الشيخ عبد الرحمن السعدي .. صاحب التفسير المبارك
لا أستطيع البدء إلا بقوله تعالى: “قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”. وكيف لي ألا أبدأ بها؛ ونحن نتحدث عن رجل أكرمه الله بفضله، ومنّ عليه ورفع قدره؛ فصار قامة راسخة في تفسير القرآن، ومرجعًا ترجع إليه الأمة عند تساؤلها عن معنى آية من آيات الله؛ ألا وهو الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله ونفعنا به-. وصدق من قال: “إن معاني القرآن لا تذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين”.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ النشأة والطفولة
هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي من نواصر بني تميم. ولد في مدينة عنيزة، في الثاني عشر من شهر محرم سنة 1307هـ / 1889م. توفيت والدته وهو بعمر ثلاث سنين، وتُوفي والده وعمره خمس سنين. ثم تكفلت زوجة أبيه بتربيته فكانت تعطف عليه كما تعطف على أبنائها، ولما شبَّ انتقل إلى بيت أخيه الأكبر حمد، فنشأ تحت كنفه وتربى على يديه تربية صالحة.
كان أخوه حمد يحبه حبًا جمًا، وكان يشجعه دومًا على طلب العلم؛ فكان لا يناديه إلا بـ”الشيخ”. وظل هذا الحب والتقدير متبادلًا بينهما، فكان الشيخ عبد الرحمن يحترم أخاه ويعزه أشد معزة، فكان يناديه باللهجة العامية بـ”يبه” أي والدي.
ومن كرم الله -تعالى- على حمد أن يمد بعمره ليرى أخاه من أكابر الشيوخ وأكثرهم علمًا وفقهًا، فقد عاش حمد أكثر من مئة عام، حتى أنه تُوفي بعد أخيه الشيخ عبد الرحمن بـ 12 عامًا. واتسمت نشأة الشيخ عبد الرحمن السعدي بالصلاح؛ فكان حريصًا كل الحرص على الصلاة مع الجماعة، كما اشتهر بفطنته وذكائه وطلبه للعلم.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ أساتذته وشيوخه
لقد تلقى الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- العلم عن عدد كبير من العلماء الذين شُهد لهم بالعلم والفضل، نذكر منهم:
- الشيخ علي بن محمد السناني (1263-1339هـ). وكان ذا فضل بتعليم الشيخ عبد الرحمن علمي التفسير والحديث.
- الشيخ علي بن ناصر بن وادي (1273-1361هـ). تلقى عنه الشيخ عبد الرحمن روايات عديدة في الحديث.
- الشيخ ابراهيم بن حمد بن جاسر (1241-1338هـ). وكان -رحمه الله- يحفظ الصحيحين.
- الشيخ المؤرخ ابراهيم بن صالح بن عيسى (1270-1343هـ). وقد نال الشيخ منه روايات عديدة من كتب الحديث.
- الشيخ المقرئ عبد الله بن عائض (1249-1322هـ).
- الشيخ صالح بن عثمان القاضي (1282-1351هـ).
وغيرهم الكثيرون الذين كان لهم فضل كبير في ظهور قامة علمية شامخة في التفسير؛ كالشيخ عبد الرحمن السعدي. رحمهم الله جميعًا وجزاهم خير الجزاء.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ خَلقه وخُلُقه
كان ذا قامة متوسطة، وشعر كثيف، ووجه مستدير ممتلئ، ولحية كثة، وكان لونه أبيض مشرب بحمرة. وقد ذُكر عن ابنه محمد أن الشيخ قد ابيضت لحيته، وهو ذو ثماني وعشرين سنة. وقد وصفه أهل عصره بأنه كان آية في الأخلاق؛ طبعه الرحمة والمحبة، وحليته الصبر، وتعامله الود. كان -رحمه الله تعالى- ذا دعابة ومرح، ولم يكن من طبعه الغضب. وكان في غاية التواضع، ومن ذلك حرصه على إجابة دعوة من دعاه، وزيارة مرضى الناس، ومشاركته في تشييع جنائزهم.
وقد ذكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: “كان عبد الرحمن السعدي قليل الكلام إلا فيما ترتب عليه فائدة، وكان متواضعًا، حسن الخلق“. وعندما سئل الشيخ الألباني عن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي قال:
رأيت فيه تواضع العلماء، كسائر علماء نجد، يذكروننا بأخلاق العلماء المتقدمين وتواضعهم، وليس كغيرهم ممن جعلهم علمهم مغرورين متكبرين.
ومدحه الشيخ ابن عثيمين قائلًا: “قلّ أن يوجد مثله في عصره في عبادته وعلمه وأخلاقه؛ حيث كان يعامل كلًا من الصغير والكبير بحسب ما يليق بحاله، ويتفقد الفقراء، فيوصل إليهم ما يسد حاجتهم بنفسه، وكان صبورًَا على ما يلم به من أذى الناس…”.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ علمه:
نشأ الشيخ عبد الرحمن السعدي على العلم وطلبه، فأمضى حياته بين حفظ ودراسة وتحصيل وتدريس. فأخرج لنا المؤلفات التي أثَّرت وكتب الله لها الشُّهرة والذيوع. وقد تنوعت أشغال الشيخ العلمية؛ إذ يكاد لم يدع علمًا شرعيًا إلا وترك به مؤلفًا. ومن هذه المؤلفات: خلاصة التفسير، والقواعد الحسان، والفتاوى وبهجة قلوب الأبرار، وغيرها.
