واجبات المرأة في التَّوحيد
أُخَيَّة حان الوقت لتتعرَّفي على خالقِكِ العظيمِ الله -جلّ جلاله-، الذي سخَّر للإنسان جميع ما في السَّمواتِ والأرضِ، ولتتنعَّمِي بما سخّره الله لك. فهلَّا نذهب سويًّا إلى عالم الغيبِ: نقرأُ كتابَ اللهِ ونتدبَّر ونتأمل ونتعلم؛ حتى تخرجي بإيمانٍ جازمٍ يقينيٍّ، لا تزعزعه هبّات الرياح، ولا فتن الدنيا ومباهجها؟
طريق الإيمان بالله وطريق الضلال أيتها المؤمنة
أنتِ بالفطرة تؤمنين بوجودِ الله -عزّ وجل-، وأنتِ في عالم الذرّ عقدت الميثاق، وآمنْتِ أنَّه لا إله إلَّا الله، آمنْتِ أنّ الله خالق كلِّ شيءٍ ومالكُ كلِّ شيءٍ، له الأمر، وله استسلمَ جميعُ ما في هذا الكونِ خضوعًا وتذلُّلًا بحبٍّ لا قهر، حبّ لله لما أنعمَ عليهم بهذه النِّعمِ.
تعرّفْتِ على أعدائِك الداخليَّة والخارجيَّة؛ فهلْ ستتركين زمامَ أمرِكِ لهم، أمْ ستقفين وقفةَ جدٍّ وحزمٍ أمامَهم وتصدِّينهم عن إكمالِ مسارِ حياتك؟ هلْ ستنفضين غبارَ الغفلةِ عن قلبك؟ هلْ ستفتحين قلبكِ للفيوضاتِ الرَّبَّانيَّةِ لتدخل وتتربَّعَ هي في قلبك بدل أعدائك؟
علمت أنَّ الحواسَّ محدودةٌ ولا يمكن لحواسّنا معرفةَ الغيبِ، وأنَّ الحواسَّ لا تدركُ سوى ما تشاهده أو تسمعه أو تتذوَّقُه أو تتلمَّسَه أو تستنشقَه. وعلمْتِ أنَّ العقلَ الكائن في القلب أيضًا محدودٌ، وحدودُه الزَّمان والمكان الذي أنت فيه، وحدوده فقط لمعرفة الحقّ وضحد الباطل، وأنّ العقلَ إذا ما غذّيته بالعلم وسلّحته بإرادة جازمةٍ كانَ معينًا لك على أعدائِكِ، ولكنْ، إن ظللْتِ تتَّخذين الجهلَ سبيلَكِ فلا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله.
أيضاً علمت أنَّ الأمور الغيبيَّة لا يمكنُنا معرفتها إلا عن طريق الخبر الصَّادق، ألا وهوَ كتابُ الله وسنَّةُ رسول الله ﷺ. وعلمْتِ أنَّنا إذا أردْنا أن نكون مؤمنين، ويطلقُ علينا اسم الإيمان يجب أن نصدّق الخبرَ بيقينٍ إنَّه منْ عندِ الله.
لذا أريد منك وضع قاعدةٍ مهمَّةٍ جدًّا؛ ألا وهي اليقينُ بالأمور الغيبيَّة التي لا نراها، ولا يمكننا أن نتخيَّلها أو نشبّهها بما نراه حولنا، ولا يمكننا القياس بأمرٍ مشاهدٍ عيانًا مع أمر غيبيّ، فحينَ أذكرُ لكِ أيَّ أمرٍ غيبيٍّ لا تتسرَّعي بالسّماح لهذه النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ والشياطين بالدُّخول إلى قلبِكِ وتقديم الفتن والشُّبهات لك كي تتركي السَّير على الصِّراطِ المستقيم.
