غرور النفس بالعبادة.. الاقتصاد في الطاعة في رياض الصالحين للإمام النووي
وفي باب “الاقتصاد في الطاعة” نرى كلمات طيِّبات لا تفترق معنى وأثرًا عن نفحات الكتاب العديدة، لكنْ إنْ دقَّقنا النظر وجدنا فيه رصد خطأ يؤدِّي إلى مرض من الأمراض يخفى على كثير مِنَّا، يعالجه الوحي كما ينبغي أنْ يُعالَج. وقد بثَّ الإمام النووي فيه من الأحاديث التي تحمل توجيه الشرع في حِكمة بعلاج هذا المرض. الخطأ الذي انتقده الباب، بل قُل نَقَضَه الباب -أيْ هدمه- هو التزيد في العبادة بمقادير لمْ يطلبها الشرع، وهُنا لا يبدو لنا ما وجه الخطورة في هذا الخطأ؟ والآن سأحاول شرح تلك الحِكمة العُظمى في تنبيه الإسلام على هذا الخطأ من العباد. ولنتريِّضْ بعدها باختصار في هذا الباب.
الداء الأخطر في الإنسان
الإنسان -الذي خلقه الله ضعيفًا (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) -النساء 28- ليكون ضعفُه محلَّ اختباره- تُصيبه الكثير من أمراض النفس. وألعنُها وأخطرُها على نفسه هو غروره بتلك النفس، فما أكثر غرور الإنسان بنفسه! .. وعجيب أمر الإنسان أنَّ غروره بنفسه لا يأتيه من جانب الشرّ وحسب، بل من جانب الخير أيضًا. وذلك لأنَّه “كائن قابل للاغترار بنفسه”، وبما يملك من قدرات أو ماديَّات، وبأحلامه حتى التي لمْ تتحقَّق لكنَّه يُفتتن بها رغم ذلك ويغترّ.
وفي هذا الباب الكثير من الأحاديث التي تُوجِّه وتنبِّه إلى نوع من الغرور الإنسانيّ؛ وهو الغرور بالعبادة وفيها يغترُّ الإنسان بعبادته ويُركِّز معها إلى درجة تُنسيه هدف الفعل التعبُّديّ أو تُلهيه عن بقيَّة واجباته في الحياة. ومن الممكن أنْ أجمِل بعض صورها في الآتي:
- أنْ يُثابر الإنسان ويَتزيَّد من أفعال العبادة زيادةً منه في التقرُّب لله، والله لمْ يطلب منه هذا. وبذلك يكون على خلاف ما أراد فلمْ يعد في طريق الطاعة.
- أنْ يُثابر ويتزيَّد من أفعال العبادة في وقت مَخصوص يكون في الغالب وقت احتياجه لشيء أو إرادته شيئًا بشدَّة. ثمَّ يترك التزيد في العبادة هذا بعد تحقيقه الهدف أو بعد فوات فرصة تحقيقه. وهذا الفعل -في وجهه السيِّء- يكون غرورًا بالهدف الذي يريده.
- أنْ يُثابر ويتزيَّد من أفعال العبادة حينما يتزايدُ حبُّه للأفعال نفسها وتعلُّقه بها، ويبدأ شيئًا فشيئًا ينسى ربَّ العبادة الذي أمره بها، أو يصير هامشُ تفكيره فيه وهمُّه به أقلَّ من هامش تفكيره وهمِّه بـ”الفعل التعبُّديّ” نفسه. وهذا واضح الفساد.
- أنْ يُثابر ويتزيَّد على أفعال العبادة رياء الناس. وهذا من أسوء العمل؛ فالعامِل فيه اختار أشرف أفعال الإنسان “عبادة الله” ليُرائي بها الناس، أعاذنا الله وإيَّاك يا عبد الله.
فلسفة عدم التزيد في العبادة
وبالعموم فإنَّ أفعال التزيد التي تنقضها أحاديث الباب إذا أردنا أنْ نفلسفها لوجدنا أنَّ العبد فيها خرج عن نطاق “العبوديَّة”. فالعبوديَّة لله تقتضي التسليم للمَعبود تسليمًا كاملاً، واتباع أمره فيما أمر به. فما بالنا بمَنْ ترك كلام المَعبود “الله” وتوجيهه إلى فعل ثمَّ اشتطَّ على نفسه ففعل الفعل المأمور به أضعافًا مُضاعفةً، أو أنشأ لنفسه عبادةً لمْ يأتِ بها الشرع، أو أيّ سبيل من سُبُل هذا التزيد! وهنا نجد أنَّ العبد قد ترك مقام التسليم لله والاتباع الكامل، بل بدأ شيئًا فشيئًا يجعل نفسَه حَكَمًا وهاديًا تعرف الصواب أشدَّ من معرفة الله به. بل اتَّبع في هذا الفعل هواه لا إلهه الذي بدأ فعلَه مُريدًا إخلاصَ الاتباع له.
ولهذه الرؤية التي نراها وجدنا الكتب الإسلاميَّة فقهًا وآدابًا تنتشر فيها أمثال هذا الباب الاقتصاد في العبادة أو ما يُشبه هذه الصيغة. وها أنت يا عبد الله قد عرفتَ أنَّ ما تقرأه في الكتب الإسلاميَّة جاء عن حِكمة مُتراكمة، وعلم مُتأنٍ من عُلماء بالغِيْ الكثرة ليصبُّوا لك شرع الإله وتوجيهاته في أبواب مُنظَّمة مُرتَّبة تُيسِّر عليك معرفة مُراد الشرع منك. وهذه الفقرة خارجة عن موضوعنا لكنْ حسُن لدى الفقير إلى الله التنبيهُ عليها. فلا تصدِّقْ كلَّ أفَّاكٍ أثيم يفتري على تلك الكُتُب وهو لا يدري من أمرها شيئًا.
مفهوم العبادة في الإسلام
وأيضًا يقع المُسلم الذي تنتقد أفعالَه أحاديثُ الباب في خطأ كبير؛ وهو اعتقاده أنَّ العبادة في الإسلام هي تأدية فرع منها فقط، فهو يُخصِّص هذا الفرع باهتمام بالغ على حساب كلّ عبادته ووجوهها الأخرى. وهُنا وجب علينا التنبيه على أمور أهمُّها -في اختصار وفي شكل واضح-:
- أنَّ الجزء الذي ركَّز عليه المُسلم المُخطئ في الأحاديث اسمه “الشعائر” -صلاة وصوم وزكاة وصدقة مفروضة وحج-.
- أنَّ مفهوم العبادة في الإسلام ليس هو تأدية الشعائر، بل هذا مفهوم العبادة في أديان أخرى. أمَّا في الإسلام فنطاق العبادة هي الحياة جميعها، بكلِّ لحظة من لحظاتها، وكلِّ فعلٍ يقع من المُسلم داخلٍ في نطاق إرادته. وقد دلَّت على ذلك أدلَّة كثيرة لعلَّ أهمَّها الآية الشهيرة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) -الذاريات 56-، وأدلة بالغة الكثرة -ليس هُنا مَسرَدَها-.
- وبهذا يكون المُسلم الذي وقع في خطأ التزيد في أفعال العبادة قد أخطأ خطأَيْن: الأوَّل هو تنفيذ الدين عن جهالة، وتعطيل قصد الشارع –”الشارع” هذا وصف لله، فإذا قرأتَها في هذه السياقات فاعلم أنَّ المقصود هو الله- في عبادته؛ فما أمره الشارع بأنْ يُصلِّي ألف صلاة، ولا أنْ يحجَّ مائة حجَّة بل أمر الشارع بعبادة تشمل حياة العبد جميعها. ثمَّ أتى هذا العبد فعطَّل مقصود الشارع من وجوده في مناحٍ عديدة.
- وأخيرًا يبدو جليًّا أنَّ المُسلم الذي أخطأ هُنا قد حوَّل رؤية العبادة “الكَيفيَّة” إلى رؤية “كَمِّيَّة”. فإنَّ العبادة لا تُكيَّل بالكيلوجرام؛ والله لمْ يطلب منك عدد أمتار تمشيها في طريقه، بل رتَّب العبادة لتشمل كيفيَّتُها الحياة كلَّها، فعيَّرتَها بمِعيار “الكمّ” أيْ الزيادة في النوع نفسه زيادةً مُطَّرَدَة.
الأساس الذي أرسَتْه الآية في الباب
أتى النووي في أوَّل الباب بالآية الكريمة (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) -البقرة 185-. وهذه الآية هي فلسفة الإسلام في مَطلوبه العامّ من عباد الله؛ حيث تشقُّ الآية -في تصرُّف تفسيريّ- شقًّا بين نوعَيْن من أفعال العباد ففي شقٍّ الأفعالُ المَيسورةُ على العباد، وفي الآخرِ الأفعالُ المَعسورةُ -أيْ غير المَقدور عليها أو التي يُقدَر عليها مع الكُلفة البالغة-.
وقد أقرَّتْ الآية أنَّ الله يريد اليُسر في أمر الإنسان، بدليل أنَّ الأوامر التي أمره بها كلّها داخلة في حيِّز الإمكان، فلمْ يُكلِّفنا الله شيئًا لا نُطيقه -أيْ خارج عن طاقتنا-. بل الآية تنفي مُضاد اليُسر أيضًا إكمالاً لنظرتها في العبادة؛ فقد يأتي التصوُّر بأنَّ الله يريد بكم اليُسر مع بعض العُسر والتشديد، فأجهزتْ الآية على هذا التصوُّر مُصرِّحةً أنَّ الله لا يريد العُسر، أيْ ليس من مطلوبه أصلاً. وهذا المعنى أحد أُسس التصوُّر الفقهيّ الإسلاميّ، والتصوُّر العُموميّ أيضًا.
أسُس العبادة في الأحاديث
وهُنا أدرج الإمام النووي حديثًا جاء فيه:
عليكُم ما تُطيقون؛ فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا. وكان أحبُّ الدين إليه ما داوَمَ صاحبُه عليه.
ولنتذكَّر هُنا أنَّ الإنسان ضعيف وليس مَحَلاً للتزيُّد بل مَحَلٌّ للتنوُّع -لاختلاف أحواله الشعوريَّة-. وها هو الحديث يضع قاعدة المُداومة في العبادة. (ملحوظة هامشيَّة: كلمة “وكان أحبُّ” لا تعني أنَّه كان وانقضى، فالفعل الناقص “كان” يدلُّ على الثبات وتعضيد المعنى، وفي هذه الحال تخرج دلالتُه عن قصد الزمان الماضي).
والأساس الثاني جاء في حديث: “إنَّ الدين يُسر. ولنْ يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه. فسدِّدُوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدوَة والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلَجة” وقد وضعتُ نقطة عن تمام كلّ معنى. فالحديث يقرِّر الآتي: أنَّ الدين يُسر وهذا واضح، وقاعدة ضعف الإنسان ونظره في أنْ يأخذ الدين بالشِّدَّة كمًّا لا كيفًا، والمعنى الأخير يدور حول فكرة “أنَّ الإنسان ليس مَحَلاً للتزيُّد، بل مَحَلٌّ للتنوُّع” التي قلتُها سابقًا؛ فالحديث يقول لك: وزِّع عبادتك على أوقاتك، وعِش حياتَك كما أمرك الله، ولا تُثقلْ على نفسك.
وهُنا الإمام النووي نفسه يكسر صمته المُعتاد ليقول لنا بنصِّه عن هذا الحديث: “وهذا استعارةٌ وتمثيل. ومعناه: استعينوا على طاعة الله -عزَّ وجلَّ- بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم؛ بحيثُ تستلذُّون العبادةَ ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم. كما أنَّ المُسافِر الحاذِق (ذا الخِبرة والتعقُّل) يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها فيَصِل المقصودَ بغير تعب”.
وهذا حديث يُبلغنا عن خطأ إهدار مقصود الشارع -الذي تفضلتَ بقراءته سابقًا يا عبد الله- ففيه أنَّ رجُلاً صحابيًّا صالحًا هو “أبو الدَّرْداء” قد شقَّ على نفسه في العبادة وأخذ يرهق جسده بها. وعندها قال له الصحابيّ “سلمان الفارسي”: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، وإنَّ لنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا. فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فلمَّا أتى النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- ذكر هذا عنده فقال: “صدق سلمان”. وهذا يُعلمنا أنَّ هذا الخطأ تقصير في بقيَّة العبادات المطلوبة من العباد. وسُمِّيَ مِثل هذا الحديث حديثًا لأنَّ النبيّ أقرَّ فعل أو قول أحدهم بالنصّ أو الإشارة أو السكوت عنه بعد العلم؛ وهذا يُسمَّى “سُنَّة تقريريَّة”.
أنا قادر على الزيادة في العبادة فهل أتوقف؟
ويجيب هُنا الحديث عن هذا السؤال كذلك، حيث نجد فيه حبلاً قد أقيم في المسجد. فلمَّا سأل النبيّ عنه، قيْلَ له: هذا حبل زينب، فإذا فترتْ (أيْ ضعفتْ من كثرة السجود والقيام في الصلاة) تعلَّقتْ به. فأمر النبيُّ بحلِّه وقال:
ليُصَلِّ أحدُكُم نشاطَه، فإذا فتر فليرقُد.
فالنبيّ يقرِّر أنْ لا بأس إنْ كانت في استطاعتك أنْ تفعل شيئًا زائدًا ولمْ تقصِّر به في أحد الحقوق الأخرى المطلوبة منك أنْ تفعل، شرطَ أنْ يكون مُرتبطًا بقُدرتك. وهُنا أيضًا عليك أنْ تتذكَّر قاعدة المُداومة التي أقرَّ الحديث أنَّها أحبُّ الأعمال إلى الله. وإلى هُنا ندعو الله أنْ يثبِّت قلوبنا على عبادته وحُسن طاعته في الدنيا والآخرة، على أنْ نستجلي المواضع الأخرى التي تتعلَّق بفكرة العبادة من رياض الصالحين، لنكون مع الصالحين.