هل غير المسلم مؤمن بالله كما يقول العلمانيون؟

تحاول طائفة من العلمانيِّيْنَ أنْ تغيِّر الإسلام عيانًا بيانًا أمام جموع المُسلمين؛ فيخرجون على المُشاهدين غير المُؤهَّلين ليطرحوا أمامهم كلامًا وأفكارًا تنقض الإسلام نقضًا وتُزيله من النفوس. محاولين إثبات أنَّ جميع علماء المُسلمين في العالَم وعلى مرّ التاريخ لمْ يفهموا القرآن على وجهه الصحيح، بل لمْ يفهموه ابتداءً، وأنَّهم ذوو الأفهام التي لا يضاهيها عُمق ونفاذ بصر سيكشفون لنا عن حقيقة الأمور.

ولم يقفْ أمر الانفلات العلميّ الذي يأتون به عند حدّ. فلقد تقدموا خطوات مُحاولين صناعة “انقلاب علميّ” بعد أن صنعوا “انفلاتًا علميًّا”. فبدأ البعض بالإتيان بآراء لمْ يقُلْ بها أحد من قبل، بل لا يدعمها أيّ دليل من مصادر الإسلام ونشروها بين الناس والمطلوب منك أنْ تصدِّقها دونما شرط. وهذا السلوك يخالف كلّ قواعد العِلم وأعرافه كما هو واضح، بل لا علاقة له بالعلم إلا الادعاء.

قضيَّة أنَّ الإسلام نفسه ليس شرطًا في الإيمان

ومن أظهر القضايا التي أثيرتْ في هذا النوع من “المُمارسة الانقلابيَّة” على العلم هي القضيَّة التي أثارها ويثيرها بعض العلمانيِّين من أنَّ الإيمان بسيِّدنا “محمد” -صلَّى الله عليه وسلَّم- ليس شرطًا للإيمان؛ يقصدون أنَّ الشخص لا يلزمه الإيمان بالرسول الكريم ليكون مُؤمنًا بالله، بل هو مُؤمن بالله ابتداءً! دون أيَّة مُفردات لهذا الإيمان أو منطوق له. وكذلك تضخيم هذه الدَّعوى -أو بدقَّة- التصريح بلازِمِها -وعليها هنا الحديث- وهي قضيَّة أنَّ “الإسلام ليس رُكنًا في الإيمان بالله، وليس المسلمون فقط هم المُؤمنين به، وأنَّ مَن عاش ومات ولمْ يُسلم -حتى على علمه بالإسلام ومعرفته بها- فقد مات مؤمنًا”.

يعرض هذه القضيَّة ويُصرّ على تأسيسها بين الناس غُلاة العلمانيِّين -فليسوا سواءً-. وهي بالقطع مجرَّد ادعاء ليس عليه أيّ دليل فلا يعتمدون في إثباتها إلا على أقوال تحاول الظهور على أنَّها أقوال معقولة. وأظهرها ادِّعاء يقول:

إنَّ المُسلمين يحتكرون الحقيقة ويظنون أنَّهم مؤمنون دون غيرهم وأنَّ غيرهم كافر.

وقول آخر دِعائيّ تشنيعيّ بأنَّ المُسلمين يُكفِّرون كلّ الكون إلا هُم فهل معقول أنَّ كلّ العالَم كافر؟! يباهتون السامع أو القارئ أو المُشاهد بهذه الأقوال على أنَّها أدلَّة! ويُلقونها في وجهه في صيغة اتهام له، فيدخل الوهم على كثير من الناس ويقتنعون بهذا الادعاء غير المعقول. ولذلك سأورد بعض الأدلَّة الهادمة لهذه الدَّعوى وكلُّها أدلَّة عقليَّة صريحة.

الدليل الأوَّل حتميَّة الإسلام للإيمان بالله

قضيَّة الإيمان بإله قضيَّة أساسيَّة وليست جزئيَّة، بل هي القضيَّة الأكبر في هُوِّيَّة أيّ إنسان. لأنَّ الإقرار بإله هو إقرار بنظام كامل به نُفسِّر كيف صدر هذا الكون؟ وكيف خُلقنا؟ وكيف تدور هذه الحياة؟ ويكون بها لنا نظام وهدف من الحياة، وغاية لما بعدها -أو لهدف أكبر في الدنيا حسب الأديان التي لا تعترف بيوم آخِر-. وبناءً على إرساء هذه القضيَّة تُرسى دعائم النظرة إلى الإنسان في نفسه وتندرج تحتها قضايا أخرى مثل الإرادة ودَوْرها، والعِلم وإمكانه وأمور أخرى. وتُرسى دعائم النظر إلى الإنسان مع غيره وتندرج تحتها قضايا أخرى مثل الأخلاق والشرائع ومرجعيَّة الأفعال.

هذه الكلمات هي نبذة بسيطة تُعرِّفنا ما الذي تعنيه كلمة “إيمان” بدين أو إله، وهي مُختصَرَة جدًّا ومُتجاهلة لكثير من الأمور. وتحتاج كلّ كلمة منها إلى الكثير من الشرح والتوضيح؛ لأنَّ كلَّ كلمة من السابق نظام قائم وحده يندرج تحته أنظمة أخرى.

وهنا نسأل: لماذا نطرح هذه النبذة التعريفيَّة؟ نطرحها لبيان أنَّ الإيمان بإله هو نظام شامل كامل وفلسفة عُظمى وليس شأنًا فرعيًّا يمكن جمعُه مع غيره. بمعنى أنَّ الإيمان بأيّ دين لا يمكن جمعه مع دين آخر. لسبب واضح أنَّ كُلًّا منهما يجيب عن الأسئلة العُظمى عن الإله وجميع الأمور الغيبيَّة والأمور المُتعلِّقة بالحياة والكون إجابات متباينة مُختلفة، لا يمكن الجمع بينها.

فكأنَّ الداخل لدين من دين آخر مُبدِّل للكون كلِّه بما فيه؛ حيث يبدِّل منظومة كاملة بمنظومة أخرى. وللتسهيل -وللتسهيل فقط فليس المثالان مُنطبقَيْن- خذ مثال جهاز حاسوب أبدلتَه من حُزمة معلومات (سوفت وير) إلى حُزمة معلومات أخرى، فالجهاز هو هو لمْ يتبدَّل لكنْ ما أشدَّ اختلافه هنا عن هنا .. هذه هي حقيقة الموقف التي يجب أنْ نعرفها عن فكرة “الإيمان بإله أو دين”. ولعلَّ هذا يُذكِّرنا أو يُفهمنا لماذا الدخول في الإسلام يطرح ما كان قبله.

وقارنْ مثلاً في الكُليَّات -أيْ الأمور العُظمى في أيّ دين- الإله المُوحَّد في “العهد القديم” -الذي يؤمن به اليهود والنصارى- مع الإله المُثلَّث الذي يعتقده النصارى وحدهم والذي يقولون إنَّه ثلاثة آلهة في إله واحد. فما أشدَّ الاختلاف بينهما! .. وقارنْ أيضًا في الكُليَّات بين الدين المسيحيّ الذي يفترض في أصل الإنسان الإدانة وهي مبنيَّة على عقيدة الخطيئة الأولى للإنسان الأوَّل التي يتوارثها البشر جميعًا، وبين الإسلام الذي الأصل في الإنسان فيه هو البراءة لا الإدانة. وتخيَّلْ كمْ من الاختلافات العُظمى بين الدِّيْنَيْن من جرَّاء اختلاف هذه الكُليَّة. يتبيَّن لك مدى الاختلاف الهائل الذي بين كلّ نظام وآخر -مهما تشابهتْ أمام غير العارفين-.

وبذلك نعرف أنَّ كل دين يطرح إجابات مغايرة -كُليًّا أو جُزئيًّا- لغيره من الأديان. ويقدِّم عالَمًا غير العالَم سواءً في ذلك إجابته عن العالم المُشاهَد -الدنيا والهدف منها وكيفيَّة السَّيْر فيها-، أو العالَم الغيبيّ الذي يفترض أنْ يُعرِّفك مَن هو الإله -أو الآلهة- والملائكة وحِكمة الخلق، وكيفيَّة الاتصال بالبشر. وغيرها من عشرات التفصيلات. هذه التفصيلات لا يمكن -إطلاقًا- معرفتها على الوجه الصحيح إلا بإخبار الديانة عنها ولا تأتي بالتوقُّع أو الحدس أو أيّ نشاط عقليّ آخر.

وبناءً على السابق لا يمكن الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُله وهدفه من الكون، وطريقة إدارته، وتشريعاته، وأخلاقه، وماذا بعد الموت إلا عن طريق الإسلام وحده. وهنا سيسأل سائل يُردِّد أقوال العَلمانيِّين الشائعة: أليس هذا احتكارًا للحقيقة؟! .. أقول له هذا قول ساذج؛ فما هو الاحتكار فيما قِيْل؟! ونحن نرى بالنظر ثابتًا أنَّ هناك أديانًا أخرى تقدِّم آلهة أو إلهًا آخر غير “الله” فهل تتهِم كلَّ دين أنَّه يحتكر الحقيقة؟! وهل تأسيس العقيدة وبيان الإله الحقّ المعبود وحده احتكار للحقيقة؟! أمْ هو عرض ودعوة وبيان للناس جميعًا يقبل منهم مَن يقبل، ويرفض منهم مَن يرفض؟!

ويندرج تحت هذا الدليل كثير من المَعارف المُتعلِّقة بالإنسان وحياته وتاريخه. فمثلاً ننظُر الاختلاف الضخم في مسألة تاريخ الكون والعالَم بين “القرآن” ورؤيته وبين “الكتاب المُقدَّس” ورؤيته. من بدء الكون إلى الطوفان إلى تاريخ الأنبياء. فهل “داود” الذي في الكتاب المُقدَّس هو سيِّدنا “داود” الذي في القرآن؟ وهل سليمان هو سليمان؟ وهل عيسى عند النصارى هو سيِّدنا “عيسى” عند الُمسلمين؟

ومن هنا نعرف أنَّ هذا الاختلاف الشاسع بين الأديان وفوضى المعرفة هذه لا يضبطها غير الإسلام والإيمان به حيث يقدِّم الرؤية الصريحة الواضحة لله والعالَم الغيبيّ وتاريخ الكون وغيرها من السابقات. وعليه أيضًا لا يتساوى المُسلم وغير المُسلم لا في معرفة الله ولا في معرفة بقيَّة المعارف ولا في هدف الحياة ولا في طريقة السعي فيها. وعليه لا يمكن أنْ يكون غير المُسلم مُؤمنًا بالله.

الدليل الثاني ليس كلُّ إيمان بإله إيمانًا بالله -تعالى-

عَرَفَ تاريخُ البشر في أديانهم الإيمانَ بآلهة مُتعدّدة، والإيمان بثلاثة آلهة، والإيمان بإلهَيْن، والإيمان بإله واحد. هذا ويلتبس الأمر عند كثير من الدارسين والمُثقَّفين -فما بالنا بمَن دونهم نظرًا ومعرفةً- فيعتقدون أنَّ كلّ إيمان بإله واحد هو إيمان بالله -تعالى- الموصوف في الإسلام. ودليل هذا شيوع القول عندهم: “كُلُّنا نعبد الله”، أو ترديد مقولة “الأديان التوحيديَّة” على اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام.

وكل هذا غير صحيح بالكُليَّة؛ فليس كلّ إله واحد هو “الله” -تعالى-. وذلك بدليل أنَّ “الله” وصف نفسه وسمَّى نفسه في القرآن والسُّنَّة بأوصاف معروفة وأسماء مفروضة ومُحدَّدة. هذا الفعل من “الله” بدليل المُخالفة هو تنبيه لجميع البشر أنَّ “الله” الذي هو الإله الحقّ الواحد الأحد ليس هو الإله الواحد الذي يعتقدونه مُتوهِّمِين أنَّه الإله الحقيقيّ ورَبّ الكون الحقيقيّ. ولعلّ هذا يُفسِّر لنا لماذا لا يصحُّ تسمية الله بغير الأسماء التي سمَّى بها نفسه، أو وصفه بوصف لمْ يصفْ نفسه به. هذا الدليل للمسلمين وغير المسلمين فهو يعتمد على قرينة العقل لا غير.

ودليل آخر -ولعلَّه وجه آخر للدليل السابق- هو أنَّ التاريخ يحمل لنا الكثير من المُعتقدات التوحيديَّة التي يعبد فيها الناس إلهًا واحدًا لكنَّه ليس “الله” بالقطع. وينقل لنا “أدولف إرمان” في كتابه “ديانة مصر القديمة” إحدى تسبيحات “الديانة الآتونيَّة” وفيها يقولون للإله الواحد: “أنتَ تخلق النيل في العالم السُّفليّ وتُسيِّره كما تشاء .. أنتَ سيِّدُهُم جميعًا .. أنتَ سيِّد البلاد جميعًا وتشرق من أجلها” -صـ127 من النسخة المُترجمة-. وكذلك ينقل ديانة “آمون” الواحد أيضًا ويصف الانتقال إلى عبادته بقوله: “أتون الذي كان طاغيًا عليها قد غُلِبَ على أمره. ولكنَّ الواقع كذلك أنَّ طاغية آخر قد حلَّ محلَّه هو أمون رع” -صـ149-. فهذان إلهان واحدان لكنَّهما ليسا “الله” -تعالى-.

بل سأفاجئ القائلين والخائضين في هذه القضيَّة لأقول إنَّ عبادة الشيطان نفسه هي عبادة إله واحد! أليستْ كذلك؟! وهي ديانة توحيديَّة كذلك -عبادة الشيطان لها صور وأسماء كثيرة وهي عبادة مُتجذِّرة في التاريخ رغم نُدرة مُعتنقِيْها-. فهل الشيطان الذي يجد من يعبده ويُفرده بالعبادة هو “الله” في أيّ عقل أو تصوُّر؟!

فليست العِبرة بواحديَّة الإله بل بمَن هو هذا الواحد فإنَّ عبادة الشمس أو عبادة الأُنثى أو عبادة نهر النِّيل، أو عبادة الكون، أو عبادة المُطلق -عند بعض الفلاسفة-، أو عبادة الرُّوْح الهائمة في الكون -هذه عبادات حقيقيَّة وليس طرح فروض- ليس أيّ منها عبادة لله بأيّ وجه من الوجوه. ولذلك يتحتَّم على كل مُؤمن بالإله الحقيقيّ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا والِد له ولا ولد أنْ يؤمن بالإسلام، والإسلام وحده دون غيره.

الدليل الثالث عبثيَّة الطرح

هذه الدَّعوى أو الطرح ليس له قيمة على الصعيدَيْن العِلميّ أو العمليّ. فثابت أنَّ الناس جميعًا من حيث الدين أو الفلسفة العُظمى إمَّا مسلمة فهي مؤمنة بالله وإمَّا كافرة وهي الجاحدة المُنكِرة لدين الإسلام ورسوله “محمد” -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وكذلك أنَّ الناس جميعًا إمَّا مسيحيَّة فهي مؤمنة بالإله المُثلَّث الأقانيم وعقيدتَيْ الخطيئة والخلاص، وإمَّا كافرة به وهي الجاحدة لهذه وغيرها من عقائد المسيحيَّة.

وهكذا في كلّ دين ونحلة بل فلسفة. فالناس إمَّا شيوعيُّون مؤمنون بهذا المذهب مُطبِّقون لتصوُّره عن الكون الذي هو المادة وطريقة التصرُّف فيه وإمَّا غير شيوعيِّيْن جاحدون لها مخالفون هذا التصوُّر. وهذه هي طبيعة الكون والفكر الإنسانيّ -كما ذكرنا في الدليل الأوَّل-.

ومن هُنا نبيَّن أنَّ هذه الدعوى هي محض هُراء مُخالف لطبيعة الدين أصلاً، وطرح لما هو غريب كلَّ الغرابة عن الفكر الإنسانيّ. فلكُلّ دين وفلسفة هو مُعتنقُها –والإلحاد دين وفلسفة عُظمى أيضًا- ومن السفاهة أنْ يُقال للناس: اجعلوا غير المُسلم مُؤمنًا بالله وهو غير مُسلم، كما أنَّ من السفاهة أنْ يُقال للمسيحيِّين: أدخلوا المُسلمين مملكة السماء أو اشملوهم برعاية وبُنُوَّة المسيح وهُم غير مُؤمنين أنَّ الرسول “عيسى” إله! .. وهكذا الأمر كُلَّما ذكرنا من أديان وفلسفات عُظمى.

تنبيه المُسلمين إلى حقيقة الغاية من الادعاء

ولا يبقى بعد تبيين سفاهة هذا الادعاء إلا التنبيه على أنَّ قائلِيْه ليسوا أغبياء إلى هذه الدرجة، بل هُم يعرفون أنَّ دعواهم عبث لا فكر من ورائه ولا عقل. لكنَّهم يريدون به أنْ ينقُضوا الإسلام نقضًا بمُحاصرة المُسلمين بنوعَيْن من الشبهات: شبهات ضخمة تصل إلى قلب الإسلام لتنقضه من أساسه، وأخرى أقلّ نطاقًا تستهدف الجُزئيَّات منه. وهنا يتبيَّن دورنا -نحن المُسلمين- في نشر الوعي بيننا في مواجهة هذا الطوفان من الهجوم عليه. وليس على المُسلمين أنْ يقلقوا فالله -تعالى- هو صاحب الأمر وهو القائل: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

عبد المنعم أديب

باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة. صدرت له كتب أدبيَّة، ومئات المقالات في العالم العربي وخارجه.… المزيد »

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى