الصراع الإسلامي الصهيوني في ميزان العقيدة والعمالة
يستمر الزحف الصهيوني في مد أوتار الحبال والقيود تحسبًا من يقظة الثائر المرتقب، الذي بدأ يستنهض خطاه على طول الجسد الإسلامي الكبير، حيث يتواصل إلهاء الجماهير وصرفها عن الصراع الدائر. الصهيونية وهي فكرة تتخذ من العقيدة اليهودية منطلقًا، ومن الهدف اليهودي غاية، تلك العقيدة التي لعبت بها أهواء الشياطين من أنس وجان، تقف اليوم كدافع ديني لليهود في حربهم مع أمة التوحيد، واليهود يعلنون ذلك علنًا وعلى ألسنة عملائهم حين تتناثر كلمات الود بينهم.
في الوقت نفسه، يتعامل حكام العالم الإسلامي والنخب العلمانية بعداء وشدة حين يتعلق الأمر بشريعة الحق الإسلامية، فيسلخون كل منادٍ بالعدالة الربانية بألسنة أشحة على الخير، وتـُفتَح السجون أمام ورثة الأنبياء من علماء الأمة، ثم يغيب الحزم حين يتعلق الأمر بثروة منهوبة أو عزة وكرامة مسلوبة. ولعل أفعال المنادين بالعلمانية أصبحت أكثر وضوحًا، فقد انحصرت ادعاءاتهم التحديثية في حرب المكوّن الحضاري الإسلامي واتخاذه عدوًا، في مقابل فرش البلاط أمام الطَرح الملحد الوافد للمحتل الغازي، وتكوينهم لفجوة تنبعث من خلالها حملات التشكيك ووفود المبشرين وكل الشرائع الضالة، وفي مقدمتها الشريعة اليهودية.
ويتخذ الصراع مع الصهيونية اليوم أوجهًا كثيرة بوجود ممثلين لها من أبناء جلدتنا يتوزعون في مجالات مختلفة.
الصراع الإسلامي الصهيوني في المجال العسكري
حين نتأمل الصراعات التي دارت منذ زرعت القوى الاستعمارية في شامنا الحبيب ذلك الكيان الصهيوني الذي استولى على مقدساتنا، ونرصد تعامل الجيوش العربية بقيادة العملاء مع هذه الحروب، نجد أن الصراع اكتسى ببواعث عديدة من قومية واشتراكية وبعثية ووطنية.
فرُفعت الشعارات الفارغة لتكون خلفية للصراع، وأصمت الإذاعات والشاشات عقول الجماهير بالهتافات والأغاني الوطنية، حتى يقع تخدير الشعوب ودفعها للاسترخاء، لتتحول المعركة من مركزية العقيدة، إلى مركزية الرموز ومركزية التيارات الفكرية الوافدة، واستبدلت قيادات العسكر التكبير والتهليل بالهتاف باسم الصنم ناصر، وحشد الناس للاجتماعات الجماهيرية ليستمعوا إلى أنور مبعوث السلام والاستسلام.
في حين كان الطرف الآخر يعد العدة للجهاد المقدس، وحرب دينية ارتكزت على مقومات العقيدة، لذلك حين كانت الجيوش العربية تدخل المعارك باسم الزعيم متخذة من القومية والقـُطرية وعصبية حدود سايكس بيكو عقيدة عسكرية، كانت جيوش اليهود تفزع إلى نصوص التلمود والتوراة، حتى أفاق الجنود الذين باتوا ليلتهم في الرقص والمجون في حفل صاخب أعده لهم أحد جواسيس إسرائيل، أفاقوا في أحد أيام الحرب على خبر القصف الصهيوني للأسطول الجوي.
وتوارثت المؤسسات العسكرية مع كل طاغية جديد قيودًا جديدة في متاهة العمالة والاتفاقيات الدولية، حتى آل الحكم إلى مَن أصبح عندهم التصريحُ بالولاء للصهاينة مدعاةً للفخر وورقةً رابحةً تتيح البقاء على كراسي المهانة، حيث تسقي الجيوش المسماة وطنية كأس الفقر والقتل والترويع للشعوب، وتدوس هنا أحذية العساكر أحلام الجماهير بالحرية والكرامة، كما تدوس هناك العساكر الصهيونية منازل الأبرياء وتسفك دماء الأطفال والنساء.
وعندما تمسّك طرف بعقيدته في الصراع وسعى الطرف الآخر لتمييعها داخل المسار التوافقي مع العدو، أصبحت فقاقيع التنسيق الأمني المشترك تطفو على سطح الخيانات، إذ يُلاحق الأحرار بمقتضاه، بل يتعهد عباس تعهد الأوفياء للإسرائيليين بتقديم الغالي والنفيس في المعركة الأمنية لملاحقة كل من يزعج الجار الصهيوني.
فإذا كانت العقيدة هي المحرك الذي من شأنه أن يعدل البوصلة نحو الاتجاه الصحيح، فبتغييبها العملي عن المعارك نبقى داخل دائرة خداع المحتل الغاصب وعملائه.
الصراع الإسلامي الصهيوني في المجال السياسي
من قيود الاستبداد نهضت الشعوب لإسقاط الأنظمة الجاثمة على صدور البلدان التي سامها الطغاة أشد العذاب، وتركوها رسومًا لأطلال وهياكل لأبنية أُفرغت من روحها وحياتها، وحين أسقطت الشعوب رؤوس الطغاة سعت النخب السياسية من الجانب الآخر لمد أكف الصلح للأيادي المدنسة بدماء الأبرياء والملطخة بويلات الانتهاكات، وطلبوا التوافق مع العملاء، وهرعوا مستنصرين بالأعداء، حتى يقبلوا عضويتهم في مدينة الوحوش. هناك حيث تباع الدماء المسفوكة في المزادات العالمية، ويُتاجر بالإبادات البشرية في الاجتماعات الدولية، وتصبح المقابر الجماعية ورقة سياسية قابلة للأخذ والرد لهيئة القرار الأممية، والشرف مسألة تخضع لتفاوض الجلاد مع الضحية.
وداخل مسار يساق فيه التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت غطاء السلام، وأي سلام؟ سلام يحفظ مصالح إسرائيل الاقتصادية، وتتسلح بموجبه بالأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليًا، مدعومة من الوصاية العالمية والأوامر الأمريكية.
سلام تُسلب الأمة معه سلاحها وغذاءها ودواءها وطاقتها، وتقدم النخب السياسية معه التنازل تلو التنازل، في رحلة من الاستنزاف، ويكون معه للصهاينة موطئ قدم في الهيئات الحاكمة عبر تمثيل غير مباشر أو مباشر يفضح كل مستور.
فهذا يهودي يتسلق إلى منصب وزير للسياحة في الحكومة التونسية، حيث صمتت الأطراف العلمانية التي ما برحت تدعو لفصل الدين عن السياسة، تلك التي وقفت مستأسدة أمام إقامة الشريعة الإسلامية، وشاركها في ذلك الحزب الإسلامي. صمتت حين اعتبر الوزير أن يوم السبت يوم مقدس لدى اليهود لا عمل فيه، فما كان من معادي الشريعة الإسلامية الداعين لفصل الدين عن السياسة إلا أن سكتوا وما سُمعت أصواتهم، وهم الذين اعتادوا اتهام الأفكار الدينية بالظلامية والرجعية، فلم تسعفهم جرأتهم على دين أهل البلد في نقد رفض اليهودي العمل في يومهم المقدس احترامًا لدينه، فأين الذين بُحَّت أصواتهم في دعم القوانين التي تصادم شرع الله في المواريث، وأين من ينادون بحرية زواج المسلمة بغير المسلم؟!
ليتضح بجلاء أن مهمة النخب المتغربة والعلمانية هي استهداف تغييب الإسلام خصوصًا عن الحكم والحياة والمجتمع، وأن دورهم هو تمهيد الطريق أمام الغزو الخارجي، وأن خطاباتهم فيما يتعلق بالمدنية الحديثة والديمقراطية محض خداع وألوان زيف يتلونون بها ليسحروا كل من ألقى لهم سمعه، فكيف بمن باع الهوية أن يحفظ ما دونها من المطالب الاقتصادية أو الاجتماعية؟!
الصراع الإسلامي الصهيوني في المجال التربوي
كثيرًا ما نسمع في بلداننا العربية عن تعديلات في البرامج التعليمية، لا تكون أبدًا تعديلات نحو البناء المتكامل للتكوين العلمي لبراعم وآمال المستقبل، تمكنهم من التأهل لحمل المسؤوليات ومقارعة التحديات، بل تكون دائمًا في اتجاه الانبطاح لما يُفرض من إملاءات خارجية نحو إلغاء الوازع الديني، وتغييب الحس الحضاري الإسلامي، واستبدال التربية المحمدية برواسب الأقلام الغربية.
لتمتد أيادي العبث للمناهج التربوية، وتلغي منها ما تراه هي دعوة للعنف أو نبذ الآخر، الآخر الصهيوني الذي يريد إنشاء أجيال هشة مضطربة من المسلمين، محشوة الشعور بالمتناقضات، متراكمة الفكر بالشبهات، منفصلة عن تاريخها وعن سياقها الحضاري، منبتة عن واقعها، تصارع طواحين الرياح من الجدليات والخرافات الشاذة، قابلة للعدوى بكل الأمراض الاجتماعية والعقد النفسية. أجيال يكون آخر اهتمامها إعادة الحياة إلى نسقها الطبيعي، وإرجاع البشرية من وحشة المناهج المادية الهدامة لكرامة الذات الإنسانية، حيث تنعم بالاستعلاء على ركام الشهوات واستنزاف البشر.
وهي حملة يقودها من تسموا زورًا التنويريين، الذين اعتلوا مراكز التربية في بلداننا، فأصبح الواحد منهم يناضل لمحو البسملة ويصب جهود المؤسسات لمنع الصلاة داخل المعاهد التربوية. بل تتداعى القوى العلمانية والإعلامية والأمنية لغلق مدارس تعليم القرآن، ويصرخ الساسة أن أخرجوا أهل القران من أرضكم فإنهم أناس يتطهرون. هكذا يريدون عبثًا إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره.
بينما في الضفة الأخرى من الصراع يسعى الصهاينة إلى إشباع البرامج التعليمية بالحس الديني فيما يشبه معسكرات الإعداد والتجنيد، مع توجيه المناهج بالمواد التي تتمحور حول كره العرب واحتقارهم؛ فلا نسمع أحد الناعقين من تنويريي العرب يصف هؤلاء بأنهم يُدرّسون أجيالهم التطرف أو العنف، بل لا نسمعهم إلا حين يأمرهم أسيادهم بأن يدمروا عقول المسلمين بأهوائهم التي يُسبِغونها صبغة الحداثة، ويغطونها بستار من المصطلحات الكاذبة.
ليتواصل تزييف الحقائق تباعًا، وتغييب كل ما من شأنه أن يُنهض الشعوب وينفخ فيها شوق لعودة مجد، وكي لا تتحول أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، وحتى تبقى الأذهان داخل القفص الوهمي المتواطئ مع إملاءات النظم المستبدة، وتصبح العقول مهذبة على رفض محاولات التغيير، وعلى النمطية التي تقتل كل إبداع ونبوغ، وخوفًا من أن توجه هذه الطاقات نحو حقيقة المشهد بكل تفاصيله.
وبين هذه الجدران من السراب الذي تقيمه قوى الغزو الفكري وتروج له النخب المستغربة، تسجن روح مقاومة الطغيان، ويكبح جماح التحليق في سماء الحرية، كي يعمل صهيون على هدم المقدسات واستباحة الأعراض دون مشاكل، ولأن العقيدة هي دافع الصراع، ينشط العملاء في بلداننا على تغييبها.
دور النخب العلمانية في صراع الإسلام مع الصهيونية
لقد انحسر دور النخب العلمانية على اختلاف مراكز تأثيرها في حرب العروة الوثقى للرسالة الحضارية الإسلامية، والعداء لكل ما من شأنه أن يجمع الشعوب على أهدافها الحقيقة، وأن يعيد الكرامة للجماهير التي نفضت غبار الاستبداد، وتهيأت لتخرج من عباءة الطغيان، فما أن لاحت خيوط النور حتى انتفض المهرجون الداعون للاستنارة، وراحوا يحقنون المزاج العام بالسموم المخدرة، وأشعلوا حرائق الخلافات الفكرية، وأطلقوا الشهوات الحيوانية من عقالها، وكسوا ذلك كساء من التحضر ومحاربة الرجعية، ودفعوا بحملة الشذوذ الفكري إلى المنابر يهتفون بالأوهام، ويدسون الدسائس ويغرضون في الثوابت، وصرفوا الجماهير عن حقيقة الصراع.
ذلك الصراع الذي كانت نتائجه فصل الأمة عن ركائزها وسلبها لثرواتها وتنصيب حكام يعملون لصالح الصهيونية بوفاء، لكن الصراع انطلق بصرف الأمة عن عقيدتها ابتداء، وتقييد الفكرة التي من شأنها أن تطلق الحركة الدافعة في النفوس من جديد، وأن تحشد الطاقات المتوقدة لإصلاح ما أفسدت سنوات الركود، وأن تنتفض من بعد طول سكونها في وجه من يحملون الأسماء العربية والقلوب الأمريكية.
المصادر
- وتحطمت الطائرات عند الفجر.
- المسجد هدفًا .. خطوات نحو القضاء على مكمن العقيدة.
- عرض كتاب: معركتنا مع اليهود.
- التنسيق الأمني مع إسرائيل.
- حذف “البسملة” من الكتب المدرسية بالجزائر يجدد الصراع حول الهوية.
- التعليم الديني في إسرائيل العلمانية… تربية الأطفال على الكراهية!.
- احتجاز تلامذة المدرسة القرأنية بالرقاب – تونس.