آسام الهندية، لن يكون سوى رأس جبل الجليد
لا تمر ساعة في الهند إلا والمسلمون أمام فوهة البنادق، يتيهون في الأرض التي سكنوها وعمَّروها، ينفون من الديار التي شيدها أجدادهم، ويُطالبون ببطاقات الهُوِّيَّة أينما حلوا وارتحلوا. وربما يجردون من الثياب لينظر الناظر إلى المنطقة الحساسة حتى يعرف هل هو مسلم أم لا! ويضرب في آذانهم كلما خرجوا في المسيرات السلمية إما باكستان أو قبرستان. فالمشهد السياسي في الهند لم يعد صافيًا، ولن يكون صافيًا إنْ سارت الأمور على هذا المسار الخاطئ.
فرِّقْ تَسُدْ .. إنجلترا لم تغادر الهند بعد
قبل قرنين، حينما كان الشعب الهندي مترابطًا بشرقه وغربه، مهيبًا بجباله وجميلًا بأنهاره وغاباته؛ جاءت إنجلترا لتعكر صفوه وتنهب خيراته، فرأته أمةً متحدةً، مُنصهرةً متماسكةً. إخاء لم تجربه إنجلترا التي ألفت على القوميات والعرقيات، فصحت صحوتها لتخبُرَ أنَّ هذا الشعب لا ينهزم إلا على أبناء جلدته، فلا تجدي هنا الأسلحة النارية ولا سياسات القمع والبطش، بل تنفع سياسة “فرِّقْ تسُدْ”؛ التي تُؤجِّج نار الطائفية بين الأقوام، وتبني الأسوار بين الفئات المختلفة التي تنطق بلغات لا تفهمها إخوتها.
فكما أرادت إنجلترا نجحت خطتها، وانقسمت الهند إلى قسمين أو إلى أقسام، فسمعت في جوها شعارات ونعرات فيها العرقية والعنصرية والانتماءات الدينية والقومية. وهبَّتْ قيادات عدة لتنبه إلى خطورة خطة إنجلترا الخادعة ولتذكر بإرث الهند التليد، لكن كلها كانت ضربة في حديد بارد؛ لأن جراثيم الفُرقة تسربت إلى عمق الشعب، وتعرض لحقنات طائفية في مخه وعروقه. فخسر أمامها “غاندي” و”نهرو” و”أبو الكلام آزاد” و”إخوة علي”، وغيرهم الذين سعوا في لملمة شتات الهند، ولم ينجحوا إلا في بعض المناطق التي استعادت وعيها وعادت إلى صوابها. حتى في يوم استقلالها استشهد أبو الوطن مهاتما “غاندي” إثر طلقات غادرة من رجل متطرف هندوسي، وكان غاندي وقتها في مهمة الحماية عن حقوق المسلمين.
لقد ولدت الهند لكن كانت الولادة عسيرة، ولادة إلى أتون الفقر والبطالة والحروب الأهلية الدامية. فحاولت القيادات بعد الاستقلال محوَ آثار الطائفية، ورفعَ معنويات القوم على أسس التعليم والتقدم المعرفي. لكن كان العدو بمرصاد، وهو يشنِّف سمعَه إلى هواجس ثُلَّة من الأناس، عندهم الحقد والشحناء. فلجأ إليها لترى الدنيا بعدُ أحداثًا داميةً ومآسيَ مختلفةً تقيم الهند في قفص الاتهام. فالذي يرصد المشاهد السياسية الحالية في الهند يفهم أن الهند عادت إلى ماضيها المظلم، وأنها تتآكل ديمقراطيتها، ويرى جدران التفرقة ناطحة السحاب بين القلوب. فهل عادت أشباح إنجلترا من جديد؟
إسلاموفوبيا، سلاح “بي ج بي” المفضل
وكما قيل: كلما خسرت الأنظمة المستبدة خططها تشتعل فتائل الحرب على الحدود؛ لتخدر الشعوب المنهارة وتحطم إرادتها الصاحية. وعلى هذه الخطى المتعثرة تمشي الهند إلى هوة التاريخ، وتقود شعبها الأصيل إلى أنياب العداة ولا تدري أن شعارها المنفرد الذي ينادي إلى التنوع والتعدد كان علامة تجارية وشارة شرف أمام الدنيا، فمنذ هيمنة “بي ج بي”، وأذرُعِها المتمثلة في “ف أتش ب” و”آر أس أس” على كل القطاعات الحكومية أخطأت الهند بوصلتها. فالحملات الانتخابية تملأ الهند بإسلاموفويا، وتبث الكراهية ضد المسملين، وتعدهم فوضويين وحملة الإرهاب.
