الرأسمالیة والإمبریالیة العالمیة مأساة العصر
لا أرید أن أشرح الرأسمالیة شرحًا أكادیمیًا اقتصادیًا ولكن أرید للقارئ أن یفهم الإطار العام لها لیدرك كیف یُدار العالم الیوم، الرأسمالیة ببساطة هي الحریة المطلقة لرأس المال، حریة السوق، حریة التربح، حریة التملك المطلق بكل الصور، لا قیم لا ضوابط لا حواجز، المال والمال فقط، كل ما یمكن تحویله إلى ربح فهو محل استهداف للرأسمالیة ولو كان الربح على حساب الإنسان نفسه!
وعملیًا في الرأسمالیة لا مانع من الاحتكار والاستغلال والخداع والمتاجرة بمعاناة الشعوب، كل الحواجز یجب أن تزاح من أمام حركة رأس المال، في الرأسمالیة تجد الإباحیة مصدرًا اقتصادیًا ناجحًا مادامت تحقق ربحًا، في الرأسمالیة یمكن لدول أن تدمر دولًا أخرى لتتحرك الشركات الرأسمالیة في مشاریع إعادة الإعمار مقابل النفط، في الرأسمالیة تصبح المادة هي الروح والروح هي المادة ولا مكان إلا لأصحاب رؤوس الأموال.
في الرأسمالیة من الطبیعي جدًا أن یمتلك الثروة طبقة لا تزید عن 1% بینما یموت آخرون من الجوع، وسینتظر الأغنیاء بجانبهم وهم یموتون من أجل شراء بعض أعضائهم وبیعها!
وأما الإمبریالیة فهي النتیجة العسكریة للرأسمالیة، وهي سیاسة توسعیة “استعماریة” تقوم بها البلدان الرأسمالیة المتوحشة الكبرى، تهدف هذه السیاسة إلى إیجاد أسواق جدیدة تبیع فیها الدول الرأسمالیة منتجاتها الفائضة، وكذلك تهدف إلى إیجاد مصادر جدیدة للثروات والمواد الخام والعمالة الرخیصة، ولو كان هذا بالاحتلال والاعتداء على دول أخرى مستضعفة، فهي سیاسة الجشع والاعتداء والسیطرة على مقدرات الشعوب ومص دمائهم لخدمة الشركات الكبرى.
الأمبريالية في بلداننا
ظهرت الإمبریالیة تجاه بلداننا بوضوح في القرن 19 على ید الاحتلال الفرنسي والإنجلیزي حیث بدایة توحش الرأسمالیة في أوروبا، ورفع الاحتلال “الإمبریالي” شعار “الاستعمار”، أي إعادة إعمار بلداننا وتطویر شعوبها! لتبدأ رحلة جدیدة من التقسیم والاعتداء وسلب الإرادة وامتصاص الثروات في بلداننا.
وبعد الحرب العالمیة الثانیة احتكرت أمریكا الإمبریالیة العالمیة واستلمت رایتها بصورة أكثر بشاعة، وطورت في أسالیبها حتى تمكنت من تأسیس نظام عالمي على الأسس الإمبریالیة التي تریدها، ثم اكتمل انفرادها وسیطرتها بالعالم بسقوط الاتحاد السوفییتي فتوحشت في سعیها لبناء العالم كله على الطریقة الأمریكیة مستخدمة شعارات براقة مثل: (العولمة، ونشر الدیمقراطیة).
كما استخدم الاحتلال القدیم شعار: الاستعمار، وكل ذلك خدمة لأغراضها “الإمبریالیة”! إن الهیمنة الاقتصادیة الیوم هي أصل من أصول الهیمنة، وروح الهیمنة الاقتصادیة تكمن في سیاسات الرأسمالیة التي تدعم السوق الحر بلا ضوابط ولا رقیب وتدفع نحو فتح التجارة الدولیة على مصراعیها عبر اتفاقیات تزیل تمامًا الحواجز الجمركیة؛ مما یعني إغراق السوق الدولي والمحلي بالمنتجات الغربیة وبأسعار منخفضة لا تستطیع الدول الصغیرة منافستها وبالتالي تحتكر الدول الإمبریالیة السوق وتصبح شعوب الدول الأخرى مجرد كائنات استهلاكیة.
وما تحویل الشعوب إلى هذه الصورة من الكائنات الاستهلاكیة إلا نتاج خطة مدروسة ومؤامرة طویلة عبث فیها هذا النظام العالمي بقیم الناس الداخلیة وأعاد ترتیب الأولویّات عندهم حتى صارت المادة هي المحرك الأول لكل فرد والقیمة التي لأجلها یحیى وهذه هي “الرأسمالیة” ببساطة!
الماركات وتغير هوية الشعوب
خذ على سبیل المثال: صناعة “الماركات” في الملابس وغیرها وكیف استطاعت كلمة “الموضة” أن تخلق في الشعوب “قیمة” مادیة زائفة تدفعهم إلى مزید من الشراء والاستهلاك الذي هو الغرض الأساسي لهذه الشركات الرأسمالیة، فهي تستخدم الوكلات الدعائیة الضخمة لنشر الإعلانات التي ترسخ لذلك بقوة، هذه الفكرة الزائفة التي جعلت قیمة الشخص في نظر الناس بحسب قدرته على شراء الماركات ومواكبته لأحدث الموضات!
هكذا تتحول مقاییس الناس إلى مقاییس مادیة في منظومة تدفع الجمیع دفعًا لذلك وتحركهم لا واعیًا للالتزام بها، هذه الإعلانات تتلاعب بقیم الناس لیتم استدراجهم إلى سلوك استهلاكي متوحش خوفًا فقط من الاستهزاء لعدم مواكبتهم الموضة ورغبة منهم في نظرة مجتمعیة جیدة، فما التقییم المادي الذي تم زراعته في عقول وقلوب الشعوب إلا غرض من أغراض الرأسمالیة العالمیة وصورة من صور الإمبریالیة الناعمة لتغذي الحاجة للاستهلاك وتزید النزعة الشرائیة لدى الأفراد وبالتالي تزید أرباح هذه الشركات!
هذا جانب واحد من جوانب الاستهلاك، وهناك جوانب أخرى تعتمد على إثارة لعاب الناس وشهواتهم المادیة من طعام وشراب وجنس ومخدرات، فهم یتفننون في ذلك، لیخرجوا أكبر طاقة من الاستهلاك لدى الشعوب، ویحولوا الفرد إلى مصدر دائم للربح، رغم أنه منهوب أصلًا!
حتى أصبح للإباحیة والجنس شركات عالمیة كبرى، وأصبحت الشعوب أسیرة لرفاهیات تسرقهم وتنهبهم وتأخذ منهم أضعاف ما یأخذون وهم مع ذلك متقبلون للأوضاع! وأما إذا كنت فقیرًا ولا قدرة لدیك على شراء الرفاهیات فلن تتركك الرأسمالیة في حالك، بل ستبدأ الشركات الخاصة في شراء المرافق والخدمات العامة التي تأخذ منها حقك الأساسي والطبیعي في الحیاة كالكهرباء والغاز والمیاه، یتم شراء كل ذلك تدریجیًا تحت شعار (الخصخصة) وهو ما یسبب ارتفاعًا باهظًا ومستمرًا في الفواتیر، فهم لم یكتفوا بسرقة ثرواتك بل یقومون بعد ذلك بمص ما تبقى من دمك.
وهكذا یدخل كل فرد منا في طاحونة لا تتوقف حتى یستطیع أن یواكب مصاریف ومستلزمات الحیاة، إنها العبودیة الحدیثة التي تحول الناس إلى مجرد ماكینات تنتج نقودًا ممحوقة البركة سریعًا ما تذهب إلى جیوب أصحاب الشركات الكبرى، وهكذا یستمر الناس في طحن أنفسهم من أجل أن یحصلوا على فتات یعیشون به رغم أنهم أصحاب الثروات الموجودة في الأرض أصلًا، وإذا مرض أحدهم فإن الأمر متوقف على المال، فلا حق للفقراء في العلاج الراقي لأنه -في ظل الرأسمالیة- الفقراء هم كائنات فاضت عن حاجة البشر ومن الأحسن التخلص منهم سریعًا!
الشركات الكبرى متعددة الجنسیات
إنه “ببركات” هذا النظام الاقتصادي المستبد صار یتحكم في العالم من أوله إلى آخره رأس المال، إنها الشركات الكبرى متعددة الجنسیات، هذه الشركات التي باتت تملك أصولاً رأسمالیة تزید عن 36 ترلیون دولار وهو ما یقارب إجمالي الناتج المحلي لجمیع دول العالم في كوكبنا! وصار صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولیة هما أداة لخدمة هذه الشركات المرتبطة بالطبع بسیر السیاسة الدولیة في العالم كله.
وإذا أردت أن تفهم نفوذ الشركات متعددة الجنسیات وعلاقتها بتحریك السیاسة العالمیة والاستفادة منها فیكفیك أن تعرف على سبیل المثال: أن الشركة التي حصلت على أكبر العقود النفطیة في العراق بعد الاحتلال الأمریكي لها هي الشركة الكبرى متعددة الجنسیات (هالیبرتون)، مَنَح هذه العقود للشركة نائب الرئیس الأمریكي حینها (دیك تشیني)، ببساطة (دیك تشیني) كان رئیس مجلس إدارة هذه الشركة في فترة من الفترات، وله ارتباطات مالیة بها وهو لذلك كان أحد الدافعین بقوة لقرار غزو العراق، وهكذا ارتبطت السیاسة برأس المال، وتحولت الحروب المدمرة إلى وسیلة ربح للسیاسیین، وأصبح قادة العالم الحالي تجار حروب.
إنها الرأسمالیة! وقد تكلمنا عن سیطرة الیهود على سوق الصرف وكذلك فهم لهم السیطرة الأكبر على الشركات متعددة الجنسیات، وهو ما یكشف لك بوضوح حجم سیطرة الیهود على القرار السیاسي في العالم كله، وهذه مأساة أخرى! ویزید الأمر وضوحًا أن تعلم أن معظم الجهات السیادیة في بلادنا (وعلى رأسها المؤسسة العسكریة) هي مستفید رئیسي من استثمارات هذه الشركات الرأسمالیة داخل بلادنا، وهذا یفسر لك حقیقة “السبوبة” التي یحصل علیها الجنرالات والظباط الكبار من وراء السلطة ولذلك یحاربون علیها بكل قوتهم، كما ستفهم أیضًا كیف تتضخم أموال رجال النظام ومن أین؟!
وستكتشف كذلك ببساطة شدیدة لماذا تحرص الأنظمة على عملیة “الخصخصة” وعلى فتح مجالات للمستثمرین الأجانب باستمرارٍ في بلادنا، فهذه الاستثمارات لا تعود بالنفع على الشعوب وإنما تذهب مباشرة لجیوب الأنظمة وجیوب أصحاب الشركات الكبرى! وحول الشركات الكبرى متعددة الجنسیات ودورها في عالم السیاسة نحیل القارئ إلى قراءة الكتاب المعروف باسم (الاغتیال الاقتصادي للأمم) لـ”جون بیركنز” العمیل السابق لوكالة الأمن القومي الأمیركیة، حیث كان یعمل بحسب وصفه “قاتلًا اقتصادیًا” قبل أن یستفیق ضمیره!
یقدّم في الكتاب شهادة من الداخل عن الدور الذي تلعبه البنوك والشركات العالمیة لسرقة دول العالم الثالث وإغراقها بالدیون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بینما تسرق الشركات المتعددة الجنسیات، مثل هالیبرتون وبیكتل مواردها بحجة التنمیة.
ویُعرِّف الكاتب القتلة الاقتصادیین بأنهم رجال محترفون یتقاضون أجرًا عالیًا لخداع دول العالم بابتزاز ترلیونات الدولارات، لتصبَّ أخیرًا في خزائن الشركات الضخمة وجیوب قلةٍ من الأسر الغنیة التي تتحكم بموارد الأرض الطبیعیة، وسبیلهم إلى ذلك تقاریرُ مالیة محتالة، وانتخاباتٌ مُزوَّرة، ورشاوى للحكام العملاء، وابتزاز، وغوایة جنس، وجرائم قتل.. الخ ! وبهذا نكون قد أنهینا الحدیث عن الشرعیة الاقتصادیة للنظام الدولي وقد تكلمنا قبلها عن الشرعیة السیاسیة له المتمثلة في المنظمات والقوانین الدولیة.
اضغط هنا لتحميل كتاب معركة الأحرار كاملًا PDF – الطبعة الثانية