قراءة في كتاب الفردوس الأرضي .. كيف قيَّم المسيري التجربة الأمريكية؟
في السُّطور التالية سأحاول الوُلوج إلى عالَم تفكير “المسيري” في الحضارة الأمريكيَّة، من خلال كتابه “الفردوس الأرضي”. مُعتمدًا لا على استعراض الكتاب استعراضًا ترتيبيًّا لموضوعاته، بل بالتركيز على الأفكار المُستخلَصَة منه؛ والتي من الممكن أنْ تفوت بعض القارئين في تيه السطور المتتابعة؛ خاصةً والأستاذ “المسيري” يتميَّز بالتدفُّق الفكريّ. وسأبدأ بأثر التجربة الأمريكيَّة عمومًا فينا، وصولًا إلى العولمة. ثمَّ سأبدأ في التركيز على الكتاب وتجربة الكاتب، والتي ستبدأ بعنوان “المسيري وتجربته الأمريكيَّة” -لمَن أراد تخطِّي المقدّمة-.
التجربة الأمريكيَّة في عيون الآخرين
لقد أثارت “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” خصوصيَّةً في الأذهان المتفكِّرة من بقاع العالَم على مدار ما يقرب من قرن حتى الآن. فمنذ أعلنتْ خروجها من عُزلتها الدوليَّة في أثناء “الحرب العالَميَّة الأولى” (كانت قد فرضتْ عُزلةً للتركيز على الإنجاح الداخليّ للدولة وعلى حدودها) لمُساعدة بني جلدتها إنجلترا وفرنسا “دول الوفاق”؛ وهي تتقدَّم مُحاولةً إحراز أكبر انتصار في الهيمنة والسيطرة على دول العالَم، واكتساب أكبر قدر من ولاءات النُّخب الحاكمة فيها. وكذا ظلَّتْ تسعى لسباق محموم في مجال التكنولوجيا والتقدُّم الصناعيّ؛ الذي باستغلال دوره سعت جاهدةً لربط هذا المجال بها على نطاق الحصر؛ حتى لا يُذكر مجال التقدم التكنولوجيّ إلا وفي الخيال تلوح أمريكا.
من هذه العوامل، ومن سُمعة ناصعة سعتْ الدولة للترويج لنفسها بها؛ صارتْ “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” حُلمًا في حدّ ذاتها لكُلّ شخص في العالَم. وقد غذَّتْ بشدَّة في صراعها مع “الاتحاد السوفيتيّ” فكرة “الحُلم الأمريكيّ”. الذي قُصِدَ منها أنْ تتحسَّر في بلدك القاتم الحالك وأنت ترى بلاد الحريَّة والتقدُّم التكنولوجيّ، ظانًّا من كثرة الترويج الإعلاميّ أنَّ أمامهم دقائق وحسب ليتحكموا في البشر أنفسهم من جهاز التحكُّم عن بُعد، لا التلفاز. بلاد الرخاء والتخمة الاقتصاديَّة؛ حيث أعلى مُعدَّل ناتج قوميّ بين الدول، وأعلى مُعدَّلات إنتاج مصنوعاتٍ أدخلوا الوهم عليك منذ اللحظة الأولى أنَّها جيِّدة “لأنَّها أمريكيَّة” وحسب، بغضّ النَّظر عن جودتها الحقيقيَّة، أو مدى احتياجك لها.
ردود الفعل حيال “الحُلم الأمريكيّ”
لقد كانت “أمريكا” -وهذا هو الاسم الذي سأستخدمه لا الاسم الرسميّ؛ للاختصار- حاضرة الدُّنيا وشاغلة الأذهان حقًّا. كما كانت “بغداد” و”قرطبة” من قبل، وكما كانت قبلهما “روما”. وبالقطع مثل هذه التجارب الحضاريَّة تستدعي نوعَيْنِ من ردود الأفعال في تناولها:
1-الأوَّل هو مَنظور التفخيم البالغ والانبهار المتضخِّم، ولقد مثَّلَ هذا الردَّ السَّوادُ الأعظمُ من الكُتَّاب والمُحلِّلين والمفكِّرين. لكنْ مع ضابط هامّ أنَّ هذا الردَّ على درجات، وليس كلُّه واحدًا في انبهاره أو تفخيمه. وهذا الاتجاه ظلَّت أجيالٌ من مُثقَّفِيْ العالَم العربيّ تُصدِّره لنا وتغذِّي وعينا به، بل اعتاشتْ أجيالٌ منهم على هذا الوهم، وباعتْ كُتبها ونشرت مقالاتها تُحدِّثنا فيها عن عظمة “أمريكا”، وعن ضرورة التوجُّه نحو “الكعبة الأمريكيَّة”!