اعتقلات عشوائية طالت الدعاة الإسلاميين وقرارات لتعليق المدارس ومنشورات ضد المقدسات والشعائر الإسلامية، ورفع قضايا ضد الأذان بتهمة أنه يزعج السامعين ويشق سكون المارِّيْنَ، وتهجيرات قاسية، ومساءلات أمنية تورط الأبرياء في أمور لا تعنيهم، ومسيرات ثورية ترفع لافتات طائفية تقول “المسلمون لا ينتمون إلى الهند”، وتهميشات متعمدة حتى لا يدخل المسلمون المناصب الحكومية، وأبواق حكومية تصرح “بأننا سنزج بكم في السجون، وسنصادر ممتلكاتكم أيها الخونة”، ورصاصات حية للمتظاهرين السلميِّين.
وفي الوقت الذي يتجول رئيس الوزراء عوالم الدنيا ويتسلم من شتى الجهات أوسمة وشارات هنا في منطقة آسام يعيش المسلمون بين مطرقة الهندوتا وسندان الأمن المتعصب، فبدلَ أنْ يُصَدّ الظالمون والمحتلون اتخذت الهند ولاية “آسام” فرصةً سانحةً لتنذر جميع المسلمين أن قانون المواطنة في طريقه إليكم، وأن بوادره لاحت في “كشمير” وفي “آسام” وفي “لاكشياديب” و”مظفر نغر”، فكونوا على الموعد. والأمر لن يتوقف عند هذا الحد، وهناك هجمات سيبرانية ضد المسلمين، وملفات شخصية مجهولة لا تزال تنشر صورًا مزوَّرةً لتشويه الإسلام أمام القلوب الضعيفة التي تلقف كلما يصنعه الإعلام.
حتى في قضية طالبان اضطر مسلمو الهند لتبيين موقفهم من الحكومة الطالبانية، وكانوا في قفص الاتهام محاصرين من كل الجهات. لا تزول أقدامهم حتى يُسألوا عن ميولهم ووجهة نظرهم في قضايا الشرق الأوسط أو في قضايا كل الأقليات المسلمة المضطهدة. حتى في مباريات كريكات التي طالما أذابت الجليد بين باكستان والهند حُرمَ المسلمون حقَّ الانتماء والتشجيع بينما تمتع الآخرون بكل الحقوق، فيهم من يشجع إنجلترا التي احتلت الهند وفعلت بها الأفاعيل، وفيهم مَن يهتف لأندية البرتغال التي نهبت خيرات الهند لسنوات طويلة، وفيهم مَن يكتب الجداريات لألمانيا وإيطاليا، كما لا يقل عدد مُشجعِيْ هولندا ودنمارك. فتلك هي الصور المتناقضة التي تجعلك تتخبط وأنت تحلل الهند عن بعد.
وقد سلطت مجلة النهضة العربية أضواءً مهمةً حول هذه الاتجاهات عبر افتتاحيتها التي كتبتها تحت عنوان “مزقوا أقنعة الخونة”، وفي ذلك تقول ” فكلما انفجرت القنابل في كابل أو قصفت حارة من حارات بغداد أو شوهدت نساء منتقبات ومحجبات في عواصم البلدان الإسلامية أو أقيمت حدود الله في السعودية أو في باكستان أو إندونيسيا أو مارست داعش أعمالها البربرية باسم الخلافة والجهاد المقدس؛ لم تزل محافل كيرالا الثقافية -ليتها ثقافية- تملأ الدنيا ضجيجًا، وتطلق حتى آخر سهامها لرمي المسلمين والإسلام بالتخلف والرجعية والفوضوية والعنف. فلا نفرِّقْ بين أحد منهم؛ فيهم مَن يرفع لافتات ماوو أو ستالين، وفيهم مَن يمجد ساوركار وغولواركار ليقول القائل: “وافَقَ شَنٌّ طَبَقَةً” (مَثَل عربيّ – المُحرِّر).
والأكثر غرابة أن أولئك الذين يسبحون لستالين الذي بنى مدينته الفاضلة على الجماجم والأشلاء يقيمون القيامة حين يسمعون أن طالبان أعدموا فلان بن فلان، أو أنَّ سيارة مفخخة انفجرت في دمشق، أو أنَّ كتائب القسام أرسلت صواريخ تضرب تل أبيب؛ فيستنفرون كل قواهم لتخفيف وزن الإسلام وتجفيف منابعه الصافية؛ بالحَجْر على الأفواه الناطقة للأمة، والهجوم الإعلامي على الجمعيات الإسلامية التي لم تزل تسدُّ الزحف الأحمر والمدَّ الماركسي الذي يطول على الجامعات والمدارس الحكومية.
كلٌّ يعبث بشعائر المسلمين ويقيمهم أمام فوهة البنادق؛ قسيس يعتلي المنبر ليصرخ أمام الجمهور أن هناك جهاد المخدرات، وأن فئة تنتمي إلى دين خاص تقوم وراء هذا الجهاد، وآخر ملحد ينحدر من عائلة مسلمة يسطر قلمه ليهتف بأن رسالة الإسلام منسوجة من العنف وكراهية الآخرين، بل ينادي رغم جهالته إلى تجديد الخطاب الديني. فأيّ ذلٍّ قد اعتلى هذه الأمة الأبيَّة التي جاءت لتوجه الدنيا نحو البر الآمن!
ماذا فعل بعض الهنود بعد انتصار طالبان؟
فحين غادر من أفغانستان آخر جنديّ أمريكيّ بعد أن نهب خيراتها، وصدَّرَ ثرواتها، واستغل مواردها، واستعبد أهاليها، وأهدر كرامتها طوال عقدين متواليين؛ هنا في ساحة كيرالا تضاربت الآراء بين مؤيد ومعارض. في الوقت الذي احتفل طالبان بانتصاره البارز على أطماع القوات الأمريكية وظهرت قياداته أمام الشاشات بعمائمهم وقمصانهم وأرديتهم الأفغانية؛ انتشرت في كيرالا تلك الصور النمطية التي طالما نشرها أعداء الإسلام من الإرهاب والعنف والتخلف والقسوة، وابتلعها المثقفون الذين يتصدرون المشهد الثقافي الكيرالاوي. فشنوا حملات شرسةً على الإسلام والمسلمين.
ولم يقنعوا بالتصريحات التي عبَّرت خلالها قادة المسلمين عن رسالة الإسلام، بل طالبوا بالإدانة ثم الإدانة. فتلك عادتهم طبعوا عليها أن يوقفوا المسلمين جميعًا في قفص الاتهام وأن يزدروا شعائر الإسلام ومقدساته. والأمر الملحوظ في هذا الواقع المُرّ أنَّ كل الأبواق التي تتغنى بالإسلاموفوبيا تتحد وتتجمع في صفٍّ واحد رغم ولاءاتها وانتماءاتها؛ بهدف تصوير الإسلام تصويرًا شنيعًا أمام الساحات العامة.
حتى الاصطلاحات الإسلامية يتم تدوالها بين أرباب البيان وصناع الفكر بشكل عبثيّ؛ ففيهم مَن يستخدم كلمة الجهاد استخدامًا لا يليق بهيبته وجلاله، وفيهم مَن يستخدم كلمة الحلال محلَّ الحرام والنكاح المشروع محلَّ السِّفاح الممنوع. فلكُلٍّ وجهةٌ ورأي لكن لا يحترمون الرأي الآخر، ولا يهتمون بمشاعر الآخرين. يطربون كلَّما جسوا نبض الآخرين، فلا يمنعهم مانع من نشر هذه الأكاذيب بين العوام رغم إدراكهم مدى خطورة هذا الأمر المرير.
كورونا الجهاد!
وتزامُنًا مع كورونا، انتشرت في الهند بجنوبها وشمالها دعاياتٌ مشبوهة ضد المسلمين حتى نشأ هنا اصطلاح “كورونا جهاد”! الأمر الذي يعكس واقع الهند الأليم، التي انشقَّ من داخلها بين طائفي وديمقراطي، وعنصري وإنساني. أسوار من العنف والكراهية شيدت على أنقاض الفقر والجهالة والخرافات، فما كان اجتياح كورونا في الهند اجتياحَ أجساد أو تكبيد خسائر مادية أخرى، بل كان اجتياح الأرواح واحتلال الأفكار وتقويض أركان البلاد من الداخل، هجمات مكثفة ضد أقلية واحدة على أساس أوهام تبثُّها بعض القنوات المدعومة من قبل بي ج ب وآر أس أس.
فالهند تمر بفترة عصيبة من فتراتها؛ يُساق فيها صناع الوطن إلى مقاصل التاريخ، ويُبعث منها خونة مُحتلّون إلى صدارة التاريخ والوطن، تُطمس شخصيات مثل جوهر لال نهرو الذي صنع الهند من جديد، وحكمها أكثر من عقد، وقتها كان صوت الهند مسموعًا في الدنيا، وكانت رؤاها واضحةً وخطاها مثبتةً، فاليوم كأنْ لم تَغْنَ بالأمس، يتصدَّر المشهد الدولي وجوه مقنعة لا يحملون همَّ الوطن، ولا يحلمون بمستقبل واعد للشعب. فالذي يهرب من التاريخ إلى المريخ ويفر من أرضية الواقع إلى بريق المواقع؛ كيف يصمم بلدًا بل كيف يُرممه؟!
والشعب لم يزل يترنح تحت وطأة الفقر وسطوة الشركات الكبرى؛ فلا منبر يصرخ له، ولا قناة تبث عنه. فكل ما يهم هذه العصابة هو تأجيج نار الطائفية والتشبث بقشَّة السلطة، حتى إن سقط في سبيلها الأبرياء شهداء، أو أُريقتْ من أجلها الدماء. فالذي يرصد الهند عن كثب أو عن بُعد يؤكد أنَّ القادم أسوء، وأنَّ أذرع الفاشية الزعفرانية قد طالت كل الجهات الأمنية وقطاعات التعليم؛ لتمحى من ذاكرة الشعب أبطاله وأساطيره وتبقى فيها جبناء عاشوا بالخوف وماتوا بالذل.
فكل هذه المؤشرات تؤكد وتقول إنَّ الهند الدولة الضاربة في التاريخ والحافلة بالبطولات والملاحم تسير الآن عكس اتجاهها الفطري. فإن لم تعد إلى سيرتها الأولى فلا هنا دولة تسمى هند، ولا هناك حضارة آمنت بقوة التنوع والتعدد. فانتبهوا من أرضة الأمراض الاجتماعية التي تأكل مِنسأة الوحدة!
المسلم الهندي: حياة بشروط
أن تعيش مسلمًا في ظلال الحكومة الهندية الحديثة يعني أن تنسى هُوِّيَّتَك الماضية العريقة، وتطمس من ذاكرتك مواريثك الخالدة، وأن تكون جاهزًا في كل وقت للإدانة والتماس العذر لكلِّ ممارسات بشعة تُقام باسم الإسلام. فإنْ أبيتَ وثبتَّ على قيمك ومبادئك يعني أنك خائن وأنك إرهابي يجدر بك أن تُزج في السجون وأن ترسف تحت القيود.
فالمشهد السياسي الهندي يختلف كثيرًا عن الصور التي ترسمها للعالم قبابُ “تاج محل” الشامخة وأسوارُ قلعة “آغرا” المنيعة، بل هي تناقضها تماًما. ترى هناك محاولات بشعةً لطمس الهُوِّيَّات الإسلامية وتبديل أسماء المعالم المَغُوْلِيَّة بدعوى أنها كانت هُندوسيَّةَ الأصل، وأنَّ المغول إنما بنوها على أنقاض المعابد الهندوسية! كما شهد العالم بأسره ما فعلت هندوتا بمسجد بابري، لتسقط قباب المسجد على الأرض هاويةً بعد أن كانت ساحاته عامرةً بالمصلين. بل كان أشدها وأقساها ما هتفت قيادات بي ج ب أمثال توغاديا وأل ك أدهواني التي طافت الهند لتنفث السم في القلوب.
فالمسلم في الهند مواطن مشروط، جنسيته لا تتمتع بكل الحقوق التي تتوفَّر للآخرين. محلاته وممتلكاته مهددة بالمصادرة والتعليق، ومساجده ومدارسه ربما تدمر وتحرق بين عشية وضحاها، وفي الزمن الذي يمجد قاتل غاندي ويستهان بغاندي وسلميته ونهرو واشتراكيته، وتستخدم سياسة الحديد والنار؛ مُستحيلٌ أو جنونٌ أنْ تأمل من الحكومة الهندية الراهنة مبادراتِ سلامٍ. فإن ما تراه حول الهند لن يكون سوى رأس جبل الجليد، والله المستعان.
ليس أمام المسلمين إلا التحلي بالصبر ومواصلة التمسك بالمبادئ والأخلاق التي ارتضاها الإسلام، والعمل على نشر الحقائق وفضح المعاملات غير الإنسانية التي يتعرض لها المسلمون في شتى بقاع الأرض، وعدم التخلي عن الموروث التثافي برمته.