تبيان تحاور أ. عمرو عبد العزيز: قراءة في مذاهب ما بعد الحداثة.. النسوية، الشذوذ وأمور أخرى

ضيف تبيان اليوم؛ كاتب ومؤلف مصري وباحث ماجستير في علم العلاقات الدولية بجامعة الإسكندرية، له مؤلفات فكرية عديدة؛ منها وطن الراشدين والداروينية المتأسلمة ومحاجَّات المُعوِّقين ورواية بر الزنج ومجموعة خلافة ديمقراط القصصية، وكتاب الإسلاموطوبيا وكتاب دين المؤتفكات وغيرها من الكتب والمقالات الهادفة.

إنه الأستاذ الباحث عمرو عبد العزيز الذي نقد بحدة تيار العلمنة ودمقرطة الإسلام أثناء انحراف الأحزاب الإسلامية، والذي ينشط بجهود متفانية ضد التيارات الفكرية الغربية الحالية خاصة النسوية والشذوذ والجندرية والحداثة وما إلى ذلك من دعوات ضالة سقيمة تتربص بمجتمعات المسلمين لتفسدها.

يتميز ضيفنا باطلاع كبير على كتابات الغربيين وقدرة على سبر أغوارها بالاستناد إلى قاعدة عقدية متينة.

تبيان: يظهر لنا من خلال عناوين مؤلفاتك ذلك التنوع في أساليب تناول القضايا الفكرية بين المنهج العلمي البحثي وبين المنهج الأدبي، ما الذي دفعك لهذا التنوع وكيف ترى المراوحة بينهما ونتائج كلّ منهما في الساحة الفكرية؟

هذا سؤال سيضطرني أن أبدأ بحكاية طويلة نوعًا:

حتى عام 2014 تقريبًا، لم أكن أؤمن كثيرًا بأهمية إتقان اللغة، وكان المهم عندي الفكرة، أوصلت أم لا، حتى عندما كتبت رواية ومجموعة قصصية كانت الفكرة المُرادة هي أساس الأعمال. لعل أحد أسباب ذلك كان تأثري بالأساليب المباشرة التي اعتدتها لا في مجرد قراءاتي حينها فقط، بل في الأسلوب العلمي الجاف المختصر الذي لم نعرف سواه في كلية العلوم، والذي يضيق ذرعًا بالتصوير، ويأنف من أي تأنق لفظي، وقد كان هذا النسق الكتابي هو محور حياتي الجامعية منذ عام 2001 إلى عام 2016.

لكنني انتبهت لضعفي اللغوي الشديد، وفقر المعاني، وقلة حصيلتي من المفردات، ونسياني الفاضح لكل ما أخذته في النحو، وكنت أبغضه في دراستي الأساسية، حتى كنت لا أتذكر ما هو إعراب الفاعل نفسه، وقد حاولت الدراسة بمفردي، لكن بغضي للنحو كان يلقي بظلاله، ولم أكن أعرف من أين أبدأ.

ومن عادتي أني إذا أردت شيئًا عويصًا، لا أقاربه خلسةً، بل أقفز في أتونه مباشرةً، وعليه تقدمت للدراسة في كلية دار العلوم، حتى أتغلب –مرغمًا– على عدائي للنحو، وجهلي باللغة، وبرغم سوء حال الدار عامةً، وفقر المناهج مقارنةً بما كنت أرجوه، ونزول التعليم المفتوح درجتين عن التعليم المباشر، إلا أني أرفدت المناهج المُقررة، بمناهج خاصة للقراءة، فكنت في الأدب الجاهلي مثلًا لا أكتفي بالمقرر، بل أذاكر مع نفسي المعلقات وأقرأ شروحها وأستمع لبعض المميزين على اليوتيوب وهم يعرضونها وأطالع جغرافيا وتاريخ عرب الجاهلية، وكنت أنمي لغتي بالمعاجم، وساعدني أساتذة كرام في التعرف على طرائق تحسين اللغة، وتعريب الأسلوب، وتوفير المفردات، فهذب ذلك الكثير من الشعث الذي كنت أكتبه قديمًا، حتى صرت لا أطيق أن أنظر إلى النسخ الأولى من كتبي مثل وطن الراشدين، وعزمت أن أعيد كتابته متى واتتني الفرصة، وأتممت ذلك هذا العام ولله الحمد.

فأنا منذ سنوات أحاول جمع المنهج العلمي، سواء البيولوجي أو السياسي أو غيرهما، بالأسلوب الأدبي، ساعيًا في تطوير أسلوب خاص بي.

هذا كان هدفي الذي أعمل فيه منذ سنوات، وأسأل الله أن يوفقني إليه: منهج علمي منضبط، ومعرفة شرعية متينة، وأسلوب أدبي رائق. تلك هي المعادلة التي قررت منذ عام 2015 أن تكون هدف حياتي للسنوات العشر المقبلة.

تبيان: في قناتك “المشكاة” يظهر اهتمامك البالغ بالعلوم السياسية حيث تطرقت إلى موضوعات كنظريات العلاقات الدولية والأيدولوجيات السياسية، فما هدفك من التطرق لهذه الموضوعات؟ ومن المستهدف الرئيسي مما تعرضه؟

وهذه أيضًا حكاية أخرى:

أنا مهتم بالقراءة في السياسة منذ المراهقة، وأذكر أن من السنوات الأولى لتعرفي على الإنترنت والمنتديات، في عام 2003 تقريبًا، كتبت مقالًا عنوانه (هتلر إسلامي)، وكنت أتحدث فيه أن المسلمين بحاجة إلى زعامة كاريزمية، تقفز على السرديات والبنى المملة للتنظيمات القائمة، وأن ظهور هذه الزعامة الكاريزمية المتحدية يمكن أن يقلب المشهد السياسي للعالم الإسلامي بالكامل. أكان الشيخ حازم أبو إسماعيل نموذجًا يشهد لكلامي هذا الذي ذكرته وأنا في التاسعة عشر من عمري؟ لا أدري، لكن أحد الأصدقاء حينما قابلني في 2012 ذكَّرني بهذا المقال وربطه بالشيخ حازم.

على أي حال اهتمامي بالسياسة قديم جدًا، وقد أفاض الله عليَّ بنعمةٍ، أن سمحت كلية العلوم السياسية الناشئة في الإسكندرية بمنح خريجي الجامعات الأخرى فرصة للحصول على دبلوم فيها، مؤهل للماجستير بشرط الحصول على تقدير جيد جدًا، فسجلت فيها في عام 2017.

فالسياسة جزء من مشروعي الفكري منذ زمن طويل، وكنت أحتاج فقط إلى التمرس بأدواتها الأكاديمية، ومناهجها العلمية. أن أنتمي إلى عالمها الأكاديمي ولا أتحدث عنها وأنا خارجه. وقد كنت أحتاج كذلك إلى التأكُّدِ من أفكاري، هل ما أقوله ويتكلم فيه الكثير من المسلمين من نماذج تفسيرية مخالف بالفعل (للعلم) أم لا؟

أما القناة، فقد كان هدفي تقديم محتوىً (علمي) للسياسة بتعليقاتنا نحن، لا ما يطرحه الأساتذة والشباب العلماني الذي يوشك أن يحتكر الحديث عنها في مواقع التواصل وقنوات اليوتيوب، عارضًا إياها بصورة دعائية غير ناقدة، وبطعن خفي أو جلي في المناهج والسياسات الإسلامية. أن ألتزم بالعلم فأعرض المسائل كما هي، وأن آخذ حريتي في التعليق بعد ذلك على ما عرضته. هذا أحد أركان القناة منذ قامت، وأعتقد أن المحتوى العربي في هذه الموضوعات والملتزم بالشريعة قليل حتى الآن، هذا ما شجعني.

تبيان: يظهر أيضًا اهتمامك بنظريات العلاقات الدولية في آخر إصداراتك “هلال السيادة: الإسلام ونَظْم العالم” فهل يمكن أن تقدم لنا لمحة مختصرة عن الكتاب وأهم الأفكار التي يناقشها؟ وهل يوجد بالفعل نظرية إسلامية للعلاقات الدولية؟ ما أهم ما يميزها عن النظريات الأخرى؟

المرة الأولى التي جاءتني فيها فكرة وضع كتاب عن نظرية الإسلام في العلاقات الدولية كان أثناء عرضي لكتاب (نظريات العلاقات الدولية) في قناة اليوتيوب عام 2017، وقد كنت قد غصت في مطولات الفقه قبل عامين لأفهم أبواب الجهاد جيدًا، حتى أستطيع أن أكتب (محاجات المعوِّقين)، فجاء في ذهني أن كافة تلك النظريات القائمة في حقل العلاقات فيها ثغرات، وأن للإسلام نظرية في العلاقات الدولية مميزة جدًا، من السهل استنباطها من مصدرين: سنة النبي، خاصة المغازي، ومدونات الفقهاء، خاصة أبواب الجهاد، وقد كان الفقهاء يتوارثون معرفة تلك النظرية، ويتحدثون وقد استبطنوا أسسها.

ثم لم ينتهِ العام إلا وقد وضعت فصله الأول: المدخل النظري، ثم في 2018 أتممته ولله الحمد، وتفصيل ما فيه يطول. لكن نعم للإسلام نظرية خاصة، نابعة من فلسفة إسلامية شارحة لماهية دوافع الإنسان، ولسنن الكون، ولمنطق الحياة الدنيا.

فالحياة السياسية فرع من الحياة الاجتماعية، والاجتماعية فرع من الإنسانية، ودوافع الإنسان في الفعل إما عقلية أو نفسية، فالعقل مصدر الدين والفكر، والنفس مصدر الشهوة والطمع، والفعل السياسي يسير على نفس القواعد: فالفعل السياسي إما صادر عن دافع عقلي: دين أو فكر أو ثقافة، وإما صادر عن دافع نفسي: شهوة غلبة وهيمنة أو طمع توسع وكَنْز.

فمن نماذج الأولى حروب الفتوحات الإسلامية الُمبكِّرة في عهد الراشدين، والحروب الصليبية، والحروب المُدرجة تحت عنوان الحروب الأيدولوجية مثل النازية والشيوعية. ومن نماذج الثانية الصراعات الإسلامية الإسلامية في تاريخ ما بعد الأمويين، والنموذج الأكبر الحروب الإمبريالية الغربية. وكثيرًا ما يحدث أن يختلط في الصراع هذين الدافعين ويصعب تمييز أحدهما عن الآخر.

والإسلام يأمر بوجوب الدافع الأول في صورة محددة: أن يكون إعزاز دين الله هو مُرادك من القتال. فالجهاد أداة من أجل هيمنة الإسلام وتسويده على الأديان الباطلة. والحرب ليست مرغوبة من أجل شهوة توسع أو كنْز، بل من أجل الدعوة، وعليه إن قبلت الوحدات السياسية الكافرة بفتح الباب لدعوة الإسلام، وبالصلح ودفع الجزية كعلامة للهيمنة السياسية، قبل المسلمون، ولم يحل لهم اقتحام ولا توسع ولا احتمال مغانم.

أهم ما يميز تلك النظرية شموليتها، فهي لا تجعل أولوية للعامل المادي متجاهلةً العامل الفكري، كما تصنع الواقعية مثلًا، ولا العكس، كما تصنع البنائية. ثم أنها نظرية مُفسِّرة ومُرشِدة، فملكة نظريات الحقل، أي الواقعية، لا تصلح نظرية مُرشِدة، كما أن عدوها الشرس، أي المثالية، لا تصلح نظرية مُفسِّرة بصورة مرضية. فالنظرية الإسلامية تجمع الصفتين، وهذا من أصعب الأمور في الحقل.

تبيان: ما هي أبرز المذاهب الناجمة عن فلسفة ما بعد الحداثة التي تستهدف حاليًا الأمة المسلمة، ما هي أخطرها بحسب اعتقادك؟

لا أحب مداخل تفسير (الحداثة – ما بعد الحداثة)، وأجد بعضها فيه مبالغة في التقسيم، كما أن المصطلحات أصلًا لا تخلو من إشكالات كبيرة.

لكن لنأخذ المعاني الأشهر: ما بعد الحداثة هي السخرية من كل معنىً، والاستهزاء بكل قيمة، وبالتالي إشاعة النسبوية الكاذبة، ومعاداة أهل الأديان والفِطَر. وهي صورة من صور الإنسانوية. هي المدخل الأفضل لشرح هذه الشرور.

فأكثر مصائبنا هذه الأيام من منتوجات الإنسانوية، الحداثي منها كالنسوية، وبعد الحداثي كاللوطية. الإنسانوية هي مظلة الأديان العلمانية الأخطر، ومنها ينبع كل شر.

تبيان: ما هي العوامل المشتركة التي تساهم في تغلغل دعوات تلك المذاهب في المجتمعات المسلمة، وكيف تقرأ درجة تغلغلها إلى الآن في هذه المجتمعات، هل كان هناك تفاوت بين مجتمع وآخر، فإن وجد ما سبب هذا التفاوت؟

الأنظمة عليها العامل الأكبر، فمنذ أكثر من مئة سنة وشرائع الدين الإسلامي بكل أسف تُقدَّم قُربانًا يُحرق مرضاةً للرب الغربي كي يعفو عنا ويزول هياجه. وقد اندمجت حركة مقاومة الاستبداد بحركة مقاومة العلمنة منذ هذا الحين: ففي التاريخ الإسلامي كان دفع الاستبداد توجهًا، ودفع أهل البدع والزندقة توجهًا آخر، قد يلتقيان أحيانًا، لكن يظل لكل منهما تمايزًا واضحًا.

أما في القرن الأخير، فقد التحم التوجهان، وصارا واحدًا. وبالتالي تضاعف الثمن المدفوع: ثمن مقاومة الاستبداد، وثمن مقاومة تمكن البدع العقدية والزندقات. أضف إلى ذلك التحريض الغربي الدائم على مناصري الشريعة، وتهديد حكام المسلمين إن لم يقمعوهم.

ونعم هناك تفاوت بين المجتمعات في الدولة الواحدة نفسها، ففي مصر تمكنت العلمنة من المدن أكثر من الريف، ومن شمالها أكثر من جنوبها، ومن واديها أكثر من صحاريها، والأسباب يطول شرحها، وتحتاج إلى استعمال مداخل علم الاجتماع السياسي بشكل رئيسي.

تبيان: كيف تعرف الجندرية؟ ومع أن دعوات كالتي تروج للشذوذ والجندرية تصطدم اصطدامًا عنيفًا مع معتقدات الأمة المسلمة إلا أننا شاهدنا حالات يروج لها الإعلام في محاولة لاستعطاف الجماهير، برأيك كيف يمكننا التصدي لمثل هذه الدعوات وكيف يمكننا أن نحد من تأثير الإعلام الداعم لها؟

الجندرية هي أيدولوجيا منبثقة من الموجة النسوية الثانية، وخاصة الفكرة المتطرفة القائلة بأن المجتمع هو المسؤول عن تلقين الأدوار الاجتماعية للجنسين، وليست الفطرة. وهو معتقد نسوي خُفِّفَ لاحقًا في بعض صوره، إذ تتالت الدراسات العلمية التي أثبتت سفاهة هذا الرأي، فظهرت صورة أخرى تجعل المجتمع هو (المسؤول الأول) وليس الوحيد عن صناعة الذكر والأنثى.

وعليه لم يكن غريبًا ما جاء لاحقًا في دين اللوطية من توكيل ما يحدد كون الإنسان ذكرًا أم أنثى إلى ذات الفرد نفسه، فما دمت قد همشت الأعضاء التناسلية وجعلتها مسؤولًا ثانويًا في تحديد نوع الإنسان فلابد حينئذٍ أن أجعل الذات الفردية هي المصدرة للحكم، فالفردانية الإنسانوية أقل أحوالها الاسترابة من المجتمع، وعداء أي توجهات جماعية وكلية.

إذن كانت المعادلة سابقًا في تحديد الجنس هي = الأعضاء التناسلية. ثم قالت النسوية الثانية إن المعادلة الحقيقية هي = المجتمع ثم الأعضاء التناسلية. وجاءت الجندرية لتقول إن المعادلة الصحيحة المُرادة هي = الإنسان الفرد بذاته.

أما كيف يمكننا التصدي للأمر: فبالعلم أولًا، ثم عدم الرأفة في مواجهة تلك الحملة الكبرى، وعدم الرحمة في قطع أذيالها عندنا، ممن يروجون بمداخل التعاطف والإنسانوية للتسامح مع المؤتفكات الجديدة. التعامل المخنث مع أولئك سيزيد من تمكنهم، والتشتت الظاهر والمحسوبيات والشللية والحزبية سيجعل الفشل في معالجة المسألة أفدح.

تبيان: كيف تعرّف النسوية وكيف تمكنت من الوصول لمجتمعات المسلمين؟ هل كان هناك أخطاء في معالجتها؟

النسوية هي سماء بحر متلاطم من الأفكار، كثير منها متناقض ومتضارب، فتحتها ستجد مثلًا نسويات يرفضن أن ثمَّة فِطرة خاصة بالنساء تختلف عن الرجال، وستجد من يؤكدن العكس، ممن يقلن أن فطرة النساء أعظم من فطرة الرجال، وستجد من تحلل ظلم النساء في العالم بمدخل طبقي ماركسي، ومن تحلله بمدخل ليبرالي، وهكذا. هناك نسويات يحاربن أنواعًا أخرى من النسويات، وما بعد النسوية التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي كانت تهدم أصول النسوية الراديكالية والموجة الثانية، لكن من منطلقات نسوية أيضًا!

لكن كما يمكنك أن تقول بأن السماء لونها أزرق، وفيها شمس وقمر وسحاب، فتحدد السمات الكبرى، يمكن صنع ذلك مع النسويات عامةً: فالنسوية من نظريات الصراع، وموجزها أن الإنسانية لم تخلُ من صراع هيمنة وسيادة شنه الذكور على الإناث، ومن نواتج هذا الصراع جاء التنميط المجتمعي في صورة الدين والثقافة والأعراف، فوكِّلت الأدوار الاجتماعية الدنيا للنساء، مثل تهيئة المنزل وتربية الأولاد، واستأثر الرجال بالأدوار الاجتماعية الكبرى، مثل السياسة والقيادة والأعمال المجيدة.

وتحرك التاريخ كله بهذا المبدأ: للرجال المجال العام، وللنساء المجال الخاص. وصار هذا التقسيم الظالم دينًا، تتدين به النسوة أنفسهن، فصرن ينظرن لمن تتحداه أنها فاسقة أو مختلة. وإصلاح الدنيا لن يكون إلا بإلغاء هذا التقسيم للأدوار، بمهاجمة الأديان أو الثقافات أو الأعراف، والثورة على المفاهيم المحافظة للمجتمعات.

لكن في النسوية المتأسلمة يستبدلن مهاجمة الإسلام بمهاجمة شُرَّاح الإسلام: أي الفقهاء والمفسرين، ويستبدلن الثورة وتبديل المفاهيم المحافظة، بالاجتهاد الفقهي [الثوري] والخلاص من الفقه القديم. أما كيف وصلت لمجتمعات المسلمين، فهي أحد أركان دين الإنسانوية، وأحد نواتج الهيمنة الغربية، وقرودنا مولعون بمحاكاة من يظنون فيهم السمو.

أما الأخطاء في معالجتها فتتمثل في التساهل الزائد مع رائداتها، وشيوع عدم التعمق في أحشاء النسوية الغربية. من عندنا من نسويات هن ذيول للنسوية الغربية، صحيح أنهن يُطوِّرن صيغًا خاصة بهن كمسلمات، لكنهن في النهاية يدُرن في حقول دارت فيها النسويات الغربيات قبلًا. فإذا أردت أن تفهم ما يصنعن، لابد أن تفهم ما هي النسويات الغربيات وأنواعها. وهذا سهل ميسور حاليًا بسبب حركة الترجمة.

خذ مثلًا بعض أولئك الذين يقولون لي كيف تقول إن فلانة نسوية وهي من أكابر من يردون على النسوية! فإني أقول لهم دومًا إن فلانة التي تتكئون عليها في الرد على النسويات، هي في الحقيقة نسوية متعصبة، لكنها ترد على (النسوية العلمانية) أو (النسوية الراديكالية)، بنسوية إسلامية متلبرلة! علامتهن دومًا الضيق بالفقه (التقليدي)، ورفعهن شعار (الاجتهاد)، وتلميع أسماء محددة من المشايخ، معروفة بالشذوذ عن منهج أهل السنة في التعامل مع المرأة، مثل الغزالي.

إننا لا نحتاج إلى مزيد رقة في التعامل، بل نحتاج مزيد علم بالتفاصيل، وقوة في العرض، وشجاعة في الطرح.

تبيان: دين الإنسانوية الجديد الذي يمهد لمرحلة جديدة في العالم، يتم فيها احتواء العالم الإسلامي في الفكرة الغربية، إلى أي مدى يمكن لهذا المشروع أن ينجح، وكيف ترى مستقبله؟

هناك علامات تظهر فشله بإذن الله. لكن للأسف هذه العلامات في الغرب! إن مشروع الإنسانوية مُهدَّد باليمين عامةً والذي صار شوكة في حلوقهم لن تُنزَع بسهولة. على أي حال استمرار صعود الصين وروسيا وتضخم القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران ومصر والسعودية وانشغال أمريكا بالفوضى الداخلية فيها، سيعجل بانتهاء هذا المشروع على أرض الواقع.

العالم ذاهب إلى مزيد تفكك للقطبية الواحدة وظهور أقطاب أخرى. صحيح أنها لن تقدر أن تقارب أمريكا في زمن قريب. لكن القوى العسكرية في المنظومة النووية الحالية لم تعد المحدد الوحيد للقطبية، وقد كان شرط نجاح هذا المشروع هو استمرار القطبية الأمريكية الواحدة بلا أي تهديد أو شريك: معادلة التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة.

تبيان: نشاهد مشاكلًا تطرأ أثناء استجابة الجهات الإسلامية في معالجتها لدعوات الحداثة الغربية، وافتقاد القدرة على معالجتها بتوازن واقعي، ما هي أبرز الأخطاء في الاستجابة الإسلامية لمعالجة الدعوات الحداثية الغربية؟ وكيف يمكن تفاديها أو تخفيف آثارها الرجعية؟

الجهات الإسلامية تواجه حربًا عالمية منذ قرن، ما تصنعه طوال هذا الزمان من تفنيد فكري للعلمانية والتنصير وما إلى ذلك، حتى إن كان فيه قصور، هو شيء من المعجزات! أنا لا أصدق إلى الآن كيف كان البعض يرد على التنصير ويدرس كتب اللاهوت المسيحي ويتعلم لغات ميتة، ويفلج في مناظراته على كبار قساوسة الكنيسة، هذا وهو لا يجد ما يقيم به حاجته وحاجة أولاده، ومهدد بالاعتقال دومًا لأنه يقاوم أيضًا الاستبداد! ما حدث إلى الآن معجزة تاريخية!

إن حركات الاستشراق نشأت برعاية إمبراطوريات غربية، فتحت خزائنها المادية والعلمية للباحثين والمفكرين، من أجل فهم الشرق ونقده، وما زالت مراكز البحوث الغربية إلى اليوم أملًا للجميع، بسبب الرفاه الذي تقدمه إن انتسبت إليها = فما بالك بمن يُنتِج برغم وجود حرب عالمية وإقليمية ومجتمعية عليه، وتضييق ومصادرة وإهدار للأعمار بسبب أحرف قليلة!

مصدر الأخطاء هو المنع والحظر والتكميم، وإلا فإن الأفذاذ في تلك الأمة أنتجوا ألف ضعف ما يمكن لمن وقع في نصف ظروفهم أن ينتجه!

تبيان: كيف تفسر ظاهرة الإلحاد التي رافقت ظهور العلمانية في المجتمعات المسلمة، كيف لعبت السياسة دورًا محوريًا في السماح للعلمانية بفرض قيمها على مجتمعات إسلامية وتأثير هذا على انتشار ظاهرة الإلحاد؟

ذكرت هذا قبلًا: صناع القرار في بلادنا هم المسؤول الأول.

أما عن الإلحاد، فالحقيقة أن وصفه بالظاهرة مبالغ فيه. هناك (ظاهرة إنسانوية)؛ أما الإلحاد الفج فنادر. حتى دعاة اللوطية تجد الكثير منهم يرفض الإلحاد الصريح. أما الذي يُظهِره على غير حقيقته الضئيلة فهو الفُحش في استعراضات أصحابه على صفحاتهم، وعدم مسهم بأدنى سوء من إدارات مواقع التواصل.

تبيان: مع كل ما تدعيه الدعوات الغربية من حريات واحترام حقوق الإنسان إلا أنها تضطهد الإنسان المسلم في أرضها وتطارده على مظهره وملبسه وأبسط حقوقه في أكل حلال أو ممارسة شعائره الإسلامية، كما شاهدنا مؤخرًا في فرنسا، كيف تفسر هذا التناقض الصارخ بين قيم معلن عنها وممارسات بشعة نشاهدها في كل يوم تتصف بالعنف والشدة ضد كل ما يتصل بالإسلام؟

يوجد تقسيم شهير لليبرالية إلى نوعين: الليبرالية الغربية المركزية، والليبرالية التعددية. الأولى عنصرية متبجحة بغض النظر عن ادعاءاتها، فهي تجعل دين الليبرالية الغربي هو معيار الصواب والخطأ وفرقان الحق من الباطل ومصدر القيم. نموذجها الأكبر في زماننا الليبرالية الفرنسية.

وتلك لا تنتظر منها أدنى تفاهم مع الإسلام أو تسامح مع المسلمين إن لم يخضعوا لها خضوعًا تامًا و(يندمجوا) فيها بالتخلي عن كل ما يُخالف الليبرالية من دينهم. هناك تنوعات في تلك الليبرالية نفسها فالإنجليزية والأمريكية أكثر تسامحًا من اللاتينية والجيرمانية. لكن المنطق العام ثابت، وهو أننا المركز الأسمى والغير لابد أن يقلدنا. فكرة المركز والهامش الذي أكثرت نظرية التبعية من استعمالها.

أما الليبرالية التعددية فشعارها النسبوية وعدم التسلط الثقافي، لكنها على أرض الواقع لا تختلف بصورة كبيرة عن الأولى: فهي تقول إن الثقافة الغربية ليست معيارًا، وكل إنسان له حق في اختيار الثقافة والمعيار الذي يريد. لكن قبل أن تقفز فرحًا بهذا الكلام اسمع شرطهم: يقولون إن شرط (استعمال) تلك الثقافة وإخراجها من الإطار القلبي إلى الإطار العملي سواء القولي [الدعوة] أو الفعلي [الممارسة] هو ألا تكون ضد حقوق الإنسان.

هنا تظهر المفارقة: فمن الذي وضع حقوق الإنسان تلك؟ إنه الغرب نفسه! اللوطية الحديثة مثلًا صارت من حقوق الإنسان، وكبار دعاتها غربيون، فكيف صيَّروها من حقوق الإنسان العالمية؟ من قال إن حرية التعبير المطلقة من حقوق الإنسان؟ من قال بأن المساواة بين الذكر والأنثى في كل شيء من حقوق الإنسان؟ من قال بحظر العقوبات البدنية كقطع اليد والإعدام وأن هذا من حقوق الإنسان؟ إنها الليبرالية الغربية! إذن نحن أمام نموذج يبدو ظاهريًا أفضل من النموذج الأول، إذ يعترف بالثقافات الأخرى، لكنه في الحقيقة يصل إلى نفس الناتج: أن المعيار الليبرالي الغربي للصواب والخطأ والقيم والحق والباطل هو (المعيار الإنساني المطلق) الذي يُحاكَم إليه الآخرون!

إذا علمت هذا، أدركت أن كل الطرق تؤدي في النهاية إلى روما! في فرنسا ستُحاسب على عدائك للوطية وستُسجَن مباشرةً، أما في إنجلترا فلن تسجن لكن سيُثوَّر ضدك المجتمع وتُنبذ وتُمنَع من الجهر بمعتقدك باسم العنصرية والتحريض ضد فئات مضطهدة!

الإنسانوية مظلة أديان علمانية، والليبرالية أحد تلك الأديان، تعامل معها بهذا المنطق لن تستغرب كل ما يُصنع فيها.

المشكلة أن حتى بعض ناقديها يتعاملون معها باعتبارها مظلة حرية اعتقاد كما تزعم، فيستنكرون ممارساتها التي تخالف هذا الزعم، والحقيقة إنها دين كباقي الأديان، ينظر إلى نفسه باعتباره الحق المعياري المطلق، قد يتسامح مع المبتدع أو الكافر، لكنه يحاصره في نفس الوقت ويضيق على الجهر بمعتقده، وفي بعض صوره المتطرفة لا يسمح بوجود المخالف من الأصل ويشن الحروب للقضاء على هذا الكافر المعاند لليبرالية!

تبيان: كشف العدوان الجاري على فلسطين من الاحتلال الصهيوني كيف تصطف أوروبا -راعية دعوات الحداثة الغربية- بقوة إلى جانب الصهاينة وتستعمل قانونها فيما يسمى تجريم معاداة السامية لإجهاض أي حق في التظاهر أو مناصرة الفلسطينيين، كيف ترى هذه السياسات في دول أوروبا وكيف تقرأ مستقبلها؟

هناك سببان ظاهران لسياسات الغرب مع إسرائيل: أولهما التغلغل اليهودي في الاقتصاد والإعلام الغربي، وسيطرته على بعض أشهر المنابر العالمية مثل هوليوود والسي إن إن وغيرهما، وكذلك التغلغل السياسي القوي جدًا في أمريكا مقارنة بأوروبا.

وثانيهما العداء الغربي والأوروبي التاريخي مع الشرق الأوسط عامةً، ومع الإسلام خاصةً. هذا عداء منذ عصر وثنية الرومان لم يزل، وزاده اشتعالًا انتصار الإسلام وفتوحاته المعجزة السريعة وانتصاره الأكبر بابتلاع القسطنطينة إضافة إلى تمركز هذا الدين في الشرق. فحتى إن لم يكن ثمَّ يهود نافذون في الغرب، لكان قد رحب الغربيون بوجودهم في فلسطين، وإيذائهم المسلمين وقطعهم الشرق الإسلامي عن مغربه.

إن قلب العالم الإسلامي كان يمتد بصورة دائمة من مصر إلى العراق، وقلب هذا القلب هو الشام. إذا دققت إسفينًا في الشام فالعالم الإسلامي سيقع في أزمة لن تنتهي. الدول الإسلامية الكبرى كانت تصبح قوة عالمية إذا توحدت مع الشام خاصة: مصر تتحول من دولة إقليمية مركزية إلى قوة عالمية متى توحدت مع الشام [ثابت منذ عصر الفراعنة إلى عصر محمد علي]، والعراق تتحول من دولة منزوية في ركن العالم العربي إلى قوة عالمية متى توحدت مع الشام [الحضارات العراقية القديمة ثم الأمويين والعباسيين].

وجود اليهود في مركز هذا القلب، أي القدس وفلسطين، يعني نقل الصراع الأوروبي الشرقي إلى صراع شرقي شرقي. المسلمون سينشغلون بأنفسهم وبتلك الداهية الكبرى النازلة بينهم. هذا تفكير بدأ منذ دعوة نابليون لليهود أن يسيطروا على فلسطين، إلى اليوم. لا يوجد سياسي غربي، مهما بلغت عداوته لليهود، سيقبل أن يزول ذلك الإسفين من الشرق.

إضافة إلى كل ذلك: أن اليهود جزء من تاريخ أوروبا، والأوروبيون لم يشاهدوا منهم تسلطًا حقيقيًا، فهم إما مضطهدون وإما مندمجون، لكن المسلمين والعرب لم يشهد منهم الأوروبيون طوال التاريخ سوى العداء والخصام ومحاولة الغزو والتهديد الوجودي الحقيقي.

كيف تنتظر إذن أن يقف الأوروبي الواعي بجوارك؟ نعم يساندك بعض مساكينهم ممن لا يفقهون السياسة، ويفرح بذلك الناس عندنا، لكن الحقيقة أنكم تفرحون بمن لا يدركون ربع ما يفقهه ساسة أوروبا: وهو أن العالم الإسلامي / الشرقي، هو التهديد الأبدي للغرب وأوروبا، وأن إسرائيل هي أقوى وأرخص خط دفاعي في التاريخ بناه الغرب لصد الشرق.

تبيان: بعيدًا عن الردود الفكرية والاستجابة العلمية للدعوات الغربية كيف يمكن أن تؤثر دعوات المقاطعة الاقتصادية في تحصيل حقوق الأقليات المسلمة المضطهدة في أوروبا؟

القليل. الحقيقة أن تلك الدعوات هي موقف لك أمام الله، ينفعك أنت كمسلم، أما أن ترجو منها نكالًا فيهم فهذا شيء هامشي الحقيقة! لذا أجد كل الدعوات القائلة بأن تلك المقاطعة غير صحيحة لأنها لن تضر كثيرًا: دعوات حمقاء! فالمقاطعة هي معذرة للمسلم أمام ربه، وليست أداة رئيسية في الحرب. الحرب المؤذية لها أدواتها وللأسف نحن لا نملكها الآن.

يمكن للمقاطعة أن تؤثر ماديًا بشرطين: أن تكون على مستوى القيادات السياسية في العالم العربي والإسلامي كله، وأن يكون حجم التبادل التجاري بين تلك البلد المُقاطَعة والعالم العربي والإسلامي كبيرًا. للأسف هذا غير موجود حاليًا.

المشكلة أنه حتى المقاطعة بهذه الصورة لم تعد تحقق نكالًا كبيرًا: انظر مثلًا إلى مقاطعة قطر كيف سارت! نعم قطر أوذيت، لكن الأذى كان ضئيلًا! إن قطر كان يمكن أن تظل مُقاطَعة لمدة خمسين سنة من جيرانها في الخليج العربي ومن الدولة الرئيسية في الجزيرة العربية السعودية ومن دولتي القلب المركزيتين مصر والشام، ومع ذلك تظل في ازدهار! هذا ونحن نتحدث عن قطر! ما بالك بمحاولة مقاطعة الصين أو القوى الاقتصادية الكبرى؟

المقاطعة موقف إسلامي المُراد به إعذار النفس أمام الله، وتوكيد الإنكار العملي للنفوس والمجتمعات، ولا نأبه بعد ذلك أحققت هدمًا في الاقتصاد المُقاطَع أم لا؛ فإن حققت فحيهلا، وإن لم تحقق لم ننشغل.

تبيان: ما تقييمك لأداء الأحزاب الإسلامية وكيف تقرأ مستقبلها؟ كيف تعاملت السياسات الأمريكية مع الأحزاب الإسلامية؟

متفاوت من دولة إلى أخرى. لكنه من مؤسفٍ إلى فاضحٍ ومُخزٍ. رأيي أن أغلب ما غُيِّب من تلك الأحزاب سيعود مستقبلًا؛ لكن ما ثمن العودة؟ وماذا بعد أن (هُذِّبت) بسنوات الاضطهاد والقهر؟ لقد كان الإخوان مثلًا يعودون دومًا بعد كل حقبة اضطهاد، وهم يُفاخِرون بذلك، لكنهم يعودون في كل مرة وقد نزلوا في معتقداتهم وسياساتهم القوية درجتين أو ثلاثة.

إن عادوا في مصر مثلًا ستكون عندهم عقدة اسمها السعي للسلطة. حتى لو بادت كافة الفصائل وقُدِّمت إليهم الرئاسة على طبق من ذهب، سيخشون منها، رهبة من تكرار التجربة البشعة. صحيح أن الخلاف الداخلي حينئذٍ قد يحتد بين أناس يرون الرئاسة هي حقهم المُنتزع ومظلمتهم التاريخية، وبين أناس سيظهرون في ثوب الحكماء ويقولون إياكم وإعادة التجربة والطمع، لكن الرأي الغالب حينئذٍ سيكون الذعر والخشية؛ إلا إذا أثَّرت عوامل أخرى في توجيه النفوس.

أما أمريكا فقد خدعت الإسلاميين بالتأكيد؛ أحسنوا بها الظن واستدرجتهم هي إلى حتفهم. اعتقدوا أنها ستخشى من الفوضى في المنطقة وأنها ستستعمل الإسلاميين السياسيين لضرب الإسلاميين الجهاديين والمشاركة في القضاء عليهم، فتغافلوا قصدًا عن تاريخها المؤيد للانقلابات والديكتاتوريات العسكرية. هناك جزء كذلك يعود إلى د. مرسي وتعامل الإخوان في مصر أثناء حقبة الثورة والرئاسة: فقد كان هناك تواصل مع رموز جهادية مثل الشيخ محمد الظواهري واستعمال لخطاب جهادي صريح في أحداث ضرب غزة ومساندة الثورة السورية.

فحتى إذا كانت أمريكا قد انتوت استعمال الإخوان والإسلاميين السياسيين؛ فلابد أنها تراجعت ألف خطوة إلى الوراء بعدما رأت هذا. ومن المؤسف أن أجد البعض من الإسلاميين (يندم) على أن الإخوان المصريين فعلوا هذا، ويرجو لو كانوا قد انتهجوا مثل الغنوشي منهج الانسلاخ من الخطاب الإسلامي والتفاخر بضرب الجهاديين وقمعهم وقتلهم!

ومن المضحك أن الغنوشي نفسه لم يسلم –برغم كل هذه الفضائح– من موجات الانقلاب، فتنازل عن السلطة [طوعًا كما يقول!] بعدما شعر بالتهديد عنده؛ وما زال إلى اليوم مهددًا حتى بعدما رضي بالمنصب الثاني في الدولة وبالتماهي مع الخطاب العلماني!

أما إردوغان، النموذج المحنك كما يقولون، فها أنتم ترون بأعينكم كم الانقلابات التي دُبِّرت ضده، واتجاهه لسياسات ديكتاتورية من أجل السيطرة، ومع ذلك ما زال يواجه التهديدات، وآخرها بيان الضباط ضد مشروع قناة إسطنبول الذي ينوي تنفيذه! إن معضلة واقعنا السياسي تتلخص في الآتي:

لا الثبات يقيك ولا الانسلاخ يُدنيك! ولا الاشتغال يصونك ولا الانعزال يحفظك! والمسلمون بين الإقبال إلى الملحمة، والإدبار إلى الأخدود.

تبيان: يتفق الكثير من المفكرين الغربيين والمسلمين على أن الديمقراطية كنظام حكم قد فشل، هل تتفق مع هذا الرأي وكيف تقرأ نتائج النظام الديمقراطي في الغرب وعالمنا الإسلامي؟ وما البديل برأيك في بلاد المسلمين؟

صعب إصدار هذا الحكم بصورة حاسمة، لكنها في أزمة كبرى بالتأكيد. هي ناجحة نسبيًا مقارنةً بالموجود في العديد من جوانب ضبط السياسة. أبرزها إيجاد سبيل سلمي للتغيير الدوري والمستمر. لكنها فشلت في الدول الضعيفة والكبرى بصور مختلفة:

أولًا: في الدول الضعيفة فشلت في صناعة استقلال للقرار بصورة حقيقية أو صناعة تقدم مخالف لقواعد المنظومة العالمية. وكذلك فشلت في صناعة استقرار ذاتي للحياة السياسية في الدول المنقسمة طائفيًا مثل لبنان والعراق أو سياسيًا مثل تونس.

ثانيًا: في الدول الكبرى فشلت في إيقاف تمدد التوجهات المتطرفة مثل اليمين، وقد التجأت المؤسسة الأمريكية إلى سياسات إعلامية ودعائية مخزية من أجل إسقاط ترامب وحظر التمدد اليميني. وفشلت في تقييد حكم الغوغاء بواقعة البريكزيت.

إذن الديمقراطية ليست حصنًا من الانهيار حتى في أكثر الدول استقلالًا في القرار الذاتي، فقد تسببت في إشعال بوادر حرب أهلية بالداخل الأمريكي، وقد فعلت المؤسسات الأمريكية الكثير من التصرفات التي ستصبح عرفيةً في أزمان لاحقة: إذا أتانا من لا نرضاه سنشن عليه حربًا إعلامية وسنقيد قدراته التنفيذية!

لقد وصل الحال إلى درجة تسريب مكالمة الرئيس الأمريكي إلى الإعلام لإظهار سفاهته! هذا حدث جلل وقد ظللت حينًا لا أصدق أن هذا يحدث في أمريكا! كما رأينا الحديث عن تدخل الجيش الأمريكي واحتمال إجبار ترامب على المغادرة بانقلاب! ومحاولات اتهامه بالخيانة العظمى لإجباره على الاستقالة! هذه تصرفات (جمهوريات الموز) كما يقول الأمريكيون! لماذا كل ذلك؟ لأن الذي أتى (لم يكن ابنا) للمؤسسية الأمريكية المُدجِّنة! إذن ما الديمقراطية حينئذٍ؟ ما معنى حرية الاختيار؟

أما البريكزيت فأظهر عوار الديمقراطية المباشرة واستفتاء كل الناس دون اعتبار الأهلية. وقد حاول الساسة الإنجليز حينًا أن يلتفوا حول (الاختيار الشعبي)، ورأينا نقاشًا حول إمكان إلغاء نتيجة الاستفتاء، لكن رد الفعل الأوروبي الفرنكوجيرماني الغاضب جعل التنفيذ حتميًا.

كل هذا يظهر أن هذا نظام معيب وفيه مشاكل بنيوية حقيقية حتى عند أكثر الدول استقرارًا واستقلالًا للقرار الذاتي، بل إنه قد يفاجئ الاستقرار والازدهار بمفاجآت قد تصل إلى درجة إشعال حرب أهلية من العدم!

أما البديل الإسلامي فموجود. وتحدثت عنه بالتفصيل في كتاب وطن الراشدين خاصة نسخته الأخيرة: وهو انتخاب ذوي القدرة على الإحسان إن استبدوا بالقرار! إن هذا البديل بتلك الصورة قد يبدو مماثلًا للديمقراطية النيابية: فالشعب فيها يختار من يتوسمون فيه القدرة على الإحسان في استبداده بالقرارات التي لن يرجع إليهم فيها؛ لكن مع ذلك يشسع الفارق بين الإسلام وتلك الديمقراطية: فهناك فارق في هوية الفاعل السياسي [مُنتخَبا أو مُنتخِبا] المقيدة غير المطلقة، وفارق في مبادئ تنظيم الحياة السياسية، وفارق في إدارة النزاعات والخلافات السياسية. وشرح كل ذلك يطول، فليرجع إلى الكتاب لبيانه.

تبيان: من أخطر ما يتوعد المجتمعات المسلمة تزامنًا مع حملة دعوات الحداثة؛ هو انهيار منظومة الأخلاق الإسلامية، التي هي اللبنة الأساسية لرقي أي أمة، كيف يمكننا حفظ هذه المنظومة وتقويتها لتتحول لسبب في تحقيق الإنجازات؟

بالتركيز على تربية أولادنا، وحفظ أهلنا والمقربين. إلى أن يأذن الله ونملك القدرة على صناعة السياسات المجتمعية.

تبيان: كيف تقرأ استجابة الغرب الأخلاقية مع وباء كورونا؟

ظهر فيها بعض السوء: فحين بدأت الجائحة تكشر عن أنيابها، رأينا تنازعهم على الأدوات الوقائية والطبية، والإسراع في بيع الدول بعضها البعض. هذا وجائحة كورونا خفيفة مقارنةً بالطواعين مثلًا، والتي من المتوقع أن ترجع خلال العقود القادمة، حيث سيكون الموتى بمئات الآلاف يوميًا؛ فماذا سيحدث حينئذٍ؟ لكن ليست الكورونا بالتي يُناقَش من مدخلها الأداء الأخلاقي للغرب؛ إنما اللوطية والفُحش والفجور في قهر المخالفين.

تبيان: هل من وصايا أخيرة ترسلها لجمهور تبيان؟

تعلم العلم الشرعي وتربية من تحت ولايتكم ودعوة أهاليكم.

تبيان: ما هي أمنية الأستاذ عمرو أو أمانيه التي يرجو أن تتحقق؟

شخصيًا: أن يبعد الله عني وعن أهلي الآفات والرزايا، وأن يرزقني وإياهم العلم. أما الأمة فأرجو منها أن تعرف قَدَرَها، وأن تملك أدوات تنفيذه. أمة الإسلام هي فرقان الحق من الباطل. هي الموكَّلة بحفظ الإنسان وفطرته.

انظر إلى تعامل كافة الأمم حاليًا مع اللوطية؛ مثل الصين واليابان والهند وروسيا، وقارنه بتعامل أمة الإسلام معها = تدرك معنى أن أمة الإسلام (وحدها) هي المعيار، وقدرها هو السيادة لحفظ البشر.

ختامًا نشكر ضيفنا أستاذ عمرو عبد العزيز لتلبيته دعوتنا في إجراء هذا اللقاء النافع، نسأل الله أن يتقبل منه سعيه في ترسيخ المفاهيم السليمة وتصحيح الخاطئة ونسأله أن يفتح عليه وينفع به أمة أوشكت على النهوض بإذن الله. جزاكم الله خيرًا ووفقكم لما يحب الله ويرضى.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى