كمال الدين ومحاسن الإسلام
كل شيء لا يُعبر عن جماله بنفسه فليس من الجمال، كما أن كل فكرة لا يُعرف أصل صحتها من أدلتها ليست من صحيح الأفكار. وبيان هذا الكلام أن الشيء الجميل أو الصحيح لا يقاس جماله ولا صحته بقبح أو فساد غيره؛ كأن يقال في الاستدلال على جمال الشيء أو صحته: إنني جميل إذا ثبت أنك قبيح، وقولي صحيح، إذا كان قولك فاسدًا .. صحيح أن إثبات قبح الغير أو فساد قوله، يزيد الجميل جميلًا والصحيح صحة، لكن لا يُبنى عليه أصل الصحة والجمال، وإنما يكون ذلك بالنظر في توافر شروط الجمال وقوة الدليل.
إذا كان هذا من مسلمات العقول وبدهيات الأفكار، فإن صحة الدين يجب أن تُبنى بالنظر إلى أدلته، وليس بالنظر إلى فساد قول غيره. فإذا ثبتت الصحة عندها ننتقل إلى بيان فساد غيره ليس لبيان صحة الدين، وإنما لزيادة مراتب اليقين.
إذا تقرر هذا البيان فلندلج إلى المقال الذي بين يديك، لنعالج معًا قضية من أهم قضايا الإسلام ومحاسنه، وهي قضية كمال الإسلام، والمعبر عنه في قوله تعالى [المائدة: 3]:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
فالآية صريحة في إكمال الدين وكماله، وأن به تمت نعمة الله على الخلق بإنزال آخر شريعة من الله للبشرية: هذا الدين قد بلغ درجة الكمال إذ به تمت النعمة وقد رضيه الله أن يكون آخر الرسالات السماوية، يقول الحافظ ابن كثير معلقًا على هذه الآية: هذه أكبر نعم الله -عز وجل- على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه-؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف[1].
وللكشف عن هذا الكمال فلنتابع السير في الخطوات الآتية:
أولًا: الدين عند الله واحد: فالله واحد والدين واحد من حيث الإيمان به -سبحانه وتعالى-، وعبادته وحده. وهو المعبر عنه في القرآن الكريم بالإسلام: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. فالمقصود في الآية هو التسليم لله في العقيدة والاستجابة لها في الطاعة والعمل، ولهذا كل الكتب السماوية كان القصد منها توحيد الله وعبادته: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والدليل على هذه القاعدة ليس القرآن وحده بل حتى الكتب السابقة عليه كان قصدها الإيمان بالله وعبادته. ففي العهد القديم: نقرأ (اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد)[2]، ومثلها أيضًا في العهد الجديد (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته)[3].
ثانيًا: اتفقت جميع الرسالات السماوية على التوحيد، وأصول الشرائع (العدل، فعل الخير)، واختلفت في تفاصيل الشريعة (كيفية الصلاة وأوقاتها، كيفية الصيام..). وهذا أمر في غاية الوضوح: فكيفية العبادات والمعاملات تختلف من أهل دين إلى غيره، وذلك أن الله -عز وجل- يختبر عباده بما شاء، فإذا كا يجب علينا نحن خمس صلوات فقد كان على اليهود أقل من ذلك. قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة: 48]
ثالثًا: ختمت الرسالات السماوية برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-: فلا رسالة بعد رسالته، ولا نبوة بعد نبوته، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].
ويزيد هذا الأمر وضوحًا وجلاء أن الكتب السابقة على القرآن الكريم، كانت تبشر بنبي يأتي بعدها، وهو ما يسمى بالبشارات؛ فتجد مثلًا البشارة بعيسى -عليه السلام- عند من سبقه من الأنبياء مثل النص الآتي: (ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل)[4]. كما تجد البشارة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في كتب من قبله رغم التحريف الذي لحقها مثل (ومتى جاء المُعزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي)[5]. لكن لما تأتي إلى الإسلام تجد الأمر مختلفًا، كما صرحت الآية أنه خاتم الأنبياء عليهم السلام.
وهذا يعني: أن رسالة النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن تكون كاملة وصالحة لكل زمان ومكان، لأنه لا رسالة بعدها، ويتجلى ذلك في:
إخبار القرآن والسنة عن كمال هذا الدين: قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ومن عجيب هذه الآية أن يتفطن لها أحد من غير المسلمين، ويتمنى لو نزلت عليهم لاتخذوا ذلك اليوم عيدًا؛ فعن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا، من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرأونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]. قال عمر: «قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم بعرفة يوم جمعة»[6].
الانسجام التام بين تعاليم الإسلام والفطرة الإنسانية: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
ففي هذه الآية ربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين. وكلاهما من صنع الله، وكلاهما موافق لناموس الوجود، وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطببه من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ». فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود[7].
ومن يعرف الإسلام يدرك تمامًا أن الدين الوحيد الموجود على وجه الأرض الذي ينسجم تمام الانسجام مع فطرة الإنسان هو الإسلام.
حماية الله للإسلام من أن يلحقه أي تغيير أو تحريف مقارنة مع الكتب السابقة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومعلوم لدى جميع الدارسين للأديان أن كل الكتب السماوية السابقة تعرضت للتحريف والتغيير والتبديل. ويكفي الإنسان غير المختص أن يقف على تناقضات هذه الكتب ليدرك مقدار التحريف الذي تعرضت له.[8]
استجابة الإسلام لكل مطالب الإنسانية في كل زمان ومكان: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]
فمن خصائص هذا الدين العظيم الاستجابة لكل الأسئلة البشرية وهي شريعة صالحة لكل زمان ومكان. والتاريخ والواقع خير شاهد على ذلك، وسبب هذا الصلاح؛ أولًا: لأنها الرسالة الخاتمة كما تقرر آنفًا، وبالتالي يجب أن تكون شاملة ومجيبة لأسئلة الناس، وثانيًا: أن هذه الشريعة عامة للبشرية فلا تخص أناسًا دون غيرهم، وثالثًا: أن هذه الشريعة مبنية على حفظ المصالح ودفع المفاسد، ولا يخفى عليك ما في هذا من الاستجابة لحاجات الناس في كل زمان، ورابعًا: أن هذه الشريعة قد فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه، بل أسقطت الإثم عن المخطئ وعوضته بالأجر، فعن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر»[9].
وبهذا وغيره استطاعت الشريعة الإسلامية أن تواكب كل المستجدات البشرية في القديم والحديث، وكذلك سوف يكون في المستقبل، إن شاء الله تعالى.
وإذا تحصل لدينا من خلال الذي تقدم أن الشريعة الإسلامية هي: الخاتمة والكاملة، والمحفوظة في مصادرها من التحريف والتبديل، والموافقة للفطرة البشرية، والمستجيبة لتساؤلات الناس في كل زمان ومكان، فهذا يعني أن:
لا دين مقبول عند الله بعد مجيء الإسلام، إلا الإسلام: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وكيف تكون الأديان غير الإسلام مقبولة، وقت علمت النقص، والتحريف الذي لحقها. حتى غدت مجمع التناقضات بسبب امتداد أيدي البشر إليها.
وجوب الدخول في هذا الدين الكامل: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]. والمقصود بالسلم هو الإسلام[10]، وكيف لا يدخل فيه الإنسان وهو الدين الوحيد الكامل.
دين الإسلام كامل لا يُزاد فيه ولا يُنقص: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فالإسلام دين كامل، وإذا كان كذلك فلا يزاد فيه شيء ولا ينقص منه، وبهذا حفظ الإسلام في أصوله وفروعه، بخلاف الشرائع السابقة إذ استطاع الناس الوصول إليها بالتغيير والتبديل والزيادة والنقصان، في حين بقي الإسلام كما أنزل محفوظًا في كتاب الله -عز وجل-، وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم-، ليتحقق وعد الله الحق [الحجر: 9]:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
المصادر
- إسماعيل ابن كثير، تفسير القرآن الكريم، تحقيق سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1/ 26[1]
- سفر التثنية (6/4) ترجمة الفانديك [2]
- سفر أعمال الرسل (23/32) ترجمة الفانديك [3]
- سفر إشعيا (7/4) ترجمة الفانديك [4]
- إنجيل يوحنا (14/26) ترجمة الفانديك[5]
- صحيح البخاري، باب زيادة الإيمان ونقصانه، رقم (45)[6]
- سيد قطب، في ظلال القرآن، 3/26[7]
- راجع إن شئت كتاب: تحريف مخطوطات الكتاب المقدس، علي الرايس، مكتبة النافدة[8]
- سنن أبي داود، باب في القاضي يخطئ، رقم الحديث (3574)[9]
- محمد بن أبي زمنيين، تفسير القرآن العزيز، دار فاروق الحديثة، مصر، 1/ 214[10]