نتنياهو من اختلاق الإرهاب إلى الحرب على الإسلام

هذا المقال ترجمة من العبرية لمقال: نحن الراديكاليون واختلاق الإرهاب، لكاتبه: شوشانا جباي، على موقع: haokets، الآراء الواردة أدناه تعبر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبر بالضرورة عن تبيان.

كان بنيامين نتنياهو شخصية أمريكية شهيرة، عندما هبط على الساحة السياسية في إسرائيل في أواخر الثمانينيات. وقد أثمر دعم دوائر الحكم الجمهوري في واشنطن، وهي من أقوى الدوائر في العالم، استمرار حكمه حتى اليوم. وللتعمية على كونه شخصية دخيلة في إسرائيل، صوَّر نتنياهو الدعم الأمريكي الهائل له على أنه مرتبط بمنصبه رئيسًا للحكومة، ولا يرتبط بالدعم الذي بدأ قبل مدة طويلة نتيجة ثمرة عمله في الإعداد والترويج لـ”نظرية الإرهاب الدولي” لصالح الإدارة الأمريكية.

يقتبس موقع رئيس الحكومة الإسرائيلية من وزير الخارجية الأمريكي السابق “جورج شولتز” قوله: إن أنشطة نتنياهو العامة وكتبه عن الإرهاب كان لها  “تأثير حاسم” في صوغ السياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية عقد الثمانينيات، أيْ تحويل حرب الحضارات الدينية والعرقية إلى عقيدة مستقبلية لحروب الولايات المتحدة في العالم.

إن “الإرهاب الدولي” منتج سياسي وأيديولوجي جديد ابتكره بنيامين نتنياهو ووالده البروفيسور بنتسيون نتنياهو في أواخر السبعينيات. وطرح هذا المنتج تهديدًا وجوديًا جديدًا للإنسانية، على وجه لم تعلنه أجهزة الاستخبارات الغربية: شبكة دولية إسلامية تديرها أذرع الأخطبوط السوفيتي العدو التقليدي للولايات المتحدة. كان “الإرهاب الدولي” من قبيل صيغة سحرية مرنة وذاتية، تضع العنف السياسي المألوف في ثوب جديد مخيف، يميز جميع الانتفاضات الشعبية وكل هدف حربي عسكري ترغب فيه الولايات المتحدة والغرب في تحقيقه.

في عام 1976 كان نتنياهو الأب أستاذًا متقاعدًا للتاريخ، وقد بدأ ابنه بنيامين 27 عامًا عمله مستشارًا اقتصاديًا في القطاع الخاص. ومع أنهما هاجرا من إسرائيل قبل ذلك ببضع سنوات؛ فإن الأمريكيين رأوهما خبيرَيْن في مسألة التفوق العسكري الإسرائيلي؛ وذلك لأن يوناثان -الابن والشقيق- قائد وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي “سييرت متكال”، تحول بين عشية وضحاها إلى أيقونة الجماهير الأمريكية، بعد أن قُتل في عملية عنتيبي في 4 تموز 1976. تمكنت أسرة نتنياهو من أن تستحوذ بمفردها على هذا الحدث المأساوي؛ الذي يعد أحد أبرز انتصارات الجيش الإسرائيلي في العالم. وأصبحت العمليات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي الأفريقية محط أنظار العالم، وتحظى بإحاطة إعلامية مكثفة، وسرعان ما انتقلت هذه العمليات إلى هوليوود ودور النشر. بيد أن أسرة نتنياهو ذات الطاقات المتفجرة سعت لأكثر من 15 دقيقة من المديح.

كانت فكرة أسرة نتنياهو هي استغلال الأحداث الإرهابية في السبعينيات، مثل اختطاف منظمة الألوية الحمراء لرئيس الوزراء الإيطالي، ألدو مورو، وقتله، ومذبحة كنجز ميلز التي نفذها الجيش الجمهوري الأيرلندي، واختطاف الطائرة الإسرائيلية إلى عنتيبي؛ ثم جاءت ذروة هذه الأحداث مذبحة أولمبياد ميونيخ عام 1972 التي شاهدها على الهواء نحو 900 مليون مشاهد في جميع بقاع العالم . وقد أثارت هذه الأحداث خوف الجمهورالأمريكي وحركت أحاسيسه ودفعته إلى لزوم شاشات التلفاز. واقترح نتنياهو الأب والابن على الإدارة الأمريكية استغلال هذه الأحداث لجعل الشعب الأمريكي على وجه الخصوص والشعوب الغربية عمومًا؛ تشعر وكأنها تتعرض لخطر الإبادة (مع أن هذه الاستراتيجية أثبتت إخفاقها الذريع).

كان مفهوم ترهيب الشعب لدى الإدارة الأمريكية يناقض المفهوم الذي استعملته الولايات المتحدة إبان أزمة الصواريخ مع الاتحاد السوفيتي في الستينيات. وهي الأزمة التي كان يمكن أن تصبح محرقة نووية مروعة. في ذلك الوقت حرص قادة الولايات المتحدة على استعمال لغة متزنة وعقلانية من دون إثارة خوف الجماهير. وحتى ذلك الوقت استعملت الإدارة الغربية الدبلوماسية أو قوات الشرطة أو مكتب التحقيقات الفيدرالي ردًا مناسبًا على هذا النوع من العنف السياسي؛ الذي لم يُنظر إليه عمومًا على أنه تهديد بدرجة خطيرة. وبدلًا من ذلك، اقترحت أسرة نتنياهو على الأمريكيين استغلال الإمكانيات العاطفية الهائلة للإرهاب المعروض على الشاشات لصالح الإجماع على “الحرب على الإرهاب”، أي حرب علنية على العدو الشيطاني المتمثل في الإرهاب العربي المسلم، وهي حرب ستحظى بشعبية واسعة لدى مشاهدي التلفاز، مثل عملية عنتيبي، وعلى النقيض من حرب فيتنام التي لم تحظَ بتأييد.

