المصطلحات الملغّمة في خطاب الجماهير
المصطلحات الملغمة هي المصطلحات التي یفهم منها المستمع معنى آخر غیر ما تقصد، بسبب تلغیمها بمعانٍ أخرى غیر مقصودة) وسمیناها (ملغمة): لأن هذه المصطلحات غالبًا یكون بها ألغام وضعها الإعلام الموجه أحیانًا، بل ووضعتها التیارات التي تسيء استخدامها أحیانًا كثیرة، فإذا ذكرت المصطلح انفجرت تلك الألغام في أذن المستمع، وربما یبدأ في إنكار ما تقول وتبدأ أنت في الرد علیه بینما هو ینكر شیئًا مختلفًا عما تحاول أنت إثباته!
والعجیب أن یظن البعض أن الجهر بالحق وإعلانه هو أن تستخدم لفظًا ملغمًا لا یفهم الناس مقصدك به فیهاجمونك! ویعد غیر ذلك تنازلًا، والصحیح هو العكس لأننا مأمورون أن نخاطب الناس لنبین لهم، هدایة لهم إلى الحق ولیس تضلیلًا! قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) وقال حاكیًا عن النبي شعیب -علیه السلام- : (إن أُرِیدُ إِلَّا الْإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِیقِي إِلَّا باللّه).
أمثلة للمصطلحات الملغمة
اللفظ المركب تطبیق الشریعة
هذا مصطلح ملغم لا أصل له لا في كتاب ولا سنة، وإشكاله لیس فقط في كونه ملغمًا، إشكالیة هذا اللفظ حین تتبع سیاقات استخدامه ستجدها إشكالیة منهجیة فاللفظ معناه أصلًا خاطئ كلمة تطبیق: أي مطبِّق ومطبَّق علیه، بمعنى أن الحاكم یطبقها على المحكومین، وكأن المحكومین لا شریعة علیهم، وكأن الشریعة أصلًا كلمة متعلقة بالحكم والسلطة فقط، وبالتالي یظنون أن أقصى شيء یقدر علیه المحكومون هو فقط أن یطالبوا “بتطبیق الشریعة” فالحاكم وحده عندهم القادر على “تطبیقها” وعلى المحكومین المطالبة بها فقط!
وهذا فهم ناقص وعرض خاطئ لمعنى الشریعة، ودلیل ذلك أنك إذا سألت أحدهم: متى “طبَّق” النبي -صلى الله عليه وسلم- الشریعة؟ سیقول لك: “في المدینة”، لأنه لا یفهم الشریعة إلا في الحكم، بینما النبي -صلى الله عليه وسلم- “أقام” الشریعة من اللحظة الأولى التي نزل علیه الوحي فیها.
هذا الاستعمال لكلمة “تطبیق” كرس الظن بأن الشریعة هي فقط الحدود، وبالتالي عندما یقولون تطبیق الشریعة أول معنى یتبادر للذهن هو “تطبیق الحدود”.
اللفظ الأصح والأدق والوارد في القرآن هو لفظ “إقامة:” (أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِیه) ولفظ إقامة الشریعة فیه فوائد عدیدة:
أولًا: بركة النص، إذ أن الله تعالى قال: (أن أقیموا الدین). وتأمل ما یفیده لفظة إقامة من طمأنینة نفس وعمق معنى حیث فیه معنى البناء والاستقامة والرفق والأناة، وهذه من بركة ألفاظ القرآن، و لمَ لا تكون كذلك وقد أنزله من خبر النفوس وعلم أسرارها سبحانه.
ثانیًا: فیه تبیان للناس أن إقامة الشریعة لا تقصر الشریعة في جانب الحكم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أقام الشریعة من لحظة بعثته الأولى وكذلك المسلم یجب علیه أن یقیم الشریعة في كل أحواله، ولكل حال شریعته، فالحاكم علیه أحكام، والمحكومون علیهم أحكام، وإذا خالف الحاكم الحق أصبح على المحكومین أحكام جدیدة یجب أن یقوموا بها كالخروج علیه وخلعه، كل هذا “شریعة” وعلیه، فنحن لسنا أفرادًا أو كیانات “تطالب بتطبیق الشریعة” بل أفراد وكیانات تقیم الشریعة مباشرة.
والشریعة قد تكون في حق البعض دعوة وفي حق الآخرین جهاد وهكذا، فهي لیست محصورة في الحكم فقط؟ كما أن لفظ “تطبیق” أورث عند الناس الشعور السلبي تجاه الشریعة أنها تطبق علیهم من فوق رؤوسهم، وكأنها ستسقط علیهم سقوط الصواعق ولیس شیئًا سیقیمونه! ولذلك یسألون دائمًا: (من الذي سیطبقها؟) بینما “إقامة” الشریعة لفظ یفید أن الجمیع سیقومون بها، حاكمًا ومحكومین، راعیًا ورعیة، ولیست شیئًا یتسلط به البعض على رؤوس الآخرین.
ثالثًا: (وهو مهم جدًا): لفظ “إقامة الشریعة” یفید في ألا یزیغ البعض عن المنهج بغرض الوصول للحكم بحجة أنه یسعى لـ”تطبیق الشریعة”!! لأنه سیدرك أنه مطالب كمسلم بإقامة الشریعة على كل أحواله سواء كان حاكمًا أو محكومًا، وإقامة الشریعة تعني موافقة المنهج، أما مخالفة الدین والمنهج من أجل الوصول للحكم بحجة أنه یرید “تطبیق الشریعة” فهذا عك لا معنى له، فكأنه یقول: أنا سأخالف الشریعة حتى “أطبق الشریعة”!
مصطلح (إسلامي) بكل مشتقاته
شباب إسلامي – إسلامیون – حركة إسلامیة – مشروع إسلامي – مدرسة إسلامیة.. إلخ هذا المصطلح الذي لم یرد أصلًا في كتاب أو سنة، والوارد هو: استخدام لفظ (مسلم) فقط، وهو لفظ له لوازم، فالمسلم لا یمكن أن یكون مسلمًا وهو لا یقر بمنهاج الله، ولا یوجد مسلم من حقه أن یتنصل من أحكام الإسلام متعللًا بأنه مسلم ولكنه لیس إسلامي!
فالإسلام لم ولن یكون خیارًا سیاسیًا، وشعارًا براقًا تسخدمه بعض الأحزاب في الحشد وتتخذه صبغة تصبغ بها برامجها السیاسیة! الإسلام دین مكتمل، من آمن به فعلیه أن یسلم له كله ثم هذا اللفظ بالفعل تم تلغیمه وصار أیضًا یطلق على تیار بعینه له خطاب محدد ونظرة للتغییر وشعارات محددة، وأصبح یستخدم في وصف أشیاء لیست حقیقیة ككلمة “بنك إسلامي“، وفي الحقیقة لیس معنى أن البنك لم یتعامل بالربا أنه صار “إسلامیًا” خاصة والمنظومة الاقتصادیة الحالیة كلها لا تتوافق مع الإسلام أصلًا، بعیدًا عن جواز التعامل مع هذا البنك أو لا فهذا لیس موضوعنا هنا!
ولذلك فالأولى هو عدم استخدام هذا اللفظ الذي صار یشوه المعاني حقیقة، ولن تجد أحدًا من الصحابة أو التابعین قد استخدموا هذا المصطلح أبدًا، وعندما نقل عمر -رضي الله عنه- فكرة “الدیوان” للخلافة لم یسمه “الدیوان الإسلامي” مثلًا؛ ففي الحقیقة الدیوان نفسه لیس كافرًا ولا مسلمًا ووصف الجمادات عامة بالإسلام شيء لا أفهمه الحقیقة! إنما الأفراد هم الذین یوصفون بالإسلام أو عدمه.
ولفظ “إسلامیين” لیس وصفًا یدل على المدح، بل هو یُطلق -لغة- على كل من نسب نفسه للإسلام حتى ولو كان كاذبًا، فأبو الحسن الأشعري عندما سمى كتابه “مقالات الإسلامیین” كان یتحدث فیه عن الفرق التي انتسبت للإسلام، ولم یقل “مقالات المسلمین” لأن بعض هذه الفرق البدعیة قد خرجت من الإسلام بمعتقداتها الباطلة، فهو تورع عن أن یسمیهم “مسلمین” وسماهم “إسلامیین” أي: المنتسبین للإسلام، وهو له كتاب آخر اسمه ( مقالات غیر الإسلامیین) یتحدث فیه عن الفرق التي لا تنسب نفسها للإسلام أصلًا ( مثل كتب مقارنة الأدیان الیوم).
تفسیر المصطلحات المغلفة قبل إنكارها
المصطلحات المغلفة: هي تلك المصطلحات خبیثة المعنى في الأصل لكن تم تغلیفها بمعان أخرى جمیلة، حتى إذا بدأت مهاجمة تلك المصطلحات -دون تبیین- وتبرأت منها فهم من یسمعك أنك تنكر المعاني الجمیلة المغلفة لتلك المصطلحات، بل العجیب أنه ربما لا یفهم المستمع من هذه المصطلحات إلا تلك المعاني الغلافیة الجمیلة، ونحن في هذه الحالة لا نستفید شیئًا من التبرؤ من هیكل الكلمة والمصطلح بینما ظل المعنى الذي ننكره غیر مفهوم للناس، وهذا قصور في البیان وضعف في الخطاب، والسبیل هو: أن تزیل تلك الأغلفة التي تغلف المصطلح وتعري المصطلح تمامًا مما ألصق به حتى إذا أصبح مجردًا مفسرًا واضحًا أنكرته وبینت عواره:
مصطلح الدیمقراطیة
جوهر المصطلح كما شرحنا: هو حكم الشعب المطلق وسیادته فوق أي سیادة أخرى وإن كانت سیادة الله، فالشعب فیها هو مصدر الشرعیة ومنه یتحدد الصحیح من الخاطئ، وإلیه یحتكم وعلیه التعویل كله، إلا أن مصطلح (الدیمقراطیة) قد تم تغلیفه بمعان أخرى وهي: الحریة والتعددیة والتسامح وقبول رأي الآخر وسماع صوت المعارض وإنشاء دولة مدنیة الطابع حدیثة المؤسسات راقیة المسار، هذه الأغلفة “المُجَمّلة” قد یفهم الناس أنك تنكرها هي إذا هاجمت المصطلح بدون تبیین وتوضیح، ولذلك قلنا التفسیر قبل الإنكار، فمن أكبر الأخطاء أن یخرج متكلم للناس بدون شرح ولا توضیح ولا تفسیر ویقول لهم مثلًا: (الدیمقراطیة كفر أو الدیمقراطیة حرام) ثم ینصرف!
أي نوع من البیان هذا؟!! علمًا أنه أیضًا لا یصح استخدام المصطلحات المغلفة في الخطاب بحجة أنك تقصد الأغلفة المجملة لأن اللفظ نفسه یحمل معاني أخرى غیر صحیحة.
مصطلح الوطنیة
كثیرا ما یُقصد بهذا المصطلح تكریس ثقافة سایكس بیكو، أي أن انتماءك لا یتخطى الأسلاك الشائكة الموجودة عند الحدود والتي وضع معظمها المحتل، فالحدود عند الوطنیین لیست ترابًا والشعوب المسلمة لیسوا إخوة أو تنقص أخوتهم باختلاف جنسیاتهم، ولا شك أن هذا المعنى یصادم جوهر الدین والعقل ویقدم للمحتل الحدیث خدمة على طبق من ذهب، ولا شك أن شیاطین الإعلام یستعملون هذا المصطلح في أغراض خبیثة كنجاحهم في مصر مثلًا في شیطنة الشعب الفلسطیني وفي عزل حس المصریین وعاطفتهم عن القضیة الفلسطینیة وقضیة المسجد الأقصى باعتبارهما قضیتین غیر وطنیتین تخصان الشعب الفلسطیني “الذي باع أرضه” كما یقولون!
ولكن هذا المصطلح مغلف أیضًا بمعانٍ أخرى جیدة فهو یُستخدم كدلالة على عدم العمالة والانتماء للناس والاهتمام بقضایاهم والحفاظ على الأرض ورفض الاحتلال، وإذا هاجمت مصطلح الوطنیة قبل أن تفسره وتزیل عنه هذه الأغلفة المجملة المزیفة من حوله فسیفهم الشعب من هجومك على “الوطنیة” أنك تهاجم الانتماء لهم ولقضایاهم وأن لك ولاء لآخرین في الشرق أو الغرب.
مصطلح الرأسمالیة
وجدتُ بعض فئات الشعب یظنون الرأسمالیة تعني الرفاهیة والرخاء والقضاء على الفقر، ولذلك كان لزامًا أیضًا على من یقومون بمحاربة الرأسمالیة بقیمها الفاسدة والباطلة أن یبینوا للشعب معناها وأن یزیلوا من حولها الأغلفة المزورة قبل مهاجمتها وإنكارها حتى لا یفهم الناس أننا نهاجم مصالحهم، ویمكن الرجوع لتعریف (الرأسمالیة) مرة أخرى في الفصل الأول في (الشرعیة الاقتصادیة للنظام الدولي) وكذلك مصطلحات أخرى مما یطلقها الكثیرون أحیانًا على أنفسهم ولا یقصدون ولا یعرفون حقیقتها كاللیبرالیة والاشتراكیة الخ..
طرح جميل ،ورائع