معنى أنْ تراقب الله في عملك.. مراقبة الله في رياض الصالحين للإمام النووي
قد يصعب على بعض مِنَّا أنْ يعرف المُراد بكلمة مراقبة الله وهذا المعنى الدقيق اللطيف الكامن في هذه الكلمة، وقد يشعر حيالها بشعور خاطئ. ولهذا عقد الإمام النووي باب المراقبة، وأورد فيه آيات وأحاديث متى تأمَّلناها عرفنا الكثير من المعاني عن أحد أعظم قِيَم الإسلام التي يريد التزامها من كلّ مُسلم. تعالوا ننظر معًا في تلك النصوص نكتشف منها بعض الحقائق. ولنبدأ بأساس مراقبة الله، ثمّ نعرِّفه.
الأساس الذي تنبني عليه قيمة مراقبة الله
تقوم مراقبة الله على مُسلَّمة أو أساس عقديّ إسلاميّ قصد إلى تبيينه النووي من آيات أوَّل الباب. فمن آية (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) -الحديد 4- نعلم أنَّ الله -تعالى- مُحيط بالعِباد عليمٌ بهم وبأحوالهم، وليس العباد وحسب بل كلّ ما في الكون (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) -آل عمران 5-، وليس عِلم الله بعباده علمًا بالظاهر من أحوالهم بل بأدقّ دقائق أحوالهم في قوله (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) -غافر 19-، والله يرصد كلّ أفعال العباد وهي في سجلَّهم محفوظة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) -الفجر 14-.
وهذا يوضِّح أنَّ “مراقبة الله” قيمةً وخُلُقًا نابعةٌ من أصل تصوُّر العقيدة الإسلاميَّة لله تعالى. وهُنا نبيِّن أهميَّة تأسيس هذا الخُلُق في مواجهة التصوُّرات الأخرى للإله -عند فلاسفة اليونان وعند المذهب الرُّبوبيّ الذي يتَّبعه علمانيُّو الغرب المؤمنون بوجود خالق– فالله ليس هو الإله الزائف الذي خلق العالَم من غير إرادة، أو خلقه وتركه هَمَلاً لا يعلم عنه شيئًا ولا يُدبِّر له أمرًا، أو أنَّه مُجرَّد سبب لإيجاد العالَم في عقولهم لا أكثر ولا دور له بعد ذلك في تسيير الكون ولا في مُحاسبتهم. وبذلك ترى أنَّ قيمة مراقبة الله مُؤسَّسة على أصل أصيل من العقيدة الإسلاميَّة، وتعبِّر عن معنى عميق في نفسك تُحقِّقه كُلَّما التزمتَ بها يا عبد الله، فانظر إلى حِكمة عقيدتك.
ماذا تعني مراقبة الله؟
وعلى ما سبق من إرساء لعقيدة علم الله بكلّ أمرك فيجب عليك أنْ تحفظ هذه المُراقبة في أفعالك؛ فمتى علمتَ أنَّ الله -تعالى- مُحيط بكلّ أمرك وعالِم بجميع فعلك وجب عليك أنْ ترعى هذه المُراقبة وتضعها معيارًا أمامك في أفعالك. وهذا المعنى أتى في أحد أحاديث “جوامِع الكَلِم” -أحاديث قليلة الكلمات تجمع معاني عظيمة-، يقول فيه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- لابن عبَّاس -رضي الله عنهُما، أيْ عنه وعن والده عبَّاس- هذه المعاني:
يا غُلام، إنِّي أُعلِّمك كلماتٍ: احفظْ الله يحفظْك، احفظْ الله تجدْه تجاهك. إذا سألتَ فاسألْ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله. واعلمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيء لمْ ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أنْ يضرُّوك بشيءٍ لمْ يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفعتْ الأقلامُ وجفَّت الصُّحُف.
وكلُّ هذه المعاني هي من مراقبة الله؛ فإذا علمتَ أنَّ الله مُحيط بك وَجَبَ عليك حفظ أوامره في كلّ تعامُلك، ووَجَبَ عليك أن تتوجَّه إليه وحده بالسؤال والمَعونة، ووَجَبَ عليك أنْ تصل إلى حدّ اليقين بأنَّ كلَّ ما يحدث لك لا يقع إلا بأمر الله، ولا ينفعُك جهد مُجتهد ولا يضرُّك سعي حسود إلا بإذنه. وإذا علمتَ وجوب حفظ الله في فعلك اتقَّيتَه، وفي ذلك أورد النووي حديثًا في أوَّله “اتَّقِ الله حيثُما كنتَ”، وإذا حدث منك تقصيرٌ في تقوى الله وحفظِه أدركَكَ الحديث فأكمل: “وأتبِعْ السيِّئة الحسنةَ تمحُها” فليس مطلوبًا منك غيرُ فعل الصواب، ومتى خرجتَ عن فعله فعُد وافعل صوابًا أيضًا.
الفهم الخاطئ للملاحدة لقيمة مراقبة الله
وهنا يجب أنْ ننوِّه إلى أنَّ كثيرًا من الملاحدة يضيقون بتصوُّر إحاطة علم الله بالإنسان وأحواله، ويصرِّحون بعدم قُدرتهم على احتمال وجود إله يراقبهم في كلِّ وقت ويحسب عليهم أعمالهم. وهذا التصوُّر الساذج يفضي إلى الضحك أكثر من إفضائه حتى للرثاء؛ فمن الجهالة تصوُّر الإله بصورة رجل الشرطة الذي يراقبك فتضيق من مراقبته، وتعتبر هذا قيدًا على حُريِّتك.
وهذه المُقارنة خاطئة بالقطع؛ فرجل الشرطة إنسان مثله أمَّا الله فخالق الإنسان، كما أنَّ وجود مراقبة الشرطة يحدُّ من حريَّتك حقًّا ويجبرك على فعل دون آخر، أمَّا الله فاختباره أنْ تفعل ما تريد فعله وتحاسب عليه. وبعد فإنَّ الفكرة في منتهى السُّخف.
ولتهافُت فكرة الإلحاد عقلاً، يلجأ الجزء المؤمن بوجود خالق من العلمانيِّين إلى الاعتراف بوجود إله مع إنكار مراقبته واطلاعه عليهم. وهُنا نجد اعترافًا وجحدًا في الوقت نفسه؛ ففي الوقت الذي يعترف به بوجود خالق يُعطِّل جوهر وجوده وغالب صفاته ويرسم ملامح لإله يريده هو صمَّم رؤيته بيدَيْهِ لا إله موجود خالق قادر عليم مُدبِّر. ولهذا فلتنتبه يا عبد الله فكلا التصوُّرَيْن في باب المُراقبة هلاك مُبين.
فلسفة مقام الإحسان
وفي حديث من أشهر الأحاديث التي يعرفها كلُّ مُسلم يسأل “جبريلُ” -وقد تمثَّل في صورة بشر- النبيَّ أمام جمع من الصحابة: “أخبرني عن الإحسان؟” فيردُّ النبيّ:
أنْ تعبد اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لمْ تكُن تراه فإنَّه يراك.
وهذه الجملة التي تظهر أمامك وتُردَّد في الخُطُب تحمل فلسفة تحويل القيمة الغيبيَّة إلى قيمة مُشاهدة، فهي تنطلق من العقيدة لتُخاطبك يا عبد الله قائلة: اعلمْ أنَّ الله يراك في كلّ حين فاعبده على أساس التقابُل كأنَّك تراه، وحوِّل القيمة الغيبيَّة التي ينساها غالب الناس لعدم إبصارهم إيَّاها إلى قيمة مُشاهدة حقيقيَّة. وهنا تتألَّق لديك فكرة “الاستحضار” أيْ استشعار حضور الله في كلّ أحوالك. فماذا تفيدك قيمة المراقبة والاستحضار؟
آثار التزام مراقبة الله على نفسك
وتأمَّل يا عبد الله في مراقبة الله كيف تُنتج آثارها في قلب المُسلم، وكيف يُوجِّه الله سلوكك بها للاستقامة.
- فإنَّ هذه المراقبة التي تُفعِّلها في حياتك تُشعرُك شعور “الأُنس بالله” في جميع وقتك، فلمْ تعُد بعدها وحيدًا أبدًا وأنت مُؤتنِس بالله -تعالى- شاعر بوجوده.
- وكذلك تورثُك الأمان في نفسك من كلّ خوف وجزع؛ فمتى علمتَ أنَّ شيئًا لن يضرَّك بفعل مخلوق بل بإذن خالقه ثبت لديك أنَّ ما سيحدث من أمر سيِّء هو ابتلاء إمَّا للتنبيه على أمر تفعله يجب عليك العُدولُ عنه وإمَّا لاختبار فعلك تُجاه هذه النازلة.
- وكذلك فإنَّ مراقبة الله تجدِّد دومًا جذوة إيمانك وتشعل ما ينطفئ منها من أثر الدنيا ومُلهياتها ومُهلكاتها التي تحيط بك.
- وهي أيضًا تقيك من شرور نفسك وتغيِّر وجهة إنصاتك لنفسك الأمَّارة بالسوء إلى وجهة خالق هذه النفس الذي تراقبه.
- ويأتينا النووي في آخر الباب بحديث ينبِّه على أثر من آثار مراقبة الله في الفعل وهو “مُحاسبة النفس”؛ فمتى راقبتَ الله في عملك جعلتَ نفسَك رقيبًا عليها. يقول الحديث: “الكَيِّس (أيْ المُتَّصِف بالكَيَاسة والتعقُّل) مَن دانَ نفسَه، وعمِلَ لما بعد الموت. والعاجِز مَن اتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني”. فهذا أثر من آثار مراقبة الله.
- وهذا الأثر يؤدِّي بك إلى خُلُق آخر هو التركيز على المطلوب منك وعدم تشتيت جُهدك في الدنيا بمراقبة الآخرين، في حديث “مِن حُسن إسلام المَرء تركُه ما لا يَعنِيه”. وهذا لا يعني عدم اكتراثِك بالآخرين أو عدم توجيه النُّصح لهم أو عدم إنكار المُنكَر فيهم، فكلُّ السابق لا يدخل في الحديث فإنَّه من واجباتك في الأساس. لكنَّ المقصد ألا تتجاوز هذا لتتبَّع غيرك فتُصاب بهذا المرض الخُلُقيّ في تتبُّع الآخرين.
كيف تُحقِّق مراقبة الله
يسأل البعض: كيف أحقِّق مراقبة الله؟ والجواب سهل بإذن الله، يتمثَّل في استحضارك (فكرة الاستحضار) وجود الله معك أولاً وأخيرًا وهذا لبُّ الفكرة. ثمَّ مُداومة الطاعة والامتثال لله كي تظلَّ في دائرة الطاعة وفي ظلِّها، والتذكُّر الدائم للنيِّة وهو سرُّ من أسرار حُسن المراقبة وضعه الله لنا، والمُسارعة لفعل الطاعة إذا وقعت في الخطأ -كما رسم لنا الحديث سابقًا طريقنا-. فهذا طريق الله فاتبعوه يا عباد الله الصالحين.