رحلة من الاجتهاد إلى التقليد

لو أننا نظرنا بحثًا في القرون الخمسة الأولى من الإسلام لما استطعنا حصر المجتهدين فيهم؛ فقد بلغ عددهم الشيء الكثير، وكان من النادر أن نجد مصرًا من أمصار المسلمين إلا ووُجد به مجتهد، ثم إذا ما حولنا نظرنا إلى القرون التالية لوجدنا أن المجتهدين فيهم ندرة وأن المقلدين فيهم كثرة، فما هو السبب الذي أدى لركود رياح الاجتهاد؟ وما هي العوامل التي حالت بين العلماء ورتبة الاجتهاد؟  

مقدمة

شبهة أن القرآن مقتبس من الكتاب المقدس

ارتكز الفقه الإسلامي على ثلاثة أركان، وهي:

  • القرآن الكريم: وهو أساس الدين ومصدر التشريع فيه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم…. من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم))(1)
  • السنة: وهي كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو إقرار، والسنة هي دليل تثبت به الأحكام ويجب به العمل، يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر، الآية 7). 
  • آراء الفقهاء: لا نقصد بالآراء هنا تلك الآراء التي كان سببها العقل والهوى دون أن يكون لها دليل أو أصل ملموس، وإنما نقصد بالآراء ما كان مستندًا إلى الكتاب والسنة، وكانت آراء الفقهاء تختلف باختلاف المجتهد وطرق فهمه للنصوص وأصول استنباطه للأحكام.

أدوار التشريع 

لكي نستطيع البدء في رحلة نوضح فيها أصل التشريع من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحالي، لا بد لنا من تقسيم هذه الرحلة إلى أدوار وفق أصول التشريع في كل منها، ونقصد بالأدوار “الفترات” أو “المراحل الزمنية”، وبذلك نجد أن الأدوار ستة، وهي:

 الدور الأول: دور التشريع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الرسول

بدأ التشريع في هذا الدور منذ بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء في يوم الجمعة من السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثالثة عشرة قبل الهجرة، والتي توافق 610م، واستمر التشريع فيه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الحادي عشر بعد الهجرة.

وسائل التشريع في هذا الدور

انحصرت مصادر التشريع في هذا الدور على القرآن والسنة، حيث لم يكن هناك مجال للاجتهاد بالرأي مع القرآن، إلا ما كان تفسيرًا واستنباطًا للأحكام من القرآن، ومع ذلك فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالاجتهاد في بعض المواقع، ونذكر من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أنه قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك))، وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك الأجر مرتين)).(2)

ويكون بذلك قد فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب الاجتهاد ومنح أصحابه رضوان الله عليهم ملكة الاجتهاد، ولم يكن اجتهاد الصحابة في هذا العصر إلا في الحالات التي يعسر عليهم الرجوع بها إلى رسول الله، وكانوا إذا عادوا بها للنبي فأقرها استمروا عليها، وإن لم يقرها تركوها.

الدور الثاني: دور التشريع في عهد كبار الصحابة

امتد هذا الدور من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في 11هـ إلى انتهاء العصر الراشدي في 40هـ، واعتبر هذا الدور مرحلة جديدًا بالكلية في تاريخ التشريع، إذ إنه بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطع وحي السماء إلى الأرض، ومع ظهور أمور جديدة لم تكن في عصر رسول الله ولم يظهر حكمها في الكتاب والسنة، كان لا بد للصحابة من الاجتهاد بهدف الوصول إلى الحكم الظني لها، معتمدين بذلك على ما عاشوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدوه منه، أصلهم في ذلك كتاب الله وسنة نبيه.

ولم يكن الخلاف في هذا الدور بالشيء الكثير، ويعود ذلك لسياسة أبي بكر وعمر، التي اعتمدت على ألا تصدر الأحكام إلا بعد استشارة كبار الصحابة، وكان عمر لا يسمح لأحد أن يتهاون في الفتوى، كما أنهم كانوا رضوان الله عليهم يقتصرون بالاجتهاد على ما كان ينزل بهم من الحوادث، وكانوا يرون ما يبدو لهم من الرأي منسوبًا إليهم لا إلى الشريعة، فكان أبو بكر يقول إذا اجتهد: «هذا رأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله».

الدور الثالث: دور التشريع في عهد صغار الصحابة 

يمتد هذا الدور من بداية ولاية معاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ إلى القرن الثاني للهجرة، وقد امتاز هذا الدور بتفرق قسم من المسلمين إلى فرق لكل منهم ميولهم واتجاهاتهم، كما أن الصحابة قد انتشروا في هذا الدور في أقطار البلاد، وأخذوا ينشرون العلم والحديث بين الناس في الأمصار، وبذلك ظهر جيل جديد من العلماء الذين لازموا الصحابة وكبار التابعين.

ولم ينتسب الناس في هذا العصر إلى مجتهد بعينه أو فقيه بذاته، وإنما كانوا يكتفون بأشخاص معينين في أمصارهم، وضعت الفتوى بين أيديهم، ففي المدينة كان يفتي للناس ابن عمر وأبو هريرة وعائشة، وفي مكة ابن عباس، وفي البصرة أنس بن مالك، وغيرهم الكثير.

الدور الرابع: دور السنة والفقه وظهور كبار الأئمة

الاجتهاد

قد امتد الدور الرابع من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وقد امتاز هذا الدور باتساع بلاد المسلمين وازدهار الحركة العلمية بالأمصار الإسلامية، لكن أهم ما ميزه هو تدوين السنة وظهور المذاهب الفقهية.

الدور الخامس: دور قيام المذاهب والانتصار لها

بدأ الدور الخامس من منتصف القرن الرابع حتى سقوط بغداد، وكان أكثر ما يميز هذا الدور هو ظهور روح التقليد والتعصب المذهبي والانتصار لأئمة المذاهب والترجيح بين أقوالهم، كما مُلئ هذا الدور بالمناقشات الفقهية في المسائل المتلقاة عن الأئمة، وكتبت فيه المؤلفات الضخمة.

الدور السادس: دور التشريع في عهد التقليد

بدأ هذا الدور بسقوط بغداد ولم ينته حتى وقتنا الحالي، ونال هذا الدور اسم «دور التقليد»؛ لاختفاء روح الاجتهاد فيه وتمكن سمة التقليد من نفوس العلماء، فلم يُرَ من سمتْ نفسه إلى رتبة الاجتهاد إلا في القليل النادر. 

ففي بداية هذا الدور قد ظهر من العلماء من بلغوا رتبة الاجتهاد، كالعز بن عبد السلام، وابن الحاجب، وابن دقيق العيد، وابن الرقعة، وابن تيمية، والسبكي وابنه، وابن القيم، والبلقيني، والكمال بن الهمام وغيرهم، وعلى الرغم من بلوغهم رتبة الاجتهاد إلا أنهم توقفوا عند مذاهب الأئمة المعروفين في غالب أحوالهم.

ثم إذا ما رجعنا إلى الفترة التي لحقت بهؤلاء المجتهدين لا نكاد نسمع باسم عالم كبير أو فقيه عظيم بل نجد علماء ساد عليهم التقليد، فاكتفوا بما سبقهم من الفقه، ولم يشغلوا أنفسهم بخلاف ما لديهم، فنجدهم يركنون إلى الكتب التي اشتد بها الاختصار، وأعلنوا أنه لا يجوز لفقيه أن يختار ولا أن يرجح، وأن زمن ذلك قد فات.

أسباب ظهور التقليد واختفاء الاجتهاد

كان تعددُ الأسباب وكثرتها حائلًا بيننا وبين حصرها، ولذلك اكتفينا بذكر سببين رئيسين كان لهما الأثر الكبير بظهور التقليد واختفاء الاجتهاد، وهما:

انقطاع الصلة بين علماء الأمصار الإسلامية

الاجتهاد

كان العالِم لا يسمى عالمًا ولا الفقيه فقيهًا حتى ينال العلم والفقه بالسفر والترحال، فكان العالم ينال علمه بعلماء مصره أولُا، فإذا نال علمهم رحل إلى الأمصار الأخرى فتلقى العلم من علمائها، وقليل هم العلماء الذين قد نبغوا وبرزوا مع بقائهم في بلادهم.

كان الحج محطة تجمع علماء كل عصر، ففيه تتقوى الصلات بين العلماء، ويستفيد كل عالم من الآخر فيتلقى منه العلم والحديث، ولذلك كان التعارف شديدًا بين علماء كل عصر على الرغم من صعوبة السفر وشدته.

أما في الدور السادس ولا سيما في أواخره،  فقد قلت الصلة بين علماء الأمصار، فلا يكاد عالم في الشام يسمع بعالم بالهند إلا إن بلغه بعض كتبه، ومن أشد الأمور وقعًا أن العالِم كان في موسم الحج لا يهتم بالتعرف على علماء الأمصار الأخرى، وهذا ما أدى لضعف في العلوم الشرعية.

انقطاع الصلة بين العلماء وبين كتب الأئمة 

قد كتب الأئمة المجتهدون كتبًا عظيمة، ككتب محمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس وغيرهم من كتب كبار الأئمة والمجتهدين، وعلى الرغم من وصول كتبهم إلينا إلا أننا جعلناها أثرًا من الآثار، فقليل هم العلماء الذين حرصوا على التعلم منها والرجوع إليها، إذ قد رضي الأكثر بما وصلهم من كتب الدور الذي ساد به التقليد وتقهقرت به رتب العلماء، وهذا ليس تقليلًا من قدرها ومكانتها، لكن إذا قورنت مع كتب السلف وجد فرق شاسع في حسن الكتابة وسلامة الأسلوب وسهولة المأخذ.

وإذا نظرنا نظرة سريعة في تاريخ الاجتهاد لوجدنا أن أكثر المجتهدين لم يخرّجوا إلا مجتهدين مثلهم، فنجد مثلًا أبا حنيفة النعمان قد خرّج مجتهدين كُثرا أمثال أبي يوسف ومحمد الشيباني وزفر وغيرهم، وهذا هو أمر كل مجتهد مرب يعمل على إكساب طلابه ملكة الاجتهاد، ولا يجعلهم يكتفون بحفظ الأحكام ونقلها إلى الناس.

وهذا الحال هو حال شبيه بحال الكتب التي كتبوها، فعندما يدرس العالم كتب الأئمة ويتغذى عليها يجد نفسه امتلك ملكة الفقيه الحقيقي، التي تؤهله لفهم طرق الاستنباط ووسائل الاستنتاج، على عكس الكتب التي اشتد بها الاختصار حتى أصبحت كتبًا لا تحوي إلا على الأحكام.   

المصادر:

  • تاريخ التشريع الإسلامي تأليف محمد الخضري بك.
  • مدخل إلى الشريعة الإسلامية/ أسامة الحموي – أحمد أبو ضاهر/
  • (1) رواه الترمذي والحاكم.
  • (2)المحدث: الألباني/ صحيح أبي داود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى