كيف نفهم صبر الصالحين.. الصبر في رياض الصالحين للإمام النووي
في باب الصبر ذكر الإمام النووي الكثير من الأحاديث التي تحمل الكثير من المعاني، وقصص الصابرين. لكنَّ الأهمَّ هو فهم الصبر نفسه؛ فإنَّ الصبر الذي يبدو أمام السامع مُجرَّد موعظة أو كلمة صارت رمزًا على ضعف الشخص الذي يُقدَّم له النُّصح به، هو في حقيقته فلسفة كاملة، بل قد يطول الكلام في تبيين وجه الحِكمة في الصبر جدًّا. لذلك سأحاول أنْ أقترب من فهم معنى الصّبر على حقيقته حتى نعلم قيمته، وأنَّه ليس ضعفًا.
الفهم البسيط للصبر
ينصبُّ الفهم الإسلاميّ للصبر على أربعة من العناصر:
- العبد المؤمِن بالله المأمور بالصبر.
- الموقف: وهي الخطوب والبلايا والأمور التي لا يريدها هذا العبد، أو التي تصيبه بضرر مباشر أو غير مباشر، أو التي قد يفقد تأمُّل الحِكمة منها. وهذه المواقف هي مُحفِّزات النفس البشريَّة لشعور مُعيَّن هو شعور “الجَزَع”، ويؤدي هذا الشعور إلى القنوط واليأس. واليأس ضعف في الإيمان وافتقاد لحِكمة إدارة الله للكون. وهذا اليأس يؤدي بالعبد إلى شعور متطرِّف جدًّا قد يصل به إلى الانتحار.
- النفس البشريَّة: وهي محلّ الصبر أو هي التي يُعالِج الصّبرُ حالاتها المُختلفة. ولصبّ الإسلام الصبرَ على النفس حِكمة بالغة وعميقة يضيق عنها المقام، في حين تؤدي بك الرؤية العموميَّة -التي في أصلها تشابه التصوُّر العلمانيّ للصبر- إلى اقتصار الصبر على الموقف نفسه والتعامُل معه لا على نفسك التي تتعامل.
- الصّبر نفسه: وهو العلاج والترياق لكلّ ما سبق. والصبر خُلُق تتخلَّق به النفس البشريَّة يجعلها قادرةً على أداء المطلوب منها من الله على وجه الصواب. هذه محاولة تعريف اجتهاديَّة سريعة مني.
ونستطيع أنْ نستشفَّ هذه المعاني من أحاديث في نصف الباب أوردها “النوويّ. ومنها حديث:
ما يصيب المُسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشَّوكَة يُشاكها المسلم إلا كفَّر الله بها من خطاياه.
وهذا الحديث فيه حقيقة أنَّ مواقف عديدة تمرُّ بالمسلم في الدنيا لا يرضاها وهي عليه شاقَّة. فإذا أضفناه إلى حديث آخر: “ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسِهِ ووَلَدِهِ ومالِهِ حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة” عرفنا أنَّ كلَّ ما يصيبك في الدنيا مقصود وله حِكمة -وإنْ لمْ تعلمها- وأنَّه ابتلاء من الله تعالى. فإذا عرفتَ ذلك عرفتَ قيمة الصبر وحقيقته وأنَّه مُنصبّ على نفسك وانفعالاتها أمام حوادث الدنيا هذه.
هل الصّبر موقف سلبيّ أم إيجابيّ؟
باختصار قد يدور في نفسك سؤال: أليس صبري على شيء نوع من الجُبن والهروب من الموقف؟ وبذلك الصّبر يكون موقفًا سلبيًّا مني. أقول لك إنَّ الصّبر في الإسلام مُعالجة للنفس في الحالَيْن؛ حال قدرتك على الأمر وعدم قدرتك عليه. فالصبر هُنا مُلازم للإنسان المسلم في حياته كلّها يعالج به نفسه للانضباط على طريق الحقّ تعالى الذي رسمه له، وليس سلوكًا يصطنعه في موقف ضعف -كما في التصوُّر البرجماتيّ أو النفعيّ الذي تتصوَّره والذي لا يرى الصبر إلا تصرُّفًا نفعيًّا في حين الضعف فقط-.
وهُنا يذكر النووي حديث:
عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه خير؛ -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إنْ أصابتْه سَرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضَرَّاء صبر فكان خيرًا له.
فكما ترى أنَّ الصبر خُلُق يحكم كلَّ أمرك يدفعك إلى شُكر الله -بدلاً عن التجبُّر في الأرض- متى كانت أحوالك مستقرَّة وجيدة وكنتَ مُستطيعًا، ويدفعك إلى انضباط النفس -بدلاً من الجَزَع الذي يؤدي إلى الكُفر والهلاك- متى كانت أحوالك غير مُستقرَّة وكنت في غير قدرة.
هل هو ضعف أم قوَّة؟
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر: هل معنى صبري أنْ أشعر بالضعف في نفسي؟ وقد تكون إجابة السؤال في معرفة أنَّ الصبر في الإسلام يعتمد على مبدأ الإيمان بالله تعالى. فالله هو الآمر وتخلُّقُك بالصبر استجابة وعبادة له. ولا يكتمل معنى الصبر في الإسلام إلا تحت مظلَّة الإيمان بالله -لذلك ترى حالات الانتحار شائعة عند طائفة المُلحدين عندما تصيبهم مصيبة-.
وهنا نتذكَّر وقوع البلوى العظيمة عند الأنبياء، وكيف تخلَّقوا بخُلُق الصبر. فمثلاً فقد النبيّ “يعقوب” ابنه النبيّ “يوسف” فانظر إليه كيف هو موقف قاهر لا يستطيع أحد أن يتحمله، وهو يضعف أيّ إنسان غير مؤمن ويدفعه إلى الانتحار. لكنَّ النبيّ صبر كما أمر الله فكان صبره قوَّة هائلة لا يستطيعها غيره.
وانظر أيضًا إلى فعل النبيّ “يوسف” عندما ظلَّ في السجن مظلومًا سنوات عديدة كيف كان صبره قوَّةً له ومُنقذًا من الجَزَع المُهلِك. وخلاصة الأمر أنَّ الصبر ليس ضعفًا أبدًا، بل هو مُعالجة لمَوطن الضعف -النفس البشريَّة- بالالتجاء الكامل لصاحب الأمر كلّه الله القويّ المَتين.
سؤال آخر: هل معنى الصبر أنْ أفرِّط في حقوقي؟ وهنا نعود إلى “رياض الصالحين“، وفيه حديث في الباب يحكي حال اضطهاد الرسول والمؤمنين عندما كانوا في قريش مُستضعفين. فقالوا: ألا تستنصرُ لنا؟ يقصدون أنْ يستنصر الرسولُ اللهَ ليُبدِّل حالهم بقُدرته المُباشرة. فذكَّرهم الرسول أنه قد كان قبلهم مَن يُشقُّ بالمِنشار من رأسه حتى يُجعَل نصفَيْن ليرتدَّ عن إيمانه، ولا يفعل.
ورغم هذا قال مُخبرًا ومُوجِّهًا إلى فعل الصحيح متى استطعتَ: “والله ليُتمِّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حَضَرَموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون”. وفي هذا الحديث فائدة حيث وجَّه المؤمنين إلى فعل ما عليهم وقت الاستطاعة.
فالحال التي وصفها النبيّ، والتي ستكون عليها دولة الإسلام هي بأيدي المؤمنين وجهودهم أنفسهم، وهنا تنتفي عن خُلُق الصّبر فكرة التفريط في الحقوق، بل الأمر بفعل الخير والصواب متى استطعت وهذا في نفسه صبر على فعل الخير.
الصبر على الغضب خاصةً
وهنا نرى أحاديث في الباب تحثُّ المؤمن على الصّبر في حال الغضب خاصَّةً. وعندما نسأل: لماذا التحذير من حال الغضب بالذات؟ نجد أنَّ الغضب هو أكبر دوافع الإنسان للخروج عن الحقّ، وأكبر نواهضه للبطش والنَّزَق والحماقة. ولك أنْ تعلم أنَّ الفلاسفة قديمًا كانوا يقسِّمون النفس تقسيمًا ثلاثيًّا -أو رُباعيًّا- منها النفس الغضبيَّة.
وهنا نرى حديث الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب.
والصرعة هي المُصارعة للغير، يقصد القوَّة الجسديَّة عمومًا. وهنا تتجلَّى حِكمة عُظمى في إعادة تعريف الأمور بصورة سليمة فامتلاك النفس حين الغضب هو حقُّ مفهوم الشدَّة والقدرة في امتلاك النفس. وبالقطع نلحظ أنَّ الحديث جعل النفس محلّ التصبُّر والامتلاك. ومن أحاديث الغضب أيضًا حديث أنَّ رجُلاً طلب وصيَّة النبيّ، فقال له: “لا تغضب”.
جزاء الصبر من الله
وإذا كنتَ يا عبد الله قد عرفت شيئًا عن الصبر فما جزاء الله عن الصبر؟ .. أورد النووي آيات تذكِّر الصالحين بجزاء الصّبر، منها أنْ تكون يا عبد الله في مَعِيَّة الله حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) -البقرة 153-، ومنها أنَّ يُعلِّمُك الله بصبرك ويُميِّزك عن غيرك في آية (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) -محمد 31-، ومنها أنْ يُوفِّيك اللهُ أجرك دون حساب في آية (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) -الزُّمُر 10-، ومن مسك الختام أنْ يُبشِّرك الله في آية البقرة 155:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
فامتثلْ يا عبد الله لأمره وتقبَّل بشارته.