وإذا كان النشر في وسائل الإعلام غذاءً لتكتيك الإرهاب؛ فإن “الحرب على الإرهاب” هو غذاء المشروع السياسي لنتنياهو الابن. لكن نشر الجرائم السياسية التي ارتكبها الإرهابيون من أجل توجيه وعي العالم إلى كفاحهم الوطني أو غيره، حوَّل نتنياهو إلى أحد أشهر الشخصيات في الولايات المتحدة. وإذا كان الإرهاب صاحب نسب المشاهدة العالية في الإعلام الأمريكي (نوع من التجسيد الأول لبرامج الواقع) لا علاقة له تقريبًا بأمن المواطنين الأمريكيين؛ فإن نتنياهو لم يُفزع المشاهدين ومقدمي البرامج الحوارية التي شارك فيها من كثرة الأخطار التي تنتظرهم فحسب؛ بل إنه أنقذ حياتهم بالطريقة نفسها، وذلك بالحلول التي قدمها للقضاء على هذا الخطر الرهيب. وكان من الممكن عندئذٍ تصديقه، ألم يكن شقيقه يوناثان بطل عملية عنتيبي الذي حارب الإرهاب؟

إيقاظ الغرب من سباته

نتنياهو من اختلاق الإرهاب إلى الحرب على الإسلام

كانت الجنة التي نُفذت فيها الأفكار المتطرفة لأسرة نتنياهو؛ هي المدة التي شهدت صعود رؤوس الأموال الكبيرة وشركات صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة، وبدأت في تدمير دولة الرفاه التي أخذت تتطور في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ازدادت قوة شركات الأسلحة الأمريكية إبان الحرب، ولم تكن لديها نية لتقليص قوتها وأرباحها في ذلك الوقت، عندما أصبحت الولايات المتحدة أقوى إمبراطورية في العالم. وقد حذر الرئيس أيزنهاور في خطاب غير مألوف في عام 1961 من الأخطار التي تتعرض لها حريات المجتمع المدني والديمقراطية في الولايات المتحدة، من شركات صناعة الأسلحة الأمريكية التي تمول أعمال أعضاء مجلس الشيوخ ونواب الحزبين الجمهوري والديمقراطي لمواصلة حالة الحرب المستمرة. وطلب ايزنهاور من المواطنين أن يكونوا يقظين من أجل إرغام شركات الصناعات الدفاعية على العودة إلى المفهوم الأمريكي القديم: تقليص صناعة الأسلحة والعودة إلى الأنشطة السلمية بعد كل حرب.

وبالفعل أثبت خروج الولايات المتحدة من فيتنام لشركات صناعة السلاح أنها لا تستطيع الاعتماد على الإدارة لشن حروب مدة طويلة على شعوب العالمين الثاني والثالث؛ لأن أبناء الطبقة الوسطى الأمريكية الذين أمضوا الخدمة العسكرية الإجبارية خرجوا في تظاهرات، وضغطوا من أجل وضع حد للصراع في فيتنام بأسرع ما يمكن. زد على ذلك أن الأسوأ لشركات السلاح حدث في أواخر الستينيات، حين هددت سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفيتي التي بدأها الرئيس نيكسون ووزير الخارجية كيسنجر، بإفقاد الولايات المتحدة عدوها الأخير.

وفي ضوء هذه الخلفية ظهرت في الولايات المتحدة، في منتصف عقد السبعينيات حركة المحافظين الجدد؛ التي يعد نتنياهو الابن أحد أهم شخصياتها. كانت بداية هذه الحركة في داخل الحزب الديمقراطي والليبراليين اليهود في نيويورك الذين ضاقوا ذرعًا بالليبرالية المرهفة على غرار نسخة المرشح الديمقراطي للرئاسة جورج ماكغفرن في عام 1972، الذي قدم برامج للقضاء على الجوع في العالم والخروج من فيتنام. ونتيجة لذلك انتقل هؤلاء بسرعة كبيرة إلى الحزب الجمهوري واندمجوا فيه تمامًا. وقد كوَّنت هذه الحركة الثورية الراديكالية التي ضمت مفكري الإدارة الأمريكية والنخب المثقفة في واشنطن رأسَ الحربة لشركات صناعة السلاح الأمريكية. وركزت هذه الحركة على تعزيز الهيمنة العسكرية الأمريكية في العالم، ودعت إلى شن عملية عسكرية إمبريالية مستمرة.

قبل اختراع الإرهاب بوصفه العدو الرئيس الخطير، كانت ساحة الصراع الرئيسة للمحافظين الجدد في منتصف السبعينيات تقويضَ سياسة الوفاق الجمهورية، فضغطوا على إدارة فورد لرفض تقارير وكالة المخابرات المركزية التي تنص على أن الاتحاد السوفيتي ليس تهديدًا للولايات المتحدة، وأنه حريص على سياسة الوفاق، والسماح بكتابة تقرير بديل من خارج أروقة الاستخبارات. وقد تولى تنظيم الفريق البديل الذي أعد التقرير وعُرف “بالفريق باء” في عام 1976 دونالد رامسفيلد، ويقوده جورج بوش الأب الذي كان حينها مدير وكالة المخابرات المركزية. وضم هذا الفريق بول وولفويتز الذي أصبح فيما بعد نائبًا لوزير الدفاع رامسفيلد، وهو أيضًا مؤسس عقيدة غزو العراق لهذه الإدارة والقوة الفكرية المحركة للغزو. أعد “الفريق باء” تقارير كاذبة وأذاع نظريات خيالية عن أسلحة سوفيتية مرعبة، حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بخمس دقائق. واتضح في النهاية أن التقارير “المعتدلة” التي أصدرها السي آي إيه ولا تتحدث عن تهديد مخيف من الاتحاد السوفيتي كانت تقارير صحيحة.