2-الاتجاه الآخر هو اتجاه المُقاومة لهذا الحُلم الأمريكيّ، بل التضادّ على طول الخطّ -كما يقولون-. واتهام هذه التجربة بإفساد الثقافة الإسلاميَّة والعربيَّة، وأنَّ السَّير وراءه سيرٌ وراء سراب سرعان ما سيتبدَّد لنجد أنفسنا في العراء، قد خُدعنا وأخذتْ “أمريكا” ما تريد ولمْ تُعطِنا أيَّ مُقابل. وهنا أيضًا أنوِّه أنَّ هذا الاتجاه ذو درجات في الرفض أو في توظيف الحضارة الأمريكيَّة.
الدخول في مرحلة “العولمة”
وبغضّ النظر عن معركة تعريفات سيضرُّ إدخالُها السياقَ هنا. فإنَّ “العَولَمَة” في نهاية الأمر هي تسيُّد النموذج الأمريكيّ على العالَم أجمع. لكنْ يُعرِّفها الباحث الفلسفيّ الكبير د/ مصطفى النشَّار في كتابه “في فلسفة الثقافة” بأنَّها: “التقارُب الذي يحدث بين شعوب العالَم المختلفة لدرجة ذوبان الفوارق الحضاريَّة بينها، وصهرها جميعًا في بوتقة ثقافيَّة واحدة ذاتِ خصائص مُشتركة واحدة”.
ولمَنْ لمْ يشهد هذه المعركة الزائفة في نهاية التسعينيَّات وبداية الألفيَّة الجديدة فهي حركة اكتشف العالَمُ بعدها أنَّها هيمنة أمريكيَّة محضة، وأنَّ أمريكا التي أرادتْ للعالَم أنْ يُصبح قرية صغيرة حقًّا، لكنَّها لمْ تخبرنا أنَّها سترفع عَلَمَها عليه وحيدًا خفَّاقًا، ويصير الكلُّ أمريكيَّ الثقافة والاتجاه في حركة تُسمَّى “الأمْرَكَة”، لكنْ دون أيّ حقوق أو مُقابل. وأنوِّه أن هذه الحركة قد لاقتْ ردود فعل بالغة القسوة في رفضها لخطورتها الواضحة. ولا أقصد هنا ردود الفعل العربيّ أو الإسلاميّ؛ فالتجربة الأمريكيَّة كانت تستهدف العالَم أجمع؛ وكذلك جاءت ردود الفعل من غالب ثقافات العالَم -إنْ لمْ يكُن جميعها-. هذه باختصار بعض ملامح لتصوُّر العلاقة الثقافيَّة والحضاريَّة مع “أمريكا”.
المسيري وتجربته الأمريكيَّة
تأرجحتْ وتفاوتتْ تحليلات المُحلِّلين العرب المُسلمين تُجاه هذه التجربة من حيث دِقَّة النظر وعمق التغلغُل. فبينما اكتفى كثير منهم بالتناول السطحيّ، الذي يسفُلُ في بعض الأحيان لدرجة الجعجعة الفارغة -التي تشبه كلمات “سنرميهم في البحر” على ألسنة بعض المُستبدِّين، أو “لا بُدَّ أن نحتذي حذوهم في كُلّ خطوة” على يد المُستعبَدِين من “المُثقَّفين”-. وفي الجانبَيْنِ يكون الكلام نابتًا من عاطفة لحظيَّة، لمْ يرتوِ من رحيق الفكر العميق الذي يجعل لهذا النبت جذورًا، ويُصيِّره من رؤيةٍ مُبتَسَرَةٍ للحظة انفعال إلى موقف رصين قادر على المقاومة أمام المواقف الأخرى.
وهنا يبرز دور “عبد الوهاب المسيري” في العقود الماضية. فعمله الأصيل -تدريس آداب اللغة الإنجليزيَّة في الجامعة المصريَّة- كان ذا تأثير في تعريفه على التنظير الغربيّ وفلسفته -فالأدب فلسفة مُشكَّلة، وهو أبلغ طرق الولوج إلى الفلسفة-. لكنَّ “المسيري” له دور آخر أدَّاه للثقافة العربيَّة الإسلاميَّة؛ وهو المُساهمة في تحويل التفكير العربيّ حيال الغرب وحضارته، والصُّهيونيَّة وأدواتها، والعلمانيَّة وجوهرها إلى نمط يبتعد عن سطحيَّة الرفض إلى صميم الفهم المُتأمِّل. ويتميَّز فكر الأستاذ “المسيري” بصُدُوره عن مُعايشة للواقع الغربيّ، فضلًا عن تعرُّف على البنية النظريَّة -الفلسفات والآداب العُظمى لأيَّة أُمَّة- لهذه الحضارة. مِمَّا أهَّله لإعادة تشكيل نظرتنا العربيَّة الإسلاميَّة عن هذه الحضارة ومبعوثها الصهيونيّ.
ما هو كتاب “الفردوس الأرضي”؟
الاسم الكامل للكتاب “الفردوس الأرضي؛ دراساتٌ وانطباعاتٌ للحضارة الأمريكيَّة الحديثة”. وقد صدرت طبعته الأولى في “بيروت – لبنان” عام 1979م، عن دار “المؤسسة العربيَّة للدراسات والنشر”. أمَّا النسخة التي قرأتُها فصادرةٌ عن دار “تنوير” في مصر، وهي الطبعة الثانية 2019م بعد الأولى 2014م. وقد حَذَفَتْ العنوان الرديف “دراسات ….” دون مُبرِّر أو إعلام، وهو تصرُّف غير اعتياديّ يحمل إملاء لإرادة الناشر على إرادة المؤلِّف. والكتاب في طبعته المصريَّة يقع في مائة وخمسين صفحة بعد أنْ حوَّلتْ الدار قطعه من المتوسط إلى الكبير -أو قطع هجين أقرب للكبير-، ملأ كلَّ صفحاته حتى آخرها.
الكتاب مُقسَّم إلى مقدمة كبيرة يشرح فيها فكرته؛ ثُمَّ أربعة أبواب: الأوَّل “البرجماتيَّة الأمريكيَّة والبرجماتيَّة التَّلْمُودِيَّة”، والثاني “عالَم السِّلَع الفردوسيّ”، والثالث “الإنسان بين الأشياء والبراءة الأولى”، والرابع “المرأة الأمريكيَّة بين التاريخ والفردوس”. استخدم فيه منهج التحليل التأمُّليّ -الذي ينحو نحو التفكيكيَّة المباشرة-.
وقد عايَش “المسيري” أمريكا في إقامته منذ 1971:1963 بشكل مُتقطِّع، وقد تعامَلَ في معيشته مع كثير من القطاعات؛ مع القطاعات الشعبيَّة في أثناء عمله حارسًا ليليًّا -كما صرَّح في الكتاب-، ومع القطاعات النُّخبويَّة في دراسته الجامعيَّة هناك، ومع كثير من الباحثين. وقد أتاحت هذه المُعايشة على تعرُّف حقيقيّ واقعيّ على أمريكا الواقع، واستخدام أدواته ومهاراته ليتعرَّف على أمريكا الفلسفة، وينقل إلينا خُلاصة تشكيله التأمُّليّ الفلسفيّ لهذه التجربة الأمريكيَّة في مُواجهة الإنسانيَّة كُلّها.
جنون الإنسان في العصر الحديث
ركَّز “المسيري” على نَزَعَات الجنون التي ركبت الإنسان في العصر الحديث؛ والتي من أهمِّها:
1-إنكار الغيبيَّة العقائديَّة -التي لمْ يجدْ لها “المسيري” إلا لفظة “الغيبيَّة التقليديَّة”-. فإنسان الحضارة الغربيَّة والأمريكيَّة يرفض تلك المقولات عن عالَم لا يراه يسيطر عليه ويتحكَّم فيه، وهو مَنشأه وهو مَرجعه. ويرفض رفضًا باتًّا أنْ يضفي تقديسًا على هذا النوع من الغيبيَّة، بل في الغالب يسلب عنه صفات الاحترام والتبجيل.
2-الإيمان بالغيبيَّة العلميَّة: وهو محلّ العَجَب من هذا الإنسان الذي أنكر أنْ يكون الله مُتحكِّمًا مُقدَّسًا، ثُمَّ صنع صنمًا من العلوم يعبده من دون هذا الإله. والأعجب أنَّ الرافض لفكرة التقديس قد أضفى كلَّ سمات التقديس على هذه المنظومة العلميَّة، ودافَعَ دونَهَا وحارَبَ كلَّ مَن يحاول إنكارها؛ فأبدل غيبيَّة بأخرى دون أدنى تعقُّل.
3-الغلوُّ في فكرة “التقدُّم”: والمقصود هنا بالتقدُّم التفوُّق الصناعيّ والتكنولوجيّ، وإنتاج أكبر قدر مُمكن من المصنوعات. فلقد بدأ الإنسان الغربيّ بالافتتان بفكرة التقدُّم منذ طلائع “الثورة الصناعيَّة”، ثمَّ بدأتْ الفكرة تسيطر عليه سيطرةً عظيمةً، حتى استولتْ عليه استيلاءً كاملًا. فصار يعبد التقدُّم كجوهر، وصار يحرص على تفوُّقه على أقرانه من الحضارات الأخرى حتى يحوز لقب “دول متقدِّمة”، مبتعدًا بها عن “الدول المُتأخِّرة أو المُتخلِّفة”.
ولا يستطيع الإنسان في هذا العصر أنْ يُميِّز تعريفًا للتقدُّم، تعريفًا حقيقيًّا صادرًا عن فكر مُتمهِّل. بل هو في هذا السباق المحموم حتى ضاق عن التأمُّل فيما يفعل. ونتج عن هذا فصلُ التقدُّم عن آثاره؛ البيئيَّة والإنسانيَّة. فكمْ كلَّفتْ هذه الفكرة العالَم أجمع من انهيار بيئيّ ضخم، وتغيُّر النظرة إلى الإنسان وتضاؤله أمام فكرة التقدُّم التي في الأصل بدأ في سباقها لراحته ورخائه، لا لشقائه!
الفردوس الأرضي؛ معناه ودلالته
“الفردوس الأرضي” مُصطلح أطلقه “المسيري” على محاولة أيَّة حضارة إنسانيَّة التخلُّص من فكرة “الفردوس العُلويّ”، وإحلالها على الأرض. وتحقيق فردوس “هُنا والآن”. دون مُراعاةٍ أنَّ الأرض موطن التغيُّر والنسبيَّة، لا موطن المُطلَقَات. لكنَّ مُصطلح “الفردوس الأرضي” -في تعبير أختصر فيه الكثير من عناء العرض- يُعبِّر عن طريقٍ مُعيِّنةٍ لتغيير الواقع بإرادة مُنفردة من صاحب التجربة، دون مُراعاة للسياق التاريخيّ (ماضي الشيء، وحاضره، ومُستقبله)، وبغضّ النَّظر عن عناصر الواقع الأخرى؛ والتي أهمُّها الإنسان غير المُقتنع بهذه التجربة، أو المُمانع لها مُمانعةً صريحةً.
ولا نفهم الفكرة هنا إلا بفَهم “المسيري” للوجود الإنسانيّ كمبدأ. فهذا الوجود عنده يتكوَّن من عُنصرَيْنِ: الوجود الطبيعيّ الجسديّ للإنسان، والوجود التاريخيّ. ويُعرِّف التاريخ في صـ13 بقوله: “تراكُمُ خِبرات الإنسان في مُجابهة الطبيعة؛ ولذا فهو يمنح الإنسانَ من المعرفة والوعي ما يُمكِّنه من التحكُّم في الطبيعة وتوظيفها لصالحه”. والأصل عنده أنْ يعيش الإنسانُ في حيِّزه الطبيعيّ الماديّ، مُراعيًا وجوده التاريخيّ الجُزئيّ، والوجود التاريخيّ العامّ. وهذا المفهوم “الوجود التاريخيّ” يقترب من الأُطُر النظريَّة لأيَّة جماعة إنسانيَّة، ولأيّ إنسان مُفرد -الأُطُر النظريَّة هي مجموع ما يُوجِّه الإنسان في حياته من دين ومنظومة مَفاهيميَّة مُجتمعيَّة، وحزمة أهداف الفرد أو الجماعة-.
ولعلَّ القارئ الآن يعرف لِمَ أطلق “المسيري” هذا الاسم “الفردوس الأرضي” على أمريكا والكيان الصهيونيّ؛ لأنَّ كُلًّا منهما قد حاول فرض نفسه وأحلامه وآماله بقوَّة الأمر الواقع، بغضّ النَّظر عن تاريخ الأرض التي أتوا عليها، أو حقوق السُّكَّان الأصليِّين، أو معقوليَّة الطرح الذي تطرحه تجربتُهما من الأساس.
كيف رأى المسيري أمريكا الواقع؟
قبل أنْ أبدأ أريد أنْ أسجِّل توقُّعي الشخصيّ للشعور الذي قد يعتري قارئَ الكتابِ العربيَّ من العجب والاندهاش؛ حيث غالب ما سيورده “المسيري” عن المجتمع الأمريكيّ منذ عشرات الأعوام -خاصةً العيوب والمَثالب- يجده العربيُّ وقد تحقَّق فعلًا على أرض واقعه هو، لا على الأراضي الأمريكيَّة البعيدة.
وها هي الأخلاق الأمريكيَّة ومنظومتها قد تلبَّستْ العربيّ المُسلم -وغير المُسلم-، وها هي العادات الاجتماعيَّة وأنماط الحياة (لايف ستايل) قد انطبقتْ علينا. والعجيب أنَّنا قد قبلنا كلَّ عيوبهم -التي يسمُّونها أخلاقًا- فقط، ولمْ ننجح في إدراك هذا الحُلم من التقدُّم الذي ورد على ألسنة مُثقَّفينا المُتغرِّبين أبدًا!
في خلال عرض “المسيري” للمجتمع الأمريكيّ نجد كثيرًا من الوصف الذي قد لا يكون موجودًا الآن -ليس لديّ من المعرفة ما أجزم به- من حياة اجتماعيَّة؛ خاصةً تلك التي تتناول المُجريات الروتينيَّة في حياة الأمريكيّ، فالباحث كان يصف الستينات والسبعينات من القرن العشرين. لكنْ نجد وصفًا آخر لأُطُر ثابتة في الحياة الأمريكيَّة لمْ تتغيَّر حتى لحظتنا. ألِّخصها فيما يلي:
1-المجتمع الأمريكيّ مُجتمع استهلاكيّ بامتياز، على خلاف ما يُصدَّر لنا دومًا. بل إنَّ إنتاج السِّلَع واستهلاكها هُما طريق الخلاص الذي يقترحه النموذج الرأسماليّ المُسيطر على البلاد.
2-الإنسان الأمريكيّ إنسان مَحليّ جدًّا؛ حيث ينصبُّ اهتمامه على أضيق نطاق يعيش فيه.
3-المجتمع الأمريكيّ من أكثر المجتمعات تأثُّرًا بالإعلام ووسائله. وبالقطع امتلاك أمريكا لكُلِّ هذه المنظومة الإعلاميَّة يجعل أوَّل استهدافاتها المواطن الأمريكيّ. لكنَّ الإعلام الأمريكيّ إعلام محليّ أيضًا؛ حيث نجد الجرائد المحليَّة التي تنتمي لكُل ولاية ومدينة، والتي بدورها تركِّز على أخبار المدينة أو الولاية على حساب أخبار البلاد وعاصمتها، فضلًا بالقطع عن بقيَّة العالَم. وكذا الإعلام المُتَلْفَز إعلام محليّ؛ ينقل لنا “المسيري” أنَّ أخبار العالَم فيه أوَّل دقيقتَيْن، ثُمَّ أخبار الولاية بقيَّة دقائق النشرة الخَبَريَّة. وبالقطع نرى كمْ من اليسير التحكُّم في هذا الكائن المُدجَّن اللطيف!
4-الإعلام الأمريكيّ مُسَيْطَر عليه ومُوجَّه من قِبَل الشركات التجاريَّة؛ لخدمة أهدافها الترويجيَّة. وقد ذكر مثالًا لسيطرة الشركة الشهيرة “جونسون آند جونسون” على الصحيفة المحليَّة في إحدى الولايات. فما بالنا بالوسائل الإعلاميَّة القوميَّة -أيْ التي تشمل الدولة جميعَها-! وما بالنا بالوسائل الدوليَّة -فيما بعد عصر تدوين الكتاب-!
الخطأ القاتل في المنظومة الأمريكيَّة
وأكبر الأخطاء التي يركِّز عليها “المسيري” في التجربة الأمريكيَّة هي عدم نجاح فكرة “العقد الاجتماعيّ”، أو ما سمَّاه “أتون الصَّهر”. وتتمثَّل الفكرة في أنَّ أمريكا دولة جامعة لكثير من الأعراق والأجناس -لأنَّها لمْ تكُن دولة أصلًا منذ قرون خمسة فقط-، وقد أراد الحالِمون لهذا الحُلم الأمريكيّ أنْ يكون فردوس الأرض الذي يجمع الكُلَّ تحت رايته العُظمى المُوحَّدة.
لكنَّ هذا المجتمع مُصاب بالتشظِّي؛ ويتمثَّل هذا التشظِّي في أنَّ كلَّ عرق أو جِنس يتمحور حول نفسه، ويتعلَّم تاريخه الخاصّ، ويتداول لُغته الأصيلة أو مُفردات منها في كلامه، ويحتفل بأعياد قومه فوق الأعياد الأمريكيَّة المُستحدَثَة. فالجميع يرفض من أعمق أعماقه فكرةَ التخلِّي عن أصله، والاستلاب لصالح التجربة الأمريكيَّة؛ خاصةً تلك الأجناس التي لا تلقى من هذه التجربة إلا السُّوء. فنجد الخُلاصة في مجتمع مُخلخَل البنية الاجتماعيَّة الظاهرة والعميقة؛ مِمَّا يدعونا للشكّ في أنَّه “مُجتمع” أصلًا!
وفي الأمريكيِّيْنَ السُّود خير مثال على هذا الفشل لأتون صهر الأعراق في الحُلم الأمريكيّ. فهُم تابعون لأنفسهم، مُتمحورون حولها، متجمِّعون في أماكن مخصوصة؛ كما كان اليهود أيضًا في “الجيتُّوْ” سابقًا. وكذا الأمريكيون الأيرلنديُّون فهُم كاثوليك -المذهب الغالب على أمريكا هو البروتستانت”- مُحيون لتقاليد دينهم (لعلَّ المُشاهد يرى هذا في فيلم أمريكيّ شهير اسمه “الأيرلنديّ” صدر 2019م؛ حيث نجد الجميع يعرف أنَّ هذا أيرلنديّ الأصل، وذاك إيطاليّ الأصل و… بل لعلَّه يُفسِّر ما يجري في الفيلم واسمه).
وما جاء تقويض هذا الحُلم بالاجتماع حول راية الحُلم الأمريكيّ إلا من سلوك الأمريكيِّيْنَ تجاه بعضهم؛ فمأساة الأمريكيِّيْنَ ذَوِيْ البشرة السوداء، ومُجانبتهم للمجتمع لمْ تأتِ منهم، بل من رفض الضمير الأوربيّ وأبنائه الذين أتوا إلى أمريكا لفكرة المساواة مع هذا الأسود الحقير -من وجهة نظرهم- الذي أتى من مَجاهل أفريقيا معهم! وبالقطع للأمر أبعاد أخرى كثيرة حول مسألة لماذا فشل الحُلم الأمريكيّ.
مُقاومة النموذج الأمريكيّ من الداخل
ويذكر “المسيري” الكثير من أوجه الاعتراض على المجتمع الأمريكيّ ونموذجه. منها حركة “اليسار الأمريكيّ” -الذي ينتمي فكريًّا بالعموم للتجربة الشيوعيَّة، وفي الأمر تفصيل- وما تعرَّض له من مُقاومة ضخمة وترويع وقمع؛ حتى صار حركةً مُدجَّنةً مَقموعةً، وحينها سمحتْ له السلطات الأمريكيَّة بالتواجد في الجامعات وغيرها بعد أنْ قلَّمتْ أظافره.
ومن صور الاعتراض على أمريكا حركة “الهِيْبِيْ” (الهِيْبِيز) التي اكتسحتْ العالَم بنموذجها في تلك الفترة (وستجد لها آثارًا واضحة في السينما المصريَّة واللبنانيَّة في أفلام تلك الحقبة، وعلى بعض فاقدي العقول الذين ساروا على سيرهم في المجتمعات العربيَّة). وحركة “الهيبي” حركة شباب تعمَّدوا أنْ يخالفوا المُجتمع، ونموذج النجاح العصاميّ (الذي صُدِّر لنا في التسعينات، ونراه جليًّا في مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي”، في شخصيَّة “عبد الغفور البرعي” التي أدَّاها نور الشريف). فكان فشلهم هو تعبير اعتراضهم على فكرة النجاح في المجتمع الذي رأوه مريضًا.
وهناك أيضًا الكثير من حركات الاعتراض في تكوينات دينيَّة، وتنظيمات شعائريَّة وعَقَديَّة مثل جماعة “أهل يسوع”، وغيرها الكثير من تلك الحركات التي ترتكز على فكرة جُزئيَّة، أو عقيدة فرعيَّة وتُعظِّمها بعد لوم المجتمع على عدم اهتمامه بها. لكنَّ حركات الاعتراض الاجتماعيَّة والدينيَّة تتميَّز بالتقوقع حول نفسها، والاكتفاء بالخلاص الجُزئيّ، وعدم الخروج بحيِّز الدعوة إلى المجتمع كُلِّه. ومن هُنا ظلَّتْ صيحاتٍ في طريق، لا مُغيِّرات له.
النِّسويَّة في التجربة الأمريكيَّة
سنجد في الكتاب بابًا قد خصَّصه “المسيري” لإيراد الكثير من الحديث حول الاتجاهات النِّسْوِيَّة -النسبة هنا للنِّساء؛ لذا النون مكسورة- التي ظهرتْ في أمريكا في ذاك العصر. وستجد تشابُهات واسعة النطاق حول ما هو مسطور من عشرات السنين وما نجده يظهر في بلادنا المُسلمة الآن من طغيان لهذا الاتجاه، ومن محاولة شرعنته على جثَّة الحقيقة. ومن تطرُّفات ما ذكره “المسيري” اتجاه المنظمات النِّسويَّة إلى شرعنة وتشجيع فعل “الإجهاض”، واحتقار الرجُل كفكرة، والنَّيْل منه ومن دوره، بل يمتدُّ الأمر إلى محاولة حثّ التجارب العلميَّة على ضرورة فكّ الارتباط بين الإنجاب وبين علاقة الرجل بالمرأة؛ أملًا في إنجاب من علاقة أُحاديَّة بين امرأتَيْن!
التشابهات بين التجربتين الأمريكيَّة والصهيونيَّة
من أفكار الكتاب الرئيسيَّة فكرة التشابُه بين التجربتَيْنِ: الأمريكيَّة والصُّهيونيَّة؛ بل إنَّ “المسيري” استهدف إبراز هذا التشابُه وتصديره للقارئ. ويمكنني أنْ أصوغ أوجه التشابُه التي تتبعثر في الكتاب في البنود الآتية:
أ-التشابهات بينهما:
1-كلاهُما يؤمن بـ الفردوس الأرضي، وسعى ويسعى في إنجاحه.
2-كلاهُما يتبع “البرجماتيَّة” في النموذج الفلسفيّ العامّ، و”الرأسماليَّة” في إدارة المُجتمع.
3-كلاهُما يشترك في أحلام الصُّهيونيَّة: إمَّا بالأصالة عند اليهود المُؤمنين بها، وإمَّا بالتبعيَّة في طائفة “البيُورِيْتانِيُّون” أو التطهُّوريُّون. وهُم طائفة من الدين البروتستانتيّ لمْ ترضَ عن النموذج البروتستانتيّ الذي غلب في أوربا، واتهمتْه بعيب عدم الانفصال التامّ عن العقائد الكاثوليكيَّة. وهُم مُتَّفِقون مع اليهود في حُلم الألفيَّة وعودة المسيح -بالنسبة للمسيحيِّين، فاليهود ينتظرون المسيح الذي لمْ يأتِ بعدُ في نظرهم-. هاجر أبناء هذه الطائفة إلى الأراضي الجديدة (أمريكا) ليحاولوا إقامة “صهيون” جديدة على تلك الأراضي. وتمثِّل هذه الطائفة كثيرًا من مُؤسِّسي الولايات المتحدة الأوائل.
4-كلاهُما يؤمن أنَّه صاحب رسالة عُليا، بل أعلى من الجميع؛ لذا يجب على الجميع الخضوع لهما.
5-كلاهُما يتبع فكرة “الرِّيادة”. وهي الفكرة القائلة بأنَّ الإنسان -الصهيونيّ أو الأمريكيّ- أتى لأرض لا أهل لها ولا شعب فيها، وأنَّه رَادَهَا لأوَّل مرَّة؛ فصار “رائدها”.
6-كلاهُما يؤمن بفكرة الأمر الواقع المفروض بالقوَّة، التي من الممكن أنْ نتصوَّرها في نموذج “الكاوبويّ” في أفلام الغرب الأمريكيَّة. فهو النموذج الذي يُطلق الرصاص على مَن أمامه أسرعَ، ويحوز الغنيمة على جثث الآخرين. ويسجِّل “المسيري” هنا إعجاب الصهاينة بهذا النوع من الأفلام.
7-كلاهُما بدأ بالخُطَّة نفسها؛ وهي إنشاء مُستعمرات عسكريَّة زراعيَّة لتأسيس لشرعيَّة وجوده على الأراضي الجديدة التي غزاها.
8-كلاهُما يفشل في إحياء هذا الفردوس الأرضي؛ فكما رأينا في مشكلة المجتمع الأمريكيّ، نجد أنَّ “الكيان الصهيونيّ” غير مُقنع بالنسبة لليهود؛ فغالبُهم يعيش في أمريكا أو في الاتحاد السوفيتيّ.
ب-الاختلاف بينهما:
1-قد صرَّح بالنصّ أنَّ الفارق بين الاثنتَيْن “أنَّ الأُولى ذات تاريخ صغير وجغرافيا كبيرة، بينما الثانية لها تاريخ كبير وجغرافيا صغيرة”.
2-الفارق في الرؤيتَيْنِ البرجماتيَّتَيْنِ أنَّ الأمريكيَّة لا تؤمن بالانتصار الأزليّ الذي لا تبديل له، الذي تؤمن به الصُّهيونيَّة.
ما بين التجربتَيْن اليهوديَّة والإسلاميَّة
وقد عقد “المسيري” فصلًا خاصًّا قارَنَ فيه بين نموذجَيْن من ديانتَيْنِ مُختلفتَيْنِ: “بودورتز” اليهوديّ و”مالكوم إكس” المُسلم” في محاولة كُلٍّ منهما التعامُلَ مع الثقافة الأمريكيَّة، والنموذج الأمريكيّ في تصوُّر النمط الأفضل في الحياة أو “الفردوس الأرضي”. من خلال استقراء السيرة الذاتيَّة التي دوَّنها كلٌّ منهما. ومن الممكن أنْ أنقل أهمَّ ما في المقارنة في الآتي:
أ-نورمان بودورتز: يهوديٌّ من شرق “أوربا” -وينوِّه إلى أنَّ أبناء الشرق الأوربيّ هُم الفاعلون الحقيقيُّون في دعم الكيان الصهيونيّ من أمريكا-. عاش فقيرًا مُحدَّدَ النطاق لكونه يهوديًّا، أرادتْ أمُّه أنْ يتعلَّم تعليمًا يهوديًّا مُنضبطًا. والتعليم اليهوديّ لا ينصبُّ على زيادة حصيلة معرفيَّة أو تنمية مهارات الطالب، بل ينصبُّ على تنمية فكرة “الجذر اليهوديّ” فيه. لكنَّ “بودورتز” لمْ يكن من مَحدودِيْ الطموح؛ لذا ذهب إلى مدارس الأغيار -الأغيار هُم غير اليهود في الشريعة اليهوديَّة-، وتعلَّم التعليم العلمانيّ مع التعليم اليهوديّ. وبدأ يتنكَّر لأصله ولديانته ليكتسب عُلُوًّا في المجتمع.
ثُمَّ تواتيه الفرصة ليدخل جامعة “كولومبيا” وينتقل من حيّ “بروكلين” الممتلئ باليهود إلى حيّ “مانهاتن” المسيحيّ. واستطاع هذا الرجل أنْ يُحقِّق النجاح الخاصّ به -أو ما اعتقده نجاحًا- من خلال التحوُّل إلى كائن علمانيّ مُنكِر لدينه أو مُتجنِّب له في أخفّ مظهر. والالتحاق بعالَم الثروة والمال والسلطة من خلال التشبُّه بهم، والتعوُّد على لكنتهم في الحديث. وعلى حدّ قول “المسيري”: اكتسب مظاهر الهُوِّيَّة الجديدة، لأنَّ الهُوِّيَّة نفسها لا تُكتسب.
“بودورتز” هذا نموذج للنجاح الرأسماليّ البرجماتيّ العصاميّ الذي يبدأ من الصفر، ويرى كلَّ النجاح في إحراز المال والارتقاء المظهريّ الاجتماعيّ، والذي يعبد “رَبَّة النجاح” -على حد تعبير “المسيري”-. وكانت النتيجة أنْ تحوَّل هو نفسه إلى كائن بلاستيكيّ، وسلعة مثل كلّ السِّلَع في عالَم السِّلَع الكبير المُسمَّى “أمريكا”. ولا شكَّ أنَّ هذا النموذج الأمريكيّ ذو دلالة عميقة في التعبير عن حقيقة أمريكا؛ فكأنَّ خليط الاضطرابات والتناقضات في شخصيَّة الرجل هي “أمريكا” مُصغَّرة.
ب-مالكوم إكس: أمريكيّ ذو بشرة سوداء، شهير جدًّا. وقد اتخذ “المسيري” من سيرته بعض الفُسحة للتعريف بعُمق غُربة الأمريكيِّيْنَ السُّود، وظُلمة تصوُّرهم لهذا المُجتمع الذي يُصرُّ على لَفظِهِم خارجَه، ومُعاملتهم لا على أنَّهم غرباء عنه، بل على أنَّهم مُحتَقَرون -فقد يكون الغريب شريفًا-. ولذلك نجدهم يحاولون صُنع خلاصهم الخاصّ بهم عن طريق استخدام الرقص والموسيقى في كنائسهم البروتستانتيَّة. وأثر هذا العامل في تشكيل “مالكوم” الذي كان مسيحيًّا ثُمَّ أسلم.
رأى “مالكوم” في الإسلام حُلم الخلاص من ثنائيَّة “الأبيض والأسود”، والمجتمع مُتعدِّد الطبقات، ومُتنافر الطبقات. تعرَّف على الإسلام في سجنه؛ فبدأ يرفض أكل الخنزير، ويعتاد على الوضوء. وانضمَّ إلى جماعة “أُمَّة الإسلام” أو “المُسلمين السُّود”. وقد سافَرَ إلى الحجّ فأسره أنْ وجد ناسًا لا يتعاملون معه من مُنطلق لون بشرته! وبالقطع مثل هذه القصص وغيرها كثير تُحطِّم لنا فكرة أمريكا أرض الحُرِّيَّات التي ما زال أراذل القوم يُدخِلونها في أدمغتنا بالغصب حتى اللحظة.
أعجب “مالكوم” في الإسلام -فوق تجاوز العُنصريَّة- خُلُوص فكرة الإله؛ هذا الإله خالق الجميع، على خلاف المسيح الذي يُصوَّر دومًا في صورة رجُل أبيض البشرة أشقر الشَّعر، رغم أنَّ المسيح لمْ يكُن كذلك. هذا الإله الذي لا تصوُّرَ له، وقد رفَضَ ما شاعَ في جماعة “أُمَّة الإسلام” من تصوير الإله بصورة رجلٍ نصفُهُ أبيضُ والآخرُ أسودُ. هذا الإله الذي بعث نبيًّا بشرًا لا يفضل غيره إلا بفضل الرسالة، خاليًا من أيَّة سمة إلهيَّة. كما أعجبه جهودُ الإسلام في تحرير العبيد، وعُلوُّ مكانة العبيد في الإسلام، وكذلك فضيلة التجمُّع والجماعة في الصلاة الإسلاميَّة.
أمَّا عن نموذج “الفردوس” عند “مالكوم”؛ فيكفي أنْ نعرف أنَّ الشخص الذي قال:
الدولة تستطيع أنْ ترسل إنسانًا إلى الفضاء الخارجيّ، لكنَّها لا تعرف كيف تتعامَل مع البشر.
لمْ يقُده حَنقه على المُجتمع إلى التدمير والتخريب أو إلى التقوقع حول الذات. بل استطاع بعد إسلامه أنْ يحاول تغيير الواقع بشكل فعليّ مُشارِك، واقتراح نموذج تفاعُليّ يستطيع جذب الأشخاص من خلال إقناعهم الداخليّ به.
رسالة الكتاب الكليَّة
لعلَّنا لا نجد هذه الرسالة في أيٍّ من مواضع الكتاب؛ لكنَّي أستطيع أنْ أصوغها بعد استشفافها في أنَّ الحُلم بالتغيير يجب أنْ يُراعي مُعطيات الواقع والتاريخ؛ حتى لا يتحوَّل إلى مُجرَّد حُلم فردوسيّ أرضيّ لنْ يكون محلَّ نجاح أبدًا. وأنَّ الأفكار في الواقع الفعليّ تختلف عن الأفكار في الحيِّز الذهنيّ الخالص؛ فعندما تُطبَّق تتلبَّس بالواقع، ولهذا التلبُّس عمل فيها لا بُدَّ أنْ نراعيه. وأنَّ المَقاييس التي نقيس بها الفعل البشريّ لا تصلح أنْ تكون مقاييس فردوسيَّة؛ سواء في رؤيتنا لتاريخنا أو تاريخ الغير، وفي مُحاكمتنا لتاريخنا وواقعنا.