ماذا خسرت الطبيعة بانحطاط المسلمين؟
استيقظ العالم عام 2004 على كارثة تسونامي والبحر يبلع اليابسة في لحظات معدودة في جزيرة سومطرة الأندونيسية، في عام 2005 حدث إعصار مدمر في المحيط الأطلسي وكان من الدرجة الخامسة وهو أعلى درجة معروفة ضرب خليج المكسيك في الولايات المتحدة الأمريكية وهو إعصار كاترينا.
لماذا يعاني العالم من تزايد أعداد الكوارث الطبيعية؟ الأمر ليس مقتصرًا على منطقة بعينها في العالم دون الأخرى بل يعاني جميع أنحاء العالم، تارة فيضانات تغمر البيوت والمزروعات وتارة أخرى نشاهد الأعاصير المدمرة التي تأتي على الأخضر واليابس.
أصبح من الملاحظ لنا جميعًا ما حذّر منه العلماء من ارتفاع درجة حرارة الأرض والاحتباس الحراري وما يصاحبه من ذوبان الجليد وظاهرة التصحر وجفاف المياه وما يصحب كل ذلك من كوارث تهدد العالم وبالتالي يتوقع أن الحروب القادمة هي حروب على الماء.
ماذا يحدث في أرضنا التي استعمرنا الله فيها؟ ليس للإنسان موطن آخر غير الأرض وقد هيئها الله تعالى له وسخر كل عوامل الحياة من ماء عذب وهواء نقي وخيرات في باطن الأرض وغيرها الكثير.
السؤال الآن ماذا حل في المئة سنة الأخيرة؟ مع الثورة الصناعية وسوء استغلال الإنسان لما سخره الله له في الأرض مما أدى إلى ما نعانيه من فساد في الأرض من تلوث عناصر الحياة الأساسية من ماء وهواء وغذاء.
إلى متى سوف تتحمل الأرض ما أحدثه الإنسان من إفساد فيها مع أنها خلقت مذللة له ليعمرها ويستثمر فيها كما أمرنا الله تعالى لا لإفسادها؟ هل حان الوقت لإصلاح ما أفسده الإنسان؟ وما هو دور المسلمين في إنقاذ الأرض بعد أن ظهر فيها كل هذا الفساد؟ وما كان دور الحضارة الإسلامية في الحفاظ على الأرض من الفساد؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في مقالنا عند الإبحار فيه ومعرفة علاقة المسلم بالأرض ودوره فيها وكيفية تدارك هذا الأمر قبل فوات الأوان.
الإسلام والبيئة
لم يترك الله عز وجل شيئًا من أمور الدين أو الدنيا إلا وضحها وعرفها لنا في كتابه العزيز لتصلح بها حياتنا الدنيا وآخرتنا ونحو حياة طيبة. قد كان رسولنا الكريم أسوة لنا في كل مناحي الحياة وسيرته زاخرة بالكثير من الأحاديث ما يبين أهمية الكون للمسلم وعلاقة المسلم به وكيفية المحافظة عليه وكيفية إعمار الأرض واستثمارها.
قد كان تاريخ الحضارة الإسلامية دليل على حسن استعمال المسلمين لمصادر الطبيعة المحيطة سواء بالاستثمار أو الحماية، كما كانت قضية الطبيعة في التشريع الإسلامي قفزة وثورة على ما قبلها من أفكار الحضارات والأمم الأخرى، كما كانت أيضًا دليل على ما حدث بعدها حين ضعف المسلمون وتركوا المنهج الرباني فاستعلى غيرهم من الأمم مُحدثِين ما نعانيه من فساد في الأرض كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
هذه الآية أوضحت بإيجاز ما حدث من تلوث سببها وكيفية علاج المشكلة. منذ البداية خلق الله الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وسخر له كل ما فيها ليقوم بأعمارها، قال الله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، عمارة الأرض عبودية لله تعالى، فلم يتفوق آدم عليه السلام بكثرة ذكر أو تسبيح ولا بقوة خارقة على الملائكة أو على باقي الكائنات التي خلقها الله -عز وجل- إنما تفوق عليهم بالعلم الذي يساعده على التعمير والبناء والإنماء ولذلك استحق بهذا أن يكون خليفة الله في الأرض. ثم جاءت تشريعات الإسلام لتكمل طريق الإعمار دون إفساد.
نظرة المسلم للكون الفسيح أنه من صنع الخالق البارئ وأن كل ما في السموات والأرض ملك لله عز وجل وحده، لذلك علاقة المسلم بالطبيعة هي علاقة صداقة، هو مؤتمن عليها. كل ما في الكون يسبح لله تعالى فبهذه الرؤية يصبح الكون صديقًا أنيسًا للمسلم يتجهان معًا لطاعة الله.
عرفتنا آيات القرآن أن الكائنات الأخرى في هذا الكون أمم أمثالنا:
(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فعلاقة الإنسان المسلم بما حوله من الكائنات في هذا الكون الفسيح علاقة مودة وحب.
خلق الله تعالى كل ما في الكون بقدرٍ، عالم النبات موزون وكذلك عالم الحيوان خلقه الله تعالى وأبدعه ثم قدَّر لكل نوع طرق معيشته وسبل رزقه. كذلك من رؤية الإسلام لهذا الكون أنه مسخر لخدمة الإنسان فعالم الحيوان مسخر وعالم النبات مسخر: (هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وعالم البحار أيضًا مسخر: (وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا۟ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا۟ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
كل هذه العوالم من المخلوقات سخرها الله تعالى للإنسان لخدمته ومنفعته ليس كما يصورها الغربيون على أنها عدو للإنسان يريد أن يقهره (قهر الطبيعة)، القاعدة الإسلامية والمنهج العام هو (لا ضرر ولا ضرار).
تسخير الكون للإنسان من أعظم النعم التي نادرًا ما يشعر بها أحد أو يشكرها فتخيل معي لتستشعر هذه النعمة العظيمة لو أن هذا الكون غير مسخر لنا حينها تجد السماء تمطر حينا وحينا تنزل الصواعق والشهب كيفما تشاء أو ألا تكون الأرض مهادًا فكيف سوف نسير عليها أو نستخرج ما في باطنها من خيرات، أو كيف يكون الحال لو تمردت الحيوانات من خيول وأنعام وغيرها من السفن والطائرات ولم تسمح للإنسان أن يستعملها، كيف يكون الحال! فما أعظمها من نعمة!
الأرض سخرها الله للإنسان وهيأها لتكون مستقر الإنسان لوقت محدد لا يعلمه إلا الله -عز وجل- يقوم فيها الإنسان بإقامة أحكام الله وتنفيذ وصاياه كما أنزلها في الكتب السماوية وعلمنا إياها رسل الله -عز وجل-، خلافة الإنسان في الأرض تجعله وصيًا لا مالكًا، أمينًا ومحافظًا عليها فمعنى الوصاية على الشيء يستلزم الرعاية والحماية وينافي معنى التملك والحرية المطلقة في التصرف. استخلاف الإنسان في الأرض يجعله مؤتمنًا على الطبيعة ومواردها.
من منطلق أن الأرض ملك لله وأن الإنسان مؤتمن عليها وأن سلوكه نحوها خاضع لشرع الله ومنهجه، عند ذلك يسعى الإنسان في إعمار الأرض فيستمتع بما خلقه الله من جمال في الطبيعة، الأشجار والجبال والبحار والأنهار والطيور كلها ليست مسخرة للحصول على الفوائد المباشرة من غذاء وانتقال وغيرها من منافع للإنسان؛ بل هي بهجة للإنسان يستمتع بها وينظر إلى الطبيعة المحيطة بها.
الطبيعة ستظل الدليل الناطق والكتاب المنظور على وجود الخالق تبارك وتعالى أحسن الخالقين ودليل على روعة صنعه وطلاقة قدرته فنحن مأمورون بالسير في الأرض والتأمل والتفكر فيها فنزداد إيمانًا ويقينًا وتكون عونًا لنا لنتصبر بها على الدنيا ونتيقن مما ينتظرنا من نعيم الآخرة مما لا عين رأت.
الكون أيضًا كان معلمًا للإنسان، فقد تعلم الإنسان مما حوله من الكائنات الحية عبر التاريخ، كما ذكر الله تعالى في كتابه عن أول قصة للبشرية مع ابني آدم والغراب، لو تأملنا كيف أن الغراب كان معلمًا لابن آدم حين قتل أخاه فلم يدر كيف يصنع، فتعلم منه كيف يواري جثمان أخيه: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).
أيضًا في سورة النمل حكى الله تعالى لنا عن نملة وقفت ناصحة لقومها في قصة سيدنا سليمان، وكيف كانت حكمتها لحماية قومها، وغيرها من القصص القرآني. التعامل الإسلامي مع الطبيعة تميز بحمايتها من الفساد وفي ذات الوقت استثمارها والانتفاع لينعم بها، وهذا هو التوازن في المنهج الرباني الذي افتقدته السياسات الحالية من المناهج الأخرى غير الإسلامية في تعاملها مع الطبيعة، إذ تعاملوا مع الطبيعة من جانب واحد فقط هو الانتفاع دون مراعاة جانب الاستنزاف والإفساد.
لم ينظروا لمستقبل الأجيال القادمة ماذا سوف يتركون لها، أما المنهج الإسلامي المتوازن فحافظ على الطبيعة لقرون عديدة فكانت الحضارة الإسلامية تسير مع الطبيعة في تناغم واحد وتركت إرثًا نافعًا لمن أتوا بعدهم من الأجيال، فما هو المنهج الإسلامي الصحيح في التعامل مع الطبيعة.
المنهج الإسلامي في الحفاظ على موارد الطبيعة
موارد الطبيعة الأساسية (الماء والهواء والنبات والحيوان) سوف نتحدث عن تعامل المنهج الإسلامي مع هذه الموارد بمزيد من التفصيل حتى نستطيع تحقيق هذا التوازن في حاضرنا.
أولًا: الماء
قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أهم عناصر الطبيعة هو الماء فكل دابة خلقها الله في الأرض هي من الماء، فهذا السائل العجيب ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولكنه من ضروريات حياة الإنسان، بدون الماء تموت الأرض وما عليها من كائنات. من أهمية الماء أن قد ورد ذكره في القرآن ثلاثًا وستين مرة.
ارتبطت حياة المسلم كلها بالماء ففي الشريعة من أول الفرائض الصلاة التي لا تصح إلا بالطهارة من النجاسات والأقذار والتي يتم إزالتها بالماء، فكيف يتم هذا لو أن الماء غير طاهر؟ لذلك حث المنهج الإسلامي على الحفاظ على مصادر الماء من الملوثات أيضًا من باب الحفاظ على نعمة الماء، وقد حثنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- على عدم التبذير في استخدام الماء، حتى لو كان للوضوء.
روى الإمام أحمد (6768) وابن ماجة (419) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: `أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ).
بعد بيان أهمية الماء وضرورته للبشرية وكيفية المحافظة عليه كان من المنهج الرباني المتوازن أن يحثنا على تنمية الموارد المائية مثل حفر الآبار والأنهار وربطها بالثواب الجزيل الذي يؤجر عليه العبد بعد موته حتى يكون حافزًا لنفوس الناس على الاستثمار فيه والمحافظة عليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراوي: أنس بن مالك:
سبعٌ تجري للعبدِ بعد موتِه، وهو في قبرِه: من علَّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرَس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو نهرًا أكراه، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موتِه.
ثانيًا: الأرض
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الأرض هي موطننا التي هيأها الله وسخرها لنا فمنها خلقنا وإليها نعود. وصف القرآن الأرض بالعديد من المسميات منها فراشًا ومهادًا وذلولًا وغيرها حتى ذكر لفظ الأرض في القرآن الكريم أربعة وثلاثين مرة، كل هذا دليل على أهمية الأرض في نفس المسلم، وخلق علاقة استمتاع من قبل المسلم بالأرض، كل ما فيها خلقه الله من أجل الإنسان فما أعظمها من نعمه.
عندما أمرنا لنسير في الأرض ونرى ما تحويه من آثار الأقوام السابقة وتجاربهم مع الأرض كما قص علينا الله تعالى بما امتن به على قوم سيدنا صالح أن جعل الأرض بيئتهم في الآية (74) من سورة الأعراف (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
أظهرت السنة صفة جديدة خاصة بأمة الإسلام هي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الأرض جعلت له مسجدًا وطهورًا من هذا المنطلق حافظ المسلمون على الأرض وطهارتها من القاذورات أو أي تلوث فهي خصيصة لأمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بل أيضًا مسئولية أمام الله سوف نحاسب عليها.
كان الاستثمار في الأرض في المنهج الإسلامي تحت مسمى (إحياء الموات) أو بالتعبير الحديث (تعمير الأرض) وهذا مقتبس من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من أحيا أرضًا ميتة فهي له”، معنى إحياء الأرض هو تحويلها من كونها أرض لا يُنتفع بها إلى أرض يُنتفع بها بكل وجه الانتفاع حسب طبيعة الأرض وما ينفع الناس وتصلح به حياتهم كالمزارع إذا كانت الأرض صالحة للزراعة أو بإقامة المصانع فهي كالمزارع مطلوبة لحياة الإنسان، كما قال القزويني وهو من علماء القرن السابع الهجري في كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد) أن للأرض أنواع منها “حجرًا صلدًا” ومنها “طين” يصلح للزراعة ومنها أرض رملية والانتفاع بها حسب طبيعتها.
ففي عهد عمر ابن الخطاب -رضى الله عنه- كما قال: “ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق” ما معناه أن من يضع حول أرض سورًا أو بناء ليوحي أنه يتملكها لاستثمارها له الحق في ثلاث سنوات للاستعداد لتهيئة الأرض لتعميرها فإن لم ليعمرها تؤخذ منه وتدفع لآخر ينتفع بها ويقوم على إحيائها، بهذا المنطلق الإسلامي يتحرك الناس لتعمير الأرض بما يعود بالنفع على المجتمع كله وعلى الشخص بحظ من الدنيا بالانتفاع والغنى دون انتظار لخطط الدولة فكانت الحضارة الإسلامية أسرع الحضارات انتشارًا وعمرانًا في الأرض.
ثالثًا: النبات
النبات نعمة عظيمة من الله تعالى امتن بها على عباده فتبارك الله الذي أوجد النبات على اختلاف وتعدد أنواعه، النبات نفع للمسلمين فيه الغذاء لأبداننا ودوابنا وفيه البهجة والاستمتاع لأنظارنا، لذلك حثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الغرس المستمر، حتى لو أُزفت القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إن قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةً، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها)
هذا وإن دل فيه حث على الغرس والتشجير لما فيه نفع الإنسان، في عصرنا الحديث ظهرت الكثير من الدعوات للحث على التشجير لما ثبت من أهمية المساحات الخضراء، بعض المدن الصناعية تقوم بعمل ما يسمى بالحزام الأخضر للتخلص من الملوثات وزيادة إنتاج الأكسجين حماية لصحة الانسان وحفاظًا على البيئة.
لاحظنا كيف كان المنهج الرباني وما يتمتع به من توازن عند التعامل مع الطبيعة وما يزرع في نفس المسلم من مسؤولية مؤتمن عليها ودور مهم للحفاظ على الطبيعة، واستثمارها، بجانب الانتفاع والتمتع بها.
نستعرض أهم مشاكل البيئة في عصرنا الحالي وما هي طرق إعمار الارض والحفاظ عليها حتى نحيا فيها ونعمرها كما أمرنا ونترك للأجيال القادمة ما ينتفعون به أيضًا.
