الدلائل العقلية التي يقوم عليها الإيمان بالله

انتهينا في موضوع الأدلة الفطرية على وجود الله إلى هذا التساؤل: فإذا كانت معرفة الله أمرًا فطريًا حادثًا في النفس حاضرًا، وأقمنا الدلائل على ذلك، فلِمَ قد نحتاج إلى الدلائل العقلية؟

فدعونا نتحدث أولًا عن حاجتنا إلى أدلة عقلية على أمرٍ حادث حاصل في النفس، لننتقل بعدها إلى استعراض هذه الأدلة…

لِمَ قد نحتاج لأدلة عقلية على وجود الله

وأصل ذلك: أن الواقع يشهد بتلوث بعض الفطر؛ لذلك نحتاج الدلائل العقلية لرد الإنسان إلى فطرته، وترسيخ ما يتعلق بها، إذ أننا بحاجة إلى التذكير بهذه المعرفة الفطرية وإزاحة الغبار عنها، مع التأكيد على أننا لسنا بصدد إحداثها، إذ أنها أمور حاصلة في النفس-كما بيَّنا-ابتداءً. كما أنَّ البعض لا يكفيه فقط هذه الدلائل الفطرية على وجود الخالق، فمن أجل هذا أرسل الله الرُسل وأيَّدهم بالأدلة على صدق دعواهم.

«رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»[1]

الدلائل العقلية على وجود الله

وفي هذا السياق لا بد من التنبيه على خطورة الاستدلال بالأدلة الخاطئة أو الضعيفة أو غير المحررة؛ لأن هذا النوع من الأدلة لا ينفع الحق، وإنما يضعف من جانبه، فالمخالفون للحق، سيركزون أنظارهم على هذا النوع من الأدلة، ويعرضون عن الأدلة المستقيمة الصالحة، والحق لا يحتاج في انتصاره إلى كثرة الأدلة بقدر ما يحتاج إلى قوة الأدلة وتماسكها وانضباطها.[2]

«فدليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلًا مقدماتها ضعيفة»[3]

وسنذكر هنا أهمَّ وأقوى دليلين يعتمدهما المسلمون للتدليل العقلي على وجود الله-دليل الخلق والإيجاد، ودليل الإحكام والإتقان-:

  • دليل الخلق والإيجاد

يقوم هذا الدليل على الاستدلال بحدوث الكون بعد أن لم يكن على ضرورة وجود خالق عليم أحدث هذا الكون، فالكون حَدَثٌ من الأحداث، فلا بد له مِن مُحدِث يقوم بإحداثه وفعله وإيجاده من العدم.

مقدامات هذا الدليل

  • الكون حادث من العدم ليس قديمًا.
  • كل حادِثٍ لا بد له مِن مُحدِث، أو كل ما له بداية فلا بد له من سبب.

إثبات المقدمة الأولى (الكون حادث من العدم ليس قديمًا)

تقول المقدمة الأولى «الكون حادث من العدم ليس قديمًا»، ومعنى تلك المقدمة أن هذا الكون الذي نراه بجميع مكوناته من بشر ونبات وحيوان وأنهار وجبال… ليس قديمًا أزليًّا، بل له بداية لوجوده، خُلق فيها وانتقل بموجبها من العدم إلى الوجود.

ولتدليل على صحة هذه المقدِّمة-والتي يُدركها الإنسان أصلًا-فنحن بحاجة إلى إثبات حدوث بعض مكونات الكون المعلومة بالمشاهدة الحسية، ومن ثمَّ الاستدلال على هذا الحدوث بحدوث الكون كاملًا، وحينها نستدل بهذا الحدوث على وجود خالق لهذا الكون.

يقول أبو سليمان الخطابي: «فمن أوضح الدلالة على معرفة الله سبحانه وتعالى-على أن للخلق صانعًا ومدبرًا-أن الإنسان إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة؛ ثم عظامًا، ولحمًا، فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوًا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه، وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز؛ وقد يرى نفسه شابًّا، ثم كهلًا ثم شيخًا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه؛ وأن له صانعًا صنعه، وناقلًا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر.»[4]

http://gty.im/566420699

ومع تطور العلوم التجريبية لم يزدد المسلمون إلَّا إيمانًا بصدق تصورهم ومعتقدهم، إذ أثبتت تلك العلوم في عدد من الاكتشافات الحديثة أن الكون حادِثٌ بعد أن لم يكن، وسنتناول باختصار بعض هذه النظريات ودلالتها القوية على حدوث الكون بعد أن كان عدمًا.

نظرية الانفجار الكبير

وأقوى هذه النظريات وأكثرها دلالة على حدوث الكون، وأكثرها حظوة وحضورًا في المجال العلمي هي نظرية الانفجار العظيم، والتي تثبت ضرورة وجود بداية للكون، يقول العالم الفلكي الشهير ستيف هاكنغ: «إن إدوين هابل أجرى سنة 1929م مشاهدة تعد علامة طريق هي أنك حيثما وجهت بصرك، تجد المجرات البعيدة تتحرك بسرعة بعيدا عنا. وبكلمات أخرى فإن الكون يتمدد. ويعني هذا أن الأشياء كانت في الأوقات السالفة أكثر اقترابا معًا. والحقيقة أنه يبدو أنه كان ثمة وقت منذ حوالي عشرة أو عشرين ألف مليون سنة، حيث كانت الأشياء كلها في نفس المكان بالضبط، وبالتالي فإن كثافة الكون وقتها كانت لا متناهية. وهذا الاكتشاف هو الذي أتى في النهاية بمسألة بداية الكون إلى دنيا العلم»[5]

http://gty.im/151066380

والأقوال في هذا كثيرة والأدلة العلمية أكثر من أن تُحصى، ولكن سنشير إلى بعض المصادر لمن أراد أن يطلع على المزيد من الدلائل على هذه الحقيقة:

إثبات المقدمة الثانية (كل حادِثٍ لا بد له مِن مُحدِث، أو كل ما له بداية فلا بد له من سبب.)

تقول المقدمة الثانية: «كل حادِثٍ لا بد له مِن مُحدِث، أو كل ما له بداية فلا بد له من سبب»، وهذه المقدمة من المبادئ العقلية الضرورية، والتي لا يُفضَّلُ الخوض كثيرًا في إثباتها، إذْ أنها حاصلة في النفس من غير توسط نظر ولا استدلال. فمن ذا الذي يُنكر أنَّ هناك حدثًا يُمكن حدوثه بلا سبب، أو أنَّه يمكن ترجيح أمرٍ على أمرٍ دونما سبب للترجيح؟!

  • دليل النظم والإحكام

وهو دليل سهل قريب المأخذ، إذ يعتمد في إثباته على ما نشاهده في الكون من إحكام وإتقان، يمكننا وفقًا للمبادئ العقلية الضرورية إلى القول بضرورة وجود خالق أوجد هذا الإتقان وصمم الكون ليُلائم الحياة ويكون على هذا النحو، ولا بُدَّ لذلك الخالق أن يتصف بالعلم والحكمة والقدرة.

مقدمات الدليل:

  • الكون مُحكمٌ مُتقَن في خلقته.
  • الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل. (وطريقة إثباتها هي ذات الطريقة التي اتبعنا في إثبات كل حادِثٍ لا بد له مِن مُحدِث)

إثبات المقدمة الأولى (الكون مُحكمٌ مُتقَن في خلقته.)

تقول المقدمة الأولى: «الكون مُحكمٌ مُتقَن في خلقته.»، وتعني أن الكون رُكِّب وعُدِّل في صورة معقدة يصعب اختزالها إلى مكونات أولية، فحتى أبسط مكونات الكون فهي تحمل في ذاتها قدرًا من الإتقان يستحيل اختزال إحداث هذا الإتقان ونسبته إلى الصدفة.

ويمكننا الاستدلال على ما في الكون من إحكام وإتقان من خلال اتجاهين: 1- ما نشاهده من صرامة وإتقان في الكون. 2- ما أثبتته العلوم الطبيعية من دقة الثوابت الكونية التي يؤدي أي تغير طفيف فيها إلى كوارث طبيعية.

دلائل المبادئ الحسية على الإتقان في الكون

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المُعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض مبسوطة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيأة للمطاعم والملابس والمآرب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمُمَلّك البيت، المخول ما فيه. وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام وأن له صانعًا حكيمًا تام القدرة بالغ الحكمة»[6]

http://gty.im/176451971

دلائل العلم التجريبي على ما في الكون من إحكام وإتقان

وليس أسهل من التدليل على هذا الباب، فالثوابت الكونية وما فيها من دقة متناهية تقف رادعة لكل من يحاول إن ينسب هذا الإحكام والإتقان إلى مجرد الصدفة، فلنبدأ أولًا بثابت الجاذبية (والذي يختلف عن عجلة الجاذبية)، والذي يبلغ G= 6.67408 × 10-11 m3 kg-1 s2 فتغيير طفيف في هذه النسبة كفيل إلى أن يقلب حياتنا رأسًا على عقب.

فهو مسئول مع القوة الطاردة المركزية عن استمرار الكوكب في مداره لا يبعد ولا يقترب من الشمس، وكذلك سرعة دوران الكوكب حول الشمس، والتي تبلغ درجة حرارة سطحها-الفوتوسفير-حوالي 10000 فهرنهايت (أي ما يُعادل 5500 درجة سيليزيوس مئوية) فيما تبلغ درجة حرارة القلب حوالي 27 مليون درجة فهرنهايت (15 مليون درجة سيليزيوس مئوية)، وتِبعًا لهذا الإتقان تبعد الشمس عنَّا 149.6 مليون كيلومتر.[7]

فَلَكَ أن تتخيل ما سيُحدثه أي تغير طفيف في نسبة من هذه النسب! انتهيت من التخيل؟ اعلم أنَّ هناك من يعتقد بأن هذه الثوابت ما هي إلا مجرد أرقام نشأت نتيجة الصدفة!

«أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»[8]

بعض المصادر لمن أراد أن يطلع على المزيد من الدلائل على هذه الحقيقة:

  • كريسي موريسون، العلم يدعو إلى الإيمان (الإنسان لا يقوم وحده).
  • بول ديفيز، الجائزة الكبرى لماذا الكون مناسبًا للحياة.

ومن ثَمَّ يمكننا التأكيد على أنَّ الإيمان بوجود الله ليس قضية عاطفية محضة، وليس إثباتنا لوجوده وكماله هو من باب سدِّ الفجوات كما يدعي الملحدون مُلوَّثي الفطرة، بل هو إيمانٌ قائم على أصولٍ وثوابتٍ ومقاصد.

ختامًا

تابعنا على مدار موضوعين مظاهر العظمة والحكمة وما فيهما من الدلائل على وجود الخالق سبحانه، وحيال هذه الحقائق التي لا تكاد تُذكر بالنسبة إلى دلائل وجود الخالق، واستحقاق إفراده بالربوبية والعبودية؛ لا نملك إلّا أنْ نعبد الله على الوجه الذي ارتضاه لنا، ونُسلِّم تمام التسليم لأوامره وقوانينه وشرائعه، تسليم المطمئن الذي لا يجد في صدره حرجًا مما قضى ربه.

أوليس الذي خلق هذا بقادرٍ على أن يُصرِّف أمورنا، ويُنزِّل من الشرائع ما فيه صلاحنا ونجاتنا؟!


المصادر:

[1] سورة النساء، الآية 165.

[2] د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث.

[3] ابن تيمية، منهاج السنة النبوية (8 / 421)

[4] ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية (1/ 502)

[5] ستيفن هوكنج، موجز تاريخ الزمن، ص 17

[6] ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية (1/506)

[7] الشمس: المزيد، ناسا بالعربي.

[8] سورة النمل، الآية 61.

مي محمد

طالبة علم، أرجو أن أكون مِن الذين تُسدُّ بهم الثغور.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم، أنا عبد الرحمان من الجزائر ، أمتلك مدونة جديدة عنوانها ( معا نرتقي https://www.ma3anarta9i.com/) قمت بنشر مقال في الآونة الأخيرة، شبيه بهذا المقال الجيد الذي نشرتموه، فأرجوا أن يكون مقالي مفيدا لكم، وهذا من خلال زيارتكم المدونة الوارد ذكرها آنفا، وقراءة المقال على الرابط التالي : https://www.ma3anarta9i.com/2021/06/athiest.html، فشكرا لكم مشبقا، وأتمنى أن تقبلوا تعليقي، وتفيدونني بخبرتكم .. شكرا

  2. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم * افى الله شك فاطر السماوات والارض صدق الله العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى