الناسخ والمنسوخ… أصل من أصول الفقه
النسخ أصل راسخ في أصول الشرائع السماوية، إذ لم يقتصر وجوده على الإسلام فقط، بل كان موجودًا في الشرائع السابقة، فما هو الناسخ والمنسوخ؟ وكيف يستخدمه الغربيون لتشكيك الشباب المسلم في دينه؟
ادعاءات المشككين
لا يخفى على أحد أن هذا العصر هو عصر حرب على دين الله سبحانه وتعالى بكل الوسائل، وأن الله تعالى سينصر دينه لا محالة، شاء من شاء وأبى من أبى، ومِن محاولات أعداء الدين أنهم قد أخذوا يزرعون التشكيك في قلوب الشباب المسلم، فقالوا: «كيف من الممكن عدّ القرآن الكريم كتابًا محكمًا وقد نُسخت بعض آياته؟»، وسنرد في هذه المقالة على هذا الادعاء الذي لا يذكره إلا من قصر بصره وقلَّ علمه.
مشروعية الناسخ والمنسوخ
قد ثبت الناسخ والمنسوخ بالنقل والعقل، ولا يمكن أن يرُدّ الاستدلال به إلا من لم يرد الوصول إلى الحق، وأدلته هي:
الدليل النقلي
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [10:البقرة].
الدليل العقلي
على المسلم المؤمن بدينه المصدق لنبيه أن يقول، إذا سمع كلام الله تعالى أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،: «آمنا به»، فالإنسان عبد والله سبحانه وتعالى سيد، ولا يسأل السيدُ ماذا يفعل ولماذا يفعل؟ فيجب على العبد إذا أكرمه الله تعالى بأن أراه بعقله ما يوافق أمره سبحانه تعالى أن يكون شاكرًا لفضل الله تعالى عليه، وإن لم يره أن يكون عبدًا مستجيبًا لأمره سبحانه.
وكان من فضل الله تعالى على علماء هذه الأمة أن وجدوا من العقل ما يتوافق مع الآية الكريمة، ونجد ذلك بقولهم:
الناسخ والمنسوخ أصلٌ موجودٌ منذ القدم ولا ينكره إلا من ضاق تفكيره وقلّ نظره، فلو رجعنا إلى شريعة أبينا آدم، لوجدنا أن أصل النسخ كان موجودًا في عصره، فعندما أنزل الله سبحانه وتعالى آدم وحواء إلى الأرض، كتب الله أن تحمل حواء في كل بطن ولدين ذكر وأنثى، فكانت كلما ولدت بطنيْن، تزوج الولد من البطن الأول بالبنت من البطن الثاني والعكس بالعكس، وبذلك كان مشروعًا زواج الأخ من أخته في شريعة أبينا أدم، لكن هذا الأمر نُسخ في كل الأديان والتشريعات التي جاءت بعد شريعة أبينا أدم.
ولم يقتصر الأمر على شريعة آدم عليه السلام فقد وجد الناسخ والمنسوخ في كل الشرائع التي جاءت بعده، ومن أمثلة ذلك أن الطلاق كان مشروعًا في شريعة نبي الله موسى، وعندما جاءت شريعة نبي الله عيسى نُسخ هذا الحكم وانتهت مشروعية الطلاق في شريعته عليه السلام.
وقد منَّ الله على المؤمنين إذ جعل شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تنسخ كل الشرائع التي كانت قبلها ليختم الله تعالى بشريعة المصطفى كل الشرائع السماوية.
معنى النسخ في لسان العرب
لا يستطيع أي شخص أن يستنبط أو يستنتج من كتاب الله تعالى أي حكم دون معرفة باللغة العربية، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:02]، وقد استخدمت العرب كلمة «النسخ» في معنيين اثنين ليس لهما ثالث، وهما:
المعنى الأول
كان أول معنى لكلمة «النسخ» هو النقل، وهو في قول الله تعالى: {هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الجاثية:29]، وحقيقة النسخ في هذه الآية هي نقل خط من أصل ينظم فيه، فأعمال العباد كأنها الأصل(1). أي أن الملائكة تنقل وتكتب أعمال العباد، وهذا المعنى ليس المراد في آية النسخ {ما ننسخ..}؛ لأن الأحكام والتشريعات لا تُنقل.
المعنى الثاني
والمعنى الثاني لكلمة «نسخ» هو إبطال مفعول الشيء، وهو المراد بآية النسخ، ومنه قول العرب: «نسخت الشمس الظل»، أي أبطلت أثره، وقولهم: «نسخت الريح الأثر»، أي أبطلته وأزالته(2)، ويتميز المعنى الشرعي للنسخ عن اللغوي في أن النسخ الشرعي هو النسخ حكمًا وليس أثرًا.
معنى قوله تعالى: {أو ننسها}
معنى {أو ننسها}، كما ذكر السعدي في تفسيره، ننسها العباد، فنزيلها من قلوبهم، وفي ذلك ذكر القرطبي أن رجلًا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيءٍ منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها، فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الآخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها مما نُسخ الله البارحة»، وفي تفسير الطبراني: «إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها».
أنواع النسخ
قد نص علماء أصول الفقه على أن للناسخ والمنسوخ العديد من الأنواع، وهي نسخ القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، والسنة بالسنة، وتفصيل ذلك:
نسخ القرآن بالقرآن
قصد به الفقهاء أن الآية من كتاب الله تنزل فتنسخ آية أخرى من الكتاب سبقت ونزلت، ويكون النسخ على مراتب عديدة، فمن الآيات المنسوخة ما نسخ لفظًا وحكمًا ومنها ما نسخ لفظًا وبقي حكمًا ومنها ما نسخ حكمًا وبقي لفظًا، وأمثلة ذلك:
نسخ الحكم واللفظ معًا
عن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قال: «إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ)» أخرجه مسلم (1050)، وهذه الآية مما نسخ حكمًا ولفظًا من كتاب الله تعالى.
نسخ الحكم وبقاء اللفظ
تعد قصة نزول آخر آيتين من سورة البقرة أشهر الأمثلة على هذا النوع، وهي أنه عندما نزل قول الله تعالى: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، خاف الصحابة خوفًا شديدًا، واشتَدَّ ذلك عليهم، وكأنَّهم من خَوفِهم قالوا: كيف نُحاسَبُ بما أخفَينا ولم نتكلَّم به ولم يَظهَر؟، فعندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، صحح لهم طريقهم فقال: «قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا وسَلَّمْنا»، فأطاع الصحابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستجابوا له فسلّموا أمرهم لله تعالى، وعندئذ نزل التخفيف من الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، فنسخت هذه الآية حكمَ الآية التي سبقتها؛ رحمةً من الله تعالى بحال المؤمنين، وأُبقي لفظ الآية الأولى بالقرآن ليتذكر المؤمنون عظيم فضل الله عليهم كلما مروا عليها.
نسخ اللفظ وبقاء الحكم
ومن أمثلة هذا النوع أنه كان في القرآن الكريم آية الرجم، وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله * والله عزيز حكيم)؛ وهي مما نسخ من سورة الأحزاب، وقد رفع الله لفظها من كتابه وأبقى حكمها، ودل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس ـرضي الله عنهماـ إذ قال: قال عمر: «إن الله قد بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه: «آية الرجم»، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها، فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل:«ما نجد الرجم في كتاب الله!»، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على مَن زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيِّنة أو كان الحبل أو الاعتراف، وقد قرأتها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالًا من الله، والله عزيز حكيم)». متفق عليه.
نسخ القرآن للسنة
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- شأنُ الْقِبْلَةِ: قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فاستقبل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، ثُمَّ صَرَفَهُ إِلَى بَيْتِه الْعَتِيقِ وَنَسَخَهَا، فَقَالَ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150] (3).
وكان استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس في بداية الأمر سنةً إذ لم تنزل آية صريحة تأمره بذلك، لكن فعله وسنته صلى الله عليه وسلم نُسخت عندما نزلت آيات تبديل القبلة، فكان هذا من القرآن الذي نسَخ السنة.
نسخ السنة للقرآن
قد ذكر علماء الفقه جواز نسخ السنة الشريفة للقرآن الكريم إذا كانت صحيحة متواترة، ومثال ذلك ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- أن قوله سبحانه: {إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} منسوخ بآية المواريث وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وصية لوارث)).
نسخ السنة بالسنة
هي أن يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فينسخ ويبدِّل حكمًا ثبت سابقًا بحديث آخر، ومن أشهر الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) (4)، فكان الحكم الأول «النهي عن زيارة القبور»، ونُسخ بحكم جديد وهو خلاف الحكم الأول.
الحكمة من الناسخ والمنسوخ
يقول الله تعالى في نهاية آية النسخ: {ألم تعلم أن الله على كل شيْ قدير} [106] فالله سبحانه وتعالى هو القادر الذي أنزل القرآن، وهو القادر على تبديله وتغييره كيفما شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى، وليس للإنسان أن يطالب بمعرفة السبب وراء أفعال وأوامر الله سبحانه وتعالى، لكن الله كريم ذو فضل واسع على عباده فقد رزق بعضهم فهم يثبت به القلوب ويقوي به الإيمان، ومن ذلك ما ذكر الإمام القرطبي أن الحكمة من النسخ هي: التذكير بنعمة الله تعالى ومراعاة أحوال الخلق.
ونجد ذلك جليًا في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إذ قَالَ: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((فَفَرَضَ اللَّهُ علَى أُمَّتي خَمْسِينَ صَلاةً، قالَ: فَرَجَعْتُ بذلكَ حتَّى أمُرَّ بمُوسَى، فقالَ مُوسَى عليه السَّلامُ: ماذا فَرَضَ رَبُّكَ علَى أُمَّتِكَ؟ قالَ: قُلتُ: فَرَضَ عليهم خَمْسِينَ صَلاةً، قالَ لي مُوسَى عليه السَّلامُ: فَراجِعْ رَبَّكَ، فإنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذلكَ، قالَ: فَراجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَها، قالَ: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى عليه السَّلامُ، فأخْبَرْتُهُ قالَ: راجِعْ رَبَّكَ، فإنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذلكَ، قالَ: فَراجَعْتُ رَبِّي، فقالَ: هي خَمْسٌ وهي خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، قالَ: فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، فقالَ: راجِعْ رَبَّكَ، فَقُلتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِن رَبِّي)) (5)، ويظهر في الحديث أن الله سبحانه وتعالى راعى خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، وإن ذلك محال في جهة الله تعالى.
المصادر
- (1)البحر المحيط لأبي حيان — أبو حيان (٧٤٥ هـ).
- (2)كتاب شرح الكوكب المنير = شرح مختصر التحرير /ابن النجار الفتوحي.
- (3)وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ (١/٣٤٦) مِنْ طريق حجاج بن محمد به، ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٢٦٧) من طريق ابن جريج عن عطاء بِهِ وَقَالَ:«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه بهذا السياق».
- (4)الراوي : أنس بن مالك | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 4584 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه أحمد (13487)، وأبو يعلى (3707) مطولاً، والحاكم (1393) واللفظ له.
- (5)الراوي : أنس بن مالك وابن حزم | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم | الصفحة أو الرقم : 163 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح].