سايكس بيكو .. كيف دمر خط وهمي في الرمال حلم أمة واحدة
مشهد 1: جرافات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تزيل نقاط التفتيش على الحدود السورية العراقية في عامي 2014 و2015، وسط احتفالات صاخبة من جنود التنظيم وقياداته، في حين كتبت حسابات التنظيم في “تويتر”: “نحن نحطم سايكس بيكو”.
مشهد 2: قبيل أعياد الميلاد في عام 1915، كان النائب البرلماني الشاب مارك سايكس، يهرع إلى مقر رئاسة الوزراء البريطانية “10 داونينغ ستريت” في لندن، وهو يضع خريطة ووثيقة من ٣ ورقات تحت ذراعه. وأمام حكومة الحرب في بريطانيا آنذاك، عرض سايكس ذو الـ٣٦ عاما، أفكاره عن كيفية تقسيم العالم العربي بين المملكة المتحدة وفرنسا.
هذان مشهدان يلخصان مرحلتين مهمتين في تاريخ العالم العربي:
أولهما من حيث الترتيب الزمني، كان شرارة تقسيم العالم العربي لعدة دول دون اعتبار لاختلاف الأعراق والإثنيات والتواصل القبلي.
أما الثاني، فكان نقطة مهمة في تاريخ الإقليم، حيث تداعت الحدود التي رسمتها بريطانيا وفرنسا في اتفاقيتها الشهيرة “سايكس بيكو” التي تعتبر نظاما جغرافيا قائما بذاته، يعلق عليها الكثير من الناس كل ما وصل إليه الشرق الأوسط من تردي وانقسام، وصراعات وحروب.
سلام أنهى أي فرصة للسلام
اتفاقية سايكس بيكو ليست محط سخط بين الجماعات المسلحة العابرة للحدود الوطنية فقط، بل يعتبر الوعي الجمعي لنحو ٣٠٠ مليون عربي هذه المعاهدة “خيانة” لا تزال أثارها موجودة حتى الآن، لأنها دمرت أي أمل للاستقلال الحقيقي، وتأسيس دول متجانسة، وخلقت كل أسباب الصراعات المستمرة حتى اليوم في المنطقة.
وانطلاقا من أن “سايكس بيكو”، كانت محاولة لوأد أي نزاعات وصراعات بين البريطانيين والفرنسيين على إرث الدولة العثمانية، يصف المؤرخ الأمريكي ديفيد فرومكين هذه المعاهدة “بأنه سلام أنهي أي فرصة للسلام” في المنطقة.
وكتب فرومكين في ٢٠٠٩ “في هذا الإقليم، هناك دول أبدية مثل مصر وإيران، كانت موجودة منذ العصور القديمة، ودول أخرى مثل تركيا والسعودية، تعد نتاج عمل كبير من آباء مؤسسين هما مصطفى كمال أتاتورك، والملك عبد العزيز آل سعود”.
وتابع “أما لبنان وسوريا والأردن والعراق وإسرائيل، فهم أبناء فرنسا وبريطانيا، وجميعهم يمثلون مشكلة لأنهم نشأوا من رحم سايكس بيكو”.
خط في الرمال .. من هنا بدأ كل شيء
بصفة عامة، نمت بذور هذه المعاهدة في نهاية العام 1915، أي خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، عندما تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى «الرجل المريض على ضفاف البوسفورالفوسفور»، قبيل تفككها وانهيارها.
إقرأ أيضا: كيف سقطت الخلافة العثمانية؟
ومن ثم، بحثت فرنسا وبريطانيا في هذا العام، تقاسم المناطق العربية الخاضعة للامبراطورية العثمانية. ولإقامة جبهة جديدة والتصدي للدعوة إلى الجهاد التي أطلقها السلطان محمد الخامس المدعوم من ألمانيا في هذا الوقت، أجرى المفوض البريطاني السامي في مصر هنري مكماهون مفاوضات مع شريف مكة حسين وأغراه باستقلال العرب.
وآنذاك، كانت القوتان الاستعماريتان الكبيرتان حاضرتين في العالم العربي: فرنسا بنفوذها الاقتصادي والثقافي في المشرق، وبريطانيا في مصر، التي احتلتها عام 1882.
وقبيل أعياد الميلاد في ١٩١٥، اجتمع النائب البرلماني مارك سايكس، بوزراء حكومة الحرب البريطانية في خضم الحرب العالمية الأولى، لعرض خطته لتقسيم العالم العربي مع فرنسا. ويروى الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه «خط في الرمال» الصادر عام 2011، أن سايكس قال أثناء الاجتماع: “أريد رسم خطأ يبدأ بحرف الألف (يقصد مدينة عكا، التي تسمى بالإنجليزية acre)، وينتهي بالحرف كاف نسبة إلى كركوك».
وبالفعل، تركت الفكرة أثرا كبيرا في المستمعين، ومنحوا سايكس الضوء الأخضر. وعن هذه اللحظة، قال سايكس “شعرت بأنه يومي”، قبل أن يبدأ مفاوضاته مع الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جيرجوس بيكو.
وبالفعل رسم سايكس “خطا مستقيما في الرمال”، كما وصفه المؤرخ البريطاني جيمس بار، قسم المنطقة إلى منطقتين فرنسية وبريطانية بغض النظر عن رغبات السكان، والخلفيات العرقية والإثنية، والانتماءات القبلية. وامتدت المنطقة المقسمة والمنتزعة من الإمبراطورية العثمانية المتداعية، وبلغ عدد سكانها آنذاك ٢٠ مليون نسمة، من بيروت إلى الخليج الفارسي، ومن الأناضول الشرقية إلى سيناء.
وبموجب الاتفاق الذي وصفه بار بأنه “يخدم أصحابه بلا خجل”، حصلت فرنسا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، من مرسين وأضنة في ما يعرف الآن بتركيا إلى مدينة صور الساحلية القديمة في لبنان. بالإضافة أيضًا إلى أجزاء كبيرة من شرق الأناضول والمدن المحلية في سوريا مثل حلب وحمص وحماة ودمشق بالإضافة إلى مدينة الموصل العراقية الشمالية.
فيما حصل البريطانيون على محافظات عراقية هي بغداد والبصرة بالإضافة للكويت، كما وقع تحت سيطرتها كركوك العراقية مرورا ما يعرف الآن بالأردن وصولا للحدود المصرية وسيناء. واختلف الجانبان فقط على فلسطين، ما أسفر عن وضعها تحت الإدارة الدولية حتى يتم تحديد مصيرها النهائي.
هكذا تكشفت أسرار سايكس بيكو
في البداية، كانت المعاهدة سرية، وشاركت فيها الامبراطورية الروسية القيصرية التي كانت تطمح لموضع قدم في المنطقة، لكنها سقطت إثر الثورة البلشفية في 1917، ولم تحظ بنصيب في كعكة الشرق الأوسط. ومع سيطرة الثورة البلشفية على روسيا، تكشفت أسرار وملامح معاهدة سايكس بيكو، وثار العرب بقيادة الشريف حسين عليها، واضطرت بريطانيا إلى إجراء تعديلات عليها، أدت إلى قيام المملكات والدول العربية.
وكانت المؤامرة السرية بين لندن وباريس تتناقض مع الالتزامات القديمة التي تعهدت بها القيادة البريطانية في يوليو 1915 لحسين بن علي، شريف مكة، وأبنائه الثلاثة علي وفيصل وعبدالله، في مراسلات سرية، حيث وعد المفوض السامي البريطاني في مصر، السير هنري مكماهون، الشريف حسين، بإمبراطورية عربية مستقلة لإقناعه بالتمرد ضد العثمانيين.
وبالفعل، أنجز العرب الجزء الخاص بهم من الصفقة، وبدأوا تمردهم ضد العثمانيين في يونيو 1916، مما سهل إلى حد كبير تقدم القوات البريطانية من سيناء عبر القدس إلى دمشق.
وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ظهر فيصل، نجل الشريف حسين في مؤتمر فرساي للسلام في يناير 1919. ومقارنة بوعود مكماهون، كانت مطالب فيصل أكثر تواضعًا، حيث دعا لإقامة مملكة عربية مستقلة في سوريا الكبرى والحجاز، كما قبل فيصل بوسطاء أجانب لنزع فتيل الصراع بين العرب والصهاينة في فلسطين.
لكن تحالف فرنسا وبريطانيا أطاح بالمطالب العربية، وانسحب البريطانيون من سوريا لصالح الفرنسيين، فيما تركت باريس، العراق للمملكة المتحدة، وانهارت الانتفاضة العربية.
وفي يونيو ١٩٢٠، اندلع تمرد كبير ضد البريطانيين في العراق، لكن لندن سحقته بسرعه وقتلت 8500 عراقيا. وكتب صحفي عراقي من النجف في ذلك الوقت “في الأيام الماضية، كان هناك إراقة دماء، وتدمير مدن مكتظة بالسكان، وتدنيس للأماكن المقدسة يبكي البشرية”.
وفي ذلك الوقت، كان الملك حسين يتابع من الحجاز الأحداث في سوريا والعراق وفلسطين، بمرارة متزايدة، واحتفظ بنسخ من جميع الرسائل التي تبادلها مع مكماهون، واتهم البريطانيين بخرق وعودهم.
وفي مارس ١٩٢١، عقد وينستون تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني في ذلك الوقت، اجتماعًا سريًا في القاهرة لمناقشة مستقبل التفويض البريطاني الجديد في الشرق الأوسط. وقرر تشرشل تثبيت أبناء الشريف حسين، فيصل في العراق وعبد الله في شرق الأردن كحكام جدد تحت راية لندن، وبالتالي الوفاء ببعض تعهدات مكماهون.
محاولات تركية يائسة
بعد أن فضحت الثورة البلشفية “سايكس بيكو”، حاول العثمانيون إقناع العرب بالعواقب المحتملة للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، إذ لم يكن الهدف الرئيسي للمعاهدة، وفق الرؤية العثمانية، إقامة دولة عربية كبرى، ولكن إنشاء عدد من الدول الصغيرة الخاضعة لهيمنة فرنسا وبريطانيا.
وبحسب موقع “بيجان.نت” التركي، لم يكن الهدف الرئيسي من الاتفاقية استقلال الشعب أو تمكين الدول، بل هي اتفاقية لتقاسم الموارد في الشرق الأوسط بكل راحة بين القوتين العظمتين في ذلك الوقت.
واليوم، يعتبر الأتراك أن ظهور ما يسمى بالمشروع الكردي العظيم، استمرارا لتداعيات “سايكس بيكو” على الإمبراطورية العثمانية. وترى أنقرة أنها لم تنجح في اقناع العرب برفض “سايكس بيكو” وعدم الانفصال عنها، لذلك لن تقع في نفس الخطأ للمرة الثانية، وتعمل على منع انفصال الأكراد عنها.
أم الكوارث.. سايكس بيكو في الميزان
في معرض تقييمه للاتفاق المثير للجدل، قال المؤرخ البريطاني والأستاذ في جامعة أكسفورد، يوغين روغان، مؤخرا “أثبت النظام الذي نشأ في العالم العربي بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، أنه قوي بشكل مدهش، بنفس مقدار قوة وتجذر النزاعات التي نشأت عن سايكس بيكو”.
وتابع “لم تشهد أي مجموعة من الدول عدد أكبر من الحروب والحروب الأهلية، والانقلابات والهجمات الإرهابية، من من الدول التي خلقتها سايكس بيكو في الشرق”، مضيفا “كانت سايكس بيكو هي أساس كل ما يحدث الآن، بالإضافة إلى فشل النخب العربية، ودور الإسلام السياسي والعسكري، واكتشاف النفط، والصراع الدائم حول إقامة إسرائيل، والتدخلات المستمرة من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا”.
فيما يرى الكاتب اللبناني الشهير طلال سليمان أن هزائم العرب على يد إسرائيل خلال النصف الثاني من القرن العشرين “كانت نتيجة منطقية لتقسيم أرضهم بين بريطانيا وفلسطين في إطار اتفاقية سايكس بيكو التي جاءت في سياق وعد بلفور لليهود في 1917”.
وتابع “بهذه الاتفاقية، تم تقطيع المشرق العربي إلى دول لا مقومات لوجودها أو استمرارها، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا”.
وأضاف “سايكس بيكو كانت تمهيد ضروري لزرع الكيان الصهيوني في فلسطين على حساب شعبها، ووحدة العالم العربي الذي صار كيانات ودول شتى”.
المصادر
- 1916 Sykes-Picot Antlaşması
- Sykes-Picot-Abkommen: Der Frieden, der Krieg brachte
- Sykes-Picot-Abkommen
- Wurzel des Nahostkonflikts
- Vor 100 Jahren: Großbritannien und Frankreich vereinbaren das Sykes-Picot-Abkommen
- خدعة القرن.. الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية
- من وعد بلفور إلى سايكس ــ بيكو إلى.. قيام إسرائيل: لا مستقبل عربيًا بلا مصر وسوريا.. والبقية تأتي!
- 100 سنة على اتفاقية سايكس بيكو.. و«التقسيم» مستمر