الهند ومسار الاستعمار.. منذ قبيل 1487م إلى ما قبل 1947م
هذا المقال هو الجزء الثاني من سلسلة المقالات عن الإسلام والمسلمين في الهند. وفيما تناول الجزء الأول تاريخ الإسلام في الهند حتى نهاية الدولة الإسلامية فيها، سيسلط هذا الجزء الضوء على الأطماع الاستعمارية الأوروبية في الهند، والتي بدأت منذ عهد حكم المسلمين في الهند.
وسنتناول الحقبة التي تقع بين قُبيل سنة 1487م وما قبل عام 1947م، وهاتين السنتين تشيران إلى حدَثين مهمين هما حدث اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح من طرف البرتغال وحدث تقسيم الهند. فيما سيكون تناول مرحلة تقسيم الهند وما بعدها في أجزاء لاحقة.
وجدير بالذكر هنا، أن تسلسُل الأجزاء لا يُعبر عن التعاقُب الكرونولوجي للأحداث، فإن الأحداث التي ستُذكر في هذا الجزء حدثت بالتوازي مع أحداث سبق ذكرها في الجزء السابق، كما أن سنوات الأحداث قد تختلف من مرجع لآخر أحيانًا ولكننا بقينا أوفياء لمرجعنا الأساسي في نقل المعلومات [1]، وكذلك ننبه على توخينا للاختصار وعدم التكثير من التفاصيل.
البرتغال وتغيير مسار التاريخ
كان العالم الإسلامي والغربي في حاجة دائمة إلى خيرات الهند، ومنه ضرورة إقامة علاقات تجارية معها. وقد كان للعرب والمسلمين علاقات ومراكز تجارية في الهند منذ فجر التاريخ. وكان المسلمون يسيطرون على الطرق التجارية مع الهند برًا وبحرًا، في حين كان الأوروبيون ينقلون البضائع من الهند عبر الطرق التي تقع تحت حكم المسلمين.
وقد اجتمعت عوامل كثيرة لتغير مجرى التاريخ في القرن الخامس عشر الميلادي؛ حيث أن الأوروبيين جميعًا كان يغيظهم نفوذ المسلمين على الطرق التجارية وارتفاع الضرائب التي يدفعونها إليهم، كما أن طرد المسلمين من الأندلس رفع من معنوياتهم، وقد تزعمت البرتغال الأوروبيين وكانت تعتبر نفسها حامية العالم المسيحي ومن واجبها المقدس القضاء على المسلمين ونفوذهم.
أمام هذه الحالة -بالإضافة إلى عوامل أخرى- بدأ مجهود جبار في الاستكشاف بهدف العثور على طريقٍ جديدة تُوصِل إلى الهند غير تلك التي يسيطر عليها المسلمون.
وقد بدأَ عمليةَ الكشف الأميرُ هنري (المعروف بـ: هنري الملاح)؛ وهو الذي تولى طرد المسلمين من الأندلُس، وكان متشبعًا بكراهية المسلمين والرغبة في القضاء عليهم وفي نشر المسيحية. وقد استعان بمالية الطائفة التي كان يترأسُها (طائفة فرسان يسوع المسيح) لإرسال حملات كشفية إلى سواحل أفريقيا الغربية.
وقد مات هنري الملاح سنة 1460م، لكن النجاح الذي تكللت به هذه الحملات، واستغلال ثروات البلاد المستكشفَة، قد ساعد في مواصلة البرتغال العملَ الذي بدأه. وقد وقع على إثر ذلك الحدثُ الذي سيغير مجرى التاريخ فيما بعدُ -دون مبالغة-، وهو اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح من طرف (بارتولوميو دياز) سنة 1487م.
وقد خرج بعدها (فاسكو دي جاما) على رأس حملة عبر هذه الطريق الجديدة سنة 1497م، وتمكن من الوصول بمساعدة أحد الربابنة الهنود إلى (كاليكوت) سنة 1499م.
وقد تمكن البرتغاليون من إظهارِ نواياهُم الحسنة للملك (السامُري) حاكم (كاليكوت) وعقدِ معاهدة تجارية معه. وكان البرتغال يرسلون حملات عسكرية ويحتكون بالسفن العربية ويقومون بتحطيمها. وأمام انحياز (السامري) للعرب أعدت البرتغال حملة عسكرية قوية بأسلحة حديثة ألحقت هزيمة بالأسطول الهندي الذي انضم إليه الأسطول المصري كذلك، وذلك سنة 1509م. وكان هذا الحدث بارزًا جدًا في التاريخ، ويُعتبر البداية الفعلية للإمبريالية وسعي الغرب لاستعمار الشرق.
ولكثرة النزاعات التي أدت إلى إضعاف مصر والشرق عمومًا، فُتح الباب على مصراعيه أمام البرتغال لبسط نُفوذهم في الشرق وعلى البحار. حيث عمِلوا على الهجوم على الموانئ التي يسيطر عليها المسلمون ونهبها وإخضاع ملوك بعض المناطق والاستيلاء على جُزُرٍ ومُدُنٍ وتأسيس مراكز تجارية محمية وإنشاء قواعد في مدن كثيرة. وقد ساعدهم الهندوس في ذلك لعداوتهم مع المسلمين.
وكان من أبرز قادة البرتغال في الهند (ألبوكيرك) الذي تولى القيادة سنة 1509م، وهو أعظم من وطد النفوذ البرتغالي في الهند والشرق وكان مرهوب الجانب وجعل الملاحة البحرية تحت رحمته.
ظلت البرتغال في الهند حوالي قرنٍ، انهار نُفوذها بعد ذلك، بسبب استعمارها من طرف إسبانيا وبسبب المنافسين الجُدد في الهند.
هولندا تحط رحالها في الهند
كان الهولنديون أمة بحرية، وكانوا تابعين لإسبانيا، حتى أعلنوا استقلالهم عنها سنة 1581م. وعلى إثر ذلك خاضوا البحار بحثًا عن الطرق الجديدة إلى الهند والتي ظلت بالنسبة لهم إلى ذاك الحين سرًا يحتفظ به البرتغاليون، فوجدوا لأجل ذلك عَنَتًا شديدًا.
حط الهولنديون رحالهم التجارية في الهند وأنشأوا شركات للتجارة، أُدمِجت في شركة واحدة سُميت بشركة الهند الهولندية سنة 1602م. وكانت استراتيجيتهم هي الهدوء وعدم استخدام القوة للاستيلاء على التجارة دون نشر المسيحية أو التدخل في الحكم كما فعل البرتغال، لكنهم اعتمدوا على القوة فيما بعد. وقد عقَدوا معاهدة مع (السامُري) ضد البرتغال سنة 1604م، واستطاعوا الاستيلاء على مدن عدة وإقامة مراكز تجارية لهم.
لكنهم لم يتوسعوا كثيرًا في الهند نظرًا لدخول منافِس قوي (الإنجليز)، وقد تنازلوا عن كل أملاكهم فيها للإنجليز سنة 1824م.
إنجلترا والشركة التي غيرت العالم
تمكن الإنجليز من الحصول على نفوذ بحري بعد قهرهم للأسطول الإسباني سنة 1588م، ففكروا في الدخول في لُعبة الاحتكار التجاري كما فعلت الدول الأوروبية الأخرى. فطلبوا من الملكة (إليزابيث) إنشاءَ شركة للتجارة. فتأسست شركة الهند الشرقية الإنجليزية سنة 1600م، بمساعدة من الدولة.
وبدَت الشركة ضعيفةً في البداية، تستعمل الحيلة والتودد إلى حكام الهند. وقد دخلوا على (أكبر) الذي يفتح بابه لكل أحدٍ، وقبِلَهم حكام الهند الذين تضايقوا من الوجود البرتغالي فاستعانوا بمُنافسيهِم عليهم، مع أنهم جميعًا من نفس طينة المستعمِر في الحقيقة. وقد نال الإنجليز من الحكام تسهيلات ورفعًا لبعض الضرائب وإذنًا بإنشاء مراكز تجارية.
بدأت الخطة بجعل حراس المراكز التجارية من الإنجليز، ثم تسليحهم بمبرر الحماية، وبالتدريج نشأ الجيش الإنجليزي الذي أخضع الهند. وقد عينت إنجلترا ممثلًا لها في بلاط الملك (جهانكير) ونالت الشركة بالدسائس براءةً من الملك المغولي سمح لها فيها بأن تُتاجر في (سورت). واستطاعوا الحصول على إعفاء من الضرائب، ما مكنهم من تأسيس محطات تجارية للشركة في (سورت) سنة 1612م، ثم في (برهان بور) و(أجمير) و(أكرا) بعد ذلك بسنين قليلة، وهكذا توسعت أعمال الشركة بالتدريج، حتى استطاعت تأسيس مركز تجاري لها في (البنكال) سنة 1633م، وتأسيس أول حصن لها في الهند (حصن سانت جورج) في (مدراس) سنة 1639م.
وكادت الشركة تُفلِس سنة 1655م، لكنها استعادت نُفوذَها واحتكارها التجاري وتوسع نُفوذُها، حيث عظُمت أرباحُها وأصبح لها حق إعلان الحرب على من يقف في طريقها، كما اشتَرَت مدينة (مومباي) وجعلتها مركزًا للشركة وأصبح لها فُروع بكل الهند تقريبًا سنة 1661م.
وتلقت الشركة ضربة قاصمة من طرف (أورنكزيب) سنة 1689م، وتوقف عملُها لمدة ثلاث سنوات، تأسست بعدها شركة إنجليزية أخرى، ثم اتحدت الشركتان سنة 1702م تحت اسم (الشركة المتحدة).
فرنسا تدخل المنافسة في الهند
أعلنت فرنسا دخولها ميدان المنافسة في الهند بتأسيس (شركة الهند الشرقية الفرنسية) برأيٍ من الوزير الفرنسي (كولبير) وإعانةٍ بقرض وضمان حكومي سنة 1664م. وكان الهدف الفرنسي واضحًا من البداية: التجارة والسيطرة.
اتخذ الفرنسيون لهم مركزًا تجاريًا في (سورت) سنة 1674م، ومركزًا آخر في نفس السنة في (بوند شيري) وأسسوا به قلعة حصينة ومدينة حديثة ودربوا الأهالي على الدفاع عنها.
ولم تستطع الشركات الأوروبية فرض نفوذها على مناطق حكم (أورنكزيب)، لكن بعد وفاته سنة 1707م، ضعُفت الدولة القوية وبدأ الأَكَلَة في افتراس جسدها المريض. وقد بلغ التنافس الفرنسي-الإنجليزي ذروته حين قامت حرب بين الدولتَين في أوروبا بدأت سنة 1740م، وكان لها تداعيات على ممثلي الدولتين في الهند.
وكان من أعظم قادة الفرنسيين في الهند، السياسي الحكيم والماهر (دوبلكس) الذي تمكن من إجلاء الإنجليز عن (مدراس) سنة 1747م، لكن الهزيمة الفرنسية أمام الإنجليز في أوروبا وضعت القائد المحنك في موقف حرِجٍ، ذلك أن دولته لا يُمكن أن تمُده بالسلاح والرجال في فتوحاته، والتي استمر فيها بالرغم من ذلك، حتى عظُم نُفوذه واستفحل أمرُه دون مساعدةٍ من فرنسا.
ولم يكُن لدولته التي لم تُساعده من مكافأة له على انتصاراته على الإنجليز في الهند سوى أن قامت باستدعائه سنة 1754م وإرغامه على التخلي عما فتح في الهند، ليموت في يأسٍ وبؤس ببلده. وكان ذلك بدسائس من الإنجليز.
وقد اضمحل نفوذ فرنسا في الهند بعد ذلك، ووطد الإنجليز أقدامهم وكسبت شركتهم كثيرًا خاصة بعد أن تولى (كلايف) أمرها سنة 1756م.
موقعة بلاسي (1757م) وسقوط (البنكال) في يد الإنجليز
أمام تدخل الإنجليز في شؤون الحكم، رأى (سراج الدولة) حاكم (البنكال) المخلص لبلاده الغَيور عليها من التدخل الأجنبي أن يوقف هذا التدخل، فهاجم حصن (وليم) في (كلكتا) واستولى عليه من الإنجليز، وسجن عددًا منهم ماتوا في مُعتَقَلهم. لكن الإنجليز سُرعان ما استنجدوا بقوتهم البحرية التي جاءتهم بالمدد من (مدراس)، فاستطاعوا استرداد الحصن من (سراج الدولة) وعَقَدوا معه صُلحًا. وقد تفادى (سراج الدولة) الدخول معهم في حرب بعد ذلك.
لكن الإنجليز لم يقِفوا عند هذا الحد، بل كانوا يهدفون إلى القضاء على (سراج الدولة) فكانوا يتواصلون مع بعض الخونة من جيشه، وعلى رأسهم أحد قادته وهو (مير جعفر).
وقد نقض (كلايف) معاهدته مع (سراج الدولة) وهاجمه في جيش قوامه 3000 مقاتل، ومع أن جيش (سراج الدولة) كان مكونًا من 60 ألف مقاتل، إلا أن الخيانة وسوء تنظيم الجيش لعبا دورهما في المعركة.
تقابل الجيشان في 23 يونيو سنة 1757م قربَ قرية (بلاسي)، ومع الثبات والقتال منقطعي النظير اللذان أظهرهما القائدان الوفيان (مير مدن) و(مهراجا موهن لال)، اللذان أرعبا الإنجليز، إلا أن القائد الخائن (مير جعفر) قد استجاب لاستغاثة الإنجليز به، فوجد الفرصة سانحة لتنفيذ خيانته حين أمره (سراج الدولة) بالانضمام إلى (موهن لال) ومساعدته في هجومه على الإنجليز، لكنه اشترط أن يُخليَ (موهن لال) له الساحة وينسحب ليهجم وحده، فنفذ (سراج الدولة) شرطه هذا في براءةٍ، ليستغل (مير جعفر) تنفيذَ (موهن لال) للأوامر بالانسحاب، ويرسل إلى الإنجليز بأن يهجموا سريعًا. وقد لحقت بذلك الهزيمة بسراج الدولة.
وقد كانت هذه الموقعة حاسمة، حيث بدأ نفوذ الإنجليز في (البنكال)، فلم يكُن الخائن (مير جعفر) الذي حكمها بعد هذه الموقِعة سوى دُمية في يد الإنجليز، ومنذ ذلك الحين أخذ النفوذ الإنجليزي يرمي بردائه على باقي ولايات الهند.
موقعة بكسار (1764م) ونتائجها
حكم (البنكال) بعد (مير جعفر) خَلَفُه (مير قاسم)، وقد حاول هذا الأخير استردادَ النُفوذ الوطني وطرد الإنجليز، وذلك بمساعدةٍ من (شاه عالم) الذي ولاه ملك المغول (أحمد نادر شاه)، ومن شجاع الدولة.
لكن هذه القوى انهزمت أمام الإنجليز في موقعة (بكسار) سنة 1764م، فتنازل (شاه عالم) للإنجليز عن حق الإشراف المالي على كل من (البنكال) و(أوريسة) و(بيهار)، مُقابِلَ مليُونين و600 ألف روبية.
وتمثلت نتائج هذه الموقِعة في توطد نفوذ الإنجليز في الهند أكثر مما سبق، وإقامتهم لحكام وطنيين يحكمون شكليًا فقط، فيما الإنجليز هم من يحكمون فعليًا.
الإنجليز في الهند أمام منافِسٍ وقوتين
بالرغم من ضعف سلطان المغول، بقي أمام الإنجليز في الهند منافس وقوتان، فقد كانت لا تزال المنافسة الفرنسية تهدد النفوذ الإنجليزي، كما أن هذا المنافِس كان يتمتع بتحالُف مع قوة (المراهتا)، كما ظهرت قوة أخرى في الأفق تهدد الإنجليز هي قوة حكام (مايسور)، وبالتحديد (حيدر علي) ثم ابنه من بعده (فتح علي) الذي عُرِف بـ: (تيبو سلطان).
خشي الإنجليز من صعود قوة (حيدر علي) وتحالفوا مع (المراهتا) و(نظام الملك في حيدر أباد) وهجموا على (مايسور)، لكن (حيدر علي) استطاع صدهم سنة 1765م. ثم هجم (حيدر علي) على (مدراس) سنة 1769م، واضطر الإنجليز إلى عقد صلح معه ومعاهدة دفاعية.
وحدث أن هجم (المراهتا) على (حيدر علي) فلم يُعِنه حلفاؤه الإنجليز رغم المعاهدة التي بينهم. فقرر (حيدر علي) الاعتماد على نفسه وقام بإصلاحات عسكرية وإدارية، واستعان بالفرنسيين في ذلك، حتى كوّن جيشًا قويا مسلحًا، واستعاد من (المراهتا) ما أخذوا منه ووسع بلاده.
وقامت الحرب سنة 1778م بين فرنسا وإنجلترا، وامتدت إلى ممثليهما في الهند، حيث حاولت كل من فرنسا وإنجلترا إجلاء الأخرى من الهند، وكان الفرنسيون متحالفين مع (حيدر علي) فيما يساعدُ الإنجليزَ (نظام الملك في حيدر أباد). وقد جعل هجوم الإنجليز على الموانئ الفرنسية في الهند (حيدر علي) يهجم على أملاك الإنجليز في (مدراس) سنة 1780م.
وجاء الإنجليزَ مددٌ من حلفائهم وتمكنوا من أن يضطروا (حيدر علي) للتراجع وترك السواحل سنة 1781م، لكن الحرب الداخلية ظلت مشتعلة في مناطق غرب (مدراس) يقودها (فتح علي)، وقد توفي (حيدر علي) سنة 1782م قبل أن تنتهي هذه المعركة. وكان الإنجليز قد أوقفوا حربهم مع (المراهتا) وعقدوا معهم صلحا سنة 1782م ليتفرغوا للحرب مع حاكم (مايسور).
وقد واصل ابنه (فتح علي) المعروف بـ(تيبو سلطان) حربه مع الإنجليز، وعُرِف ببسالته وشجاعته، لكن انتهاء الحرب الفرنسية-الإنجليزية سنة 1783م بصُلح بينهم، حرَمَ (تيبو سلطان) من المدد الفرنسي، فقابل هجوم الإنجليز وحده وتمكن في هزيمتهم وعقد صلح معهم سنة 1784م.
وحدث أن اتفق الإنجليز سرًا مع (نظام حيدر أباد) و(المراهتا) ضد (تيبو سلطان) وهجموا على (مايسور) سنة 1790م من عدة جهات، فقاتلهم (تيبو سلطان) قتالًا نادرًا ومنقطع النظير، حتى تمكن من كسر الإنجليز واجتياح منطقة سيطرتهم، مما اضطرهم إلى أن يسوقوا جحفلًا جرارًا، فردوا (تيبو سلطان) للوراء، حتى التمس منهم الصلح، فوافقوا بشرط أن يدفع غرامة، فتم الصلح سنة 1792م.
ثم بدأت الحرب في أوروبا مرة أخرى بين فرنسا وإنجلترا سنة 1793م، فاشتد النزاع بينهما في الهند أيضًا، ومع ميل (نظام حيدر أباد) للفرنسيين بعد أن خذله الإنجليز في حربه مع (المراهتا)، إلا أن الإنجليز استطاعوا بالحيل والدسائس والتهديد استمالته إلى جهتهم، وهددوا (تيبو سلطان) على عدائه معهم وميله للفرنسيين، فلم يعبأ بتحذيرهم، ما دفع الإنجليز إلى الهجوم عليه في عاصمته (سرنكابتم) واستبسل (تيبو سلطان) في الدفاع عن القلعة، إلا أن الخيانة حسمت الحرب لصالح الإنجليز، حيث قام أحد قادته وهو (مير صادق) بفتح القلعة للإنجليز ليستولوا عليها، ويُقتَل (تيبو سلطان) في ميدان المعركة.
واستولى الإنجليز على (مايسور)، وعينوا فيها حاكمًا إسميًا. وبذلك تغلبوا على قوة ظلت تؤرقهم، وأصبح من السهل عليهم إحكام نفوذهم على باقي الهند.
أما عن منافسهم الفرنسي، فقد انتصر الإنجليز على (نابليون)، وتم لهم بذلك توطيد نفوذهم في الهند والشرق كله، وتخلصوا من المنافسة الفرنسية.
وقد عاد (هستنجز) إلى الهند سنة 1813م بعد أن كان قد خلفه فيها غيرُه من الإنجليز، وحدث في عهده أن أخضع (النيبال) للحكم الإنجليزي، حتى وصل نفوذهم إلى الهملايا، كما توجه إلى (المراهتا)، تلك القوة التي كانت تقض أضجاع الإنجليز، فتمكن من القضاء عليهم وإخضاعهم تمامًا لحكم الشركة.
وقد استولى الإنجليز سنة 1815م على رأس الرجاء الصالح و(سيلان) وجزيرة (مورنياس) وجُزُر (سيشل) وغيرها. وعلى (آسام) و(أراكان) و(تناسرم) في بورما سنة 1823م. فاتسعت حدود مملكتهم، ولم يعد لديهم خطر يهدد نفوذهم في الهند فقد كان الحكام جميعًا يحكمون إسميًا ويتقاضون أجورًا من الإنجليز. حتى الممالك الإسلامية التي كانت خاضعة للسادة الإنجليز، أغاظهم مظهرها الإسلامي وسعَوا إلى القضاء عليها، مثل (حيدر أباد) و(أوده).
محاولة الإنجليز ضم أفغانستان
ثم سار الإنجليز طامعين في الاستيلاء على أفغانستان، وفي طريقهم استطاعوا الاستيلاء على بعض حصون أمراء السند، واستولوا على (غزنة)، وبعدها توجهوا إلى العاصمة (كابل)، فما كان من ملكها إلا الفرار منها إذ لم يكن مستعدًا لمنازلتهم، وسلم لهم نفسه بعد ذلك.
ولكن الإنجليز مع ذلك لم يستطيعوا الصمود في وجه القبائل الأفغانية الثائرة، وقاد ابن الملك المستسلِم هذه الثورة وزحف إلى (كابل) وحاصر فيها الإنجليز، حتى اضطروا للاستسلام والخروج من أفغانستان مقابل ترك مدافعهم وبعض رجالهم رهائن في (كابل).
فكان ذلك سنة 1841م، وخرج الجيش المنكسر عائدًا إلى الهند لكن القبائل الأفغانية أفنّتهُم في طريقهم عن آخرهم، وكان قِوام الجيش خمسة عشر ألفًا. فكانت كارثة للإنجليز.
وتسبب هذا الحدث في تجرؤ أمراء السند على الإنجليز، لكن قوة الإنجليز مكنتهم من ضم السند لحكم الشركة. وقد قامت الحرب بين إمبراطورية السيخ والإنجليز سنة 1849م، انتهت بنهاية هذه الإمبراطورية وضم البنجاب التي كانت تحت حكمها إلى نفوذ الشركة الإنجليزية.
الثورة الهندية (1857م)
وقد قامت ثورة في مناطق عدة في الهند، ولا يمكن أن نحصر هنا أسبابها، فإن حكم الإنجليز للهند قد أنهك خيراتها فقد عاثوا فيها فسادًا وتخريبًا، وعملوا على تفقير أهلها وتجهيلهم واستفزاز معتقداتهم، فامتلأت النفوس غيظًا وحنقًا على هذا المعتدي الغاصب الذي فرقهم وساد عليهم وغير الحقائق فجعل من أهل الأرض طغاة ومن العدو المحتل محسنًا حقيقًا بالأرض وما فيها، وأعمل فيهم تفقيرًا وتجهيلًا، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يزدري ثقافتهم وآدابهم ومعتقداتهم ويغيرها.
فالأسباب التي أشعلت الثورة عميقة وكثيرة، أما الشعلة التي اجتمعت بهذا الحطب، وهي السبب المباشر في الثورة فقد تمثل في أن الجيش الإنجليزي في قلعة (ميرت) وكان يضم غالبية هندوسية وأقلية من المسلمين، كان الإنجليز يجلبون لهم خراطيش مدهونة بشحم البقر والخنازير، فيتعين على الجنود نزع الشحم المتجمد بأسنانهم قبل استعمال السلاح، وهو ما استفز عقائد الهندوس الذين يقدسون البقر ويحرُم عليهم أكله حُرمة الخنزير عند المسلمين.
فكان أن عصى الجنود الأوامر الصادرة إليهم استجابةً لعقائدهم، فلم يكن من الإنجليز إلا أن ساقوا 85 جنديًا منهم وعاقبوهم. وهذا ما حرك عواطف الجنود الآخرين تجاه إخوانهم، خاصة إذا وضعنا في الحسبان أن هؤلاء الجنود خاضوا حروبًا مع الإنجليز وقدموا لهم خدمات جليلة لا تُقدر بثمن. فثار الجنود على قادتهم الإنجليز في قلعة (ميرت) وزحفوا إلى مدينة (دلهي)، وفيها بدأت الثورة.
دعا العلماء البارزون إلى اجتماع عام في المسجد الجامع بدلهي وأعلنوا فتوى بوجوب الجهاد، فتجمع عشرات الآلاف من الجنود الثائرين، وأصدر الثائرون من الهندوس والمسلمين في الوقت نفسه إعلانًا مشتركًا يقضي بجعل الملك المغولي المسن (بهادر شاه) قائدًا للثورة،
وقبل بذلك الجميع. وراح الثائرون يُعمِلون القتل في الإنجليز بمدينة دلهي وينفسون عن غيظهم وحقدهم الذي كُبِت طويلًا. فكان القتل مصير كل إنجليزي أو متستر عنهم، حتى سالت الشوارع بدماء الإنجليز. وقد اندلعت بعد ذلك الثورة بمناطق أخرى مثل (كانبور) و(جهانسي) و(لكنو).
لكن الثورة باءت بالفشل، حيث استطاع الإنجليز السيطرة على الوضع في (دلهي) بعد 4 أشهر من قيام الثورة، كما عملوا على إخضاع باقي المناطق التي اندلعت فيها الثورة، خاصة وأنها لم تندلع في وقت واحد.
ولعل أهم أسباب الفشل تتمثل في عدم التنظيم وعدم وجود قيادة رشيدة للثورة، والفساد الكبير والخيانة التي استفحلت، فإن قائد الثورة كان مسنًا، ولم تكن له شخصية القائد بل كان محكومًا من الإنجليز كما فر في أواخر ثورة (دلهي) لعله يجد إعذارًا وشفقة منهم، كما لم يكن لقادة الثورة خبرة قبل ذلك، أضف إلى هذا الفقر وعدم التمويل وتواطؤ بعض التجار والقادة مع الإنجليز.
لقد تمكن الإنجليز من قمع الثورة بسبب تهديمهم لحصون الهند من الداخل ببساطة، فلا أبقوا لهم ثقافتهم ولا اعتزازهم بأنفسهم ولا التعليم ولا التماسُك، دفعتهم العواطف التي أُشبِعَت بإراقة أنهار من الدم الإنجليزي، وانهزموا بعدها، ليسومهم العدو سوء العذاب.
خاتمة
لقد وقعت في الفترة التي تناولناها في هذا المقال بتلخيص مركز أحداث مفصلية في تاريخ الهند، بل وتاريخ العالم الإسلامي كله وبخاصة الشرقي منه. بدءًا من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذي أنهى النفوذ البحري والتجاري الإسلامي، مرورًا بالأطماع الإمبريالية الغربية المتنافسة في الهند، وبداية الاستعمار والاستلاب في العصر الحديث، وظهور الشركات عابرة القارات التي استطاعت إخضاع دولة وإمبراطوريات بالاحتكار وإنشاء الجيش بالدسائس شيئًا فشيئًا.
لقد كانت هذه الأحداث درسًا قاسيًا لم نتعلمه بعدُ عن عاقبة الطغيان، وعن نتيجة التنازع وعدم الاجتماع، وعن مآل الاستهانة بالعدو.
إن الإنجليز سيطروا بمكرهم وحيلتهم، لكن ليس بهذا فقط، بل بخيانة الخائنين لبلدانهم وثقافتهم، وبتفرق واختلاف الهنود، الذي تناسَوه حين لم يعُد ينفع التناسي؛ خلال الثورة التي لم يُكتَب لها أن تنجح.
ويبقى هنا أن نذكُر الفارق الجوهري، الذي سجله حتى المحتلون للهند أنفسهم، بين حكم المسلمين واحتلال الغرب، فقد كان الحكام المسلمون في الهند يبتغون في حكمهم مصلحة الشعوب التي يحكمونها ورفاهيتهم وسياسة أمور دينهم ودُنياهم، فيما كان الإنجليز يتعاملون مع أهل البلاد على أنهم (آخر) نهبوا كل خيراته وحاولوا طمس معالم هويته.
المصادر
- المرجع الأساسي لهذا الجزء والجزء السابق: د. عبد المنعم النمر، تاريخ الإسلام في الهند، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، 1981.
- ومن أسباب اختلاف تواريخ الأحداث بين المراجع، أن هناك أحداثًا لها تاريخ ابتداء وتاريخ انتهاء، فوجب التنبيه.
استغرب أنك لم تذكر أي شيء عن الجهود المبذولة لمقاومة البرتغاليين، ربما كان ذلك للاختصار، ولكن أرى من المهم جداً أن تطلع على كتاب عصر الاستكشاف العثماني.
شيء آخر هو الغاية من الكشوف الجغرافية اتعجب بشدة على من يكتب مقالاً كهذا ويخفى عليه الغاية الأساسية من هذه التحركات الواسعة على نطاق الجغرافيا!
أرى أن إعادة الكتابة وتدقيق هذه المرحلة بهذا المجال ستعيد رسم التاريخ مجدداً.
وستغير حركته