البنك الإسلامي بين الرأسمالية والإسلام!

منذ أن هيمنت الرأسمالية على العالم، صارت الأزمات تتعاقب عليه كالأمواج العاتية، يهلك بسببها كثيرون فيما تنجو قلة تزداد طغيانًا وثراءً على حساب الدول والشعوب الضعيفة، وها هو العالم اليوم يخوض أزمة اقتصادية جديدة بسبب وباء كورونا، وهو لم يكد يشفى بعد من الأزمة الاقتصادية العالمية التي وقعت عام 2008 واعُتبرت الأسوأ من نوعها منذ الكساد الكبير الذي ضرب العالم عام 1929، مخلفًا وراءه حينذاك بطالة كبيرة وديونًا كثيرة ومشكلات متعددة.

دور البنك في النظام الرأسمالي

ليس هناك شك بأن الفكر الرأسمالي هو فكر أزمات بطبيعته، لأنه يجرد الإنسان من أبعاده الروحية والأخلاقية والإنسانية ويحصر همه بالناحية النفعية المادية المحضة. وقد طورت الدول الرأسمالية أنظمتها ومؤسساتها وأجهزتها الخاصة للتحكم بالعالم والهيمنة عليه كالمنظمات الدولية (مجلس الأمن، الأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية الخ)، لكنها كذلك اعتنت بتطوير أدواتها الخاصة، التي يعتبر البنك أبرزها وأكثرها حيوية، ابتداء بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصولًا إلى البنك التجاري العادي.

حيث تستأثر البنوك بأموال الشعوب وتتحكم بالدورة الاقتصادية العالمية إلى حد بعيد، وتمنح (أي البنوك) السلطات القائمة القدرة على مراقبة الحركة المالية بشكل تفصيلي، كما تقوم البنوك بدعم مشاريع وجهات تخدم أجندة من يقف وراءها، فيما تفرض الدول من خلالها كذلك حصارًا وحظرًا على كل من يمس بمصالحها. والحديث في هذا المجال يطول، سنحاول حصره في هذا المقال في دور البنك التجاري ومحاولات استنساخه من قبل بعض المؤسسات الإسلامية لصناعة “البنك الإسلامي” بعد إجراء بعض التعديلات عليه.

آفات البنك في النظام الرأسمالي

يقدم البنك الخدمات الماليّة الروتينية للزبائن، كحفظ الودائع وصرف الشيكات ونقل الأموال وتحويل العملات وغيرها، لكن يبقى الاقتراض والإقراض بالفوائد الربوية الميزة الأهم للبنك، إذ يقوم بدفع فوائد للمودعين والمقرضين ويفرض الفوائد على المقترضين، سواء كانوا أفرادًا أم شركات أم دولًا.

وتترتب على عملية الإقراض بالفوائد الربوية أضرارٌ هائلة على المجتمع، إذ تعول أساسًا على استغلال حاجة الناس الملحة للمال، فتضيف المزيد من الأعباء عليهم -بدل إعانتهم- من خلال فرض فوائد ربوية ومضاعفتها عند تعسر أحوال المقترض وتعثره عن السداد، ما يزيد المحتاج عوزًا وفقرًا، لتتحول الشريحة الأوسع في المجتمع تدريجيًا إلى فئة مستعبدة للبنوك، وتزيد الهوة بين الأثرياء وغيرهم بشكل مضطرد.

كذلك فإن تعود أرباب المال على الأرباح المضمونة من خلال الإقراض الربوي، من غير بذل جهد أو تحمل تبعات أو مسؤوليات الأعمال التجارية، فإن هذا من شأنه صرفهم عن المشاركة الفعالة في إنعاش الاقتصاد الإنتاجي الحيوي المعتمد على الزراعة والصناعة والتجارة والتكنولوجيا والصحة والتعليم، ما ينتج تباطؤًا في النمو الاقتصادي من جهة ويحصر دورة المال من جهة أخرى بين الأغنياء، فيؤدي إلى اضطراب في المجتمع جراء شح السيولة النقدية والفقر وقلة فرص العمل. إضافة لذلك فإن من شأن الربا أن يؤدي إلى التضخم التلقائي، أي انخفاض قيمة العملة المتداولة وزيادة أسعار البضائع، فتزداد مشاكل الناس، لا سيما الفقراء منهم.

وقد حرم الإسلام الربا حرمة قطعية مغلظة، يقول تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، والمتأمل فيما ذكرنا آنفًا في هذا المقال يدرك حجم الاختلاف بين الربا لجهة آفاته وتداعياته الخطرة على المجتمع، وبين البيع والتجارة والاستثمار الطبيعي الذي يفيد ويستفيد منه الجميع، يقول تعالى: (يَمْحَقُ اللَّـهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

واقع البنك الإسلامي

يمثل التعامل بالربا الركيزة الأساسية لتحقيق مداخيل البنك التجاري في النظام الرأسمالي، لذلك فإن إنشاء أي بنك يسقط الإقراض الربوي من حساباته، سيضطره للخروج من السوق سريعًا، لأنه سيتخلى عن أهم مورد يضمن تدفق مداخيل مستمرة بشكل “آمن” للبنك. من هنا فإن محاولة “أسلمة” البنك، هي محاولة فاشلة منذ البداية، لأن الإسلام يحرم الربا حرمة قطعية مغلظة، ما يعني أن على البنك الإسلامي العمل بدون ربا، وإلا لم يعد إسلاميًا، في نفس الوقت، فإن إسقاط الربا من المعاملات البنكية يؤدي إلى هدم أهم دعائم البنك التجاري بشكل عام.

وسبيل استمرار “البنك الإسلامي” في ظل النظام الرأسمالي عمليًا هو ممارسة أشكال مختلفة من المخالفات الشرعية المعمول بها، من ضمنها الربا، إنما بشكل التفافي ومُقنّع عبر حيل قانونية وتعاقدية، فيخضع البنك والمتعامل معه حينها للمعادلات الربوية أو تداعياتها وتبعاتها من غير تسميتها كذلك بشكل صريح، فينتقض جوهر كونه إسلاميًا، ويصبح حاله كأهل السبت الذين حرم الله عليهم الصيد يوم السبت فصاروا يلقون شباكهم الجمعة ويجمعون صيدهم الأحد، وقد ورد ذمهم في القرآن الكريم صراحة. فاستحلال شيء محرم عبر الحيل لا يلغي تداعيات المحرم بعد استحلاله بطريقة ما، والعبرة في بحثنا هنا واقع البنوك وتبعات معاملاتها من حيث مضمونها وتداعياتها على الفرد والمجتمع. لنأخذ مثلًا مبسطًا جدًا:

إذا كان هناك شخص بحاجة إلى اقتراض مال لشراء منزل بـ 100 ألف دولار، فإن البنك التجاري التقليدي يقرضه المال لمدة عشر سنوات لقاء 10% فوائد ربوية سنوية، ما يعني أن كامل المبلغ المتوقع سداده بعد عشر سنوات هو 200 ألف دولار .أما “البنك الإسلامي” فإنه يقول لك أنا أشتري البيت نيابة عنك بـ 100 ألف دولار ثم أبيعك إياه بــ 200 ألف دولار، يتم تسديدها على مدار عشر سنوات، فتكون النتيجة نفسها. وعادة فإن “البنك الإسلامي” لا يشتري البيت المذكور إلا بعد أن يوقع مع المشتري المفترض عقد بيع ملزم، ما يعني أنه يبيع ما لا يملك ابتداء ويلزم المقترض بشرائه حتى يضمن البنك أرباحه، كما أنه يضع قيودًا على المقترض أشد قسوة من البنك التجاري التقليدي ليضمن عدم خسارته في حالة تعسره، ما يعني إلقاء أعباء أكبر وتكاليف أكثر على المقترضين، مستغلًا ظروف محتاجي القروض من المسلمين وعدم رغبتهم في التعامل الصريح بالربا.

ولا يقال هنا أن هذه عمليات تجارية، بيع وشراء أحلها الله لذلك لا ضير فيها، بل إن فيها ضررًا واضحًا يلمسه كل من خاض غمار هذه المعاملات فعليًا لا نظريًا. كما لو أن محور عمل “البنك الإسلامي” هو إنشاء شركات شرعية، واعتماد التجارة الحلال التي تخضع لمعادلة الربح والخسارة ضمن الحسابات التجارية الصحيحة، فلن يكون هناك حاجة للبنك أصلًا، ولأمكن إنشاء أشكال مختلفة من المؤسسات التجارية التي تلعب دور الوسيط لتأمين التمويل اللازم والمشاركة في المشاريع التجارية بحسب المعايير الشرعية من غير دخول في دوامة البنوك وأعمالها المشبوهة، التي تتناقض مع قيم الإسلام ومثله العليا التي ارتضاها الله تعالى للإنسان.

مفهوم القرض في الإسلام

يقوم الفكر الرأسمالي على أساس المنفعة أولًا والمنفعة أخيرًا، ولا علاقة له كفكر سوى في كيفية جني مزيد من الأرباح ومراكمة الأموال، ولو كان على حساب استغلال الإنسان وإذلاله واستعباده. لذلك تقوم البنوك بإقراض الناس لقاء فوائد ربوية، تزداد ثقلًا وحجمًا عند تعسر المقترض. بل إن البنك يفرح عادة لتعثر المقترضين عن السداد، لأن في هذا فرصة لزيادة أرباحه.

بينما يقوم الاقتصاد في الفكر الإسلامي على أساس ضمان إشباع حاجيات الإنسان وانتشاله من الفقر والعوز وكفايته وإغنائه عن التسول والعيش بكرامة. وهذا مشاهد ملموس في كافة المعاملات الشرعية في الإسلام، بما فيها التجارية المحضة، كما جاء في الحديث الشريف: “رحم الله عبدًا، سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى”، والمسلم التقي يؤجل المعسر عن سداد دينه، ولا يقوم بابتزازه على نحو ما يفعل الرأسمالي الذي يحاول استغلال فرصة التعثر، ليفرض مزيدًا من الفوائد على المقترض أو الحجر على ممتلكاته ومصادرة بيته الذي يؤويه مع عياله، يقول تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

بهذا تتضح مدى مناقضة فكرة الإقراض البنكي مع طريقة الإسلام في التعامل مع القروض. فقد رغّب الإسلامُ الناسَ بإقراض بعضهم البعض من غير مقابل سوى نيل الأجر والثواب، وحض على إرجاء المعسر بل والتصدق عليه إن أمكن، فكان القرض في الإسلام للتيسير، لا لشد الخناق على المقترض واستغلاله وجعله أسيرًا ذليلًا لدائنيه.

كما فرض الإسلام الزكاة وجعلها ركنًا من أركان الإسلام وجعل سد الديون عن المعسرين أحد وجوه صرفها، وشجع الإنفاق في كافة مشاريع البر ليبني مجتمعًا متماسكًا تسوده الرحمة والتكافل والبذل والعطاء والإيثار. يقول تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

تطبيق النظام الاقتصادي في الإسلام يتطلب وجود بيئة إسلامية

إن البيئة الرأسمالية التي يعمل فيها “البنك الإسلامي” تفرض عليه أنظمة وقوانين عليه الالتزام بها وإلا لما سمح له بالعمل أصلًا، ما يجعل تطبيق معايير الإسلام وتجسيد قيمه ومثله العليا أمرًا غير واقعي، حيث يعتبر البنك المركزي المتحكم الأساس بكل ما يتعلق بالبنوك، كما أن البنك المركزي نفسه جزء لا يتجزأ من منظومة البنوك العالمية العاملة ضمن المنظومة الرأسمالية.
كذلك يعتمد البنك في تمويله بشكل أساسي على القروض الربوية من البنوك الأخرى، وعلى أموال المودعين الذين يتم منحهم فوائد ربوية لقاء إبقاء أموالهم في البنك. وهذان الأمران محظوران في الشرع لأن الربا محرم قطعًا.

أما بالنسبة لأموال كثير من المودعين، الذين يعتبرون البنك أقرب إلى الخزنة التي يودعون أموالهم فيها بشكل مؤقت، فإنهم في حل من أية شراكة مع البنك، ولهم كامل الحق بسحب ودائعهم متى اختاروا ذلك، بالتالي فإن استثمار أموالهم له عواقب وتداعيات خطيرة. وفي هذه الحالة (أي إذا اعتبرنا “البنك الإسلامي” مجرد مؤتمن على الودائع)، فهل يحق له أن يقحم أموال الناس في مشاريع تجارية من غير إذنهم؟ ومن أين يسدد تلك الودائع عندما يطلبها أصحابها؟ وفي حال رضي الناس بإقحام أموالهم في معاملات البنك التجارية، فهل سيتعامل معهم على أساس الربح والخسارة، أم أن أرباحه مضمونة؟ وإن لم تكن مضمونة، فلماذا يريد المودع وضع أمواله في مشاريع قابلة للخسارة؟

لهذا كله يعمد “البنك الإسلامي” في واقع الحال، إلى اتخاذ إجراءات لا تقل شراسة عن البنك التجاري لضمان تدفق الأموال إلى البنك، ولاستيفاء كامل الفوائد المفترضة من “القروض” إنما بصيغ أخرى، ما يحوله عمليًا إلى بنك مماثل للبنك التجاري الرأسمالي على نحو أو آخر.

على هامش الحديث، فإن من مفارقات إنشاء “البنوك الإسلامية”، إيجاد طريقة “حلال” للإقراض من خلال عقد شراكة، بعيدًا عن الفوائد الربوية الصريحة، إلا أن بعض “جهابذة” العصر من “فقهاء” الواقع والمصالح خرجوا علينا بنظرية جديدة تفيد بأن الفوائد البنكية ليست ربا، وهي “حلال زلال”، ما جعل البنك مع ركيزته الربوية عند هؤلاء هو عينه “بنكًا إسلاميًا” من غير حاجة لتعديل ودخول في تعقيدات شكلية، وهذا أشد قبحًا من الذين يحاولون تجويف الإسلام من أجل تسويغ مشاريعهم التجارية، لأنه استباحة لما هو محرم في الإسلام بشكل قطعي، يقول تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ).

لذلك كله، فإن اعتماد النظم والمؤسسات الرأسمالية في الاقتصاد، ومحاولة أسلمتها، هي عملية تجويف للإسلام وحشوه بمعالجات ترتد غالبًا على ثقة الناس بالإسلام، الذين ينتظرون معاملة خالية من المحرمات وتتوافق مع رحمة الإسلام وقيمه، فإذا بهم يتفاجؤون بكثرة الشروط وقسوة المطالب، ما جعل بعضهم يؤثر التعامل مع البنوك التجارية الربوية الصريحة على التعامل مع البنوك الإسلامية!

والله المستعان
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حسن الحسن

أكاديمي من فلسطين يعمل أستاذاً جامعياً في بريطانيا في مجال العلوم والتكنولوجيا. بكالوريوس هندسة كمبيوتر… المزيد »

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى