دونالد ترامب.. جذور الإيديولوجيا الترامبية في الولايات المتحدة الأمريكية

هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: An intellectual history of Trumpism لكاتبه: DAVID GREENBERG على موقع: politico.eu. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

لِعقيدة ترامب جذورٌ عميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذه هي المرة الأولى التي تصل فيها هذه العقيدة إلى البيت الأبيض.

خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية، كان تصوير الإعلام لدونالد ترامب مُركّزًا على أنه مجرد مهرج، رجل استعراض، انتهازي، محافظٌ زائف، وسياسيٌ ساذجٌ ومغرورٌ في نفس الوقت، لا يُعجبه شيء سوى القوة المطلقة والمجد. ولكن نادرًا ما يتم تصويره كرجل ذا مفهومٍ واضحٍ وأيديولوجية صريحة.

ومع ذلك، وإن كان من الصعب حَصْرُ أفكار دونالد ترامب لتأسيس نظرة عالمية موحدة، وإن كان فَيْلقُه المتخبط يُنكر أي ولاء أو اتساقٍ فلسفيٍّ، فإن الكثير من وعوده وسياساته الفريدة تُعتبر إضافة لمجموعة من الأفكار الشعبوية، القومية، والسلطوية، التي لها جذور عميقة في التاريخ الأمريكي. وبعد عام ونصف من التركيز على شخصية ترامب، قد يكون الوقت قد حان لتحويل انتباهنا إلى عقيدته.

لقد فطِن المحللون لشيء من فلسفة جديدة وراء صعود ترامب، وقد ركّزوا متابعتهم لِما يُسمى باليمين البديل وتطرفه على الانترنت، لكن القومية البيضاء، التي يُميزها عدم الحياء، وتُعرف بأفكارها المعادية للسامية وازدرائِها للنساء، ليست سوى سلالة واحدة من الترامبية.

الأيديولوجية الأكبر التي يمثلها الرئيس المنتخب، هي فِكرٌ مُحدَّثٌ لما بعد حرب العراق، وما بعد الانهيار، وما بعد باراك أوباما، حيث تكون الصِّلاتُ بين اليمين المتطرف أكثر وضوحًا، والأفكار الشعبوية تحمل الحزب اليميني لتجعله يمينيًّا أكثر.

في بعض القضايا الاقتصادية، مثل البنية التحتية والإنفاق، يمكنهم توجيه الحزب نحو المركز السياسي. وفيما يتعلق بالتجارة والسياسة الخارجية، فإنهم يهددون بهدم الأُمَمية التي تحكم الحزب الجمهوري منذ رئاسة دوايت أيزنهاور. في كل هذه الطُرق، تمثل الترامبية قطيعة كبيرة مع التيار المُحافظ الذي هيمن على الحزب الجمهوري لعقود.

من أين نشأت هذه التيارات؟

من أين أتت هذه التيارات؟ تعود أصول اليمين الشعبوي اليوم -بشكلٍ واضحٍ- إلى رد الفعل العنيف في أوائل القرن العشرين ضد المجتمع الذي كان في طريقه ليُصبح مركزيًّا، مدنيًّا، وعالميًّا ومترابطًا مع العالم بأسره، وهذه نزعاتٌ لا تزال تُزعج أمريكا الريفية البيضاء حتى اليوم.

ومثلما نجح ترامب في كسب الـ 270 صوتًا انتخابيًّا من الغرب الأوسط الأبيض، الذين أُغروا بوعود بناء الجدار، والذين صوّت بعضهم للديمقراطيين سابقًا، فقد كانت العناصر التقدمية في السابق هي التي غذّت صعود الشعبوية اليمينية بعد الحرب العالمية الأولى.

فالحركة، في ذلك الوقت، لم تكن قوية بما يكفي للوصول إلى البيت الأبيض، كما كانت قد فقدت مصداقيتها وهُمِّشت إلى حد كبير بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن في عالم اليوم المُعَوْلمُ، الذي أعقب الكساد العظيم، بدأت العديد من الأفكار اليمينية المتطرفة تظهر فجأة مع نزعةٍ انتقامية. والآن، ولأول مرةٍ في التاريخ، لدينا رئيسٌ يعتنق كل هذه الأفكار، يتولى جميع صلاحيات السلطة التنفيذية.

إن هذا قد يعني تراجعًا عن المبادئ الأساسية لأمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الالتزام بالحقوق المدنية والحريات المدنية، والتعددية في الداخل والنزعة الدولية الليبرالية في الخارج.

ظهرت الشعبوية المحافظة التي نشأت منها الترامبية كطفرة في التقدمية في أوائل القرن العشرين. التقدمية هو الاسم الذي نُطلقه على حركة الإصلاح المكونة من الحزبَيْن في العقود الأولى من القرن، والتي دعت إلى رئيسٍ ناشطٍ وحكومةٍ فيدرالية قوية لمعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الملحة التي أحدثتها الثورة الصناعية.

سعت التقدمية بقيادة الجمهوري ثيودور روزفلت أولًا، ثم الديمقراطي وودرو ويلسون، إلى ترويض سلطة الشركات الضاربة وحماية العمال واستيعاب المهاجرين وتوفير خدمات اجتماعية جديدة ونشر الديمقراطية وإحلال النظام في عالم منقسم على المسرح العالمي. ولقد كانت فكرة وجود حكومة فدرالية قوية والأهداف التي رُسِمت للحكومة والأمة بشكل عام، والتي يعتز بها التقدميون، ستدعم أيضًا الصفقة الجديدة لفرانكلين روزفلت، وفي الوقت المناسب، ليبرالية ما بعد الحرب بشكلٍ عام.

ولكن مع انتقال الأمة من التقدمية إلى ليبرالية الصفقة الجديدة، لم يرغب الجميع في الانضمام إلى الركب. فبعد الحرب العالمية الأولى، تزحزح العديد من التقدميين في الغرب الأوسط والغرب من ذوي النزعة الشعبوية إلى اليمين، واحتفظوا في بعض الحالات بفكرة المساواة الاقتصادية، ولكنهم اتخذوا في نفس الوقت مواقف رجعية بشأن القضايا الثقافية وقضايا السياسة الخارجية. “في مكان ما على طول الطريق”، كما كتب ريتشارد هوفستاتر في عمله الكلاسيكي (عصر الإصلاح)، “أصبح جزءٌ كبيرٌ من التقليد التقدمي الشعبوي متعكرًا، وأصبح غير ليبرالي وذا مزاجٍ متعصب”.

أسباب هذا التأرجح معقدة، لكن يمكن تلخيصها كشكلٍ من أشكال رد الفعل العنيف. لقد شهدت عشرينيات القرن العشرين، على الرغم من إرثها كفترة صاخبة بالابتكارات والتقدم الثقافي، أيضًا تغيرًا اجتماعيًا عميقًا.

فبعد عقودٍ من الهجرة، فاق حجم سكان الحضر في أمريكا عدد سكان الريف، طالبت “المرأة الجديدة” و”الزنجي الجديد” بالمساواة بين الجنسين والعرق، لكن القوى المحافظة، لا سيما في المناطق الريفية، نظرت بعين الريبة إلى تغير بشرة أمريكا، واعتبرت مظاهر الانفتاح والتساهل في الأخلاق في المدن تهديدًا لبروتستانتيّتهم القديمة. فنشأت الحركات الرجعية.

ظهرت الكو كلوكس كلان، وسيّرت مسيرات في العاصمة واشنطن، حظر المسيحيون الأصوليون تعليم نظرية داروين، بل أصبح الحظر هو قانون الأرض. وأصبح كثيرٌ من التقدميين الغربيين، الذين كانوا في السابق متحالفين مع الأجندة الليبرالية، يحُاربون المد الليبرالي، وناصروا، على سبيل المثال، قانون الهجرة لعام 1924 الذي أغلق جميع حدود أمريكا.

وانضم المحافظون الاقتصاديون الذين فضّلوا سياسات الحزب الجمهوري المؤيدة للأعمال التجارية إلى المحافظين الثقافيين لجعل الحزب الجمهوري الحزب الأقوى والمهيمن في عشرينيات القرن الماضي، من خلال انتخابات وارن هاردينغ وكالفِين كوليدج وهربِرت هوفر. وفي السياسة الخارجية أيضًا، استحوذت الشعبوية القومية على العديد من التقدميين السابقين، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين.

بعد الحرب العالمية الأولى، قتل أعضاء مجلس الشيوخ من الغربيين وأبناء الوسط التقدميون مثل ويليام بورا، حيرام جونسون، جورج نوريس، وروبرت لافوليت، الذين كانوا أقل انسجامًا من التقدميين الشرقيين، خطة ويلسون للولايات المتحدة لقيادة عصبة الأمم، وكان السبب الرئيس لمعارضتهم هو الخوف من تأثر السيادة الأمريكية.

وروّج بعض المثقفين التقدميين، مثل المؤرخ تشارلز بيرد وعالم الاجتماع هاري إلمر بارنز، لنظريات المؤامرة التي تُلقي باللوم على المصرفيين وصُنّاع أو تُجّار الأسلحة في تورط أمريكا في الحرب. وقد أصبح بارنز في النهاية أحد أوائل منكري الهولوكوست وأكثرهم نفوذًا. وفي عام 1934، ترأس السيناتور جيرالد ناي لجنة للتحقيق في هذه الادعاءات، التي اعتُبرت مشبوهة، وأثارت المخاوف الشعبية.

وقد حارب التقدميون السابقون أيضًا ضد تخفيف “قوانين الحياد” التي منعت فرانكلين روزفلت من فعل المزيد لمحاربة الفاشية. ويميل المؤرخون اليوم إلى تجنب كلمة “انعزالي”، لأنه، وكما لاحظ نُقّادها، لم يرغب العديد من أولئك الذين عارضوا الأُمَمية الليبرالية لويلسون وفرانكلين روزفلت في إخراج الولايات المتحدة تمامًا من الشؤون العالمية. ومع ذلك، في ظل عدم وجود عبارةٍ بديلة بليغة، لا تزال العادة الشعبية تعتمد على هذا المصطلح المختصر المفيد.

وقد كان هناك، بعد كل شيء، قادة مناهضون للحرب اعتقدوا أن أمريكا يمكنها وينبغي لها أن تبتعد عن الصراع في أوروبا، وبعضهم إما أيّد هتلر أو اعتنق معاداة السامية.

ومنذ ظهور الشعوبيين الأصليين في أواخر القرن التاسع عشر، كانت حركاتهم دائمًا مُرتابةً من البنوك وأصحاب المصارف، ومن العولمة، وفكرة القوة المركزية، وكثيرًا ما اعتبرت اليهود كبش فداء. ومن هذا يمكن القول إن جذور إعلان حملة ترامب المعادية للسامية الذي يظهر فيه جورج سوروس وجانيت يلين تعود إلى القرن التاسع عشر.

كان هذا اليمين الشعبوي قوة كبيرة في عشرينيات وثلاثينيّات القرن الماضي. لكن نجاح الصفقة الجديدة وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وجّها ضربةً للتيار كادت أن تكون قاتلة. ثم إن معاداة السامية العلنية التي ازدهرت في فترة الكساد الكبير، والتي أثارها الديماغوجيون مثل كاهن الراديو تشارلز كوغلين، فقدت مصداقيتها تمامًا، مما أفسح المجال لوجهة نظر مشتركة عن الولايات المتحدة باعتبارها موطنًا لـ”البروتستانت والكاثوليك اليهود”.

كما انتقلت الحقوق المدنية للأمريكيين السود إلى مركز الأجندة الليبرالية. وأكدت انتخابات 1952 التي فاز فيها دوايت أيزنهاور، هزيمة اليمين الشعبوي، حيث تعهد آيك بالتغلب على الانعزالية في حزبه، واعتنق “الجمهورية الحديثة”، التي أذعنت لبقاء نظام الصفقة الجديدة، بما في ذلك برامج دولة الرفاهَة مثل الضمان الاجتماعي.

الحزب الجمهوري

ترامب

وسْط هذا النظام الليبرالي الجديد، أعاد النُشطاء والمثقفون من اليمين أمثال دوايت أيزنهاور تشكيل أنفسهم لمحاولة استعادة الحزب الجمهوري. وظهرت مجلة ذا ناشيونال ريفيو، التي أسسها ويليام باكلي في خمسينيات القرن الماضي، والتي ستُعتبر الجهاز الفكري لِما سيُطلق عليه “اليمين الجديد”.

أعاد اليمين الجديد التحالف في عشرينيات القرن الماضي بين التقليديين المتدينين، الذين تحسّروا على القيم القديمة التي أكلتها الحداثة، وبين التجار الأحرار الذين هاجموا ارتفاع الضرائب والإنفاق الحكومي. كان تعزيز التحالف بمثابة مُناهَضةً للشيوعية في الحرب الباردة، فالشّيوعية كانت، في النهاية، مُعادية للسوق الحرة، ومُناهضةً لله.

كما انضم بعض الانعزاليين القُدامى، الذين اعتبروا الاتحاد السوفييتي تهديدًا خطيرًا بما يكفي لتعليق مخاوفهم بشأن التورط في صراعاتٍ أو اتفاقياتٍ خارجية، إلى السِّرب المناهض للشيوعية.

وداخل الائتلاف المحافظ الجديد، وبقيت أصواتُ المحافظين القُدامى ولم تنقطع. لكن باكلي وغيره من القادة السياسيين وقادة الرأي قاموا بمراقبة حدود حركتهم الناشئة. وبينما نرى مجلة ذا ناشيونال ريفيو على أنها مجلة يمينية صارمة لأنها هاجمت أيزنهاور والقيادة الجمهورية المعتدلة في تلك الحقبة، يجدر بنا أن نذكر أنها تناقضت أيضًا بشكلٍ واضحٍ مع المطبوعات اليمينية المتطرفة المنافسة مثل “ذا فري مان”، و”ذا أميريكان ميركوري”.

ولقد اشتهر باكلي بانضمامه للجماعات القومية الشعبوية الراديكالية مثل جماعة جون بيرش، وهي جماعة متطرفة ظهرت في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وكان لها باعًا في نشر نظريات المؤامرة، المتعلقة بالشيوعية خاصة، حيث اعتقدوا أن دوايت أيزنهاور شيوعيٌّ متخفٍّ. كما حارب باكلي ومثقفون محافظون آخرون مع الليبرتاريين أمثال آين راند، الذي لم يكن لـ “موضوعيته” الإلحادية مكانٌ في حملة باكلي ضد “الإنسانَوية العلمانية”.

ولم يبدأ المحافظون في رفض العنصرية ضد الأمريكيين الأفارقة إلا بعد ثورة الحقوق المدنية، ومع أنهم استمروا في معارضة معظم تشريعات الحقوق المدنية، إلا أنهم يتشدقون بقبولهم الفرضية الليبرالية الأساسية للحقوق المدنية للجميع.

وصل الائتلاف المحافظ الجديد إلى السلطة مع انتخاب ريتشارد نيكسون لقيادة البيت الأبيض في عام 1968. وعلى الرغم من أن المحافظين الأصليين كانوا دائمًا ينظرون إلى نيكسون بعين الريبة والحذر، إلا أن شعبيته الثقافية كانت بعيدةً كل البعد عن جمهورية آيك الحديثة.

ففيما يتعلق بالمخدرات والجريمة والدين والإجهاض والجنس وتربية الأطفال وحقوق الشواذ والوطنية وعشراتٌ من القضايا الثقافية الأخرى، هاجم نيكسون والسياسيون الجمهوريون الذين تبِعوا قيادته “النخبة الثقافية” الليبرالية، التي تُسيطر على هوليوود والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام وكذلك المحاكم، وندّدوا بتآكل القيم الأمريكية التقليدية.

وجديرٌ بالإبانة أنه وإن ازدهرت شعبوية المحافظين في أواخر القرن العشرين حول القضايا الاجتماعية والثقافية، فقد كانت فلسفاتهم مجرد حبرٍ على ورقٍ في نواحٍ أخرى. ففيما يتعلق بالسياسة الخارجية مثلًا، لم يتفق الجمهوريون فيما بينهم حول كيفية التعامل مع الاتحاد السوفييتي، فبينما سعى نيكسون للانفتاح والتخفيف من حمية وطيس الحرب الباردة، رأى ريغان أن السياسة الأصوب تكمن في تكثيف السلاح والعسْكرة المستمرة.

وفي غضون ذلك، دفعت فلسفة السوق الحرة الحركة المحافظة إلى الهامش في المناقشات حول التجارة والتمويل، فلم يكن لانتقادات المحافظين صوتٌ مسموع داخل الأوساط الاقتصادية.

بتقليب البصر نحو الماضي، يمكن رصد التحركات الأولى لعودة المحافظين القُدامى في التسعينيات. فبعد عام 1989 وتزامنًا مع سقوط الاتحاد السوفييتي، تراجعت معاداة الشيوعية كمبدأٍ موحد، وأعاد المحافظون القُدامى قضية الانعزالية إلى الضوء من جديد.

عندما تولى الديمقراطيون رئاسة البيت الأبيض، حشدوا الجمهوريين في الكونجرس لمعارضة التدخلات في البوسنة وكوسوفو وأماكن أخرى. في هذه الأثناء، أدى العدد الهائل من المهاجرين غير المسجلين بالمحافظين القُدامى إلى توجيه نضالهم نحو مراقبة الحدود، كما كان الحال في عشرينيات القرن الماضي.

لكن خلال هذه الفترة، كافح المحافظون القدامى لكسب الجماهير، فخِلال السنين الماضية، تغيرت العديد من توجهات الأمة، وأصبح التسامح في كثير من القضايا الاجتماعية كالجنسِ والإجهاض والشذوذ التوجه السائد والحالة الطبيعية للمجتمع.

تغير اليمين القديم

ولكن في اللحظة التي بدا فيها أن اليمين القديم على وشك الانقراض، تغير العالم.

  • أولًا، أدى غزو جورج دبليو بوش الكارثي للعراق إلى سحب المحافظين دعمهم للسياسة الخارجية المتشددة، والتي كانت جزءًا من عقيدة الجمهوريين منذ عهد ريغان.
  • ثانيًا، أدى انهيار عام 2008، والانتعاش البطيء الذي أعقب ذلك إلى إضعاف الحماس بين الناخبين وحتى المسؤولين المنتخبين لاتفاقيات التجارة الحرة التي روّج لها مُحافِظو السوق.
  • ثالثًا، احتمال أن يُصبح العرق الأبيض أقلية في أمريكا ألهَمَ المجتمع الأبيض وعيًا عنصريًّا جديدًا، كما فعل انتخاب أول رئيسٍ أسودٍ في تاريخ أمريكا، وهو الأمر الذي وُصف “بغير أمريكي” من قبل اليمين الشعبوي.

بالنسبة للكثير، أدت هذه الصدمات المتعددة إلى تشويه سمعة القيادة السياسية والفكرية المحافظة التي فشلت في الوفاء بوعودها في احتواء الهجرة وتحقيق الرخاء وجعل الولايات المتحدة بلْدةً أكثر أمانًا.

ووسْط هذه الساحة وجد المحافظون القدامى وسائل جديدة لنشر أفكارهم القومية والشعبوية، مثل مجلة “المحافظ الأمريكي” التي أسسها بوكانان عام 2002، وبرِيتبارت (Breitbart) التي تطورت من موقع تنظيم يميني إلى جهازٍ أيديولوجي، وفايدر (Vader)، وهي شبكة ويب أسسها بيتر بيريميلو المناهِض للهِجرة والمهاجر هو نفسه. وشكّلت مجموعة الأصوات الناتجة التي تشمل “اليمين بالديل” جيلًا جديدًا من الفكر القديم، الذي أكد على اختلافاته مع حق المؤسسة في التجارة، السياسة الخارجية، الهجرة والعرق.

حتى حملة دونالد ترامب الرئاسية، لم تلقَ هذه الانقسامات العميقة داخل اليمين التحليل الكافي، وإلى وقتٍ قريبٍ في العام الماضي، لم يتجاوز تصوير تمرد دونالد ترامب، في الغالب، على أنه مجرد تحدٍّ من خارج المؤسسة، تصوّرٌ صائب، لكنه غير كامل.

إن التاريخ الفكري الخفي للعقيدة الترامبية يُشير إلى أن دونالد ترامب قد لا يكون مجرد رجل استعراض انتهازي بل زعيم أيديولوجية شبه متماسكة، تكرارٌ جديد لحركة قديمة، شعبوية وقومية، ولطالَما توارت في ظِلال السياسة الأمريكية.

واليوم، ولأول مرة منذ الثلاثينيات الانعزالية، تتمتع هذه الأيديولوجية بتأثيرٍ حقيقي، ولأول مرة في التاريخ الأمريكي، ينعمُ هذا الفكر بتأييدٍ من الرئيس ذاته. إنّ هذا لنذيرُ شُؤْم، ولقد وصل الظلام في الآفاق مبلَغه ومنتهاه.

كودري محمد رفيق

من الجزائر، أكتب في الدين والفكر والتاريخ، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى