نحو إعادة تنظيم هيكل القوى العالمي: أمريكا تُصيغ رؤيتها من جديد
المقالة نشرتها الصفحة الإلكترونية لمجلة (the American interest)، للكاتب زبغنيو بريجينسكي، وهو مفكرٌ إستراتيجيٌّ ومستشارٌ للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بين عامي 1977 و 1981 ويعمل الآن مستشارًا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وأستاذًا (بروفسورًا) لمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز في واشنطن. وتم نشر الجزء الأول من المقالة بعنوان: «نحو إعادة تنظيم هيكل القوى العالمي: الولايات المتحدة مركز الهيكل».
حيث توضيح: الثوابت المتحكمة في إعادة التوزيعات الناشئة للسلطة، والهيكل الجديد للنظام العالمي المُحتمَل من وجهة نظر أمريكا. كثيرٌ من الحقائق لا يمكن توضيحها بدقةٍ، ولكنْ إذا أُخذت مجتمِعةً فإنها تصبح مروعةً. لندَعْ بعضَ الأمثلة توضح لنا هذا المدلول:
الإرث الغربي الاستعماري قديمًا
إمبراطورية آزتك -والتي يطلق عليها اليوم ماكسيكو-
في القرن السادس عشر، في إمبراطورية آزتك-والتي يطلق عليها اليوم ماكسيكو-انخفض تعداد السكان المحليين من 25 مليونًا إلى مليونٍ واحدٍ تقريبًا، يُعزى ذلك بدرجةٍ كبيرةٍ لأمراضٍ حملها المستكشفون الإسبان معهم.
أمريكا الشمالية: وبالمثل كما حدث في آزتك حدث في أمريكا الشمالية، إذ: تُوُفي تقريبًا 90% من السكان الأصليين في الخمسِ سنينَ الأولى من احتكاكهم بالمستوطنين، وبدرجةٍ كبيرةٍ أيضًا بسبب الأمراض. وفي القرن التاسع عشر، أدت الحروب وعمليات الاستيطان القهرية إلى قتل 100,000 أخرى.
في الهند: من 1857-1867، يشتبه في قتل البريطانيين ما يصل إلى مليون مدنيٍّ للانتقام من الثورة الهندية عام 1857. كما قامت شركة الهند الشرقية البريطانية باستخدام الأراضي الزراعية الهندية لزراعة الأفيون وتصديره إلى الصين قسرًا مما أدى إلى الموت المُبكِر للملايين.
هذا غيرُ الأضرار المباشرة التي لحقت بالضحايا الصينيين من حرب الأفيون الأولى والثانية التي قادتها بريطانيا.
في الكونجو: والتي كانت ملكًا خاصًا للملك البلجيكي ليوبولد الثاني، قُتل فيها نحو 10-15 مليون شخصٍ ما بين 1890-1910.
في الفيتنام: تدل الإحصاءات المتأخرة أيضًا على مقتل من 1-3 مليون مدنيٍّ ما بين 1955-1975.
في العالم الإسلامي: في القوقازِ ما بين 1864-1867، 90% من السكان المحليين الشركسيين هُجِّروا قسريًا، وما بين 300,000 إلى 1.5 مليون كان مصيرهم إما الموت جوعًا أو القتل. من عام 1916-1918، عشرات الآلاف من المسلمين قُتلوا عندما أجبرت السلطات الروسية 300,000 مسلم تركي على العبور عبر جبال آسيا الوسطى إلى الصين.
في أندونيسيا: بين عام 1835 وعام 1840، قتل المحتلون الهولنديون نحوَ 300,000 مدنيٍّ، وفي الجزائر، وبفعل 15 سنة من الحروب الأهلية ما بين 1830-1845.
في شمال أفريقيا: ففي الجزائر قتلت الوحشية الفرنسية والمجاعة والمرض 1.5 مليون جزائريٍّ، نحوَ نصفِ السكان آنذاك. وفي ليبيا حاصر المستعمرون الإيطاليون سكان برقةَ في معسكرات الاعتقال فقُتل منهم ما بين 80,000 إلى 500,000 شخص ما بين عامي 1927-1934.
الإرث الغربي الاستعماري حديثًا
في أفغانستانَ: ما بين 1979 و1989، قتل الاتحاد السوفيتي ما قُدر بنحو مليون مدنيٍّ، وبعد عقدين من الزمان قتلت الولايات المتحدة 26,000 مدنيٍّ في حرب الـ 15 سنة في أفغانستان.
في العراقِ: قُتل من المدنيين العراقيين 165,000 من قبل أمريكا وحلفائها في الـ 13 سنةً الأخيرة. (الفرق بين أعداد القتلى على أيدي المستعمرين الأوروبيين مقارنةً مع أعداد قتلى الأمريكان وحلفائها في العراق وأفغانستان، قد يكون عائدًا في جزءٍ منه إلى التطور التكنولوجي، والذي أدى إلى زيادة فاعلية استخدام القوة وأيضًا إلى تحولٍ في معايير المناخ العالمية). كما هي الصدمة الناتجة من هذه الفظائع الوحشية التي ارتكبها الغرب، ستكون الصدمة أيضًا من السرعة التي نسي بها الغربيون أفعالهم هذه.
استياءٌ عميقٌ تجاهَ الغرب وترِكته الاستعمارية
اليوم في عالم ما بعدَ الاستعمار، تبدأ قصةٌ تاريخيةٌ جديدةٌ بالظهور. استياءٌ عميقٌ تجاهَ الغرب وتَرِكتِه الاستعمارية في البلدان الإسلامية وما حولها، يُستخدم لتبرير إحساسهم بالنقص والحرمان من الكرامة.
وبالنظر إلى كل هذا، فإن أمامَنا طريقًا طويلًا ومؤلمًا لنصل إلى بداية تسويةٍ إقليميةٍ محدودةٍ، والتي قد تكون الخَيار الناجع الوحيد لكلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا والصين والكيانات ذات الصلة بالشرق الأوسط.
أما فيما يخص الدور الأمريكي
فإن ذلك سيحتاج من أمريكا صبرًا مستمرًا في صياغة عَلاقاتٍ تعاونيةٍ مع بعض الشركاء (وبالأخص روسيا والصين)، بالإضافة لبذل جهودٍ مشتركةٍ مع دولٍ أكثرَ رسوخًا وذاتِ جذورٍ إسلاميةٍ عميقةٍ (كتركيا وإيران ومصر، والمملكة العربية السعودية، إذا استطاعت فصل سياستها الخارجية عن الوهابية المتطرفة) لتكوين إطارٍ عامٍّ للاستقرار الإقليمي. وكذلك فإن حلفاءَنا الأوروبيين، ممن كانت لهم سيادةٌ ماضيةٌ في المنطقة، بإمكانهم أيضًا أن يكونوا ذوي منفعةٍ في هذا الصدد.
ماذا عن الانسحاب الشامل للولايات المتحدة من العالم الإسلامي؟
الانسحاب الشامل للولايات المتحدة من العالم الإسلامي -وهو ما يفضله المنادون بالانعزال عن الشأن العالمي والتركيز على القضايا الداخلية- قد يؤدي للمزيد من الحروب الجديدة في هذه المنطقة (مثلًا: بين إسرائيل وإيران، أو السعودية وإيران، أو التدخل الكبير لمصر في ليبيا)، وقد يؤدي أيضًا إلى كارثةٍ أعظمَ وهي انعدامُ الثقة في دور الولايات المتحدة في إرساء الاستقرار على الصعيد العالمي.
مع اختلاف يصعبُ التنبؤُ به، بإمكان روسيا والصين أن يستفيدوا من هذا التطور، حتى يصبحَ النظام العالمي ذاتُه هو ضحيةَ الجيوسياسية المباشرة.
أخيرًا وليس آخرًا، في هذه الظروف، فإن العالمَ الأوروبيَّ المنقسمَ الخائفَ ستجده ينافس ويفاضل في داخل دولِه الأعضاءِ بين ثلاثِيِّ القوة العالمي (أمريكا، روسيا، والصين).
ما يجب أن تكون عليه الرؤية الأمريكية
على الرؤية الأمريكية البناءة أن تتحلى بصبرٍ طويل الأمد، يجب أن تطمح إلى تعزيز الوعي التدريجي لدى روسيا (وغالبا فيما بعدَ بوتين) أن مكانَها الوحيدَ المتاح لها كدولةٍ مؤثرةٍ في العالم في نهاية المطاف سيكون داخل الاتحاد الأوروبي.
كما أن تصاعد دور الصين في الشرق الأوسط يجب أن يعكس الوعي المتبادل بين كلٍّ من أمريكا والصين بأن تصاعدَ الشراكة الأمريكية الصينية في التعامل مع أزمة الشرق الأوسط هو اختبارٌ تاريخيٌّ كبيرٌ لقدرتهما على تأسيس وتعزيز نطاق الاستقرار العالمي.
البديل عن تلك الرؤية
البديل عن تلك الرؤية البناءة، ولاسيما تلك التي تتبنى الرؤية العسكرية الفكرية لطرفٍ واحدٍ، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى إطالة أمد الصراع وعقمه وتدمير الذات-بالنسبة لأمريكا-. قد يترتب على ذلك مزيدٌ من الصراع الدائم وحتى إلى الانسحاب إلى انعزالية ما قبل القرن العشرين.
أما روسيا: فقد يؤدي ذلك لهزيمةٍ قاسيةٍ لها تزيد من احتمالية خضوعها للهيمنة الصينية.
أما الصين: فقد تعلن الحرب ليس على الولايات المتحدة فقط، ولكن على كلٍ من اليابان أو الهند أو كليهما معًا.
وعلى أي حال فإن إطالة أمد الحروب العِرقية وشبه الدينية والعصبية الذاتية في الشرق الأوسط سيؤدي إلى مزيدٍ من إراقة الدماء داخل المنطقة وخارجها وتنامي القسوة حول العالم.
كيف تكوَّنت الإمبريالية الأمريكية
والحقُّ أنْ لم يكن ثمةَ قوةٌ عالميةٌ حقيقيةٌ مهيمِنةٌ حتى وقت ظهور أمريكا على الساحة العالمية. إمبراطورية بريطانيا العظمى أوشكت أن تصبح هذه القوةَ، ولكنَّ الحرب العالمية الأولى والثانية لم تعملا فقط على إفلاسها، بل أيضًا مهَّدتا الطريق لظهور قُوًى إقليميةٍ منافِسة.
الواقع العالمي الجديد الحاسم تجلى في ظهور أمريكا على الساحة العالمية كلاعبٍ قويٍّ يجمع في وقتٍ واحدٍ بين كونهِ الأغنى والأقوى عسكريًا على مستوى العالم. وحتى أواخر القرن العشرين لم تقترب حتى أيُّ قوةٍ عالميةٍ من هذه المكانة.
انتهاء عصر الإمبريالية الوحيدة
هذا العصر ينتهي الآن، وعلى الرغم أنه من غير المحتمل أن توجد دولةٌ في المستقبل القريب تضاهي أمريكا في تفوقها الاقتصادي والمالي، إلا أن نظام الأسلحة الجديد قد يدفع بعض الدول إلى الانتحار آخذةً في طريقها الولايات المتحدة الأمريكية، أو قد يدفع بها نحو السيطرة والانتصار.
كيف يمكن لأمريكا ضمان مكانٍ خلال عصر الفوضى القادم؟
ومن غير أن نخوض في تفاصيل تحزُّرية، يجب أن نعرف أن اكتساب بعض البلدان القدرةَ على تحجيم قوة أمريكا العسكرية سيعني النهاية لدور أمريكا في العالم.
ونتيجة ذلك ستكون على الأرجح الفوضى العالمية. ولذلك حريٌّ بالولايات المتحدة العملُ على صياغة استراتيجيةٍ تتمكن من خلالها على الأقل أن تجعل واحدة من الدولتين الأكثر تهديدًا لها شريكةً أساسيةً في تحقيق الاستقرار الإقليمي والعالمي.
ومن ثمَّ تعمل على احتواء المنافس الأكثرِ قوةً وغير المتوقع والذي ليس من السهل تجاوزُه وتجاهلُه. في الوقت الراهن هذا المنافس هو روسيا، ولكنْ على المدى الطويل قد تصبح الصين هذا المنافس.
إطارٍ جيوسياسي جديد
وحيثُ أن السنوات العشرين القادمة قد تكون الطورَ الأخيرَ في التخطيطاتِ التقليدية المألوفة والمريحة التي نشأنا عليها، فإن ردود أفعالنا تحتاج إلى أن تتكون من الآن. وأيضًا فيما تبقى من هذا القرن، يجب على الإنسانية أن تنشغل أكثر فأكثر بالنجاة في مواجهة التحديات البيئية المحتشدة.
هذه التحديات يمكن فقط معالجتها بمسؤوليةٍ وفاعليةٍ في جوٍّ من التوافق العالمي المتزايد. وهذا التوافق يجب أن يكون مرتكزًا على رؤيةٍ استراتيجيةٍ تفقَهُ الحاجة الملحة لإنشاء إطارٍ جيوسياسيٍّ جديد.