أبو الحسن الندوي وخدمة السيرة النبوية
لا شك أن سماحة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي واحد من أعلام الدعاة للدين الإسلامي في العصر الحديث. والدليل على ذلك هو الإرث الكبير الذي تركه وراءه من الكتب والرسائل والمحاضرات، التي نالت شهرة واسعة، سواء بين العرب أو غير العرب؛ كما أن رحلاته العلمية التي قام بها وأنشطته المتنوعة في مختلف المؤسسات والمجالس تشهد على الدور الكبير الذي قام به خلال حياته في خدمة الإسلام، وقد ترجمت كتبه للعديد من اللغات وطبع منها العديد من الطبعات.
والشيخ أبو الحسن من عائلة دينية عريقة، فوالده العلامة السيد عبد الحي بن السيد فخر الدين؛ والذي يعود نسبه لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وجده الأكبر هو الأمير السيد قطب الدين محمد المدني. ولم ينحصر عمل الشيخ أبو الحسن في الدعوة الإسلامية فقط، بل إنه واحد من أهم الأدباء الموهوبين في مجال الأدب الإسلامي، وواحد من أبرز وأكبر الكتاب والأدباء المعاصرين على الإطلاق. فلنأخذ لمحة عن حياته من أول النشأة مرورًا بأهم المحطات العلمية في حياته وسعيه في خدمة السيرة النبوية حتى رحيله عن دنيانا.
ميلاد أبو الحسن الندوي
هو العلامة والداعية والكاتب والمفكر السيد أبو الحسن علي بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني الندوي. يعود نسبه إلى الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم جميعًا-؛ إذ يعود نسب جدته من ناحية والده إلى الحسين بن علي، بينما يعود نسب أمه إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما. ولد الندوي يوم 6 محرم من العام 1333 هجرية الموافق 1914م، في قرية تكيه كلان الهندية التابعة لمديرية راي بريلي بولاية أترا براديش، إلا أن أسرته أسرة عربية عريقة الأصل، مشهورة بالعلم والفضل، وكان يطلق عليها اسم الأسرة الحسنية، حيث إن جده الأكبر هاجر إلى الهند وبقى فيها، لكن ما تزال أسرته محافظة على صلتها بالعالم العربي متمسكة بأصولها العربية والدينية الإسلامية.
كان أول من هاجر من أسرته إلى الهند هو جده الأكبر(كبير الأسرة) الأمير السيد قطب الدين محمد المدني، الذي نزح من المدينة المنورة إلى الهند عبر بغداد، وبقي في مدينة دهلي عاصمة الهند لفترة من الزمن وأصبح شيخ الإسلام فيها، لكنه فضل الخروج مع جماعة من أصحابه للجهاد في سبيل الله، وتوفي في مدينة كره مانك بور عام 677 هجرية. وقد جاء من ذريته الكثير من الدعاة والعلماء والمفكرين والأدباء الذين بذلوا حياتهم في خدمة الدين الإسلامي، وكان من أكبرهم وأهمهم جد الشيخ أبو الحسن الندوي؛ السيد فخر الدين بن عبد العلي الحسني المولود سنة 1256 هجرية، والذي اشتهر بالعلم والزهد والتقوى، وترك وراءه عددًا من المؤلفات القيمة وديوان شعر باللغة الأردية.
نشأة ودراسة أبي الحسن الندوي
نشأ أبو الحسن الندوي وترعرع بين أبوين كريمين منسجمين؛ والده هو العلامة السيد عبد الحي الحسني الذي اشتهر بعلمه وفضله وعفافه وتقواه، أما أمه فكانت ابنة عائلة غنية للغاية، وكان أبوها من كبار الصالحين؛ وهو الشيخ الجليل السيد ضياء النبي الحسني. وكان الشيخ أبو الحسن يقول عن والدته إنها لا تتوانى أبدًا معه في أمرين اثنين؛ الأول أداء الصلوات الخمس في موعدها، فكانت ترسله إلى المسجد باستمرار، والثاني أنها كانت طوال الوقت تراقب سلوكه ولا تسمح له بالقيام بأي سلوك عنيف أو ظالم على الإطلاق.
بدأ الشيخ أبو الحسن الندوي دراسته في وقت مبكر من حياته، حيث تعلم حروف الهجاء وبدأ بقراءة الكتب الصغيرة المكتوبة باللغة الأردية، واستطاع ختم القرآن الكريم وهو في سن صغيرة، والتحق بعد ذلك بالكتَّاب التابع لمسجد الحي الذي كان يقطن فيه، وبعد أن أنهى دراسة مبادئ اللغة الأردية بدأ في تعلم اللغة الفارسية، وتعلمها على يد الشيخ البارع الفذ محمود علي، الذي اشتهر عنه التهذيب والأدب والثقافة. وكان في نفس الوقت يقرأ كتب والده الصغيرة؛ من بينها كتاب تعليم الإسلام وكتاب نور الإيمان، كما تعلم الخط على يد أفضل الشيوخ في هذا الوقت. بحلول عام 1341 هجرية توفي والده فذهب للعيش مع أخيه الكبير السيد عبد العلي الحسني، واستمر في دراسة اللغة الفارسية حتى المرحلة المتوسطة، لكن أخاه أراد له أن يتعلم أيضًا اللغتين العربية والإنجليزية.
تعلمه اللغة العربية
تعلم أبو الحسن الندوي اللغة العربية على يد الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الأنصاري اليماني، ودرس على يديه مبادئ الصرف والنحو، وقرأ على يديه عددًا من الكتب المهمة؛ كالطريقة المبتكرة، مدارج القراءة، المطالعة العربية وكليلة ودمنة. ثم درس الكتب العربية المهمة والقديمة مثل مقامات الحريري والقصائد العشر، وكان حينها لم يتجاوز عمر الثانية عشرة، لذا أصبح يتكلم العربية بطلاقة. بحلول عام 1927م التحق الندوي بقسم الأدب العربي في جامعة لكناؤ وكان حينها لم يتجاوز الرابعة عشرة من العمر، إذ كان أصغر الطلاب سنًا في الجامعة، واستطاع الحصول على شهادة فاضل أدب بتفوق، وحصل على منحة وميدالية ذهبية، وسلمه الحاكم الإنجليزي الشهادة بنفسه عام 1929م، وفي العام التالي استطاع الحصول على شهادة الفاضل في الحديث.
الدراسات العليا التي حصلها أبو الحسن الندوي
في يوليو عام 1929م انضم الشيخ الندوي لدار العلوم لندوة العلماء، وفيها تعلم الحديث الشريف على يد الشيخ حيدر حسين خان الطونكي وبقى ملازمًا له سنتين، وتعلم على يديه صحيح البخاري وصحيح مسلم، وسنن أبي داود وسنن الترمذي، كما تعلم بعضًا من تفسير البيضاوي وبعض الدروس في المنطق. وقد تعلم على يد الشيخ الفقيه المفتي شلبي الجيراجبوري الأعظمي في دار العلوم بعض كتب الفقه، وتعلم تفسير سور مختارة على يد الشيخ الأستاذ خليل الأنصاري، وتعلم تفسير السورة الأخيرة من القرآن الكريم على يد الشيخ الأستاذ خواجة عبد الحي الفاروقي، وأخذ على يد العلامة السيد سليمان الندوي بعض الدروس في الفلسفة. وعلى يد الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي المراكشي؛ أتم الندوي تعلمه الكامل للغة العربية وآدابها وعلومها؛ حيث تعلم الندوي على يديه ديوان النابغة وشرح شذور الذهب.
الحياة العملية والعلمية لأبي الحسن الندوي
يمكننا الوقوف على أهم محطات حياة العلامة أبو الحسن الندوي العلمية والعملية كما يلي:
التدريس
بعد أن أنهى الندوي دراسته؛ عين مدرسًا لعلوم القرآن والتفسير والأدب العربي في دار العلوم لندوة العلماء، وبدأ العمل فيها من عام 1934م، وكان حينها في العشرين من العمر. فبرع في التدريس وظهرت ملكته في هذا المجال، إذ لم يكن مدرسًا تقليديًا، بل كان يتفنن في وضع أفضل الأساليب والطرق في التدريس، لذا أحبه الطلاب وبدأ الجميع يتحدث عنه، وزاد عدد طلابه كثيرًا فاشتهر وذاع صيته، لا سيما بعد أن بدأ بكتابة المقالات الدعوية والفكرية والأدبية، والتي نشرت في العديد من المجلات والجرائد. وعلى الرغم من أنه تلقى الكثير من العروض من جامعات بالخارج بمرتبات مجزية جدًا للتدريس فيها، لكنه فضل البقاء في الهند والاستمرار في التدريس في دار العلوم براتب زهيد، واستمر في التدريس هناك حتى عام 1944م، حيث ترك التدريس لانشغاله بالعديد من الأشياء المهمة الأخرى.
المؤلفات
بدأ الشيخ أبو الحسن الندوي الكتابة في عمر صغير للغاية، ونشرأول مقالة له عام 1931م، بعنوان ترجمة السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد، وكان حينها في السابعة عشر أو الثامنة عشر من العمر، وكان أول كتاب له بعنوان (إسلاميات) عام 1938م، وكان كتابًا مقررًا على مرحلة الليسانس لتخصص الدراسات الإسلامية في جامعة عليكرة. أما أول كتاب كتبه باللغة الأردية فكان عام 1939م بعنوان سيرة السيد أحمد الشهيد. وكانت له عدة كتب أخرى ألفها لطلبة المدارس العربية بالهند؛ باللغة العربية، ومن بينها: مختارات في الأدب العربي، قصص النبيين للأطفال، القراءة الراشدة وسيرة خاتم النبيين.
أما أشهر كتبه على الإطلاق؛ فكان كتابًا بعنوان: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، والذي بدأ تأليفه عام 1944م وأكمله عام 1947م، وتمت ترجمته للأردية في نفس العام؛ 1947م، قبل أن يذهب الندوي في أول رحلة لأداء الحج. وفي نفس العام كتب رسالة بعنوان “إلى ممثلي البلاد الإسلامية”، والتي وجهها للمشاركين في المؤتمر الآسيوي الذي انعقد بدهلي، والذين أتوا من مختلف البلاد العربية والإسلامية. وبحلول عام 1965م بدأ الندوي بتأليف كتب دعوية وفكرية، كان أولها بعنوان الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة العربية في الأقطار الإسلامية، ثم كتاب الأركان الأربعة عام 1967م، وكتاب القادياني والقاديانية عام 1985م وغيرها الكثير، ويقال إن الكتب العربية التي ألفها الندوي تصل إلى 186 كتاب.
الدعوة
كان الشيخ أبو الحسن الندوي واحدًا من أهم الدعاة للدين الإسلامي، بفضل ما أعطاه الله من موهبة وملكة ومؤهلات مكنته من ذلك، هذا بجانب أخلاقه التي اتسم بها منذ نعومة أظفاره، والتي كانت تبشر أنه سيصبح واحدًا من أفضل الدعاة المسلمين، وكان الندوي يشعر على الدوام بالقلق على حال المسلمين، ويحزنه ما وصلوا إليه من ضعف وفساد وخنوع واستسلام وانحلال وتخلف، لذا كان يحاول بكل الطرق أن يوقظ الوعي الديني في نفوس المسلمين مرة أخرى. بدأ الندوي دعوته حين ترك عمله في مجال التدريس، فقرأ الكثير من الكتب والمقالات والأبحاث، وبدأ في التجول في مختلف أنحاء الهند، وانضم للجماعة الإسلامية بعد أن اتصل بالأستاذ أبي الأعلى المودودي واتفقت أفكارهما معًا، وأصبح واحدًا من أهم أعضاء الجماعة، لكنه انفصل عنها بعد ذلك.
ثم التقى الندوي مع الشيخ محمد إلياس مؤسس جماعة التبليغ، وأعجب بأفكاره ودعوته وأسلوبه ومنهجه، فلازمه فترة، ولم تلبث مجهوداته الدعوية أن انتشرت من الهند إلى خارجها، فذهب لمختلف دول العالم شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، وزار العديد من البلاد العربية والإسلامية، وذهب للعديد من الدول الغربية، وكان يلقي هناك المحاضرات الدعوية والفكرية، ويعقد الندوات والمؤتمرات.
المحاضرات
ألقى أبو الحسن الندوي العديد من المحاضرات العلمية في العديد من الجامعات داخل الهند وخارجها، من بينها جامعة عليكرة، الجامعة الملية الإسلامية بالهند، جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، جامعة دمشق، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، جامعة أدنبرة، جامعة لندن، جامعة برمنغهام، جامعة كمبردج، جامعة كولومبيا، جامعة جنوب كاليفورنيا، جامعة ليدز، جامعة غلاسغو، جامعة وايترايت، جامعة جنوب كاليفورنيا، جامعة يوتا، الجامعة النظيمية بسريلانكا، جامعة أكسفورد، جامعة اليرموك، جامعة العين بالإمارات، جامعة صنعاء، الجامعة الوطنية بماليزيا، جامعة التكنولوجيا بماليزيا وغيرها، كما قام الندوي بإلقاء العديد من المحاضرات في العديد من المعاهد والمؤسسات العلمية والجوامع.
السيرة النبوية
ركز الشيخ أبو الحسن الندوي كل اهتمامه على السيرة النبوية الشريفة، إذ إنه بدأ بالقراءة في السيرة النبوية منذ نعومة أظفاره، وحين كان في الثامنة من العمر بدأ بعقد جلسات لدراسة السيرة النبوية، وهذا أثر على ثقافته فيما بعد بلا أدنى شك، وقد تأثر الندوي بأحداث السيرة النبوية بشدة، ودخل في أعماق شخصياتها ومواقفها وتجاوب معها، ولم يقف على سرد أحداث السيرة ووقائعها التاريخية فقط، بل كان يبين أن الحقيقة الإسلامية ككل متجسدة في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن دراسة السيرة النبوية ليست سوى عمل تطبيقي لها، وهناك الكثير من المؤلفات التي كتبها الندوي والتي تحتوي على أجزاء كثيرة من السيرة النبوية، وكذلك في محاضراته ومقالاته وخطاباته، ومن جانب آخر قام بتأليف بعض الكتب المستقلة بذاتها عن السيرة النبوية فقط؛ من بينها كتاب السيرة النبوية وسيرة خاتم النبيين والطريق إلى المدينة وغيرهما.
المناصب
تولى الشيخ أبو الحسن الندوي العديد من المناصب العلمية والإدارية. من بينها ما يلي:
- أستاذ مدرس في دار العلوم لندوة العلماء سنة 1934م.
- رئيس مركز التعليمات الإسلامية عام 1934م.
- عضو المجلس الانتظامي لندوة العلماء سنة 1948م.
- رئيس حركة رسالة الإنسانية عام 1951.
- تأسيس المجتمع الإسلامي العلمي بمدينة لكهنؤ (لكناو) عام 1959م.
- عضو المجلس الأعلى للمساجد بمكة المكرمة.
- رئيس مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن.
- عضو مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وعمان.
- عضو استشاري الجامعة الإسلامية بماليزيا.
- رئيس تحرير مجلة الأدب الإسلامي، ومجلة الندوة، ومجلة المعارف وغيرهم.
الجوائز والتكريمات
حصل الشيخ الندوي على العديد من الجوائز والتكريمات ونال العديد من الشهادات بفضل أعماله التي قدمها في خدمة الإسلام والمسلمين والعلم عمومًا، من بينها:
- جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 1980م.
- شهادة الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة كشمير عام 1981م.
- جائزة الشخصية الإسلامية عام 1998م من حكومة دبي.
- جائزة السلطان حسن البلقية -سلطان بروناي– للدراسات الإسلامية عام 1998م.
- جائزة الإمام ولي الله الدهلوي، من معهد الدراسات الموضوعية في الهند عام 1999م.
- وسام الإيسيسكو بالدرجة الأولى من المنظمة العربية الإسلامية.
- حفلتا تكريم في جدة وإسطنبول عامي 1985م و 1996م على التوالي.
أبرز أقوال أبي الحسن الندوي
للشيخ العلامة أبو الحسن الندوي الكثير من الأقوال الخالدة؛ نذكر منها ما يأتي:
- إن الدين يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى بناءة.
- إنّ مرد كل هذا الفساد في مختلف نواحي الحياة، ورأس البلاء وأصل الشقاء، هو عدم الإخلاص، وسوء الأخلاق، وإنّ أكبر واجب ومهمة في هذا العصر، هو إحياء الإخلاص والأخلاق وتجديدهما، وأكبر وسيلة للحصول عليهما هو الحب؛ والطريق إلى الحب الذكر والصحبة، وعشرة عباد الله الصالحين والعارفين.
- التقدم والتأخر عندنا ليس رجعيًا أو تقدميًا كما يصوره الغرب: عصور قديمة ومتوسطة وحديثة. كلا بل هو بين مد وجزر، مد مع الارتباط بالكتاب والسنة، وجزر عند التخلي عنهما.
- بالاستعداد الروحي، والاستعداد الصناعي الحربي، والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده، فليست القيادة بالهزل، إنما هي جد الجد، فتحتاج إلى جد واجتهاد، وكفاح وجهاد، واستعداد أي استعداد. كل امرئ يجري إلى يوم الهياج بما استعد
- إن أقوى وسيلة لتغذية الروح وشحن بطارية القلب: قيام الليل، الذي أكثر القرآن من الحث عليه، والترغيب فيه، ومدح أصحابه حتى كأنه ملحق بالفرائض وتابع لها، ولذلك سُمِّي نافلة. وهكذا كان أئمة المسلمين وقادتهم، وزعماء الإصلاح والتجديد، ورجال التعليم والتربية، ومن نفع الله المسلمين بنفوسهم وأنفاسهم، وكتب لمآثرهم وآثارهم الانتشار الواسع والبقاء الطويل، والقبول العظيم والذكر الجميل، من أصحاب العبادة والسهر في الليالي، والقيام في الأسحار، وأصحاب الصلة الروحية بالله تعالى.
- وقد أكمل الله لنبيه شرح الصدر، إذ لا يتأتى عمل جليل في الدنيا بدون انشراح الصدر، والإيمان الراسخ، والاعتقاد الجازم، واليقين الكامل، وقوة القلب، والثقة بالمبدأ، وما عمل في الدنيا متشكك ومرتاب شيئًا، بل المتشككون أكسل الناس وأقعدهم وأبخسهم، ليس لهم هم في الحياة ولا سرور، ولذا تراهم يقتلون أنفسهم وينتحرون ويعيشون إن عاشوا مهمومين متضايقين متضجرين، فشرح صدره أولًا للنبوة والرسالة، وأخرج حظ الشيطان منه، ثم أكمل له الأسباب التي يحصل بها انشراح الصدر واتساع القلب، ورباطة الجأش وطمأنينة النفس وهدوء البال وقرة العين وحياة الروح.
- تأمل في سورة الفاتحة، التي هي الدرة الفريدة في المعجزات السماوية، وقطعة رائعة من القطع القرآنية البيانية، لو اجتمع أذكياء العالم وأدباء الأمم، وعلماء النفس، وقادة الإصلاح وزعماء الروحانية، على أن يضعوا صيغة يتفق عليها أفراد البشر على اختلاف طبقاتهم، وعلى تنوع حاجاتهم، وعلى تشتت خواطرهم يتقدمون بها أمام ربهم، ويتعبدون بها في صلواتهم، تُعبر عن ضمائرهم ومشاعرهم وتفي بحاجاتهم وأغراضهم، لما جاؤوا بأحسن منها، قال تعالى: ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾.
منهج وفكر أبي الحسن الندوي
عاصر الشيخ أبو الحسن الندوي الكثير من الأحداث؛ أهمها سقوط الخلافة، وهذا ما جعله مقتنعًا بأن الحل الوحيد لإنقاذ العرب والعالم هو التحلي بالإسلام وتركه يتولى زمام الأمور، لأن الحل الفعلي للمشاكل هو أن تتحول قيادة العالم لأيدي مؤمنة تتحلى بالقيم الإنسانية وتسعى للإصلاح، لذا كان محور أفكاره يقوم على مكافحة الغزو الفكري، وحث المؤمنين على الاعتزاز بإسلامهم، ومقاومة الردة وآثارها، لذا كان يوجه اهتمامه للعرب خاصة. وذكر في منشور له بمجلة البعث الإسلامي أن هناك واجبًا على العلماء والمثقفين يؤدونه، فقال: “إن مسؤولية العلماء والمفكّرين المسلمين في العصر الحديث -بعد مواجهتهم للتحدّيات المعاصرة وإثباتهم أن الإسلام قادر على قيادتها وترشيدها والسموّ بها- هي أن يفضّلوا الإسلام على كل جماعة، ومؤسّسة، ومدرسة، وطائفة، وحزب. ولتكن مصلحة الدين والعقيدة مفضّلة على عمل كل مصلحة حزبيّة، أو جماعيّة، وليكن واضحًا أن الدين والإيمان وازدهارهما هو الهدف، سواء رجع الفضل إلينا أو لغيرنا من الإخوان في العقيدة والدين”.
وقد أحب الشيخ أبو الحسن النبوي منذ أن كان في العاشرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفتن بسيرته وإرثه المعجزة الذي لم ينطقه عن الهوى، ولما نظر من حوله وجد أن المسلمين لا ينظرون لسيرة الرسول ويعرضون عنها. وهذا ما وصل بهم لهذا الحال، ففكر الندوي وسرعان ما توصل إلى أن هؤلاء المسلمين لا يمكنهم أن يدركوا -كما أدرك هو- قيمة هذا الإرث العظيم الذي تركه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وراءه، وإلا لأحبوه واتبعوا سنته كما فعل هو. لذا تيقن الشيخ أن هناك أمانة على عاتقه يجب أن يؤديها تجاه أبناء أمته، ويذكرهم بإرث النبوة الذي فرطوا فيه، ويبث فيهم روح الهمة مرة أخرى، وكان يؤمن أن حب إرث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قلب كل مسلم بالفطرة، وأن دوره يتمثل في أن يثير هذا الحب الكامن في قلوب أبناء الأمة الإسلامية، وأن هذا هو الحل الوحيد لصلاحهم. وعليه فقد سعى الندوي بكل طاقته للعمل على هذا الأمر، ويذكر به الناس في كل خطبه ومحاضراته ومقالاته ورسائله ودروسه وكتبه وأبحاثه.
رأي العلماء في أبي الحسن الندوي
قال الشيخ الغزالي عن أبو الحسن الندوي: “هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه. لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتًا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر -رضي الله عنه- بين يدي (رستم) قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع:
إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أبو الحسن الندوي -فيما أعلم- هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.
أما الشيخ القرضاوي فقد قال عن الندوي: “كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء، فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي. فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو: من يعلم ويعمل ويعلِّم، وهي الصفات الثلاث التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا، والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد، ساعيًا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة، وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه، ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه، ويستخرج منه اللآلئ والجواهر، وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم «ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»؛ بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها، واتخذ سيرته نبراسًا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها، فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.
وقال عنه الدكتور أحمد الشرباصي: “له غرام أصيل باقتناء الكتب. فأعز ما يحرص عليه من عرض الحياة هو كتبه، فهو لا يقتني الكتب للزينة بل ليهضمها قراءة وبحثًا ونقدًا، وله قدرة على الارتجال بالعربية يتدفق كالسيل، بلغة فيها الصور البيانية البليغة.
وقال عنه الشيخ علي الطنطاوي بعد زيارته له في لكناو عام 1954م:
وجدته في الأحوال كلّها، مستقيمًا على الحق، عاملًا لله، زاهدًا حقيقّيًا، زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها.
بينما قال عنه الدكتور حسن الوراكلي: “لقد وجدتني بإزاء رجل رزقه الله من محبة مصطفاه ومجتباه، ومن التعلق بإرث النبوة رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه باليمين والشمال، سرًا وعلانية، بالليل والنهار، وزاده منه باق لا ينفد. لقد وجدتني بإزاء رجل ملك عليه حبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولإرث نبوته سمعه وبصره وفؤاده، فعاش حياته يتنفس بهذا الحب، ويبصر به ويسعى، عاش يرعاه ويتعهده، ويستحث عليه، ويندب إليه مبصرًا بآثاره البعيدة في الإحياء والانبعاث. حدثني وأفاض بأحاديث أسرت لبي وأخذت بعقلي كالبحر في عمقه، كالغيم في صفوه، من مشكاة السبع المثاني كان يقبس، من مصباح الجوامع النبوية كان يستمد، كانت أحاديثه إليّ تطيب بالحب الذي يضفرها من ألقه الأخضر، وبهائه الشذي كالشجر إذ يتنزل عليه ماء مبارك من السماء فيطيب، ويطيب ما حوله”.
وفاة أبي الحسن الندوي
رحل الشيخ أبو الحسن الندوي في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ تحديدًا يوم الثالث والعشرين منه الموافق يوم الجمعة من عام 1420 هجرية، في آخر يوم من السنة الميلادية 1999م؛ آخر سنة في القرن العشرين، فقبل صلاة الجمعة توضأ الشيخ الراحل الندوي -رحمه الله- استعدادًا للصلاة، وجلس في معتكفه يقرأ سورة الكهف كما تعود أن يفعل كل جمعة، ووافته المنية حينها عن عمر يناهز 86 عامًا، أمضاها في نشر العلم والدين وخدمة الإسلام والمسلمين.
المصادر