تلوث الطبيعة
لم يكن القزويني يخطر بباله وهو يتأمل في عجيب صنع الله في الكون عندما ألف كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد) أن الأرض في يوم ما سوف تشتكي من الفساد حتى أصبحت في بعض المناطق غير صالحة للحياة وأصبحت خرابًا. لا يخفى على أحد من البشر اليوم ما يعانيه العالم من آثار ما صنعته البشرية من أخطاء في حق الطبيعة حتى أصبح الخطر يؤثر على حياة الإنسان ذاته.
منذ الثورة الصناعية في أوروبا أصبح التعامل مع الطبيعة قائمًا على الاستنزاف والاستغلال للأرض وما فيها لتحقيق أكبر كسب مادي بلا أخلاق الإسلام ولا استثمار في الطبيعة، بل هو السعار الصناعي، ظهر الفساد والتلوث في جميع مكونات الحياة.
أولًا: تلوث الهواء
لم تظهر نتيجة تلوث الهواء بين ليلة وضحاها، بل هذا من الآثار السلبية للتقدم الصناعي والعلمي. التوازن الطبيعي الذي خلقه الله تعالى في الهواء يتميز بوجود ثلاث عناصر أساسية الأكسجين والنيتروجين وثاني أكسيد الكربون وهذا التوازن في عناصر الهواء ذات فائدة على حياة الكائنات الحية إذا اختل هذا التوازن ظهرت المشكلات، الأكسجين ضروري لجميع العمليات الحيوية في أجسامنا، أما النيتروجين ضروري لثبات الضغط الجوي، وكذلك النسبة الضئيلة لثاني أكسيد الكربون في الهواء ذات أهمية، ولكن لو زادت هذه النسبة سببت الأضرار للإنسان والنبات والحيوان ناهيك عن مشكلة ثقب الأوزون، الذي يزيد يومًا بعد يوم، طبقة غاز الأوزون تحمي كوكبنا من الأشعة فوق البنفسجية الضارة من الوصول من الشمس إلى الأرض فلا يصل منها إلا نسبة ضئيلة تساعد في القضاء على الميكروبات، لكن هذه النسبة التي أحكمها وقدرها الله تعالى لا تضر بالكائنات الحية التي تحيا على سطح الأرض، إضافة إلى أن زيادة الأشعة فوق البنفسجية لها أضرار على الجهاز التنفسي للإنسان والأغشية المخاطية للعين.
مشكلة تلوث الهواء ظهرت منذ استخدام الفحم كوقود ثم تفاقمت المشكلة بعد اكتشاف البترول وما يصدر من مصانع تكرير البترول من غازات ضارة تلوث الهواء واستخدام الفحم والبترول كوقود للمركبات والمصانع وتدفئة كل هذا سبب زيادة هائلة في الغازات السامة.
ظهرت نتيجة هذه السموم على صحة الإنسان مثل ظهور الربو والالتهاب الرئوي وسرطان الرئة وأمراض لم يكن يعاني منها أسلافنا. كما حدث الاحتباس الحراري -وهو أكثر ما يحذر منه العلماء- نتيجة زيادة ثاني أكسيد الكربون من الأنشطة البشرية وهو من الغازات الدفيئة التي لها قدرة على الاحتفاظ بالحرارة، سبّب احتباس الحرارة في الأرض وبالتالي ظهور الآثار المدمرة للاحتباس الحراري ارتفاعَ درجة حرارة جو الأرض، وبالتالي ما يخشى منه العلماء من انصهار الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي وضياع آلاف الأمتار المكعبة من المياه العذبة في البحار مما يؤدي لارتفاع مستوى سطح الأرض وبدوره سوف يسبب غرق المدن الساحلية وحدوث اختلال في التوازن الطبيعي للبيئة ونفوق العديد من الحيوانات البحرية والتي كانت تعيش في الجليد، بجانب زيادة نسبة هطول الأمطار مما يسبب الفيضانات وغرق المزارع وبالتالي خسائر في المواشي كل هذا يسبب ضررًا بالغًا للإنسان لا يمكن تداركه وإصلاحه.