وكيْ لا تكوني مثلما يقول الشَّاعرُ إيليَّا أبي ماضي، في قصيدتِه المشهورةِ التي اتّخذَها المغنّي عبد الحليم أغنية (اعتبروها الأهمَّ ضمن مجموعته من الأغاني). وعنوانها الطلَّاسم من ديوانه (الجداول). تأمّلي لوعته، تأمّلي حزنه الدفين تأملي الغمّ الذي يعيش في أنحاء جسده: قلبه يملأه الارتياب والشَّكُ والقلق. يقول:
جئْتُ لا أعلمُ منْ أينَ، ولكنّي أتيتُ
ولقدْ أبصرْتُ قدَّامي طريقًا فمشيْتُ
وسأبقى سائرًا إنْ شئْتُ أم أبيتُ
كيفَ جئْتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لسْتُ أدري!!
أجديدٌ أم قديمٌ أنا في هذا الوجود؟
هلْ أنا حرٌ طليقٌ أمْ أسيرُ في قيود؟
هل أنا قائدُ نفسي في حياتِي أم مَقُود؟
كمْ أتمنّى أنَّني أدري ولكنّي لسْتُ أدري!!
وطريقي ما طريقي؟ أطويلٌ أم قصيرٌ؟
هل أنا أصعدُ أمْ أهبطُ فيه وأغور؟
أأنا السَّائرُ في الدّرب أمِ الدّربُ تسير؟
أمْ كلانا واقفٌ والدَّهرُ يجري؟
لسْتُ أدري.
أتراني قبلما أصبحتُ إنسانًا سويًّا
كنْتُ محوًا أو محالًا أم تراني كنْتُ شيئًا؟
ألهذا اللغزِ حَلٌّ؟ أم سيبقى أبديًّا.
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري.
لست أدري تلك إجابته عن التَّساؤلات التي شغلت باله، (لسْتُ أدري) إجابةً عن أسئلةِ من أينَ وإلى أينَ؟ وأينَ المصير؟
هذه ليستْ فقط لهذا الشَّاعر، بلْ هي ما تربَّى عليه جيلنا الماضي منذ ألف عامٍ هجريٍّ، حيث بعد القرن الثَّالث للهجرة وما توصَّل إليه المسلمون الأوائلُ من فتوحاتِ قِبَلَ المشرقِ والمغربِ، ترجموا كتب الفلاسفة اليونانيَّةِ، فكانت هذه الفلسفة لعمالقة الفلاسفة في وقتهم “لست أدري” ومن أقوالهم (الشَّيءُ الذي لا أزالُ أجهلُه جيِّدًا أنَّني لست أدري).
أمّا حديثُ رسولِ الله ﷺ فقال: “ضربَ اللهُ مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعن جنْبَتَيِ الصراطِ سورانِ، فيهما أبوابٌ مُفَتَّحَةٌ، وعلَى الأبوابِ ستورٌ مُرْخَاةٌ، وعلى بابِ الصراطِ داع يقولُ: يا أيُّها الناسُ! ادخلوا الصراطَ جميعًا ولَا تَتَعَوَّجوا، وداع يدعُو مِنْ فَوْقِ الصراطِ، فإذا أرادَ الإنسانُ أنْ يفتحَ شيئًا مِنْ تِلْكَ الأبوابِ قال: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ، فإنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فالصراطُ الإسلامُ، والسُّورانِ حدودُ اللهِ، والأبوابُ الْمُفَتَّحَةُ محارِمُ اللهِ تعالى، وذلِكَ الدَّاعِي على رأسِ الصراطِ كتابُ اللهِ، والداعي مِنْ فوقٍ واعظُ اللهِ في قلْبِ كُلِّ مسلِمٍ”([1]).
ثمّ فسره -عليه السَّلام- فقال: إنّ الصراطَ هو الإسلامُ، وإنَّ الأبوابَ المفتَّحةَ هي محارمُ الله، وإنَّ السُّتورَ المُرخاةَ هي حدودُ الله، وإنّ الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وإنّ الداعي من فوقه واعظُ الله في قلب المؤمن.
