
الرموز الدينية في السياسة الأمريكية: بين الهيمنة الثقافية والصراع الحضاري
في ظلّ التحوّلات الكبرى التي يعيشها العالم، لم تعد الولايات المتحدة بمنأى عن التوترات التي تعيد تشكيل خطابها السياسي، سواء داخليًا أو في علاقاتها الخارجية. وفي قلب هذا الخطاب، برزت الرموز الدينية، لا باعتبارها مجرد تعبيرات عن إيمان شخصي أو موروث روحي، بل كأدوات شديدة الفاعلية تُستخدم بعناية لخدمة أهداف سياسية.
فحين يظهر الصليب على جبهة وزير الخارجية، أو يضع وزير الدفاع وشمًا بكلمة “كافر”، أو يرفع رئيس الدولة الإنجيل أمام كنيسة أثناء الاحتجاجات على مقتل “جورج فليود”.. فإننا لا نكون إزاء شعائر أو رموز روحية خالصة، بل أمام رسائل مشفّرة، تحمل في طيّاتها كثيرًا من الدلالات حول منطق السيطرة وإنتاج العدو.
هذه الأمثلة ليست معزولة، بل تنتمي إلى سياق أوسع يعيد تفعيل التوتر بين الغرب و”الآخر”، لا سيما العالم الإسلامي، من خلال قوالب ثقافية ودينية محمّلة بتاريخ طويل من التصادم والهيمنة.
وعليه، يحاول هذا المقال قراءة هذه الرموز وتفكيك تموضعها داخل المشهد السياسي الأمريكي، عبر زوايا متقاطعة: كيف تُستدعى الرموز في النزاع الجيوسياسي؟ ثم كيف تُسهم هذه الرموز في ترسيخ التفوق الثقافي الغربي ضمن نظام رمزي لا يخلو من العنف الناعم.
توظيف الرموز الدينية في الصراع الجيوسياسي: من الحملات الصليبية إلى الحروب الحديثة

لم يكن حضور الرموز الدينية في السياسة الأمريكية وليد لحظة طارئة أو انعكاسًا لموقف ديني فردي، بل هو جزء من سردية تاريخية ممتدة، تعود جذورها إلى ما هو أبعد من الدولة الحديثة نفسها. ففي لحظة حاسمة من التاريخ الأوروبي، وتحديدًا عام 1095م، بدأت الحملات الصليبية، لا كحدث عسكري فحسب، بل كمسرح مفتوح لتقديس الحرب عبر استدعاء رموز دينية تم تأهيلها لتأدية دور تعبوي لا يقل فاعلية عن السلاح.
في ذلك الوقت، لم يكن الدين مجرد عامل روحي، بل أصبح أداة تعبئة نفسية وسياسية تدور في فلك أهداف أوسع. فكما يوضح “نيكولاس مورتون” في كتابه (مواجهة الإسلام في الحملة الصليبية الأولى)، فلم يكن الدين فقط مرجعية أخلاقية، بل أداة لتأسيس هوية متفوقة تربط “المؤمنين” بشعار مقدس وتبرر به الحروب وكما يشير “مورتن”، فإن الدافع الأعمق لمقاتلي الحملة «كان سعيًا منهم لتقليد كمال المسيح»1 في إشارة منه إلى أن الدين لم يكن مجرد وسيلة لتبرير الصراع، بل كان عاملًا محفزًا لتشكيل هوية روحية وسياسية أعمق، مما جعل الحروب الصليبية جزءًا من مشروع ثقافي يتجاوز البعد العسكري.
وهذا الاستخدام لم يتوقف عند حدود القرون الوسطى، بل تسرّب إلى الخطاب الاستعماري لاحقًا، حين قدّمت أوروبا مشاريعها التوسعية على أنها “بعثات حضارية” هدفها “نشر النور” في أراضٍ مظلمة. والرموز الدينية كانت دومًا حاضرة، لا لطمأنة الضمير الأوروبي فحسب، بل لتقويض مقاومة الشعوب الأصلية عبر التلويح بأن القادم يحمل صليبًا لا سيفًا فيما الواقع كان يخبر بعكس ذلك تمامًا.
أمريكا المتحضرة.. على خطى الحملات الصليبية

في الزمن الأمريكي الحديث، يتجدد هذا الاستدعاء الرمزي، ولكن بلغة مختلفة ومشهدية أكثر تعقيدًا. فبعد هجمات 11 سبتمبر، اختار الرئيس “بوش” أن يصوغ خطابه بلغة ثنائية أخلاقية -“الخير ضد الشر”- وهي استعارة دينية محملة برسائل نفسية عميقة، تُشخص أمريكا كمدافعة عن الحرية. وهذا ما بينته دراسة من جامعة “روسكيلد”2، رصدت كيف تم توظيف هذه الاستعارات في إعادة تشكيل الوعي الأمريكي، لتقديم الحروب في أفغانستان والعراق بوصفها معارك أخلاقية، وليس تدخلات سياسية ذات أبعاد اقتصادية واستراتيجية.
ولم تكن حرب الخليج بمنأى عن هذا التشكيل الخطابي. وقد وضح الباحث “بيوتر كاب” كيف جرى توظيف مفردات دينية وأخلاقية لخلق شعور بالمسؤولية الأخلاقية لدى الرأي العام الأمريكي، تجاه “نشر السلام” و“الدفاع عن الحرية”3، من ما ساهم في حشد الرأي العام وخلق صورة عن الحرب كواجب أخلاقي لحماية الحرية والقيم الغربية.
وما ينبغي التوقف عنده هنا هو أن هذا التوظيف لا يأتي في سياق ارتجالي أو فردي، بل هو جزء من بنية خطابية راسخة، تعيد إنتاج مفاهيم دينية قديمة ضمن أطر سياسية حديثة. فالرمز الديني يُعاد تجهيزه ليناسب السياق الجديد: حربًا هنا، دعاية هناك، أو حملة انتخابية هنالك. ما يتغير هو الشكل، أما الجوهر فواحد: تبرير مشروع الهيمنة في صورة مقدسة.
الهيمنة الثقافية وإعادة إنتاج الخضوع
وبحسب أنطونيو غرامشي، فإن السلطة لا تُمارس حصريًا من خلال أدوات القمع المباشر، بل تُكرّس عبر الهيمنة الثقافية، حين تتمكن الطبقة الحاكمة من بث قيمها ومفاهيمها في المجتمع المدني، بحيث تبدو طبيعية وبديهية لدى الفئات المقهورة. وبهذا الشكل، يتحول الخضوع للنظام القائم إلى خضوع طوعي4، إذ تُغرس القيم المهيمنة في وعي الأفراد وتُختبر اختياراتهم كما لو كانت نابعة من إرادتهم الحرة، بينما هي في الواقع انعكاس لبنية ثقافية موجهة تخدم مصالح السلطة.
وفي هذا السياق، يلتقي تحليل غرامشي مع ما أشار إليه إبراهيم السكران، حين تحدث عن “الخضوع غير الموضوعي” لسلطة ثقافية تُعيد إنتاج الهيمنة عن طريق “الاستبداد الثقافي” فحين تُستخدم الخطابات الدينية أو النصوص الثقافية لتأطير الواقع، لا بهدف الإرشاد، بل بهدف التوجيه السياسي أو الثقافي «لتبرير وتسويغ مفاهيم الثقافة الغربية الغالبة»5، عندها نكون أمام آلية استبداد رمزي تُلبِس السيطرة لباس القيم.
وما يجعل هذه الهيمنة فعّالة هو أنها لا تفرض نفسها بالقوة، بل تُمرر عبر وسائل تبدو بريئة: كالإعلام، اللغة، الفنون..، وحتى النقاشات اليومية. وهكذا تتسرب المفاهيم الغربية، ومعها المنظومة الليبرالية، لتصبح مع الوقت مرجعًا لا يُناقش، بل يُسلّم به. ومع مرور الزمن، تبدأ المجتمعات المهيمن عليها في تبني تصورات الآخر عنها، وفي كثير من الأحيان تنظر إلى ثقافتها الأصلية باعتبارها عبئًا أو عائقًا يجب تجاوزه.
هذا النوع من السيطرة لا يُنتج فقط تبعية فكرية، بل يُنتج وعيًا منقوصًا، يرى العالم من زاوية واحدة ويخشى الخروج عنها. وكما بيّن كل من غرامشي والسكران، فإن خطورة هذه الهيمنة أنها تُنتج إنسانًا يظن أنه اختار موقعه، بينما هو في الحقيقة موجه من منظومة خطابية تحاصر تفكيره وتعيد تشكيل اختياراته.
اللعبة القديمة الحديثة

ومن هنا، يمكن أن نفهم أن الرموز الدينية في الخطاب السياسي الأمريكي لم تكن يومًا تعبيرًا حياديًا عن الهوية أو الإيمان، بل كانت -في كثير من الأحيان- أدوات يُعاد عبرها إنتاج التفوق الثقافي الغربي وتبرير سياساته. فهي تُستدعى في لحظات معينة لتُضفي على التدخلات الخارجية طابعًا أخلاقيًا، ولتشكّل وعيًا عامًا يُصدّق بأن ما يحدث هو جزء من “رسالة إنسانية”، بينما هو في العمق امتداد لمنطق السيطرة.
النتيجة أن الدين في المجتمع الأمريكي يُعاد توظيفه لتثبيت صور نمطية عن الآخر -المسلم تحديدًا- بوصفه تهديدًا ثقافيًا يجب احتواؤه أو مواجهته. وهكذا، تُصبح الرموز الدينية إحدى أدوات صناعة العدو، لا عبر خطابات الكراهية المباشرة، بل من خلال تطبيع نظرة استعلائية مغلّفة بقيم تبدو أخلاقية أو عالمية.
مراجع
- Morton, Nicholas. Encountering islam on the crusade. Cambridge University press, 2017. (Scribd). P. 13. ↩︎
- Clausen, Thomas Wolff. Analysis of Rhetoric and Metaphors in President George W. Bush Speeches after 11th of September 2001, and a Possible Use of Propaganda. University of Roskilde, 2014, p. 42. ↩︎
- Cap, Piotr. Legitimisation in Political Discourse: A Cross-Disciplinary Perspective on the Modern US War Rhetoric. Second Revised Edition, Cambridge Scholars Publishing, 2018, p. 9. ↩︎
- مروان ،عمرو “أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية: ما هي؟ وكيف تعمل؟”، تدوين الحدث، 15 مايو 2023، على موقع “تدوين”. ↩︎
- السكران، إبراهيم. سلطة الثقافة الغالبة، الطبعة الأولى، ص 25. ↩︎
كتابات الشيخ إبراهيم تلمس الروح كأنها تتجاوز علاقة الكاتب والمتلقي لترقى الى مستوى آخر… إبداع
أسلوب تحليلي مبدع كالعادة ، لا جف حبرك .
مقال رائع ماشاءالله، وما يميزه هو ربطه بين البعد التاريخي والواقع السياسي المعاصر، موضحا كيف أن الرموز الدينية كانت حاضرة منذ تأسيس الجمهورية الأمريكية، لكنها اليوم أصبحت جزءا من الحملات الانتخابية وخطابات السياسيين، بل وتدخل أحيانا في صياغة السياسات العامة، ويقدم قراءة غنية لدور الدين في الفضاء العام الأمريكي.
بارك الله في الكاتب ووفقه.