الولايات المُفكَّكة الأمريكية

هذا المقال ترجمة لتقرير: The disunited states of america في موقع: economist.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

ترجمة/ ربى الخليل

تحرير/ عبد المنعم أديب

انزلاق الولايات من وصفها “مُختبرات”[1] للديمقراطية إلى مجرد “أوعية تجارب” للاستقطاب السياسي.

شهد[2] يوم 25 أغسطس/ آب صدور قانونين عن ولايتين شتَّان ما بينهما في العقلية. ولاية كاليفورنيا تحظر مبيعات سيارات البنزين الجديدة بحلول عام 2035، في خطوة من شأنها أن تعيد قولبة قطاع صناعة السيارات، وتخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بينما تلقي بثقلها على الشبكة الكهربائية في الولاية. وفي اليوم نفسه أصدرت ولاية تكساس قانونًا مثيرًا للجدل يحظر الإجهاض بمجرّد أن يصبح ممكنًا رصدُ نبضِ قلبِ الجنين، حتى إذا كان الحمل ناجمًا عن سفاح قربى أو اغتصاب، مع فرض عقوبة السجن حتى 99 عامًا على منتهكي القانون.

للوهلة الأولى، قد لا يبدو الحدثانِ مرتبطين؛ إلا أنهما مؤشران لاتجاه هام. وفيما تطبق حالة من الجمود على العاصمة واشنطن؛ تتقدم الولايات الأخرى بوتيرة مُتسارعة في سَنِّ سياساتها، وهو من الناحية النظرية ليس بالأمر السيء.

من خلال ولاياتها الخمسين؛ لدى الولايات المتحدة خمسون مُختبرًا لاختبار جودة سياساتها من عدمها[3]. فلسُكَّانها حرية انتقاء مكان عيشهم، كما حال الشركات بالاختيار حيث تناسبها القوانين المحلية الأخف ثقلًا (كما حدث خلال فترة الجائحة). ولكل ولاية منها القدرة على المفاضلة ما بين ثقل ضرائبها وسخاء خدماتها العامة، كما يسعها استنباط الدروس من جيرانها في الارتقاء بمدارسها وقوانينها الناظمة للتجارة.

المؤسف في الأمر أن هذا الهيكل البنّاء للفيدرالية لا يندرج ضمن مساعي ساسة الولايات المتحدة في الوقت الراهن؛ مع انهماكهم في حرب ثقافية وطنية تلهب الصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ حيال إملاء الموضوعات المراد مناقشتها في الفصول المدرسية، ومدى سهولة اقتناء الأسلحة، وطبيعة التدخلات الطبية المعروضة على المراهقين المتحولين جنسيًا، وماهية المزايا التي يمكن للمهاجرين غير الشرعيين المطالبة بها. إنما لا نرى هذا الصراع مستعرًا في قضايا مثل تأهيل الطرق أو إصلاح السياسة الضريبية. بينما ينحى الساسة المعتدلون إلى تخفيف حدة هذا الهيجان وتوجيهه لصيانة الطرق، وسط تجاهل ساسة عديد الولايات لآرائهم.

يُعزى هذا الموقف المتشدد إلى هيمنة حكم الحزب الواحد على 37 ولاية من أصل الخمسين يقطن فيها ثلاثة أرباع الأمريكيين، فيما شهدت السنوات الثلاثون المنصرمة تضاعفًا لعدد الولايات التي يسيطر حزب واحد على المجلسين التشريعيين ومنصب الحاكم. وتعكف هذه الولايات على استدامة وضعها الراهن عن طريق توجيه الحزب الحاكم للخرائط الانتخابية لصالحهم، فيما لرجال الساسة أصحاب المناصب الآمنة تمامًا دوافعُ متشددة؛ إذ لا يهابون خسارة الانتخابات العامة -خلافًا للانتخابات التمهيدية- التي يعود القرار فيها لأعضاء الحزبين، أصحاب الدافع الأكبر للمشاركة في عملية التصويت. والسبيل الأمثل للتودد لهؤلاء المتحزبين يكمن في تفادي التسويات.

وعلى هذه الأرض الخصبة تنامت بذور التطرف؛ حيث يرى غالبية سكان ولاية تكساس أن القوانين الجديدة الخاصة بالإجهاض صارمة للغاية بمعزل عن اعتبار غالبيتهم -في الوقت نفسه- القوانين المحلية السابقة متساهلةً جدًا. على ذلك، كان بوسع المُشرِّعين في ولاية تكساس التوصل إلى تسوية لولا هيمنة الحزب الواحد عليها.

كما نشبت مواجهات سياسية جديدة ما بين ولايات تجازي كل من يسعى للإجهاض أو بالخضوع لعملية تغيير الجنس في ولايات أخرى، وولايات توفر الملاذ الآمن لهذه الشرائح من الناس. والولايات الزرقاء تحثّ على مقاضاة الشركات الصانعة للأسلحة فيما تعكف الولايات الحمراء على مقاضاة ولاية كاليفورنيا بغية عرقلة جهودها لسَنِّ معاييرها الخاصة حيال الانبعاثات الكربونية.

الولايات المتحدة الأمريكية

وفي إطار آخر من المواجهة بادر حاكم تكساس، غريغ أبوت، انطلاقًا من ترويجه لليونة الشديدة التي تتعامل فيها الولايات الزرقاء مع المهاجرين غير الشرعيين، إلى إرسال حافلات تغصّ بالمهاجرين إلى نيويورك. إن التركيز على الخلافات على مستوى الولايات؛ لا يعدو عن كونه –في أفضل حالاته- مجرد تشتيت الانتباه عن المشكلات المحلية التي جرى انتخاب حكام لتسويتها. كما عكف حاكم فلوريدا، رون دي سانتيس، ومرشح محتمل للرئاسة الأمريكية على استصدار قانون ” Stop woke Act” لتقويض طريقة مناقشة المسائل العرقية في المدارس، وكثف من الأمثلة بهذا الشأن في بياناته الصحفية، لكن أيًّا منها لم تقع في ولايته.

ومن شأن هذه الشقاقات الحزبية أن تكرِّسَ الفكرة حيال صعوبة توافق الولايات الزرقاء مع الولايات الحمراء[4] بمعزل عن خلافاتها. الأمر الذي يفسح المجال أمام حوار وطني على قدر أكبر من التشنج والحديّة، ناهيك عن تأثيره السلبي على قطاع الأعمال في أمريكا. ففي الوقت الذي كانت فيه البلاد بمثابة سوق عملاقة منفردة تلجأ ولايتا كاليفورنيا ونيويورك إلى الضغط على الشركات لتتبنى السياسة الخضراء؛ في الوقت الذي تفرض ولايتا تكساس وفرجينيا الغربية الجزاءات عليها لقاءَ الانحياز للطاقات المتجددة على حساب النفط والغاز. حتى أن تكساس تمادت في سعيها هذا بإدراج عشرة شركات مالية في القائمة السوداء لانحيازها المُبالِغ تجاه السياسة الصديقة للبيئة.

بيد أن الشاغل الأكبر يكمن في احتمال تأثير هذا الشقاق الحزبي في زعزعة أركان الديمقراطية الأمريكية نفسها. فالعديد من الجمهوريين، من أجل ضمان الفوز بالانتخابات التمهيدية، يعمدون إلى تبني الكذبة الكبرى التي جاهر بها دونالد ترامب حيال فوزه على جو بايدن عام 2020. حتى أنه في العام نفسه عمد تحالف من المدعين العامين الجمهوريين إلى مقاضاة ولايات أخرى سعت لإبطال أصواتها.

ويرجح أن يمتد هذا الشقاق بمعزل عن مخرجات انتخابات منتصف الولاية الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام. هذا لا يعني أن حربًا أهلية ثانية تقرع أبواب الولايات المتحدة -كما يتكهن بعض المحللين المتحمسين-؛ إلا أن آفة العنف السياسي تعصف بالبلاد ويرجح أن تتفاقم حدته.

ويلقي هذا الاعتلال الأمريكي بثقله على العالم المعتمد على الدور الجوهري الذي تضطلع فيه أمريكا في حراسة النظام المحكوم بالقوانين (أو ما بقي منه) بغية ردع المعتدين عسكريًا من جانب، ولتجسد نموذجًا للحوكمة الديمقراطية من جانب آخر. والجانبان يعكسانِ مدى سوء المعالجة الأمريكية لهما. ما الذي يجب فعله لدرء هذا الانزلاق؟

يتوجب على الحكومة الفيدرالية التوقف عن إهمال واجباتها. والأحرى أن يضطلع المسؤولون على المستوى الوطني -لا على مستوى الولايات- بسَنِّ السياسات العامة كالهجرة والتغير المناخي. كما تعتبر الإجراءاتُ الإصلاحية الكفيلة بكسر الجمود -في واشنطن العاصمة على سبيل المثال- الحدَّ من العرقلة في مجلس الشيوخ خطوة ناجعة في هذا السياق. لكن الأهم أن الولايات المتحدة بحاجة إلى إصلاح قانون الانتخاب.

كما يتعين عليها وضع حدّ لأعمال الغش والتدليس؛ التي تعطي السياسيين فرصة اختيار ناخبيهم لا العكس. إلى جانب وجوب تعديل الدوائر الانتخابية عبر لجان مستقلة، على غرار ما قامت به ميشيغان؛ بغية النأي عن تسيس العملية، وبالتالي يحول دون نجاح أي حزب في تثبيت أركانه. كما من شأنِ إيجادِ عدد أكبر من الدوائر الانتخابية المتنافسة بين الحزبين أنْ تحضَّ عددًا أكبر من السياسيين على استقطاب الوسطيين.

استطرادًا، ينبغي إتاحة المجال أمام إنشاء دوائر انتخابية بمقعدين، بدلًا من مقعد واحد؛ عوضًا عن تقسيم الدوائر والسماح لها بانتخاب ممثل واحد فقط. وهي خطوة من شأنها أن تزيد من تنوع الأصوات في انتخابات مجالس الولايات النيابية والكونغرس. كما من الضروري ترتيب الخيارات المفضلة بين المرشحين ضمن قائمة؛ بحيث يتم احتساب الخيارين الثاني والثالث للناخبين في حال لم يتمكن أي مرشح بين الخيارات الأولى من الفوز بالأغلبية الصريحة تعزيزًا لنهج الاعتدال. ويجدر التنويه إلى أن ألاسكا تبنت إجراء ترتيب الخيارات هذا الأسبوع؛ الأمر الذي ضمن استبعاد سارة بالين عن دخول الكونغرس. ويمكن لولايات أخرى أن تنحو إلى تبني سياسات مختلفة.

كما يضطلع الناخبون بالمسؤولية في هذا السياق. وفي عصر وسائط التواصل الاجتماعي تتفاقم صعوبة تجاهل الهيجان العارم والتصويت للزعماء المتحمسين على تأدية أعمالهم. لكن يبقى البديل عن ذلك جليًّا في تعميق الشقاق الراهن الذي لن ينجم عنه أي خير.

منزل منقسم

الولايات المتحدة الأمريكية

إذا أردت استشراف مستقبل أمريكا ما عليك؛ إلا أن تُشيح بنظرك عن العاصمة واشنطن صَوْبَ حاكم الولاية الأكثر تحفظًا “ميسيسيبي”، وحاكم الولاية الأكثر تقدمًا “كاليفورنيا”.

بدا حاكم ولاية ميسيسيبي الجمهوري، تات ريفز بنظارته الطبية وطلَّته الواثقة في قمة الرضا؛ حيث أقرَّتْ ولايته في عام 2018 القانون القاضي بحظر الإجهاض بعد الأسبوع الخامس عشر من الحمل؛ مما تسبب في إعادة القضية إلى المحكمة العليا التي لا تميل فقط إلى دعم القانون؛ إنما إلى إلغاء قانون “رو ضد ويد” الذي منح حكام الولايات سَنَّ القوانين الخاصة بهم في قضية الإجهاض.

ولم يخفِ السيد ريفز زهوه بقوانين الحظر الأخرى لولايته، في مؤتمر المحافظين الأمريكيين في مدينة دالاس في أغسطس/ آب؛ بدءًا من قيود التطعيم، مرورًا بتقويض مناقشة النظرية العرقية النقدية، وصولًا إلى قرار يتعلق بمشاركة الطلاب المتحولين جنسيًّا في الأنشطة الرياضية المدرسية على أساس الجنس الذي يقرونه. وهو ما أعرب عنه بالقول: “أعتقد أن ولاية ميسيسيبي كانت لها الريادة في القضايا الاجتماعية والثقافية على مدار سنوات عديدة”. مُبديًا عزمَه على مواصلة هذا التصدر، فيما امتنع عن التصريح بطبيعة السياسات المستهدفة من قبله ومن قبل ولايته في الفترة اللاحقة، واكتفى بالتنويه إلى “العزم على إيجاد الفرص لبذل المزيد من الجهود”.

ولا يُضاهي تفاؤلَ السيد ريفز في شدته؛ إلا إحباطُ حاكم كاليفورنيا، غافين نيوسام، على بعد 2700 كم (1700 ميل)، حين قال: “إنه الانهيار العظيم حيث انهارت كل إنجازاتي خلال الخمسين عامًا”.

ويسعى الديمقراطيون في كاليفورنيا إلى توطيد القيم الليبرالية المُهدَّدة بنظر الحاكم؛ حيث أقر نويسام في يونيو/ حزيران قانونًا يحمي كل من يقدم على الإجهاض أو يعمد إلى تسهيله في ولاية كاليفورنيا ضد مقاضاتهم في الولايات التي تحظر الإجهاض. ومؤخرًا شرع في الإعفاءات الضريبية للشركات التي تعتزم مغادرة الولايات التي تعيق الإنجاب وتحد من حقوق المثليين والمتحولين جنسيًا.

استطرادًا، تعتزم كاليفورنيا الإعلان عن نفسها كملاذ آمن للأطفال المتحولين جنسيًا، وحمايتهم من مقاضاة الولايات لهم في المحاكم ضد خضوعهم للعمليات الجنسية المواءمة لميولهم.

فالسيد نيوسام لا يرى ذلك اختلافًا بقدر ما يعتبره دفاعًا نشطًا. وأكدَّه بالقول: “أنحو إلى الرد على لكمات المتنمرين لامتعاضي من أفعالهم”. واستعان بأموال الحملات الانتخابية لتوجيه تلك اللكمات؛ حيث قال في إعلان مُتَلْفَز بُثَّ في الشاطئ المقابل: “أحضُّ سكان فلوريدا على المشاركة في المعركة أو الانضمام إلينا في كاليفورنيا في المكان الذي نواصل فيه الإيمان بالحرية”. ومضى بالقول: “حرية التعبير وحرية الاختيار والتحرر من الكراهية وحرية الحب”.

بمعزل عن الاختلاف، ثَمَّةَ توافقٌ بين السيد نيوسام والسيد ريفز حيال استقطاب الحكومة الفيدرالية جلّ الاهتمام؛ فيما تنبثق السياسات التي تهم حيوات الناس في الولايات فقط.

تعكس تلك السياسات تنامي الاستقطاب الإيديولوجي في أمريكا، وبهذا السياق يؤكد هذا التخوف كريس ورشو من جامعة جورج واشنطن (والمؤلف المُشارِك للكتاب المُزمَع نشره “الديمقراطية الديناميكية”) قائلًا: “لم نشهد من قبل مثل هذا التفاوت في السياسات التي تنتهجها الولايات”. فالولايات تنتهج اتجاهات مغايرة في سياساتها الاجتماعية والاقتصادية؛ وهو ما من شأنه أن يتمخَّض عن عواقب سيتلمَّسُها كل الأمريكيين؛ مهما كان تموضعهم على الطيف السياسي، ناهيك عن تداعياتها في أرجاء العالم.

في مسعاهما لبلورة حجم الشقاق بين الولايات، عكف كلٌّ من السيد ورشو وديفين كوجي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، على تحليل 190 نهجًا سياسيًا من حقبة الثلاثينيات وحتى 2021. وتبين بالعموم تبني الولايات المزيدَ من الليبرالية؛ حيث عمدت -على سبيل المثال- إلى تقويض القيود العرقية والقيود على مشاركة النساء في هيئات المُحلَّفين، وحلحلة قوانين تجريم اللواط. بالمقابل اتسعت الفجوة بين الولايات بين المتشددين من اليمين واليسار (وهو ما يظهره الرسم البياني رقم /1/). فيما توقع ورشو “تفاقم حدة التباين”.

في ولايتَيْ كاليفورنيا وميسيسيبي، إبان الانتخابات الرئاسية؛ كانت الكفة منذ عام 1972 تتمايل بين اليسار واليمين تباعًا، مع استثناءات قليلة (غداة فوز الجنوبي جيمي كارتر على الميسيسيبي، ورونالد ريغان التمس ودّ ولاية كاليفورنيا). (انظر للرسم البياني رقم /2/)

وتجلى الاختلاف في النهج السياسي على مستوى الولايات في فترة قريبة وعلى قدر من الدراماتيكية. وهو ما تبدَّى في عموم الولايات؛ حيث نحا الناخبون للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية إلى إبداء قدر أكبر من التحفظ في بناء سياسات الولاية على غرار ما حصل عند الديمقراطيين، وبالأخص في الولايات التي يهيمن عليها الحزب الديمقراطي. (يمكن الاطلاع على الرسم البياني رقم /3/).

في غضون ذلك، تلاشت تقريبًا الولايات التي كان يميل ناخبوها للتصويت إلى اليسار بعض الشيء في الانتخابات الرئاسية؛ في الوقت الذي ينهج ساساتُهم سياساتٍ أمْيَلَ إلى اليمين، والعكس بالعكس. 

وقضية حظر الإجهاض من عدمه كفيلة بمفردها أن تعكس جدية تكهنات السيد ورشو حيال تفاقم التباين بين الولايات. ومع بطلان قرار المحكمة السابق؛ المتعلِّق بقضية “رو ضد ويد”، والذي مَنعَ بمقتضاه الولاياتِ من حظر الإجهاض قبل أن يتمكن الجنين من الحياة خارج الرحم، أيْ ما يقرب من 24 أسبوعًا من الحمل؛ مع بطلانه استجابت الولايات له حيث يرجح أن يبادر النصف منها إلى تفعيل الحظر أو تشديد شروط تطبيقه، كما باشرت 12 ولاية بتطبيق الحظر الفوري؛ اثنتانِ منها حظرت الإجهاض في الأسبوع السادس من الحمل.

أسباب انقسام الأمريكيين

السبب الأول يتمحور حول الإجهاض؛ حيث عكف النصف الثاني[5] من الولايات على سَنِّ القوانين لتفنيد حقوق الإجهاض أو ضمان الرعاية الصحية للمعنيين. فولاية كونيتيكت -على سبيل المثال- سمحت لمُساعِدي الأطباء والقابلات بإجراء عمليات الإجهاض. وفي أغسطس/ آب أجهزت ولاية كانساس على مشروع قانون مقترح لتعديل الدستور يرمي إلى تقييد الإجهاض.

ومن المقرر إدراج تدابير الإجهاض في ما لا يقل عن خمس عمليات انتخابية على مستوى الولايات هذا العام، وهو رقم قياسي. ويرجح أن يطالب الناخبون في ولايتي كاليفورنيا وفيرمونت على إدراج حقوق الإنجاب في دستورهما.

لا تقتصر التهديدات على حقوق الإنجاب فقط بل تتعداها إلى المعارك حيال الأسلحة وحيازتها ليكون عاملًا آخر للشقاق. حيث شرعت عشر ولايات هذا العام إلى فرض قيود جديدة على عملية شراء أو حمل الأسلحة النارية، في الوقت الذي يسعى فيه حُكَّام ومُشرِّعو الولايات الجمهوريون إلى تخفيف حدة تلك القيود. فيما تبنَّت ولايات أخرى قوانين “السماح بحيازة الأسلحة دون إذن”؛ مما اقتضى إلغاء كل القيود المفروضة على حيازة الناس للأسلحة علنًا، من بينها كانت ولاية أوهايو الولاية الـ23 التي طبقت القرار، وذلك في يونيو/ حزيران؛ حيث وقَّعَ حاكمها الجمهوري مايك ديواين في الشهر نفسه على قانون يُخوِّل تسليح المعلمين داخل الفصول الدراسية بعد 24 ساعة من التدريب بعد أن كانت 700 ساعة.

ثم تبرز قضية المهاجرين غير الشرعيين لتكون مسرحًا ثالثًا للتباين. بالعموم كان تفعيل قانون الهجرة من اختصاص سلطة الحكومة الفيدرالية. لكن الولايات كثفت من تغيير التجارب والتداعيات لسكانها ممن لا يملكون أوراقًا ثُبُوتيَّة. وكما أوضح البرفيسور كين ميللر من جامعة كليرمونت ماكينا؛ فإن كاليفورنيا بادرت إلى تقنين وضع المهاجرين غير الشرعيين بحكم الأمر الواقع من خلال قوانين مختلفة. لتغدو في يونيو/ حزيران أول ولاية تطبق برنامج Medicaid لتسديد التكاليف الطبية وضمان التأمين الصحي الحكومي للفقراء والبالغين من ذوي الدخل المنخفض، بغض النظر عن وضعهم القانوني كمهاجرين.

بالاتجاه المضاد رفض حاكم تكساس غريغ آبوت إدراج ذوي الدخل المنخفض من مواطني ولايته وغيرهم ببرنامج Medicaid؛ بل أوعز لشرطة الولاية بإعادة  المهاجرين غير المصرح لهم إلى الحدود، كما أبدى عزمه على إيقاف الدفعات لأطفال المهاجرين غير الشرعيين للالتحاق بالمدارس العامة. أما فحوى الموضوعات الواجب تدريسها للأطفال الذين يرتادون المدرسة (كإدراج الدراسات العرقية في كاليفورنيا، والدراسات الأمريكية الأفريقية واللاتينية في ولاية كونيتيكت والنظرية العرقية النقدية السائدة في عديد الولايات) فهي قضية مختلفة تمامًا.

وتَلُوح منطقة صدام أخرى بين سياسات الولايات ألقت بأثرها على مستوى البلاد تتعلق بنظام العملية الانتخابية وارتباطها بالتصويت المبكر، وشروط خاصة ببطاقة الناخب، والتصويت عبر البريد، والسجال حيال منح المجرمين حق التصويت. في عام 2021، طبقت 29 ولاية ميزة التصويت عن طريق البريد، ومنعته 13 ولاية.

كما وضعت الولايات التي يهيمن عليها الجمهوريون نصب أعينها النظام الانتخابي، وعمدت -على سبيل المثال- إلى انتزاع السلطة الرقابية من البيروقراطيين غير المتحزبين إلى كيانات سياسية أخرى؛ الأمر الذي من شأنه أن ينعكس سلبًا على عملية المصادقة على نتائج الانتخابات.

تستمد الهوية القومية الأمريكية معناها الحرفي من اسم البلاد “الولايات المتحدة الأمريكية”. وكانت المستعمرات الثلاثة عشرة -التي تحولت إلى ولايات- متوجسة من فرض الحكومة الفيدرالية سلطتها عليهم. وهو ما دفعهم لضمان الحُكم الذاتي قبل المصادقة على الدستور. وأكثر ما تجسد هذا الهاجس عندما تلمست الولايات المستعبدة الحاجة إلى سنّ قوانين استعباد خاصة بهم ترتكز على العرق. لكن المشكلة أكثر اتساعًا.

اعتقدَ المؤسسون أنَّ الجمهوريةَ الفيدراليةَ المؤلفة من ولايات على قدر كبير من التميز والتنوع؛ مُحصَّنةً من التعصب المحفوف بالمخاطر. وبهذا الشأن كتب جيمس ماديسون: “قد يوقد تأثير القادة المتحزبين نارًا داخل ولاياتهم لكنهم سيعجزون عن نشرها في  الولايات الأخرى”.

الاستدارة والتعويض

خريطة توضح الدول الفيدرالية في العالم.

لا يعد النموذج الفيدرالي الذي جسده الدستور فريدًا من نوعه؛ حيث تجد في أستراليا وكندا وألمانيا أنظمة حكم مماثلة. لكنْ يمتاز النموذج الأمريكي بسمات خاصة أهمُّها التعديل العاشر للدستور؛ والذي ينصُّ على منح الولايات السلطات التي لم يفوض الدستور الحكومة الفيدرالية بها.

بالمقابل أشار دون كيتل (الأستاذ الفخري في مدرسة السياسة العامة في جامعة ماريلاند) إلى أن دولًا أخرى مثل كندا وأستراليا اتبعت نهجًا أكثر حزمًا في السلطات التي تتمتع بها الحكومة، مُضيفًا أنه في أمريكا كانت على النقيض مع “انعدام الاستقرار في العلاقة بين الولايات والحكومة الفيدرالية”.

ويمكن تصوُّر العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات بلعبة شدّ الحبل؛ إذ كانت الولايات في معظم تاريخ البلاد تشدّ الحبل إلى طرفها. في عام 1861 -وانطلاقًا من تخوفها من شد الحكومة الفيدرالية الحبل لطرفها بقوة- نَحَتْ ولايات الجنوب تجاه الانفصال، وغداة ضمِّها إلى البلاد -على إثر الحرب الأهلية- فرض عليهم الدستور إبطال سياسة العبودية المعمول بها لديها. إلا أن هذا لم يحُدَّ من قوة ولايات الجنوب والشمال.

وبرزت معالم حركة جديدة مُضادة نتيجة انزلاق البلاد إلى الكساد الكبير، وتعززت بإيمان الرئيس فرانكلين بضرورة بلورة استجابة وطنية قوية، ومن هنا تبلورت الصفقة الجديدة (نيو ديل( لتكون نقطة انطلاق لنصف عقد من الزمن تنامى فيه نشاط الحكومة الفيدرالية. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتكرس هذا الهدف الوطني، وتوطدت حركات الحقوق المدنية على حساب ما تعتبرها حكومات الولايات الجنوبية حقوقًا لها. وأفسح المجال أمام تحقق استثمارات وأنظمة فيدرالية ودعاوى عززت من المعايير التي تضبط برامج الرفاهية وسِنّ تعاطي الكحول ومعايير حماية البيئة وغيرها؛ بحيث أعيد ضبط وتوحيد أمريكا.

ويشير علماء السياسة أن حقبة الثمانينيات شهدت تبدلًا آخر في لعبة شدّ الحبل. وشرع رونالد ريغان بتبني سياسة “الفيدرالية الجديدة” أعاد بموجبها السلطات للولايات. وفي فترة التسعينيات حيث أُسدِلَ الستار على هيمنة ديمقراطية متواصلة على مجلس النواب على مدار ستين عامًا، انبثق عهد من الاستقطاب الوطني الجديد.

تأثير سيء أم جيد

الانتخابات الأمريكية

كانت الانتخابات الرئاسية لعام 2000، التي تأخَّر حسم نتائجها بدايةَ حديث العامّة عن الولايات الزرقاء والولايات الحمراء، والمواظبة على تتبع الخرائط الانتخابية ذات اللونين التي تظهر في القنوات الإخبارية. وقد دلَّ هذا على حدوث تحول جوهري حدَّد طريقة سهلة لتبيُّن معالم الفروق السياسية.

وشرعت الولايات الحمراء في عهد باراك أوباما في شد الحبل بقوة لطرفها؛ حتى أن بعضها رفضت سياسات الحكومة الفيدرالية كقانون الرعاية الصحية، واضطلع المُدَّعون العامُّون بدور هائل في خوض معارك قضائية ضد واشنطن، واستحالت ولاية تكساس رائدة المقاومة.

وأظهرت الولايات آنذاك استعدادًا مُتناميًا لاستغلال حقوقها في إطار حزبي محدد، وتوجيه سهم أحمر إلى السلطة المركزية زرقاء المنبع. وجاءت الفترة الرئاسية لدونالد ترامب لترسخ استراتيجية مضادة ذات توجه مقاوم مماثل من قبل الولايات الزرقاء. كانت كاليفورنيا في مركزها، وبلورتْ سياساتِها الخاصةَ ضد واشنطن العاصمة، والتي شملت قضايا مثل التغير المناخي والهجرة. على ذلك صار استعدادُ حكومات الولايات للعمل على تحدي الحزب القائم في الحكومة الفيدرالية؛ أحد الجوانب الحزبية المتبقية للسياسة الأمريكية.

وألقت جائحة كوفيد الضوء على مدى التباين في سياسات الولايات، عقب تفويضها بصوغ سياساتها الخاصة لتفادي الجائحة. إذ جنحت الولاياتُ الزرقاء إلى إلزامية ارتداء الأقنعة والتطعيم وإغلاق قطاع الأعمال، بينما نَحَتْ الولايات الحمراء نحو اتجاه مغاير.

وهكذا ساهمت جائحة الكوفيد في إحداث الشقاق بين الولايات، وانحازت كل منها إلى طرف في المعركة الوطنية حيال إيلاء الأهمية للصحة العامة أم للصحة الاقتصادية. وهو ما دفع حاكم كاليفورنيا الجمهوري، كيفين ستيت، بإدراج كوفيد-19 وردودِ الفعل المتباينة تجاهه كأحد أسباب “وصول الولايات الزرقاء والولايات الحمراء إلى درجة من التباين لم تصل إليها من قبل”.

وتتجاوز الخلافاتُ حدودَ القضايا الأيديولوجية المثيرة للجدل وقوانين التصويت. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار السياسة الاقتصادية تبرز اختلافات في الاستراتيجيات الضريبية التي تنتهجها الولايات، فضلًا عن مواقفها من النقابات وفرضها الأنظمة الخاصة على قطاع الأعمال.

كتب القاضي في المحكمة العليا، لويس برانديز، رأيًا مخالفًا خلال مناقشته قضية بيع الثلج في مدينة أوكلاهوما عام 1932 قائلًا: “بِناءً على خيارات أبنائها، بوسع ولاية شجاعة أن تعمل كمختبر لتجربة تجارب اجتماعية واقتصادية جديدة دون المخاطرة بباقي البلاد”. استعارة مُرضِية ترسخت لاحقًا إذ عكفت الولايات في الفترة اللاحقة على خوض تجارب في الشؤون الاقتصادية لتتجسد كإحدى نقاط القوة في النظام الفيدرالي.

وفي الوقت الراهن توسع نطاق السياسات الاقتصادية المُجرَّبة في مختبرات الولايات لتشمل أمورًا عدةً؛ من بينها الحد الأدنى للأجور والإجازات الصحية مدفوعة الأجر، وتوصيف أنواع محددة من العمال المستقلين كموظفين جراء تنامي اقتصاد المهن المتنقلة، فيما تتفوت المنافع ومعايير الحماية طردًا مع الولاية التي يقيمون فيها.

ومن بين عوامل تعزيز الشقاق تبدَّت على نحو خاص سياساتُ التصدي للتغير المناخي  والتقليل من تكاليفه. إذ أصدرت كاليفورنيا في أغسطس/ آب قانون حظر مبيعات سيارات البنزين بحلول عام 2035. وفي يوليو/ تموز، أعربت ولاية فرجينيا الغربية عن عزمها إيقاف التعاون مع خمسة مصارف كبرى لانتقادها استخدام الفحم.

ألقت هذه الأجواء بثقلها على الشركات التجارية العاملة على المستوى الوطني في ظل المتاعب والاضطرابات، التي انبثقت عن تفاقم التباين في القوانين الاقتصادية والتي تقوض من فوائد إيجاد سوق محلية مفتوحة برقعة ممتدة.

كما يبرز تحدٍ آخر في التعاطي الحذر للغاية في القضايا الثقافية والاجتماعية التي ارتأى ساسة الولايات الحمراء الراعية لقطاع الأعمال إيلاء العناية بها. ففي فلوريدا دأبت شركة ديزني هذا العام على انتقاد مشروع قانون يحد من النقاش حيال الميول الجنسية أو تحديد الجنس في الفصول الدراسية. مما دفع حاكم فلوريدا رون دوسانتس إلى إلغاء عدة مزايا تتمتع بها الشركة في الولاية.

إذا كان من الممكن إخضاع هذا التنوع والتباين للتجارب بغية الخروج بأفضل السياسات لخدمة المجتمع؛ فالأمر يستحق تحمل التكاليف والعناء. إنما لسوء الحظ تتضاءل على نحو متزايد فرصةُ النجاح في تعميمها من ولاية لباقي الولايات. فقد بحث البروفيسور في جامعة واشنطن، جاكوب جرومباخ، ومؤلف كتاب “مختبرات ضد الديمقراطية” قضية تقاسُم السياسات بين الولايات، وخلص إلى شيوع متزايد لـ”سيادة التحزب” في ظل قيام ولايات باحتذاء ولايات أخرى تحت هيمنة الحزب نفسه. وقال: “بينما لا تستقي الولايات من بعضها البعض إلا كيفية التطرف في إضفاء طابع اللون الأزرق أو الأحمر عليها، عوضًا عن تحسين خدماتها تجاه مواطنيها. لقد انقسمت مختبرات الديمقراطية إلى “مجتمعات علمية متحزبة تنأى بعضها عن بعض”.

سعيد أم حزين

إن إحجام السياسات عن الانتشار لا يحول دون هجرة الناس. إذ لوحظ مؤخرًا اتجاه الهجرة الداخلية إلى الولايات الحمراء مثل تكساس وفلوريدا، على حساب الولايات الزرقاء مثل كاليفورنيا ونيويورك. ومن شأن قوانين الولايات الحمراء التي تدفع بالسياسة نحو اليمين أن تبطأ سير هذا الاتجاه أو تلغيه؛ وهو ما يأمله -بلا ريب- السيد نيوسام. ومع تزايد انتقال الناس إلى ولايات بعينها -بناءً على خلفيات سياسية-؛ ستتفاقم حدة الانقسام والتشرذم في البلاد.

بمعزل عمَّا ذُكر، ثمَّةَ اعتقاد بمواصلة انزلاق الولايات نحو التشرذم. وذلك لسببين اثنين؛ السبب الأول يتجلى في تخويلها بقدر أكبر من السلطة لوضع أجندتها الخاصة. ففي قضية دوبس ضد منظمة جاكسون لصحة المرأة التي أبطلت قضية “رو ضد وايد” المتعلقة بحق الإجهاض؛ كتب القاضي كلارنس توماس مُبديًا رأيه المؤيد في وجوب إعادة المحكمة العليا النظرَ في “القرارات الخاطئة الواضحة” التي ارتكزت على فقرات في الدستور للحكم في قضايا زواج المِثليين واللواط واستخدام الأزواج وسائل منع الحمل على نحو يُجرِّد الولايات من سلطاتها. ويجدر التنويه إلى قيام المحكمة العليا بمنح الولايات مزيدًا من السلطة على الانتخابات لينعكس بالتالي على قانون حق التصويت الفيدرالي لعام 1965.

ومع ذلك لا يتسم هذا الموقف بالثبات التام؛ حيث تبدل منحاه في قضية أخرى -في نفس الجلسة- تتعلق بقانون الأسلحة الذي أصدرته ولاية نيويورك. لينكشف النقاب عن حرص المحكمة ذات الأغلبية الجمهورية على رعاية حقوق بعض الولايات على نحو متزايد؛ فيما تحجم عن ذلك مع ولايات أخرى.

أما السبب الآخر وراء استمرار هذا التباين يُعزى إلى سياسة الاستقطاب بين الحزبين وهيمنتهما على الولايات. في الوقت الراهن ثمَّةَ 37 ولاية يطغى الحزب الواحد على إدارة شؤونها ومجلس الولاية بغُرفتيه: 23 مقعدًا يسيطر عليها الجمهوريون ، و14 يسيطر عليها الحزب الديمقراطي. فيما لم يتجاوز عددُ الولايات المُسيطَر عليها من قبل حزب واحد 19 فقط قبل ثلاثين عامًا. (انظر الرسم البياني رقم 4).

كما أن عدد سكان الولايات الخاضعة لهيمنة الحزب الواحد بلغ ثلث الأمريكيين فيما قاربوا الثلاثة أرباع في الوقت الحالي.

كلما تنامت هيمنة الحزب الواحد تفاقم التباين والشقاق السياسي؛ حيث يعجز المعارضون على منع تشريع يعارضونه فيما تغيب المُحفِّزات لتوافق السياسيين فيما بينهم أو استقدام الناخبين الوسطيين. ولا يأبَهُ المشرعون إلا بتنافس الخصوم مع ميلهم نحو تجاوز أقصى الحدود.

إن قرار إعادة تقسيم الدوائر الخاضع لسيطرة المشرِّعين في غالبية الولايات؛ إنَّما يزيد الطين بلَّةً، جرَّاء تقويض إضافي للمنافسة السياسية. ومن المقرر أن تبت المحكمة العليا في الجلسة القادمة بقضية في ولاية كارولينا الشمالية؛ إمَّا بوجوب منح السلطة لمحاكم الولاية حقَّ لنظر في إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية والانتخابات، أو إطلاق يد المشرعين للولاية في هذه المسائل. إذا قضت المحكمة بتعزيز دور الهيئات التشريعية من شأن ذلك أن يعزز التلاعب والتزوير في الدوائر الانتخابية بينما يقوض من المنافسة السياسية.

ربما أراد المؤسسون أن تعمل الحدود بين الولايات كجدران صدٍّ لردع نيران التكتل الحزبي؛ إلا أن تعلق ساسة الولايات بالقضايا الوطنية وبأحد الحزبين أثبت أنه الجحيم بحد ذاته. والمفارقة المركزية المتعلقة بالنزاع بين المتحزبين على بناء سياسات الدولة تتجلى في درجة تأثيرها على مستوى البلاد.

تعزز دور المجموعات المعنية بالمصلحة الوطنية؛ مثل الرابطة الوطنية للبنادق، في استقطاب المتحمسين في ولاية ما للضغط لصالح تشريع يحاكي تشريعًا في ولاية أخرى. وكما أوضح الحاكم نيوسام براعة الجماعات الجمهورية في هذا الأداء خلافًا للجماعات الديمقراطية. وقال: “هؤلاء الرجال يلمون بالأمر تمامًا عكسنا نحن. لقد شهدوا سير اللعبة الطويلة، بينما لم نفعل”.

في الواقع، إن حقيقة استجابة القاعدة للأيديولوجية المنشورة على صعيد البلاد تلقي الضوء على سبب انحراف ساسة الولاية إلى مواضع بعيدة كل البعد عن رؤى وتطلعات الناخبين، وانغماسهم في قضايا لا تنطوي على أهمية كبرى على صعيد الولاية.

يفضل نصف سكان ولاية أوهايو تقريبًا تقنين الإجهاض إلى حد ما، في الوقت الذي يتقدم فيه مُمثلوهم بمشاريع قوانين لحظر تامّ له.  وعندما أصدر ديسانتيس بيانًا صحفيًا مُعلِنًا فيه عن مشروع قانون خاص بالنظرية العرقية النقدية وقانون ” Stop woke Act”، لم يكن أي من الأمثلة العشرة التي سردها قد وقعت في ولايته.

ناقش المفكر المحافظ ديفيد فرينش تداعيات هذه الشرذمة بكل جوانبها في كتاب بعنوان “نسقط مُنقسِمِين” الذي نُشر في عام 2020، مشيرًا إلى أن “ثمة جوانب غير صحية وأخرى صحية للفيدرالية”. وهو ما يتجلى واضحًا في الفئة الأولى. فهو يتحدث -على سبيل المثال- عن مشروع قانون مُقترح في ولاية كارولينا الجنوبية تسعى من خلاله إلى تقييد حرية التعبير حول الإجهاض، ويتم بموجبه منعُ أي موقع إلكتروني  من استضافة للحديث عن الإجهاض، كما حظرت عليه نشر معلومات حول إجراء الإجهاض. فضلًا عن سنّ قوانين “صائد الجوائز” تُخوِّل الولاية بعض مواطنيها صلاحيات جديدة عوضًا عن تحقيقها لأنفسهم.

تبوأت تكساس مركز الصدارة في اتباع هذا النهج؛ حيث يخول القانون أي مواطن بمقاضاة الجهات التي تقوم بعمليات الإجهاض، وردَّتْ كاليفورنيا على هذا النهج بالسماح لسكانها بمقاضاة صانعي الأسلحة.

إلى أين يقودنا هذا التشرذم؟

عندما يستيقظ الناخبون على نفوذ الولايات الهائل على حياتهم؛ سيُولون قدرًا أكبر من الاهتمام بسياساتهم. على سبيل المثال، يقوم الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) بتحويل عدة مئات من ملايين الدولارات، المُخصصة للأمور الفيدرالية بهدف استثمارها في قضايا دستورية للولايات، وسباقات قضاة المحكمة العليا بالولايات (على الرغم من أنها لن تؤيد المرشحين السياسيين). وعلى هذا الصعيد يقول كاري موس من الاتحاد: “ثمة احتمال كبير يلوح هناك” مع الإشارة إلى أن بعض دساتير الولايات توفر قدرًا من حماية الحقوق يفوق ما يقدمه الدستور الفيدرالي.

في غضون ذلك يتزايد اهتمام الولايات على ما يبدو في النزاع أكثر من اهتمامها بالتباين. في عام 2016، أقرت كاليفورنيا “نظام عقوبات” يمنع تداول أموال الولاية في شؤون السفر غير الضروري إلى ولايات تتبنى سياسة التمييز ضد الشواذ والمتحولين جنسيًا. وقد أدرجت كاليفورنيا 22 ولاية حاليًا في لائحة حظر السفر. وقد تعرض نيوسام لهجوم سياسي شرس في يونيو/ حزيران بسبب قضاء عطلة في ولاية مونتانا المُدرَجة في القائمة. لن تسهم أنظمة تقييد التواصل والسفر بين الولايات -حتى إن كانت رمزية في غالبها- إلا في تصاعد حدة العلاقات المضطربة.

وقد ينشب نزاع قانوني؛ حيث تنحو ولايات عديدة إلى تجاوز حدودها الجغرافية في تطبيق حظر الإجهاض ومعاقبة المُساعدين والمُحرِّضين عليه. وهو ما سيخلق مواجهة مع ولايات مثل كاليفورنيا وكونيتيكت اللتين تسنَّانِ قوانين جديدة بغية حماية المواطنين من الدعاوى القضائية بتسهيل من ولايات أخرى حول قضايا الإجهاض.

هذا يذكرنا بأصداء النزاعات بين الولايات الجنوبية والشمالية قُبيل الحرب الأهلية وقانون الرقيق الهارب الصادر عام 1850؛ الذي يقضي بإعادة العبيد في الدول الحرة إلى مالكيهم بمساعدة الحكومة الفيدرالية. وقد تُجبر الحكومة الفيدرالية للتدخل في النزاعات بين الولايات على الأقل في المحاكم.

لنبقَ مُتراصِّين

تلوح نتيجة متطرفة للغاية في حال انزلاق التشرذم السائد إلى الانفصال كاحتمال فعليّ؛ إلا أنها بعيدة التحقق على الأرجح. بَيْدَ أنَّ استطلاعًا أجراه مؤخرًا باحثون في جامعة كاليفورنيا-دافيس لنحو 9000 أمريكي تقريبًا؛ ينحو نحو نشوب حرب أهلية في أمريكا خلال السنوات القليلة المقبلة. ولا ننسى الفترة التي تلت انتخابات 2020 وشبح الانفصال الذي ساد الأجواء.

وثمة اختبار جدي عام 2024 أمام دستور البلاد ومكوناته في حال نشوب أزمة دستورية؛ تعمد فيها الولايات ككل لا بعض الساسة فيها، بتوظيف السلطات الجديدة لرفض نتيجة التصويت.

ويسرد الباحث فرينش في كتابه عدة سيناريوهات حول الانفصال. وردًا على أسئلة تتعلق حول السيناريو المرجح وقوعه، أشار إلى استمرار إيمانه بحفاظ الولايات المتحدة على وحدتها، واستطرد قائلًا: “لكن للمرة الأولى في حياتي لا أكون على يقين من ذلك”.

الهوامش:

[1] يلحظ القارئ أن التقرير قدَّم وصف “المفكَّكة أو المُتفرِّقة” بدلًا من الولايات “المُتحدة” الأمريكية؛ ليدلَّ على مدى الخلاف الذي دبَّ في جسد الدولة. كما يلحظ أيضًا تشبيه التقرير حالَ أمريكا قديمًا بالمختبر، والذي تغيَّر الآن إلى كونها أوعية وحاويات مختبريَّة. (المُحرِّر)

[2] هذا التقرير الكبير هام جدًّا؛ حيث يُوقف القارئ العربيّ بتفصيل واسع على أهم مرتكزات الخلاف في جسد الولايات المتحدة الأمريكية؛ والتي نلحظ أن غالبها ذو طابع إيديولوجي فكري نابع من اختلاف الفلسفة العامة للأمريكيين، ونابع أيضًا من تجذُّر آثار فلسفة ما بعد الحداثة التي تُفضي بالضرورة إلى الشقاق والفوضى. (المُحرِّر)

[3] هنا يقدم التقرير ما كان عليه الوضع الأمريكي من حياة صحيَّة -كما يراها- للأفراد والشركات والولايات. (المُحرِّر)

[4] يُقصد بالولايات الزرقاء التي تشجع وتنتخب الحزب الديمقراطي، ويُقصد بالحمراء التي تشجع وتنتخب الحزب الجمهوري. (المُحرِّر)

[5] يقصد الولايات الأخرى التي لا تميل إلى تفعيل الحظر. (المُحرِّر)

ربى الخليل

مترجمة محترفة، عملت في مراكز بحثيَّة، وأعمل الآن في شبكة رابتلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى