمر هو على خلاف ذلك، من حيث كونهم شعب ﷲ المختار، فذكر وراثة الأرض التي ذكرت في الزبور قول ﷲ: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾. إنّ ﷲ يمنح الأرض لقوم باعتبارهم مؤمنين صالحين عابدين. فإذا تخلوا عن الإيمان والصلاح والعبادة، فإنّ ﷲ ينزع منهم الأرض، ويمنحها لغيرهم من العابدين الصالحين. وداود يدعوهم إلى عدم الاغترار بالمملكة والخلافة، ويؤكّد لهم أنّ ﷲ أورثهم الأرضَ المقدسة باعتبارهم إسرائيليين عابدين مؤمنين، فإذا فقدوا شرط الإيمان والعبادة والصلاح فقدوا وراثة الأرض المقدسة!
أما بالنسبة للمهدي فقد أخبرنا ﷲ أن اليهود تخلّوا عن إيمانهم بعد داود، وكفروا وطغوا، وظلموا وبغوا، وقتلوا الأنبياء وكذّبوا بالحق، انتزع ﷲ الأرض المقدسة منهم وفقدوا وراثتهم الإيمانية لها لفقدهم شرط الوراثة، وأخرجهم ﷲ من الأرض المقدسة، وقطّعهم وشتتّهم في مختلف بقاع الأرض، وأوقع عليهم لعنته وغضبه. قال تعالى: ﴿وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون﴾.
ما ورد في أمر المهدي في بروتوكولات حكماء صهيون
وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون ما يعطي صفة مخلّص البشرية الذي يخرج منهم إلى جميع أنحاء الأرض التي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا.
فقد جاء في الإجماع الثالث والعشرين: واجب السيد الأعلى الذي يحل محل جميع الحكام الحاليين، المتسكعين في طريقهم على حاشية الحياة، في مجتمعات نَخِرة، أوردناها موارد التدلي والفساد، مجتمعات جحدت كل شيء حتى سلطة ﷲ. ومن وسطها تنجم قرون الشر بنار الفوضى من كل جهة. واجب السيد الأعلى قبل كل شيء؛ أن يخمد تلك النار الفاغرة فاها، إخمادًا تامًا. وهو في هذا الصدد يكون مضطرًا إلى أن يمحو جميع تلك المجتمعات ولو صبغها بدمه، حتى يبعثها بعثًا جديدًا على صورة جنود منتظمة.
وهذا الحاكم المختار من ﷲ، إنما اختاره ﷲ ليقضي على قوى الشر، القوى التي تنبعث من الغريزة لا من العقل، ومن الوحشية لا من الانسانية. وهذه القوى هي الآن في نشوة انتصارها. تحت قناع مبادئ الحرية والحقوق. وقد عبثت بالنظام الاجتماعي ونقضته من كل جهة لتقيم على أنقاضه عرش ملك اليهود. ولكن دور محاسبة هذه القوى الشريرة يكون في ظهور مملكتنا، فتُجرَف من طريق ملكنا جرفًا حتى لا يبقى منها أثر، عالقة به بقايا عثرات، أو كسرات محطومة.
حينئذ نستطيع أن نقول لأمم العالم: اشكروا ﷲ، واسجدوا للذي في جبينه خاتم مصير الإنسان، الإنسان الذي قاد ﷲ نجمته إليه، مظهرًا بذلك أنه هو وحده القادر على تحريرنا من جميع القوى والشرور التي ذكرنا.
أما البروتوكول الرابع والعشرون فقد جاء مؤكدًا، أولًا على تكريس المخلص الملك من نسل داود… ثم يبين صفاته وذلك كما يلي: «أهم أهداف حكماء صهيون كما جاء في هذا البروتوكول إثبات النسل الداودي في أصوله وجذوره إلى آخر الدهر. فبعد حديثهم عن ضرورة إعداد هذا الشخص في تلك السلالة ليكون ملكًا ووارثًا للعرش، يقولون في أوصافه: «وفي شخص الملك الذي هو بإرادته الصلبة سيد نفسه وسيد الإنسانية كلها، تستشف صورة القدر وخفاياه. ولن يكون بوسع أحد أن يعلم شيئًا من رأي الملك ولا إلى ما يتوجه برغباته وميوله، ولذلك يكون من المستحيل أن يقف أحد في طريقه، وهي طريق غامضة مجهولة.
وملك اليهود لا يجوز له أن يكون منقادًا لشهواته ولا سيما البدنية، ولا أن يسمح لجانب الغريزة الجامحة أن تتسلط على جانب العقل. فإن الشهوات مهلكة، تعطل القوى المدركة العاقلة، وتطفئ البصيرة المبصرة، وتُسِفّ بالأفكار إلى الحضيض الذي ما بعده شيء والقائم بعبء الإنسانية، المتمثل بشخص السيد الأعلى، الباسط حكمه على جميع العالم من نسل داود المقدس، عليه أن يضحّي في سبيل شعبه بكل شهواته الشخصية، وسيدنا الأعلى حريٌّ به أن يكون فوق العيب ويكون المثل الأعلى».
ويستطيع الباحث مما سلف تلمّس أحقيّة اليهود في السيطرة على العالم لدى العقل اليهودي؛ وذلك بإعادة ملكهم الذي سلب منهم، إذ إِنَّ ﷲ أيّدهم كما يدّعون، وفي نهاية الزمن، بمخلّص أو ملك كما يزعمون من نسلهم يعيد إليهم ملكهم ويحكم الأرض ويملأها عدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.
وهنا لا بد من القول: إِنَّ حكماء صهيون في بروتوكولهم الرابع والعشرين مضوا في إصرارهم على فكرتهم تلك، تكريس المخلص، الملك أو الملك المخلص من نسل داود. من هنا نرى أهميّة وجود الحاكم المعيّن من عند ﷲ، ملكهم المقدّس المخلّص الذي سيخلّصهم من العبوديّة بعد تشتّتهم، ويعيد إليهم (ملكهم الدنيوي). فهذا المخلص هو الذي يخلص الإنسانية من الخطيئة كما يدّعون.