المحاضن التربوية وثغور التربية
مما لا شك فيه أن الإسلام قد اعتنى بالتربية اعتناءًا خاصًّا. وكانت دعوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- قائمةً على التزكية لأصحابه، وتعليمهم الكتاب والحكمة. وكان منهج تربيته -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على معايشة دائمة لأصحابه -رضوان الله عليهم-؛ يعرف أخبارهم وما يحتاجونه، وما يتميز به كل فرد عن الآخر.
وكان القرآن منهج تربية للجيل الأول، ولكل الأمة من بعدهم؛ منهجًا كفيلًا بتغيير القلوب وإقناع العقول، وإخراج خير أمة للناس (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). وكان من نتاج هذه التربية تكوُّن الجيل الأول؛ ذلك الجيل الفريد الذي نشر الإسلام شرقًا وغربًا، وأخرج الناس من ظلمات الجهل، ثم لحقته أجيال من المسلمين يتوارثون الإسلام منهجًا عمليًّا في واقع حياتهم.
ولا يزال القرآن -منهج التربية- يخاطب الإنسان، ينذره ويبشره، يوجهه ويذكره؛ فقضيتُهُ الإنسانُ منذ اليوم الأول. وفي زماننا انتشرت “المحاضن التربوية”؛ وهي الأماكن التي تحتضن عملية التربية، وتقوم عليها: دُور تحفيظ القرآن، وتعليم العلم الشرعيّ، والمدارس وغيرها من مظانّ توطين التربية في المسلم.
لكنها تعاني من غياب التربية الإسلامية. فإن مهمة التربية هي أمانة الإسلام التي تتوارثها الأجيال، وإن ثغور التربية لمن أهم ثغور أمتنا، تلك المهمة بحاجة إلى إعداد حقيقي مدروس؛ لينشأ من خلاله الفرد المسلم مسلمًا. ونحتاج في ذلك إلى المربي الماهر، صاحب الخبرة والبصيرة.
وفي هذا المقال سأستعرض جوانب مما تحتاج محاضننا التربوية الالتفات إليه ومراعاته؛ لإخراج أجيال مسلمة متمسكة بعقيدتها.
المحاضن التربوية، والحصانة الفكرية للفرد المسلم
“الحصانة الفكرية” ذلك السد المنيع الذي تحتاجه أمة الإسلام أيَّما احتياج في واقعنا المعاصر، وأمام محاولات زعزعة اليقين، وإطفاء جذوة الإيمان في قلوب المسلمين. وكل ذلك من الحرب الناعمة التي ينتهجها أعداء الله ضد الإسلام والمسلمين. يقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ).
وإن حالة هزيمتنا اليوم وغلبة الأعداء علينا، وانسياق كثير من أبناء المسلمين إلى غير منهج الحق؛ له عدد من الأسباب. من أهمها عدم وجود الحصانة الفكرية لدى أبناء المسلمين، فأصبحوا محلًا قابلًا للغزو الفكري والشبهات.
إن على المسلمين إنْ كانوا يريدون لأمتهم ألَّا تُهزم، وألَّا تنسلخ الأجيال عن عقيدتها، ويصبح دين الله غريبًا فيهم؛ أن يحصنوا عقول أبنائهم أيَّما تحصين، وأن يعلموهم حتى يكونوا على يقين تام بالحق الذي هم عليه، وألَّا يبقى سؤال: لماذا نحن على الحق وغيرنا على الباطل؟ وما أدلة الحق الذي نحن عليه؟ سؤالًا يُطرح في الأذهان دون إجابات مقنعة سائغة.
وفي هذا، يُقيم بعض الأفاضل البرامج التي تبني عقول الأبناء، وترتقي بهم، وتعلمهم التفكير الناقد، وتنمي فيهم حب القراءة والتعرف على مختلف المناهج الفكرية وكيف تشكلت، وأبرز الشبهات عن الإسلام والرد عليها، ثم تعزيز الهوية في قلوبهم، وتعزيز انتمائهم لهذا الدين .
إن مشكلة كثير من أبناء الجيل الصاعد اليوم، تتمثل في تثبيت الهوية، والانتماء، بل في إيجاد الغاية والهمِّ الرِّساليّ. فكثير منهم يعيش حياة العبث واللهو والضياع، لا يحمل قضيةً، فضلًا عن أن يعرف أوضح قضايا الإسلام حوله، فيعيش في محيط بلدته ومجتمعه حياةً ضيقةً لا يدرك فيها عن العالم الإسلامي حوله شيئًا.
فكيف لجيل من المسلمين أن يؤمل فيه أن ينصر أمته، ولم يربَّ ليكون كالفاتحين؟! فمنهج الإسلام منهجُ حركة، يدفع المسلم إلى حمل الحق للعالمين.
ما تحتاج له محاضننا الفكرية
وفي بناء الحصانة الفكرية تحتاج محاضننا لأن تعلم الأبناء أدلة وجود الله تعالى، وأدلة النبوة، ونبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم براهين إعجاز القرآن، وأنه وحي منزَّل من عند الله -تعالى-، في تدرج يُتيقن فيه معرفة الطالب واستيعابه لما طرح. وما أن يدرك المربي وصول الأبناء إلى الحصانة الفردية الذاتية الراسخة، واليقين والاطمئنان إلى الحق، بل التمسك به ومحبته؛ حتى يبدأ الطالب في استكمال تعلم العلم الشرعي، فيحفظ القرآن والأحاديث ويدرس العقيدة والفقه والسيرة، وكل ما لا يسع المسلم جهله. ثم تقرأ الكتب الفكرية وتناقش وتنمى المهارات كل بحسبه.
إن محاضننا التربوية قادرة على استخراج عقول فذة، ونخب نافعة، وجيل صلب العقيدة قوي الشخصية إن أحسنوا صنع برامجهم، وتعلموا من أخطائهم وطوروا من أساليب الجذب والإقناع. فإن المتربي إن وجد ضالته وشعر أن ثَمَّةَ ما سيفيده ويطور من نفسه وشخصيته، وأحب المحضن؛ فإنه لا بد سيكمل فيه راغبًا، ويتمسك به، بل لربما فضله على المدرسة والأصحاب وغيره.
وعلى محاضننا أن تعمل على تشكيل الهوية والعاطفة في نفوس الأبناء، وألَّا تكتفي بالبرهنة العقلية، فإن الإنسان قد يقع في شبهة فكرية، إلا أنه لا يستسلم لها لِمَا يجد في قلبه من عاطفة لدينه وأمته وتاريخه لا ينفك عنها؛ فتكون وقايةً له من الانحراف وسبيلًا له للثبات.
ولا بد من حرص المحضن على إجابة سؤالات الواقع، وتبصرة الطالب بها فيعرف ما معركة الإسلام في واقعه المعاصر، مَن أعدائه ومن أصدقائه؟ بما لا يدع مجالًا للتخبط والضياع.
المحاضن التربوية، والجانب النفسي للمتربين
ولا بد للمحاضن من الالتفات إلى الجانب النفسي والسَّويَّة النفسية للفرد المسلم؛ فعملية التربية عملية متكاملة تراعي كل جوانب الإنسان، فيكون من أهداف المحضن صقل الشخصية وتعزيز الثقة بالنفس وتعلم مهارات الحياة المختلفة، وتعليم مهارات التفكير الصحيح لأجل بناء المَنَعَة النفسية في مواجهة الأزمات والضغوطات.
كما أن التربية الإيمانية كفيلة بحماية المسلم وحفظ فطرته وسويته النفسية التي خلقه الله عليها؛ فإنْ عرف مراد الله منه واستجاب لأمر الله، واطمئن لمنهج الحق، وعرف سبب وجوده، ومآل الدنيا؛ اعتصم بالله، فجعل تعلقه به، وخشيته منه، ورجاءَه فيه وحده، وحُفظ من السقوط في وحل الأزمات النفسية.
وفي هذا لا بد للمحضن من العمل على توعية الآباء وأولياء الأمور؛ فالتربية في المحضن لا تقوم وحدها، وجهد المحضن لا يكون وحده، فعمل المحضن على نشر الوعي، والتعاون بين الآباء والمربين أمر لازم وضروري، كما أن على المحضن أن يعد المربين ويؤهلهم ويتابعهم بين الفينة والأخرى. ولا يعمل في هذه المهنة إلا مَن لديه ما يؤهله من دراسة واطلاع، فدراسة الجانب النفسي للمراحل العُمرية وخصائصها النفسية، وامتلاك المربي المهارةَ في التعامل مع الفئة المسؤول عنها من الضرورات اللازمة.
المحاضن التربوية ومواجهة النسوية
وتحتاج محاضننا التربوية النسائية للالتفات إلى ما يواجه النساء في الواقع، وما يَعرِض لهُن من فكر نسوي يحمل شعارات تنادي بتمكين المرأة وحل مشكلاتها، ويقيم في ذلك الندوات والمؤتمرات في سعي حثيث لاستقطاب النساء بمختلف الأعمار، وتنساق الكثيرات خلف تلك الشعارات البرَّاقة دون إدراك حقيقي لهذا الفكر.
وأمام هذا السعي الحثيث، كان لا بد للمحاضن النسائية أن تملك برنامجًا موازيًا أو متفوقًا في خطابه وأن تسعى في استقطاب الأعمار ببرامج مُعدَّة، وألَّا تكون المحاضن النسائية هامشية التأثير في صد محاولات التغريب.
وبدلًا من إغفال المشكلات التي تواجه المرأة المسلمة؛ فإن على هذه المحاضن أن تكون حصنًا في مواجهة الفكر النسوي الهادم للأسرة والمجتمع. فإن كثيرًا من محاضننا التربوية المعاصرة تغفل عمَّا يدور في المجتمع والإعلام والعالم من موجات فكرية تتصاعد يومًا بعد يوم، وتجد صداها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ولمَّا كانت هذه المحاضن في بعد عن الواقع والتعامل معه والتفاعل مع مجرياته، والتخطيط لما يخدم الإسلام والمسلمين ويخدم المرأة، أصبح دورها هامشيًّا جدًّا، وتأثيرُها غائبًا تمامًا في واقع تسعى فيه المؤسسات الغربية إلى إقناع المرأة بتكفلها لحقوقها والسعي في طرح الحلول لأبرز قضاياها.
محاضننا التربوية ومشكلة العشوائية
تعيش كثير من محاضننا التربوية حالةً من الجمود والتراجع أمام تحديات واقعنا المعاصر، وحالةً من العشوائية في الطرح لا تصلح مع الانفتاح الكبيرعلى عالم الأفكار، ويعاني كثير منها غياب الأهداف الكبرى، ووضع الغايات واستشراف المستقبل والعمل على التصدي للهجمات الفكرية على عقول أبناء المسلمين. ويغيب عنها تقييم المخرجات وتقييم العملية التربوية في مراجعة مستمرة لما يطرحه المحضن التربوي؛ فتجعل الوسيلة غايةً، وتصل الرسالة إلى الطالب فتضيع البوصلة.
وغياب فكرة التربية الإسلامية في المحاضن هو من أشد التراجع الموجود في واقعنا المعاصر، فهي رسالة هذا الدين وهي ضرورة لا يجدها الطفل المسلم في المدرسة، كما قد لا يجدها في البيت، ولا في الشارع. فصار المحضن هو الملاذ والحصن المنشود له.
محاضننا التربوية، وتهميش المركزيات
ويغلب على كثير من المحاضن الحرص على تحفيظ المنتسب كتاب الله -تعالى-، وترديد آياته وتحسين تلاوته. وهو أمر حسن، إلا أن مُدارسة ما جاء به القرآن من عقيدة ومعانٍ ورسالة كلية للإنسان تعيد بناء منظومة قيمه، وسلوكه، ونظره للكون من حوله هو أمر غائب عنها. فيصبح الحفظ من أجل الحفظ غايةً يكرم الطالب عليها في نهاية الدورة، وتحصر الطاقات والمواهب في عملية الاستذكار وحدها؛ مما يحجم المواهب والاستفادة من أبناء المسلمين على ما جبلوا عليه من طاقات.
رُوي عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّّه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا. أخرجه “ابن ماجه”.
وفي هذا الحديثِ يَقولُ جُنُدبُ بنُ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: “كُنَّا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ونحن فِتيانٌ حَزَاوِرَةٌ” جمْعُ حَزْوَرٍ، والحَزْورُ: الغلامُ إذا اشتَدَّ وقوِيَ وخدَمَ، وقاربَ البُلوغَ، “فتعلَّمْنا الإيمانَ قبْلَ القُرآنِ”، أي: أنَّهم تعلَّموا أساسياتِ العقيدةِ الصَّحيحةِ، وهي أركانُ الإيمانِ الحقِّ؛ وهي: الإيمانُ باللهِ، وملائكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، والإيمانِ بالقَدَ رِ خَيرِه وشرِّه. وتَعلَّموه وهم صِغارٌ، “ثمَّ تعلَّمْنا القُرآنَ فازْدَدْنا به إيمانًا”، والمعنى: أنَّهم لمَّا تَلُوا وقرَؤوا كِتابَ اللهِ وتدارَسُوه فيما بينهم، ازدادَ إيمانُهم، وقوِيَت عقيدتُهم. وهذا معنى قولِه عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَ انًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2).
وفي رِوايةٍ: “وإنَّكم اليومَ تَعلَّمونَ القُرآنَ قبلَ الإيمانِ”. وقد لخَّص هذا الحال “ابن عمر” -رضي الله عنه- لمَّا قال: “لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ. ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلا زَاجِرُهُ، وَلا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ (الرديءُ من التمر)”. رواه الحاكم في “المستدرك”.