الصراطُ المستقيمُ هو صراطُ اللهِ المستقيمُ الذي رسَمه اللهُ لعباده، وكلَّفَهم أن يسلكوه ويلتزموه، هذا الصِّراطُ المستقيمُ الواضحُ المعالم، الشَّاملُ لجميع أمورِ حياتِهم اليوميَّة، والمطلوب منهم في هذه الرِّحلة العابرةِ الفانيةِ، والتي تأتي بعدَها حياةُ البقاءِ للحسابِ والجزاءِ، أنْ يسلكوا الصّراط المستقيم الشَّاملَ والتَّصديقَ الجازمَ بالقلبِ، الذي تفكّر وتأمّل وتوصّل إلى الحقائق الفكريّة العمليّة، واعترف بقلبهِ أنَّه يجبُ أنْ يسيرَ على هذا الصِّراطِ الشَّاملِ، وعلى العملِ الصالحِ، بنيَّةٍ خالصةٍ لوجه الله ابتغاءَ مرضاتهِ. ولكنْ كيف نتعرَّفُ على هذا الصِّراطِ إنْ لم نقرأْ كتابَ الله، الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديه ولا منْ خلفه؟ هذا القرآن يدعوك أُخيّتي إلى السير على صراط نجاتك وسعادتك!
ففي هذا الصراط مفاهيمُ الإيمانِ، وأركانُه، وعناصرُه وأحكامُه، ومفاهيمُ الإسلامِ، ومفاهيمُ التَّقوى والبرّ والإحسِان بمراتبها، ودرجات كلٍّ منها، وفضائلها، ومواعيدُ الجزاءِ بالثَّوابِ عليها، ومفاهيمُ المعاصي والآثامِ والمخالفاتِ وتعدّي حدود الله، وما يترتّب عليها من جزاء العقاب.
أنتِ ستختارين ماذا تريدين
وأنتِ لك الحريَّةُ في اتِّخاذ قرارك، هل تريدين السَّيرَ على هذا الصِّراطِ؟ أمْ أنَّ فضولَكِ سيجعلُكِ تتساءلين عن هذه الأبواب لماذا وضعَتْ؟ وما هذه الأبواب المفتّحة ولماذا عليها ستورٌ؟ وهل يمكنك الدُّخولُ إليها، وسؤالُ نفسِكِ لِمَ تريدين الدُّخولَ إليها؟
إنْ علمت أنَّ هذه السُّتور هي حدودُ الله، ومحظورٌ عليكِ الدُّخول إليها، ومحظورٌ أنْ تتجاوزيها، وأنَّ منْ دخلَها أساءَ لنفسِه وعصى الله -عزّ وجل-؛ مع أنَّكِ يمكنُك أن ترضي نفسَكِ الأمَّارةَ بالسُّوءِ لإشباعِ شهواتِك وأهوائِك، مع ذلك جعل الله -عزّ وجل- لك واعظًا في قلبك يردعُكِ عن الولوجِ إلى هذه الأبوابِ؛ وهذا الواعظ هو القرآن الكريم، يدعوك ويدعو جميع النَّاس إلى السَّير على الصَّراط المستقيم ولقدْ وضَّحَ لك كلَّ شيءٍ، وأنار دربَكِ في الدُّنيا والآخرة.
وبيَّنَ لك ماذا ينتظرك في نهاية هذا الصّراط، هل تحركت مشاعرُكِ الوجدانيَّة؟ هلْ تحرَّكت نداءاتُكِ الدَّاخليَّة التي قذفها الله -عزّ وجل- عبرَ إلهامِكِ؟ هل شدَّتْكِ إلى أن تكوني صادقةً مع نفسك وصادقةً باستسلامك لله -عزّ وجل-؟
اعلمي أنَّ هذه المشاعر والنداءات الدَّاخليَّة هي صوتُ الضَّميرِ الذي يأتيكِ بالعظة والتَّذكير، وينهاكِ ويأمُركِ بما أمر الله -عزّ وجل-؟ ويقولُ لكِ: ارحمي نفسَكِ ولا تظلميها واتركي السَّتائرَ مسدلةً، وأكملي المسيرَ على الصِّراطِ المستقيم.
قال تعالى: ﴿وتلك حدود الله فلا تقربوها، كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون﴾ [البقرة:187]. وقال: ﴿وتلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون﴾ [البقرة:229]. وقال تعالى: ﴿وتلك حدود الله فلا تقربوها ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه﴾ [الطلاق:65].
وأوَّلُ طريقِ الصراطِ هو معرفةُ الله، ومعرفةُ أسمائِه الحسنى، ومعرفةُ صفاتهِ العلا؛ لكي تحقِّقي الإيمان الجازم بأنّه لا إله إلَّا الله. والإيمان له أركانٌ: أمَّا أركان الإيمان فهي كالتّالي: الإيمانُ باللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليوم الآخرِ والقضاء والقدرِ خيره وشرُّه.
ومعنى أركانُ: جمعُ ركنٍ، وركنُ الشَّيءِ جانبه القويّ، كما أنّ كلِّ بناءْ لا يقومُ إلّا على الأسسِ القويّة الثابتة؛ كذلك فإنَّ بناءَ هذا الدّين لا يقومُ إلا على تلك الأركانِ.
أما الإيمان في اللغةِ: فهو التَّصديقُ الجازمُ. أمَّا شرعًا: فهو التَّصديق بالقلبِ، والإقرارُ باللسانِ، والعملُ بالأركان. قال تعالى: ﴿الذين يؤمنون بالغيب﴾ [البقرة: 3].
أما شرح هذه القاعدة فهي كالتالي: (الخاطرة أو الصورة)
نتعرَّفُ على ما حولَنا عن طريقِ الحواسِّ
- الحواسُّ
- النَّفسُ
- الإنصاتُ والملاحظةُ
- الفطرةُ (الفؤاد)
- تلّقِي واستفهامٌ (المرجعيَّةُ)
- سلوكُ
- خطِّ الحياةِ (الله – أنا – الآخر)
تنتقلُ الخاطرة والصُّورةُ عبرَ الحواسِّ إلى النَّفسِ. والنَّفسُ هي المصنعُ الذي يخرجُ نتيجةَ عامل التَّلقّي والاستفهامِ والمتوقّف على الفطرةِ. وبعدَها إلى المرجعيَّة وهي اللهُ تعالى ورسوله ﷺ. وأما خطُّ الحياةِ فهو أصلُ علاقته بما يحيطُ به: هلِ اللهُ -جل جلاله- هو الأوَّلُ في حياتِكِ تليها نفسِكِ ثمَّ الآخرَ [الله – أنا – الآخر] لكي يتوازنَ الإنسانُ مع ذاتِه أيْ يجبُ أنْ يكونَ أمرُ اللهِ -عزّ وجل- هوَ الأوَّلُ في حياتِكِ. قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة: 24].
لذا يجبُ أن يكونَ لديكِ الحافز لكي تجعلي أوامرَ الله -عزّ وجل- هي الأحبُّ في حياتِكِ، وقبلَ كلِّ شيء أنعمه الله عليك. حق الله أوَّلًا، ثمّ نفسك تعطيها حقّها، ولا تؤثري حقّ الآخر على نفسك. وبذلك تكوني قد أديت بحقّ خطَّ الحياة. قال تعالى قبل هذه الآيات: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون﴾[التوبة: 23].
إنّ هذا التَّوحيد لا يحتملُ في القلبِ شريكًا، فإمَّا تجرّدٌ للنّفسِ، وإمَّا انسلاخٌ منها. وليسَ المطلوبُ أنْ ينقطعَ المسلمُ عن الأهل والعشيرةِ والزَّوجِ والولدِ، والمالِ والعملِ والمتاعِ واللذةِ، ولا أنْ يترهبَن ويزهدَ في طيّباتِ الحياة .. كلَّا إنَّما يريُد هذا التَّوحيدُ أن يخلصَ له القلب، ويخلصَ له الحبَّ. أمَّا أنْ تكونَ النَّفسُ هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحرِّكة والدَّافعة. فلا حرج عندئذٍ أن يستمتعَ المسلمُ بكلِّ طيّباتِ الحياةِ، على أنْ يكونَ مستعدًّا لنبذِها كلِّها في اللحظةِ التي تتعارض مع مطالب التّوحيد.
ومفرق الطريقِ هوَ أنْ يسيطرَ التَّوحيدُ، أوْ يسيطرَ المتاعُ، وأنْ تكونَ الكلمةُ الأولى للتَّوحيدِ، أوْ تسيطرَ النَّفسُ، وأنْ تكونَ الكلمةُ الأولى للتَّوحيد أو لعَرَضٍ من أعراضِ هذهِ الأرض. فإذا اطمأنَّ المسلمُ إلى أنَّ قلبه خالصٌ لتوحيدِ ربّه؛ فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بزينةِ الله والطَّيباتِ من الرِّزقِ -في غير سرفٍ-؛ بلْ إنَّ المتاعَ بالطَّيِّباتِ حينئذٍ لمُستحبٌّ، باعتبارِه لونًا من ألوانِ الشُّكرِ للهِ الذي أنعمَ بالطَّيِّباتِ ليتمتَّع بها عبادُه، وهم يذكرون أنَّه الرَّازقُ المنعمُ الوهّابُ.
وهكذا تتقطَّعُ أواصرُ الدّمِ والنَّسبِ؛ إذا انقطعتْ آصرة القلبِ والتّوحيدِ. وتبطلُ ولايةَ القرابةِ في الأسرةِ إذا بطلَتْ ولايةُ القرابة في الله. فللهِ الولايةُ الأولى، وفيها ترتبط البشريَّةُ جميعًا، فإذا لم تكنْ فلا ولايةَ بعدَ ذلك، والحبلُ مقطوعٌ والعروةُ منقوضةٌ، ولا يكتفي السِّياقُ بتقريرِ المبدأِ، بلْ يأخذُ في استعراضِ ألوانِ الوشاجِ والمطامعِ واللذائذِ، ليضعَها كلَّها في كفَّةٍ، ويضعَ توحيدَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ومقتضياتها في الكفَّة الأخرى: فالآباءُ والأبناءُ والإخوانُ والأزواجُ والعشيرةُ (وشيجة الدَّمِ والنَّسب والقرابة والزَّواج)، والأموالُ والتجارةُ (مطمعُ الفطرةِ ورغبتِها)، والمساكنُ المريحةُ (متاعُ الحياةِ ولذَّتِها) في كفّةٍ؛ وفي الكفّة الأخرى: حبُّ اللهِ ورسولهِ وحبُّ الجهادِ في سبيلِ الله بكلِّ مقتضياتِه وبكلِّ مشقَّاتِه. الجهادُ وما يتبعُه منْ تعبٍ ونصبٍ، وما يتبعُه من تضييقٍ وحرمانٍ، وما يتبعُه من ألمٍ وتضحيةٍ، ومجاهدةٍ النَّفسِ ومجاهدةِ الهوى ومجاهدةِ شياطين الجنِّ والإنس.
وما يكلّف الله الفئةَ المؤمنةَ هذا التَّكليفِ إلّا وهو يعلمُ أنَّ فطرتَها تطيقُه -فاللهُ لا يكلِّفُ نفسًا إلا وسعَها-. وإنَّه لمنْ رحمةِ اللهِ بعبادِه أنْ أودعْ فطرتَهم هذه الطَّاقةَ العاليةَ منَ التَّجرّدِ والاحتمالِ، وأودعَ فيها الشعورَ بلذَّةٍ عُلويّةٍ لذلك التَّجرّدِ لا تعدلُها لذائُذ الأرضِ كلُّها؛ لذّةُ الشُّعورِ بالاتِّصالِ باللهِ، ولذّةُ الرَّجاءِ في رضوانِ الله، ولذّةُ الاستعلاءِ على الضَّعفِ والهبوطِ، والخلاصِ منْ ثقلِ اللحمِ والدَّمِ، والارتفاعِ إلى الأفقِ المشرقِ الوضيءِ. فإذا غلبَتْها ثقلةُ الأرض ففي التَّطلُّعِ إلى الأفقِ ما يجدّد الرَّغبة الطامعة في الخلاصِ والفكاكِ.
المصادر
رواه الترمذي، كتاب: الأمثال، باب: ما جاء في مَثَلَ الله عز وجل لعباده، حديث رقم (2859).
بارك الله فيك اختي الفاضلة وتقبل الله منك و جعل هذا العمل الرائع والمفيد في ميزان حسناتك إن شاء الله
جزاكي الله خيرا دكتور