أيضًا من نتائج هذه الغازات ظهور ما يعرف بالأمطار الحمضية بسبب زيادة نسبة أكسيد النيتروجين في الجو الناتج عن احتراق السولار والجازولين في محركات السيارات، هذه الأمطار تسبب أضرار بالغة للتربة وخسارة المزروعات وزيادة هذا الغاز أيضًا هو ما سبب ما نشاهده من ضباب فوق المدن المزدحمة.
ناهيك عن مادة الرصاص التي تتراكم على المحاصيل الزراعية خاصة المزارع المتواجدة على الطرق وتلوث طعام الإنسان له تأثير بالغ على صحة الانسان خاصة الأطفال فيسبب الفشل الكلوي والتأثير على ذكاء وقدرات الاطفال.
ثانيًا: تلوث الماء
أوضحنا فيما سبق أهمية الماء في المنهج الإسلامي فالماء يمثل أهم عناصر الحياة وهو يمثل 80% من سطح الأرض، لكن مع الثورة الصناعية تلوثت المياه العذبة والمالحة كما حدث مع الهواء من تلوث.
مصادر تلوث الماء العذبة متعددة منها المبيدات والأسمدة الكيميائية التي تتسرب من مسام الأرض إلى المياه الجوفية ومياه الأنهار حيث تحتوي هذه المبيدات على الفوسفات التي تسبب تسمم الحيوانات ونفوق الأسماك وتسبب تسمم الدم والأورام السرطانية، أما الماء العذب في مخلفات المصانع التي تلقي فيه وما بها من مركبات مثل الرصاص والزئبق شديدة السمية للكائنات البحرية والإنسان كما ظهر في حادث في خليج ماتا في اليابان عندما تسمم الصيادون نتيجة أكل الأسماك الملوثة بالزئبق عام 1953.
أيضًا حوادث تسرب أثناء الحفر أو غرق ناقلات النفط مما يسبب تسرب الزيت فوق مياه البحر ونفوق كميات هائلة من الكائنات البحرية والطيور كما في حادث رأس كود الأمريكية عام 1976 عندما غرقت ناقلة في مياه البحر وتسرب منها الزيت.
من الملوثات الخطيرة والجريمة في حق البشرية التخلص من النفايات النووية في أعماق المحيطات فقد دأبت الدول الأوروبية على دفن ما يقرب من 40 ألف طن من النفايات في المحيط الأطلنطي ما بين عام 1976-1982، منذ عام 1949 ألقي في المحيطات أكثر من 6 آلاف أسطوانة محتوية على نفايات نووي وتم دفن 6 ملايين طن في 11 دولة آسيوية خلال أربع سنوات فقط والأسوأ أن الموزمبيق وأفريقيا الوسطى تشكل نسبة 33% من مساحة دفن النفايات، يعاني 39% من أطفال موزمبيق بالإيدز و 3% من الأطفال أيضًا مصابون بسرطان الدم فقط بسبب دفن النفايات المشعة وأكثر من 30% من النفايات تدفن بطرق غير شرعية وغير آمنة.
تعد الولايات المتحدة الأمريكية هي المنتج الأول للنفايات النووية حيث تنتج وحدها 7 ملايين طن سنويًا أما الدول الصناعية الأوروبية تنتج 5 ملايين طن سنويًا. وصل عدد المفاعلات النووية في العالم نحو 440 مفاعل نووي عام 2012، ينتج المفاعل الواحد 30 طن من المواد المشعة وهي ذات أضرار بالغة على الإنسان من نقص المناعة وسرطان للدم كما أظهرت الدراسات على أطفال موزمبيق.
وقد كشف وزير الصحة الفلسطيني في عام 2005 أن سلطات الاحتلال الصهيوني قامت بدفن 80 طنًا من نفاياتها النووية المشعة على بعد 300 متر من مدينة نابلس الفلسطينية.
ثالثًا: الدمار البيئي من الحروب
لا يخفي على عربي ما يحدث من حوله من استهداف البلاد الإسلامية بالحروب واستنزاف خيرات البلاد وما تعانيه هذه البلاد من دمار بشري واقتصادي وما تخلفه الحروب من دمار بيئي يحتاج إلى قرون لتطهير البيئة من مخلفات الحروب، على سبيل المثال ما تعانيه فلسطين خاصة قطاع غزة من وحشية الكيان الصهيوني فقد استخدم الكيان خلال حربها البربرية على القطاع مادة الفسفور الأبيض وهي مادة محرمة دوليًا في القانون الدولي. فالفسفور الأبيض من المواد شديدة السمية التي تسمم التربة والماء والهواء ويعتبر من أقوى المبيدات الحشرية.
الحرب الأمريكية على العراق التي بدأت سنة 2003 وأطلق فيها الأمريكان أعدادًا هائلة من الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل من قذائف اليورانيوم، كل هذه الأسلحة كفيلة بتلوث البيئة كيميائيًا وإشعاعيًا وسوف يستمر هذا التلوث للأسف لعقود حتى تتمكن البيئة من التخلص من هذه المواد.
ما هي الجهود والتحركات العالمية لإنقاذ البيئة؟
هناك العديد من المنظمات المعنية بالبيئة والحفاظ عليها من أشهرها (منظمة الأمم المتحدة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة)، يقوم هذا البرنامج برصد الأنشطة البيئية والإنذار المبكر لمخاطر الأنشطة المضرة للبيئة، وتشجيع النشاط البيئي حول العالم، كما يقوم بزيادة الوعي المجتمعي بالقضايا البيئية.
من الجهود العالمية للمحافظة على البيئة هي استخدام الطاقة البديلة بدلًا من الوقود الحفري الذي يسبب التلوث الشديد للبيئة، بإنتاج الطاقة من العديد من الموارد الطبيعية، وهي طاقة نظيفة صديقة للبيئة لا تسبب أي أضرار بيئية، مثل الطاقة الشمسية باستخدام ألواح الطاقة الشمسية على مساحات كبيرة، وهذه الطاقة ذات جدوى خصوصًا في البلدان الحارة، وإنتاج الكهرباء من خلال إحراق النفايات المنزلية حيث تستغل الحرارة الناتجة عن عملية الإحراق لتسخين أو تبريد الماء، بينما يستعمل الرماد الناتج كمواد بناء، وهناك العديد من الدول تطبق هذه الطريقة مثل هولندا وإيطاليا حيث يتم التخلص من آلاف الأطنان من النفايات المنزلية بطريقة صديقة للبيئة.
من الأسباب والخطوات المهمة لحماية البيئة زيادة الرقعة الخضراء وتحريم وتجريم قطع الأشجار، خصوصًا ما يتم استغلاله في مناطق الغابات من إزالة مساحات شاسعة من أشجار الغابات بغرض البناء والتعمير، إن السعي العالمي الآن يتجه نحو إحياء النظم الطبيعية والإكثار من المحميات الطبيعية لاسيما الاهتمام بإحياء غابات المناطق الاستوائية المطيرة لما لها من فوائد مهمة في تحسين التربة وخواصها والحماية من التصحر.
للعالم الإسلامي دور عظيم في المحافظة على البيئة بإحياء مبدأ أن أمة الإسلام أمة واحدة، مشكلاتنا واحدة وجميعنا نواجه هذه التحديات ولابد من الوحدة وتضافر الجهود ونشر الوعي بالمنهج الإسلامي الرباني السابق ذكره للمحافظة على البيئة بجميع عناصرها، ولابد من تضافر جهود جميع الدول الإسلامية لحماية ثرواتها الطبيعية، والخروج من شبكة الاستغلال لمواردها الطبيعية التي نسجتها أيدي المحتلين دون مراعاة لأي من مبادئ الإنسانية.
ولقد نجحت العديد من الدول من استثمار مواردها بالطريقة الصحيحة والاستفادة من أفكار العلماء لاستثمار الموارد الطبيعية دون إهدار لهذه الموارد، أو تلوثها، والأمثلة كثيرة على هذه المشاريع ولابد أن ننظر للمستقبل وأن نترك للأجيال القادمة بيئة صالحة يحيون فيها كما تركها لنا أجدادنا حتى تستمر الحياة على كوكبنا ومستقرنا الأرض.