وقد أكرم الله -تعالى- الشيخ عبد الرحمن السعدي بفهم عميق لعلم التفسير؛ فترك واحدًا من أعظم مؤلفاته “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان” المشهور بـ “تفسير السعدي”، الذي نال قبولًا منقطع النظير.
وقد سار الشيخ في تفسيره بمنهج منفرد متميز؛ فاعتنى بهداية القرآن وأثرها في إصلاح القلوب واستقامة الدين، كما أنه أحب الأسلوب الميسر الواضح للقارئ، بل كان يجمع عددًا من الأقوال في الآية الواحدة، ويصوغها بعبارات موجزة تؤلف بين الأقوال، وتجمع أطراف الموضوع.
وقد وصف الشيخ عبد الله بن عقيل التفسير بقوله: “الحقيقة أن هذا التفسير قد وضع الله له القبول بين المسلمين، فهو يذاع من إذاعة القرآن الكريم بالمملكة يوميًا مرتين، ويُقرأ في المساجد على جماعة المصلين، ويُدَرَّس في حلقات المشايخ”.
خصائص تفسير عبد الرحمن السعدي
وقد جمع الشيخ ابن عثيمين كل ما يذكر عن تفسير السعدي، بقوله: “فإن تفسير شيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي، المسمى (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) من أحسن التفاسير، حيث كان له ميزات كثيرة:
- منها سهولة العبارة ووضوحها؛ حيث يفهمها الراسخ في العلم ومن دونه.
- ومنها تجنب الحشو والتطويل الذي لا فائدة منه إلا إضاعة وقت القارئ، وتبلبل فكره.
- ومنها تجنب ذكر الخلاف؛ إلا أن يكون الخلاف قويًا تدعو الحاجة إلى ذكره، وهذه ميزة مهمة بالنسبة للقارئ؛ حيث يثبت فهمه على شيء واحد.
- ومنها السير على منهج السلف في آيات الصفات؛ فلا تحريف، ولا تأويل يخالف مراد الله بكلامه؛ فهو عمدة في تقرير العقيدة.
- ومنها دقة الاستنباط فيما تدل عليه الآيات من الفوائد والأحكام والحكم. وهذا يظهر جليًا في بعض الآيات كآية الوضوء في سورة المائدة حيث استنبط منها خمسين حكمًا، وكما في قصة داود وسليمان في سورة ص”.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ كتب وتراجم عنه
وقد كانت جهود الشيخ السعدي محط اهتمام أهل العلم؛ فكتب عنه وترجم له الكثيرون. وهنا بعض أسماء الكتب والمؤلفات التي ذكرت ترجمة الشيخ؛ لمن أراد معرفة المزيد عن حياته والإطلاع على مواقف الشيخ المتعددة، وهي:
- (روضة الناظرين)، كتبه الشيخ حمد القاضي.
- (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، للشيخ عبد الله البسام.
- (الشيخ عبد الرحمن السعدي مفسرًا)، للشيخ عبد الله بن سابح الطيار.
- (صفحات من حياة علامة القصيم عبد الرحمن بن سعدي) و(أثر علامة القصيم عبد الرحمن السعدي على الحركة العلمية المعاصرة)، للشيخ أ.د. عبدالله بن محمد الطيار.
- (جهود الشيخ عبد الرحمن السعدي في العقيدة)، للشيخ د. عبدالرزاق البدر.
الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ أعماله ومناصبه
على الرغم من كثرة أعماله -رحمه الله-؛ إلا أنها اجتمعت في طلب رضوان الله وخدمة دينه. ونذكر منها عمله مدرسًا وخطيبًا ومؤسسًا للأعمال والمشاريع الخيرية. ولم يعمل الشيخ -رحمه الله- لطلب مال أو جاه، وإنما عمل احتسابًا لله -تعالى-؛ فكان هو الواعظ والمدرس والخطيب والإمام وكاتب الوثائق ومحرر الوصايا وعاقد الأنكحة والمفتي ومستشار الناس. ومن ورعه أنه امتنع عن القضاء الذي عُرض عليه 1360هـ، وقد عمل في نهاية حياته مشرفًا للمعهد العلمي في عنيزة دون أي مقابل.
وقد نتج عن إفادة الشيخ السعدي الآخرين بعلمه أن تخرج على يديه شيوخ من كبار علماء زمانهم، أمثال: الشيخ عبد الله بن عقيل، والشيخ عبد العزيز السلمان، والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ عبد الله البسام.
مرض موته
أصيب الشيخ -رحمه الله- بمرض ارتفاع الضغط، وتصلب الشرايين، فكانت تعتريه مرة بعد مرة إلى أن توفاه الله قبل طلوع فجر يوم الخميس 23 سنة 1375هـ عن 79 سنة، رحمه الله تعالى وجزاه كل خير.
في الختام لا يستحضرني إلا قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وأرجو أن يكون الشيخ عبد الرحمن منهم: “وأما العلم اللدني فلا ريب أن الله يفتح على قلوب أوليائه المتقين، وعباده الصالحين بسبب طهارة قلوبهم مما يكرهه، واتباعهم ما يحبه ما لا يفتح به على غيرهم”. وكما قال سيدنا علي -رضي الله عنه-: “إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه”. وفي الأثر “من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم”. رحمك الله يا شيخنا عبد الرحمن السعدي، وجزاك الله عنا خيرًا.
المصادر
كتاب تراجم لتسعة من الأعلام، للشيخ محمد الحمد.