حتميَّة الإيمان بالرسول واتباع السنة والبعد عن البدعة
وها قد شهدنا في أيَّامنا هذه دعاوى خبيثة تريد أنْ تنال من الإسلام ومن أُمَّته في صُلب عقيدتها الأصيلة وهي رُكن الشهادة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”. فيُقال -كُليًّا- إنَّ غير المُسلمين مؤمنون رغم عدم إيمانهم بمُحمَّد، ويُقال إنَّ السنة ليست مصدرًا من مصادر التشريع، أو لنطرحْ الأحاديث جانبًا ونكتفي بالقرآن وحده، وغيرها من آراء جُزئيَّة تدور في هذا الفَلَك. ولا يعتقدْ أحدٌ أنَّ هذه الدعاوى حديثة العهد بل هي قديمة قِدَم الرسالة وكلّ رسالة؛ فدومًا كان هناك المُكذِّبون والمُعاندون والمُكابرون، سواء في قبول الرسالة كُليًّا أو رفضها، أو في قبول جُزئيَّاتها أو رفضها. وقد حدث هذا الأمر مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ومع مَن قبله من رسُل.
ولأنَّ فعل التكذيب أو الإنكار أو الردّ أو الضلال الذي يدخل على أهل المِلَّة فعلٌ تكرَّر، ولأنَّ الرسالة المُحمَّديَّة رسالة الله الخاتمة اهتمَّتْ مصادر الإسلام بهذه القضيَّة اهتمامًا بالغًا، وأغلقت كلَّ باب بحسم في وجه تلك الدعاوى. وعلى هذا أفرد الإمام النووي -رحمه الله- في كتابه “رياض الصالحين” عدَّة أبواب في هذا الشأن، منها بابان مقصودانِ هنا: “باب في الأمر بالمُحافظة على السنة وآدابها” و”باب في وجوب الانقياد لحُكم الله، وما يقوله من دعا إلى ذلك، وأُمِرَ بمعروف أو نُهِيَ عن مُنكَر”.
هل كان الإمام النووي يردُّ على البدعة نفسها؟
ولنلحظْ أنَّ باب “المحافظة على السنة” لا تعني إدراج أحاديث تتحدَّث عن “النوافل”، فالإمام لا يقصد مُصطلح “السنة” في مُقابل مُصطلح “الفرض” أو “الواجب”، بل إنَّه عقد الباب ليأتي بالأدلَّة التي تثبت أنَّ ما جاء في السنة له الحُجِيَّة، وأنَّه دليل شرعيّ صحيح، وأنَّ له الأثر نفسه الذي نجده عند السامع لكلمة “تشريع” أو “شرع”.
وكذلك نلحظ أنَّه أفرده بالباب الآخر الذي اسمه “الانقياد لحُكم الله”، وأوَّله آية تدلُّ على طاعة الرسول فيما أتى به. ومن كُلٍّ نخلص إلى أنَّ الإمام النووي هنا كان يناقش القضيَّة نفسَها التي تُطرح في يومنا هذا، ويردُّ على البدعة نفسها. وكذلك نلحظ أنَّ الإمام قد ردَّ ردًّا يُسمَّى تأصيليًّا؛ أيْ أنَّه اعتمد على العودة إلى إثبات أصل المسألة من أكبر الأدلَّة المعهودة.
فتعال معًا يا عبد الله الصالح نتجوَّل في هذين البابَيْن لنتعرَّف على الوجه الصحيح في هذه القضيَّة، علمًا بأنَّ هذا الوجه قد انطبقَ عليه رأيُ علماء الإسلام قاطبةً في المشرق والمغرب، قديمًا وحديثًا. أقصد هُنا بعُلماء الإسلام كُلَّهم من المُعتبَرين وأهل البصر والنظر. مع التنويه على أنَّ بعض الدعاوى التي نسمعها من بعض العلمانيِّيْن في يومنا هذا، والتي نسمعها -للأسف- من بعض الدُّعاة والجهات قد ماثلتْ أصواتًا مُفردةً في التاريخ الإسلاميّ. شهد التاريخُ سماعَ نُعاقها، وختمَ التاريخُ على نعوشها كذلك. إعمالاً للسُّنَّة الكونيَّة التي تُقرِّر (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) -الرعد 17-.
توحيد الله بين جهَتَيْ الإيمان والتشريع
قد رسمتْ الآيات الكريمة التي أنزلها ربُّ العالمين طريق التعامُل مع السنة؛ فقد تضافرتْ آيات الكتاب على التوحيد بين جهتَيْ الإيمان -أيْ وجوب الإيمان بالله وبالرسول-، وبين جهَتَيْ التشريع -أيْ القرآن وأقوال الرسول التشريعيَّة-. فعن نقل الرسول للقرآن يقول الكتاب: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) -النجم 4،3-. وكذلك عن أقوال الرسول التشريعيَّة تقول الآية الكريمة: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) -الحشر 7-.
وعن وجوب طاعة النبيّ في أقواله وأفعاله وتقريره تقول الآية: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) -النساء 80- ولنلحظْ هُنا فعل “التوحيد” بين جَهَتَيْ التشريع، حتى يكاد يكون إطلاق لفظة “جهَتَيْ” ليس صحيحًا إلا شكليًّا للتفرقة بين ما هو قرآن وبين ما هو محض تشريع. ولنلحظْ كذلك في الآية الأخيرة أنَّه فرَّق -على أساس اتباع السنة- بين طائفتَيْن: الطائِعِين وهُم الذين يوحِّدون بين القرآن والسنة، ولا يفرِّقون بينهما. وبين صنف آخر وصفه بوصف من أبشع ما يمكن وهو “التولِّي” وهو لفظ دالٌّ على الهروب من ربقة الدين، ولا يستخدم إلا في أحوال التخاذُل والخيانة.
وفي التحذير البالغ من مُخالفة السنة تقول الآية الكريمة: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) -النور 63-. وكذا تبيِّن الآيات الكريمة أنَّ السنة هي طريق الهُدى إلى الإسلام تقول: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) -الشورى 52-، ومعروف أنَّ تعبير “الصراط المستقيم” هو تعبير عن “الإسلام” بإبدال اللفظيْنِ.
ومن أوصافِ التشريع -أيّ تشريع- المعهودةِ اللازمة هي أنَّه مُحتَكَم إليه. فمثلاً لو كنتَ في أيَّة دولة ووقعت في إشكال فلا بُدَّ في هذا الإشكال من ظهير يُحتَكَم إليه ويفصل بين المُتنازعين، يكون هو قانون الدولة وتشريعها. وكذلك وصفتْ الآية الرسول -وما نُقل عنه بالتبعة- بصفتَيْ التحكيم والتحاكُم، قالت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) -النساء 59-.
ليس هذا المعنى وحسب، بل إنَّ القرآن اشترط أنْ يكون كلُّ مُسلمٍ راضيًا رضاءً لا مراء فيه ولا اعوجاج من التحكيم الذي يأتي عن الرسول، وربطتْ القضيَّة الإيمانيَّة بالتسليم لهذا التحكيم للرسول وطريقه، قالت: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) -النساء 65-.
وآية أخيرة توضِّح حُكم عموم ما نُقل عن النبيّ في حياته ومن صفاته، وشمائله، واختياراته الحياتيَّة، وغيرها من أمور لا تدخل في التشريع، بل تدخل تحت مَظلَّة “اتباع النبيّ إنسانًا”؛ أقول هذه الآية توضِّح حُكم هذا بالاستحباب والتقريب من كلّ شخص، فقد وصفت الآية الرسول بالأُسوة وتعني القُدوة والمِثال المُحتذى، تقول: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) -الأحزاب 21-.
ومن كلّ ما سبق وجب وجوبًا على كلّ مُسلم الإيمان بالسنة مصدرًا للتشريع، ومصدرًا لتفسير كتاب الله -في الآيات التي فسَّرتها السنة-، وأنَّ هذا الوجوب نابع من القضيَّة الإيمانيَّة بالإسلام رأسًا، بلا واسطة. فهو ليس تشريعًا مُستنبطًا من تشريع أو من قاعدة كُليَّة، أو من طريق أُصوليّ. بل قرَّرتها آيات مُتضافرة كثيرة من القرآن الكريم. وهذا هو تأويل ما أراده الإمام النووي من هذه الآيات الكريمات بعدما غيَّرتُ ترتيب إيرادها في الكتاب لإنتاج صورة كاملة.
إخبار النبيّ بوقوع الاختلاف في تحكيمه، ونهيُه عنه
هذا ولمْ يكنْ القرآن وحده الذي قرَّر هذه القضيَّة، بل قد أخبر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- باختلاف الأُمَّة في أمور جوهريَّة، منها الاختلاف على تحكيم ما يأتي به. وفي هذا الشأن أورد الإمام أحاديث، في أحدها نقرأ التصريح بهذه القضيَّة: “إنَّما أهلكَ مَن كان قبلكم كثرةُ سُؤالهم واختلافُهم على أنبيائهم. فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”. وآخر الحديث هي قاعدة التعامُل مع أوامر السنة على لسان الرسول نفسه.
وفي التزام السنة نقرأ في حديث آخر: “وإنَّه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا. فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المَهديِّيْن عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدَثات الأمور فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة”. وفي الحديث نُركِّز على آخر جُملة “وإيَّاكم ومُحدَثات الأمور فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة”. فعلى تخريجَيْن نحويَّيْنِ للواو قبل “إياكم” على أنَّها عاطفة النهي على الأمر “عضُّوا” -وهذا وجه مرجوح ضعيف-، أو على أنَّها مُستأنِفة -وهذا الوجه الراجح-؛ على كلا التخريجَيْنِ تفيد تسمية عدم اتباع السنة بـ”البدعة”، في مُقابلة الالتزام بالسنة قبلها.
وعليه كلُّ مَن لمْ يتَّبع السنة هو صاحب بدعة قد أحدث في أصل الدين جديدًا. ولعلَّك الآن تعرف سبب تقسيم الفقهاء وغيرهم من عُلماء الإسلام لكثير من الأمور إلى: سُنِّيّ وبدعيّ -تقسيم التصوُّف على سبيل المثال في أحد تقسيماته-.
وهذا حديث مشهور خطير آخر يصف غير المُتِّبع للسُّنَّة بالرَّافِض لدخول الجنَّة، يقول:
كلُّ أُمَّتي يدخلون الجنَّة إلا مَن أبى. قِيلَ: ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنَّة ومَن عصاني فقد أبى.
وصف الرسول لدرجات تلقِّي سُنَّته
يقول الحديث: “إنَّ مَثَل ما بعثني اللهُ به من الهُدى والعلم كمَثَل غيث أصاب أرضًا. فكانت منها طائفة طيِّبة قبِلَتْ الماء؛ فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكتْ الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنَّما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مَثَل مَن فَقُهَ في دين الله ونفَعَه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به”.
ونرى أنَّ الحديث يصوِّر في تشبيهٍ سُنَّة الرسول وما جاء به بالمطر -الغيث-، ويُصوِّر حالات ثلاثًا لتلقِّي السنة بما فيها من علم وهدى: الأولى مَن فهِم وأدرك ووعى فأخرج للناس علمًا -الأرض المُنتجِة-، والثانية مَن حفظ السنة وعَلِمَها وحافظ عليها كيْ يستفيد بها غيره -الأرض المُجدبة الحافظة للماء-، والثالثة أناس ضيَّعوا السنة ولمْ يتَّبعوها ولمْ يكترثوا بها وهو النوع الأخير المُقبَّح في الحديث، والمَوصوم بجُملة “ولمْ يقبَلْ هدى الله الذي أُرسلت به” وهي الجملة المُطلوبة من إيراد هذا الحديث في الباب، فهي الدالَّة على أنَّ الإعراض عن سُنَّة الرسول عدم قبول لهدى الله. أعاذنا الله وإيَّاكم.
تشبيه الرسول لحاله مع أمَّة الإسلام
وفي حديث آخر يقول: “مَثَلي ومَثَلُكم كمَثَل رجُل أوقد نارًا فجعل الجَنادِبُ والفَراشُ يَقعْنَ فيها وهو يذُبُّهُنَّ عنها. وأنا آخذ بحُجَزِكم عن النار وأنتم تفلتون منِّي”. وفي هذه الصورة الواضحة القويَّة نرى الرسول في صورة رجل أمامه نار -تعبِّر عن عدم الهداية وآثاره-، وهذا الرجل مَهموم بإنقاذ الجراد والفراشات من الوقوع في هذه الهُوَّة المُهلِكة. وقد عُبَّر عن هدى النُّبوَّة والسنة بتلك القبضة التي تُمسك الناس من مواضع أحزمتهم كي تنقذهم من النار.
إخبار النبيّ أنَّ مُخالفة أمره سببٌ في دخول النار
وفي حديث آخر نجد النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يخبر عن يوم القيامة عندما يرى قومًا من أُمَّته يدخلون النار:
ألا وإنَّه سيُجاء برجالٍ من أُمَّتي فيُؤخذ بهم ذاتَ الشِّمال (أيْ في النار)، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيُقال: إنَّك لا تعرف ما أحدثوا بعدك.
وفي نهاية الحديث نجد تعليلاً لدخولهم النار حيث يُقال للرسول: “إنَّهم لمْ يزالوا مُرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتَهم”. وتعبير “ارتدّ على عقبَيْه” يعني أنَّه عاد عن الفعل، ويعني هُنا أنَّهم ارتدُّوا إلى حالهم الأُولى قبل وجود الرسول، وبالتبعة يعني هذا عدم اتباع وصايا الرسول وتعاليمه وسُنَّته. وهذا كان سببًا لدخولهم النار.
فيا عبد الله الصالح، اعلمْ أنَّ السنة النبويَّة مصدرٌ أصيلٌ من مصادر الإسلام عقيدةً وشريعةً، ولا تسمع لقول مُبطِل أفَّاك لا يوردُك اتباعه إلا مورد الهلاك. واتِّبع ما أُمرتَ به، وكُنْ دومًا من المُسلِمِين.