مهَّدَ إلغاءُ التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة عام 1973 الطريقَ للمحافظين الجدد للوصول إلى السلطة؛ فمنذ ذلك الوقت لن يذهب إلى التجنيد سوى أبناء الفقراء أُجَراء، ولن يعودوا إلى التظاهر اعتراضًا على أماكن عملهم، ولن يتسببوا بمشكلات مثل الطبقة الوسطى. وحتى لو ثارت أسر الفقراء بسبب موت أبنائها، فلن يؤثر ذلك في الرأي العام أو يؤدي إلى ضغط شعبي، أو كما قال الرئيس ترامب أخيرًا لأرملة جندي لقي مصرعه: “إنه كان يعرف طبيعة العمل الذي انضم إليه”.

بدأت الإدارة الأمريكية تحويل الإرهاب إلى أيديولوجية سياسية، وفصله عن دراسة العنف السياسي في العلوم السياسية والاجتماعية في أوائل السبعينيات؛ مثلما تقرر الباحثة “ليزا ستيمبنيتسكي” من جامعة هارفارد. وخلال هذه المدة من البحث عن أعداء جدد، أدرك أنصار النشاط العسكري الدائم ضرورة مراجعة مفاهيم، مثل حروب العصابات والانتفاضات الشعبية اللذين ينظر إليهما الرأيُ العام نظرةً محايدةً، بل حتى نظرة جيدة؛ وجعْل المشاركين فيهما أشرارًا برابرةً لا هدف لهم، أو باختصار تحويلهم إلى “إرهابيين”. ويمكن أن نلخص النتيجة الرئيسة التي توصلت إليها ستيمبنيتسكي على النحو الآتي: إن هذا التحول حوَّل المنهج الأكاديمي في التعامل مع الإرهاب إلى دعاية في خدمة الحكومة، عندما تكُون الحكومة أو شبكات التلفاز هي من تقرر مَن هم خبراء الإرهاب، بغض النظر عن كل تخصص علمي.

ولم يغب عن أعضاء الكونغرس وشركات صناعة السلاح أهميةُ مئات الملايين من مشاهدي التلفاز، فبدؤوا يتلمسون الإمكانيات السياسية الضخمة لمفهوم الإرهاب بوصفه عدوًا للشعب، حتى قبل دخول أسرة  نتنياهو الساحة. على أنه خلال هذه السنوات من تلمس الطريق كان أعضاء الكونغرس وشركات السلاح ما يزالون يجهلون كيفية استعمال مفهوم الإرهاب استعمالًا مؤثرًا من الناحية السياسية، إذ إن الولايات المتحدة في ذلك الوقت لم تتعرض لهجمات إرهابية من الأعداء الخارجيين. ولم تكن حالات اختطاف الطائرات أو رجال الأعمال التي انتشرت في الستينيات والسبعينيات، كافية لإنتاج عدو واضح أو شيطاني. وزد على ذلك أنه كان من المعتاد -حتى ذلك الوقت- حل هذه المشكلات بالاتصالات الدبلوماسية، من أجل عدم انتهاك سيادة الدول، وفرض حل المشكلة على الدولة التي وقع فيها الإرهاب. وهكذا لم تكن هذه الظاهرة لتجعل من الممكن إقناع الشعب الأمريكي بضرورة شن الحرب، واستعمال الجيش والتسلح بأسلحة تكلف أموالًا طائلة.

ومن الجدير بالذكر، أن نسبة وفاة المواطنين الأمريكيين على الأرض الأمريكية نتيجة الإرهاب الخارجي أو الإسلامي في ذلك الوقت -وحتى اليوم- تكاد تكون معدومة؛ فمنذ بداية السبعينيات وحتى اليوم قُتل أقل من 3500 شخص نتيجة لذلك الإرهاب. وهذا يعني أنها ظاهرة لا تكاد تذكر، ومعظمها كان بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومن ناحية أخرى، فإن عدد الأشخاص الذين قتلهم مدنيون مسلحون في الولايات المتحدة منذ عام 1968 إلى عام 2015 يفوق التصور؛ إذ وصل إلى 1.516.863، أيْ أكثر مما كابدته الولايات المتحدة في الحروب الداخلية والخارجية التي وصل فيها عدد القتلى إلى 1.396.733. فكيف إذا يمكن إقناع الشعب الأمريكي الذي يعيش في بلد يتمتع بالحماية الجيدة من الخارج، لكنه عنيف من الداخل، بأن الإرهاب الذي يرتكبه غير الأمريكيين هو أكبر خطر على وجودهم؟

حتى ذلك الوقت، كانت الإمبراطوريات الغربية تقر بتفوقها العسكري على الذباب المزعج للشعوب الضعيفة في العالمين الثاني والثالث، ولم تنظر إليهما على أنهما خطر كبير. وكان من المعتاد وصف العالم الثالث بأنه عالم همجي من أجل تسويغ أهمية فرض ثقافة مُقيِّدة على هذه الثقافات بصيغة عبء الرجل الأبيض، لكن لم يكن ينظر إلى العالم الثالث على أنه تهديد وجودي للإمبراطوريات.

كانت الفكرة العبقرية لأسرة نتنياهو مختلفة: تحويل العنف في العالم الثالث الموجه إلى الغزاة الغربيين من أمر مزعج إلى أمر شيطاني كارثي، واختراع أيديولوجية تحوِّل هذه الشعوب الضعيفة إلى خصوم للغرب مساوية له من حيث القوة في نظر الرأي العام.

ولن تركز هذه الأيديولوجية إلا على عنف هذه الشعوب وشيطنتها، وستبيح العنف الغربي عليها بوصفه ضروريًا لبقاء البشرية. وستُقنع هذه المعادلة الشعب الأمريكي بالتخلي عن الموقف الانعزالي التقليدي في السياسة الخارجية. وبهذه الأيديولوجية -وبدلًا من فكرة حمل البشارة الديمقراطية إلى الشعوب الهمجية، كما هو مألوف في التصور الكولينيالي- أكَّدت أسرة نتنياهو كراهية هذه الشعوب للديمقراطية والحرية التي تعرض الغرب للخطر، وأن هذه الكراهية هي السبب في إعلان الحرب عليها. وخلال عصر بوش الابن جُمع بين الفكرتين معًا: يجب شن الحرب على تلك الشعوب بسبب خطرها على الغرب، وإكراهها بالغزو والدمار على أن تكون شعوبا ديمقراطية.

ومن أجل تنفيذ هذا التحول الجوهري الذي يسمح بالنشاط الإمبريالي الأمريكي المستمر، يجب إعادة الصيغة القديمة الجيدة لعدو من دين وعرق مختلفين؛ وهي الصيغة التي هيمنت على الصراع مع العدو الأيديولوجي الشيوعي، إذ من المستحيل شن حرب كولونيالية من دون أن تستند إلى التمييز والتراتبية العرقية بين أنواع البشر.

الغرب في مواجهة البرابرة

نتنياهو

بعد نحو شهر من قتل يوناثان نتنياهو في عملية عنتيبي، بدأ بنيامين وأبوه بنتسيون نتنياهو العمل لإنشاء “معهد يوناثان لأبحاث الإرهاب الدولي” في واشنطن. وقد سعى نتنياهو ووالده رئيس المعهد لتخليد اسم يوناثان، لا بالبحث العلمي الأكاديمي للعنف السياسي، بل بتطوير مشروع دعاية أمريكي لحماية “الدول المتحضرة” (وهو المصطلح الذي استعمله الأب والابن ومعظم المشاركين في المؤتمرات التي عقداها) من الهمجية والبربرية، وإنقاذ الغرب من الدمار والخطر الوجودي الذي يتعرض له. كتب نتنياهو الابن في كتابه الذي ألفه سنة 1986 بعنوان “Terrorism: How the West Can Win” (الإرهاب: كيف يستطيع الغرب أن ينتصر): “يوناثان وقف حياته للدفاع عن الوطن، لكنه عندما حارب الإرهاب رأى نفسه شريكًا في صراع أوسع من ذلك بكثير: صراع  بين الحضارة والبربرية “.

عاش البروفيسور بنتسيون نتنياهو حتى تقاعده شخصًا خامل الذكر في الولايات المتحدة التي هاجر إليها قبل تأسيس إسرائيل. وكان الحزب الجمهوري -الذي مال إليه بنتسيون- ما يزال في عصر الليبرالية اليمينية، أيْ قبول الصفقة الجديدة أو نيو ديل (New Deal) والسياسة الخارجية الانعزالية التي تتجنب إرسال الجيش الأمريكي لحل الصراعات. وهي أفكار بعيدة عن آراء نتنياهو الأب المترسخة  بعمق في الداروينية الاجتماعية والإمبريالية. كان نتنياهو الأب ينظر إلى العصر الذهبي لدولة الرفاه الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية على أنه انتصار لليبراليين الأمريكيين البغيضين في الاقتصاد والسياسة والثقافة.

وبعد عملية عنتيبي، سنحت الفرصة لأسرة نتنياهو للانتقال أخيرًا من الهامش الرديكالي في إسرائيل والولايات المتحدة إلى صدارة المسرح السياسي في البلدين، وإلى المرحلة الذهبية من حياتهما. ومع أن أنشطتهما في إطار المعهد الخاص الذي أقاماه لم تتضمن سوى مؤتمرين دوليين فقط؛ فقد ضمن هذان المؤتمران لهما تنفيذ الأيديولوجية، وصعود نتنياهو الابن إلى دوائر الحكم الأمريكي وبلوغة القمة السياسية. وبعد هذين المؤتمرين تغيرت السياسة الخارجية الأمريكية.

وخلال المؤتمر الأول لمعهد يوناثان نتنياهو عن “الإرهاب الدولي”، الذي عقد في يوليو 1979 في فندق هيلتون في القدس؛ دعت أسرة نتنياهو شخصيات مؤيدة للكولونيالية، وشخصيات من النخب المحافظة في واشنطن المؤيدة للحرب المستمرة، وشخصيات رفيعة من وسائل الإعلام الأمريكية  ووكالات الاستخبارات والإدارة الأمريكية، وبعض المسؤولين من إسرائيل، ومن دول الغرب الغنية. وقد عارض الأمريكيون الذين حضروا المؤتمرالإدارةَ الأمريكية حتى الجمهورية منها، ورفضوا التقارير “المعتدلة” التي تصدرها أجهزة الاستخبارات عن أعداء الأمة، وعارضوا تعاون الإدارة مع الأمم المتحدة وامتثالها للقرارات الدولية.

وكان معظم هؤلاء من خبراء الدعاية التي بثتها وكالة المخابرات المركزية المعادية للاتحاد السوفيتي، ومن رجال المؤسسة الحاكمة الذين خدموا في فيتنام وأمريكا الجنوبية أو في المستعمرات في أفريقيا وآسيا. وكان عملهم قمع الثورات الشعبية، ومنها حركة الجيش الجمهوري الايرلندي. وخلال السبعينيات أعيد تدريب هؤلاء مهنيا، وأصبحوا خبراء في الإرهاب، وهي مهنة لم تكن موجودة من قبل. وقبل أكثر من عام تقريبًا من وصول رونالد ريغان إلى سدة الحكم، تمكن بنيامين نتنياهو ووالده من إحضار كبار مسؤولي الإدارة الجديدة إلى القدس، فحضر بوش الأب الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية الذي سيصبح نائبًا للرئيس ريغان، وجاء أيضًا مسؤولون كبار آخرون في الاستخبارات والإدارة الأمريكية الجديدة، منهم أعضاء في “الفريق باء” مثل البروفيسورريتشارد بايبس المتخصص بالشؤون السوفيتية، وأعضاء في مجلس الشيوخ منهم هنري جاكسون، المناهض لسياسة الوفاق، والزعيم الروحي لحركة المحافظين الجدد والمروج لشركات السلاح.

في خطابه في افتتاح المؤتمر، شرح بنتسيون نتنياهو رؤيته للإمبراطورية الأمريكية والدول الغربية (لم يتحدث نتنياهو الابن في هذا المؤتمر). وقرر أن الإرهاب الدولي أخطر تهديد  يواجه البشرية، وأن الواجب الأخلاقي يحتم محاربته. ووفقًا لرؤيته، فإن الإرهابيين يدبرون لتدمير دول “الشعوب الحرة”، ولا يمكن أن تحل هذه المشكلة من خلال المؤسسات الدولية القائمة، لأن الأمم المتحدة تتعاون مع الارهابيين؛ ولذا توجد حاجة إلى تكوين جبهة من الدول الغربية تتخطى الأمم المتحدة. ويجب اتخاذ جميع الخطوات لمكافحة الإرهابيين، حتى لو كانت خطوات غير قانونية. وبناء على ذلك حث نتنياهو الأب أعضاء الإدارة الأمريكية الذين حضروا المؤتمر على إنشاء هيئة عسكرية خاصة من الدول الغربية الغنية تتجاوز الأمم المتحدة وتحارب العدو الإرهابي.

وبالفعل وافق المشاركون في المؤتمر -الذين اختارتهم أسرة نتنياهو- على طروحات الأب. وقد زعم بول جونسون (وهو صحفي ومؤرخ بريطاني محافظ كاثوليكي، وكان من كبار الشخصيات في إدارة مارجريت تاتشر المحافظة، وقد استعمل المصطلحات المسيحية بحديثه عن “الخطايا السبع المميتة للإرهاب”)؛ أن خطر الإرهاب أكبر بكثير من خطر “هجوم نووي” أو خطر الاكتظاظ السكاني أو تلوث بيئي عالمي أو استنزاف موارد العالم. وأكد أيضًا أن الحرب على الإرهاب؛ هي حرب بين الأعراق والأديان، بين الغرب ومن يكرهونه بسبب ديمقراطيته؛ باستثناء مَن يدبرون من وراء الستار من الشيوعيين السوفييت الذين لا توجد معهم مشكلة عرقية أو دينية، وإنما مشكلة أيديولوجية. ومثلما قال بنتسيون نتنياهو: “كنت أعرف دائمًا أن الروس لم يكونوا بدائيين أو مجانين. ورغم كل شيء كانت روسيا دولة أوروبية عظمى متحضرة”. وفي هذا المؤتمر وجهت أصابع الاتهام إلى الاتحاد السوفيتي بأنه يرأس شبكة إرهابية دولية ويحرك الإرهابيين. 

ونظرًا لأن الحديث يدور عن تهديد وجودي، اقترح نتنياهو الأب والمشاركون في المؤتمر مبادئ مريحة لدول الغرب الغنية، تنصُّ على أن كل شيء ممكن ومباح في السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها، أو ما أطلق عليه جونسون في خطابه “ترتيبات عملية غير رسمية ومرنة بين القوى الحضارية العظمى الرئيسة”، أيْ السماح باتخاذ خطوات تخالف القانون الدولي. وفي نهاية المؤتمر دعا السناتور هنري جاكسون صراحة الدول “الملتزمة بالقانون” إلى التحرر من قيودها عند تعاملها مع من يطلق عليهم الإرهابيين. وطلب المشاركون في المؤتمر من الدول الغنية أن تهجم بجيوشها على الدول والهيئات غير الحكومية وغير الغربية؛ ليس فقط ردًا على أعمال العنف، ولكن عندما ترى ذلك عملًا صائبًا ومن جانب واحد، من دون مراعاة القوانين الدولية، والتنسيق فيما بينها فيما يسمى بالحرب الوقائية. (ومن الجدير بالذكر أن حظر الحرب الوقائية أصبح أحد أهم مبادئ الأمم المتحدة في المادة 51 التي هي تجسيد لأحد مبادئ محاكمات نورمبرج).

كان إنشاء جبهة دولية لمناهضة الإرهاب وسيلةً لتجاوز الأمم المتحدة، وإضعاف المؤسسة المسؤولة عن السلام في العالم، والموكلة بحل المشكلات الدولية وتقويضها. هذه الفكرة  ناسبت الازدراء الذي يكنه رجال الإدارة الأمريكية اليمينية والرأسماليون الأمريكيون للمنظمة الدولية. وقد استاءت النخب المحافظة من تدفق دول العالم الثاني والثالث والدول الإسلامية إلى الانضمام إلى الأمم المتحدة، وإعطائها صوتًا مساويًا في مؤسسات الأمم المتحدة. وتسببت هذه المبالغة في الدمقرطة في طمس الفروق بين الدول الغنية والفقيرة؛ فصارت على قدم المساواة أمام القانون الدولي وهددت تفوق الغرب. واتضح فجأةً أن المبادئ المجردة للحرية والمساواة وأخوة الشعوب التي يتحدث الأوروبيون باسمها، تخدم أيضًا الشعوب المحتلة الضعيفة في العالم الثالث. وهذه الشعوب الضعيفة تأخذ المُثل العليا للأقوياء وتفضح التناقض بينها وبين الإمبريالية والكولونيالية.

وقد صادف ادعاء نتنياهو الأب بأن هذه المثل العليا ليست تعبيرًا أصيلًا عن الغرب، بل تعبيرًا عن عناصر ليبرالية بالية، أهواءَ الإمبرياليين في الولايات المتحدة وبريطانيا. ولمَّا كان هناك توافق عام بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على ضرورة حل النزاعات والصراعات بالوسائل الدبلوماسية الدولية؛ فقد اقترح آل نتنياهو والمحافظون الجدد أن تسود في الساحة الدولية قوانين الحرب التي تشنها الولايات المتحدة والغرب، بدلًا من الأمم المتحدة.

لم يكن ينُظر إلى إسرائيل في الواقع على أنها جزء من الغرب الأبيض، ولم تكن غنية في ذلك الوقت، لكنها قدمت مؤهلات قتالية بارزة وعقيدة الإرهاب مقابل الاعتراف بها جزءًا من الغرب. وكما قال نتنياهو الأب :

إن الصهيونية كانت دائمًا قاعدة أمامية للغرب في الشرق.

حرب الاسترداد الجديدة

حرب الاسترداد المسيحية في إسبانيا
رسم تعبيري عن حرب الاسترداد المسيحية في إسبانيا القديمة.

وفي حين أن معظم الأمريكيين المشاركين في المؤتمر الذي عقد في عام 1979، لم يهتموا سوى بالادعاء القائل إن الاتحاد السوفيتي يحرك الإرهاب، حاول آل نتنياهو إثارة اهتمامهم بالجزء الثاني من الادعاء؛ وهو الجزء الأكثر أهمية في نظرهم: الإرهابيون هم العرب المسلمون. وبعد الانتهاء من التوترات مع الاتحاد السوفيتي وتفكيكه، لن يهتم الأمريكيون إلا بهذا  الجزء.

قبيل انعقاد مؤتمر هيلتون، عُقد مؤتمران أكاديميان دوليان عن الإرهاب في أوروبا، ولم يكن قد عقد قبل ذلك مؤتمر دولي لدراسة “الإرهاب الدولي”، وليس مثلما زعم نتنياهو الابن الذي نسب ذلك إلى مؤتمره من دون سند. كان هذان المؤتمران الدوليان للخبراء فقط؛ وليسا للسياسيين والمسؤولين الحكوميين، مثل مؤتمرات نتنياهو التي كانت تهدف إلى تقديم أيديولوجية سياسية وطرق تنفيذها.

طُرحت نظرية شبكة الإرهاب الدولية التي يديرها الاتحاد السوفيتي على نحو تآمري أول مرة في مؤتمر القدس، ثم طرحتها بعد ذلك الصحفية كلير ستيرلينغ في كتابها “الشبكة الدولية” عام 1981. وأصبحت تلك النظرية إنجيلا لـ CIA في بداية عهد ريغان. هذه النظرية فنَّدها خبراء من وكالة المخابرات المركزية في وقت اختراعها، لكن آراء هؤلاء الخبراء لم ينظر إليها في ذلك الوقت على أنها مناقضة لأيديولوجية ريغان.

ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، يُبدي الباحثون الأكاديميون وخبراء الاستخبارات دهشتهم من الربط المزعوم الذي اصطنعه المحافظون الجدد بين الاتحاد السوفييتي و”الشبكة الدولية للإرهاب”. وبعبارة أخرى، كان هذا الربط خطوة إلى الأمام في الحرب الباردة بين القوتين العظميين التي شملت -حتى ذلك الوقت- دعم الحلفاء في جميع بقاع العالم، وتقديم المساعدات لهم بالأسلحة وتدريب جيوشهم، والحرب بين أذرعهما الاستخباراتية. ومن ثم فإن هذه الخطوة تعني الحرب على الإرهابيين الذين يرسلهم الاتحاد السوفييتي من أجل تدمير الغرب من الداخل.

كان أستاذ الأنثروبولوجيا “سكوت أتران” ممن فنَّدوا ادعاء أن الإرهابيين ينتمون إلى شبكة عالمية واسعة تدار من فوق وتتآمر على الغرب. ويرى البروفيسور أتران أنه توجد بالفعل “شبكات اجتماعية معقدة، لا مركزية، منظمة ذاتيًا ومتطورة باستمرار”. أيْ أنها ليست شبكة دولية ولا تدار من فوق؛ لأن العنف السياسي من النوع المعروف بالإرهاب هو عنف محلي، بمعنى أنه مرتبط بالصراعات في منطقة محددة. وحتى إذا تحول العنف السياسي إلى أسلوب جديد مثل اختطاف طائرة في بلد آخر، فإن هذا لا يجعله “إرهابًا دوليًا” نتيجة لتطور العولمة والتكنولوجيا. إن دعم الاتحاد السوفييتي أيضًا لمقاتلي حرب العصابات في العالم الثالث لا يحولهم من قادة انتفاضة شعبية إلى عملاء للكي جي بي. وتكمن وراء نظرية الإرهاب الدولي فرضيةٌ عنصرية؛ خُلاصتها أن شعوب العالم الثالث ليس لديها إرادة خاصة، يحركها الكي جي بي مثل الفزاعات.

عندما تحدث نتنياهو الأب والابن عن تكوين جبهة دولية تضم “الدول المتحضرة ” لمحاربة الإرهاب، فإنهما كانا يعنيان أن على المسيحيين الانضمام إلى الحرب اليهودية على المسلمين في الشرق الأوسط، أيْ حرب حضارات. حضر الصليبيون الجدد في القرن العشرين العرض الأول لهذه الفكرة في مؤتمر  آل نتنياهو، قبل أن تشتهر نظرية هنتنغتون عن صدام الحضارتين المسيحية-الإسلامية. وقد ربط كل من هنتنغتون وآل نتنياهو “الحرب على الإرهاب” بالحروب الدينية المسيحية التاريخية على المسلمين. وزعم نتنياهو الأب (وهو متخصص بمعاداة السامية خلال عصر محاكم التفتيش المسيحية في العصور الوسطى)؛ أنه يوجد تشابه واضح بين حرب الاسترداد المسيحية في إسبانيا التي استمرت نحو 800 سنة، وعودة اليهود إلى فلسطين.

طالب بنتسيون نتنياهو بوجوب أن تكون حروب الاسترداد نموذجًا للمسيحيين لحرب مستمرة على المسلمين في الوقت الحاضر أيضًا. وقال: “إن شيطان التهديد العربي الإسلامي أخرج من القمقم من جديد في عصرنا، وإن الإسلام يطمح دومًا إلى إخضاع العالم الغربي، ولو لم تصد هجماته السابقة، لكان التاريخ البشري مختلفًا”. وزعم نتنياهو الابن أيضًا أن كراهية الإسلام للعالم الغربي كراهية قديمة، وأن الإرهاب منح هذه الكراهية حياة جديدة. كان تغليف السياسة الخارجية الأمريكية بغلاف “حرب استرداد جديدة”، أيْ حرب دينية مسيحية جديدة على المسلمين، المنتجَ المثالي للمحافظين الجدد من أجل إطلاق سياسة خارجية عدوانية فعالة، واستغلال أفضلية الولايات المتحدة بوصفها الإمبراطورية الرائدة في العالم.

كانت نظرة نتنياهو الأب الجيدة لحرب الاسترداد أمرًا غريبًا، لا لأن يهود إسبانيا تطلعوا في القرن السابع الميلادي إلى الفتح الإسلامي؛ لكي يتخلصوا من ويلات الغوط المسيحيين في إسبانيا، أو بسبب طرد المسيحيين لليهود من إسبانيا في القرن الخامس عشر. ومردُّ هذه الغرابة إلى حديثه عن أهمية الدول “المتحضرة” في مواجهة الهمجية. لقد أدى الانتصار في حروب الاسترداد إلى تدمير المسيحيين البرابرة القادمين من الشمال للحضارة الإسلامية المتطورة، وتقويض التعددية في إسبانيا، وتحويلها إلى مجتمع متعصب متجانس بقوة السيف. وقد أدرك الملوك المسيحيون بعد احتلالهم إسبانيا التفوق الثقافي المادي لإسبانيا المسلمة، فأخذوا الصور الإدارية والاجتماعية والثقافية للمسلمين بمساعدة المسلمين واليهود المورسيكيين.

ويرى البروفيسور “رون باركاي” (الخبير العالمي بتاريخ أسبانيا في العصور الوسطى وتاريخ المورسيكيين) أنه لا ينبغي النظر إلى تاريخ يهود إسبانيا على أنه ظاهرة منعزلة عن الظاهرة الإسبانية؛ بل ينبغي النظر إليه في سياقه الواسع، أيْ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين. ويصف باركاي التعايش المشترك للأديان الثلاثة على مدى 800 سنة، على نحو أتاح تأثيرات متبادلة عميقة، وهي ظاهرة لا مثيل لها في جميع البلدان الأوروبية. ويرى بركاي أن التصور الإسباني في الأندلس الإسلامية كان يستند إلى التقارب العقلي مع الآخر الذي لم ينظر إليه على أنه عدو يجب القضاء عليه ماديًا. ووفقًا لباركاي، كانت حرب الاسترداد في الواقع حربًا أهلية، لأن الحكم العربي في إسبانيا لم يجلب العرب إلى هناك، ولكن السكان المحليين تحولوا إلى الإسلام. على أن غزو المسيحيين لإسبانيا قضى على نسيج التعايش المشترك، وأدى إلى الطرد والتطهير العرقي الديني الذي لم تُشفَ منه إسبانيا طوال قرون.

ركز الخطاب المسيحاني الذي استعمله آل نتنياهو على العرق والدين بوصفهما مميزين للعدو من الصديق، وللظلام من النور. وسوَّغَ هذا الخطاب شن حرب شاملة على العدو، مهددًا بكوارث، وممجدًا ومُثنِيًا على الغرب بوصفه العرق الأسمى. وابتعد هذا الخطاب كثيرًا عن الوصف المعتاد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأنه صراع على الأرض؛ وهو التوصيف المتعارف عليه في العالم وبين كثير من اليمينيين الإسرائيليين. أما الفلسطينيون في لغة آل نتنياهو فهُم جزء من الإسلام الإرهابي الذي يهدد الغرب. وقد أنتجت هذه اللغة فيما بعد تحالفًا وثيقًا بين نتنياهو الابن والقوة الصاعدة من المسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، وهي مجموعة وصل عددها إلى أكثر من 90 مليون شخص في أواخر السبعينيات. وقد كسرت هذه المجموعة تقليدًا قديمًا لدى المعمدانيين من الفصل بين الدين والسياسة، حين أوصلت ريغان الحكم سنة 1980. وقد ساعد دخول الإنجيليين السياسة على إنهاء مرحلة تقليص الفوارق الطبقية، وتقليص صناعات الأسلحة التي فرضت على الإنجيليين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى من الإدارات الجمهورية.

ويمكن النظر إلى مدى أهمية الحرب الدينية مع المسلمين عند الإنجيليين، بالنظر إلى الاستطلاع الذي رأى فيه 89% من ناخبي ترامب أن الإرهاب هو السبب الأول الذي دفعهم إلى انتخابه، وحتى قبل الوضع الاقتصادي الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 87%. أكثر من ثلثي الإنجيليين من البيض، ويُكوِّن هؤلاء ثُلثَ القاعدة الانتخابية للجمهوريين حتى اليوم. وقد أصبحت هذه الجماعة الدينية المسيحانية ذات السطوة مركز قوة نتنياهو السياسية، وصارت تُكوِّن في الواقع معظم بيادق نتنياهو في الولايات المتحدة والعالم.

ومنذ عام 1980 وحتى الوقت الحاضر، صار من الواجب على كل مرشح سياسي يطمح إلى أن ينتخب رئيسًا أن يتناول الإرهاب على أنه تهديد وجودي، وليس ظاهرة هامشية لا أهمية لها. وقد أدى إلصاق الإرهاب بالدين الإسلامي إلى خلق عدو جديد للشعب الأمريكي أشد قوة وسوءًا من شيوعيي الاتحاد السوفيتي. وهذا العدو يسعى الإنجيليون بكل قوتهم لخوض حرب دائمة معه حتى القضاء عليه، لكي يعيدوا المسيح (صحيح أنه في حرب نهاية الزمان يجب على الإنجيليين القضاء على اليهود أيضًا، ولكن لكل حادث حديث).

في مؤتمر القدس، وُلد تعريف الإرهاب الجديد. وبعد عام، وفي 1980 توقفت وكالات الاستخبارات الأمريكية عن التعامل مع الإرهاب على أنه تكتيك قتالي -كما هو معتاد في نظريات الحرب الغربية-؛ وبدأت التعامل معه على أنه أيديولوجية للعنف السياسي لدى بعض الجماعات العرقية-الدينية. وفي عام 1981 نشر كتاب “الإرهاب العالمي: التحدي والرد” الذي ضم محاضرات المشاركين في المؤتمر، وحرَّره بنيامين نتنياهو الذي يوصف على غلاف الكتاب الخلفي بأستاذ الدراسات اليهودية المتخصص بالعصور الوسطى في جامعة كورنيل. وهكذا اندمج الأب والابن في شخص واحد.

في المؤتمر الثاني لآل نتنياهو، الذي عُقد في واشنطن عام 1984؛ كان نتنياهو الابن قد أصبح سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة وشخصية معروفة في الولايات المتحدة أكثر من شقيقه يوناثان. حضر هذا المؤتمر المحافظون الجدد بوصفهم المسؤولين الجدد في إدارة ريغان، برفقة وزير الخارجية “جورج شولتز”، ومسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية وكبار الصحفيين. وكانت درة المؤتمر مشاركة خبراء بالإسلام. وفي النهاية تمكن آل نتنياهو من التركيز على أهم القضايا وفقًا لرؤيتها: استعمال القوة العسكرية الغربية التي تعمل خارج نطاق القانون الدولي لضرب الحضارة الإسلامية. ركز المؤتمر تركيزًا رئيسًا على ربط كلمة الإرهاب بكلمة مسلم. ومن ناحية أخرى كان الاتحاد السوفيتي ما يزال في الصورة بناءً على طلب الحاضرين الأمريكيين، بيد أن الاتحاد السوفيتي بقي على هامش الاهتمام فكان راعيًا فقط للإرهاب الإسلامي.

وخلال المؤتمر، نظم نتنياهو الابن أيضًا ندوة عن مهمة وسائل الإعلام في “تغطية” الإرهاب، أدارها المذيع التلفزيوني تيد كوبل، بمشاركة صحفيين كبار مثل، نورمان بودهوريتز، وتشارلز كروثامر، وجورج ويل، وبوب وودوورد وجون أوسوليفان. وقد تحدث هؤلاء الصحفيون والمحللون عن العلاقة التعاضدية بين التلفزيون والإرهاب، وعن “الإعلام الإرهابي” بمعنى المشاركة الفعلية للصحافة في الأعمال الإرهابية بنشرها أنشطة الإرهابيين ونضالهم الوطني. كانت الفكرة الرئيسة للندوة هي أن الصحافة في حاجة إلى رقابة ذاتية من أجل مساعدة الحكومة على عملها.

الإرهاب هو الإسلام والإسلام هو الإرهاب

نتنياهو

جُمعت المحاضرات التي ألقيت في مؤتمر واشنطن عام 1984، في كتاب حرره بنيامين نتنياهو بعنوان “الإرهاب: كيف يمكن أن ينتصر الغرب؟”. وبعد ذلك بعامين، أصبح هذا الكتاب -مع كتاب ستيرلينغ- النظرية الرئيسة التي تتبناها وكالة المخابرات المركزية والحزب الجمهوري، والكتابَ المُفضَّلَ لدى الرئيس ريغان. وفي مؤتمر واشنطن وصف بنتسيون نتنياهو بدقة طبيعة “الإرهابي”، وفق أفضل ما توصل إليه علم اليوجينيا في مطلع القرن العشرين، تمامًا مثلما فعل عالم القرن التاسع عشر القدير تشيزاري لومبروزو.

يقرر لومبروزو أن الميل إلى الجريمة ليس بيئيًا بل بيولوجيًا؛ إذ يُولد الجاني مجرمًا لا ينتمي إلى جنس الإنسان الحكيم، بل هو شخص منحط يتمتع بسلوك منحرف. أما نتنياهو الأب فيتحدث عن الإرهابي بوصفه “شخصًا من نوع جديد، يخلو من كل حس أخلاقي. يعيد البشرية إلى عصر ما قبل التاريخ. يفتقر إلى الوازع التاريخي. كاذب ماكر تمامًا”. ومن ثَمَّ فهو “أشد خطرًا من النازيين الذين أعلنوا أهدافهم علانية”. ويصف بنتسيون نتنياهو أيضًا الإرهابي من الوجهة الباثولوجية: “أناني يشبع رغباته لا يعتمد إلا على وحشيته”، ويقرر أن موقف الغرب من الإرهاب هو علامة على “مرض أخلاقي خطير”. ولمَّا كان من الشائع في ذلك الوقت النظر إلى الإرهاب على أنه تكتيك تستعمله جميع المجتمعات البشرية؛ فإن الإرهابيين -وفقًا لبنتسيون نتنياهو- هم جماعة ذات هوية عرقية ودينية واحدة- المسلمون والعرب.

روَّج المؤتمران اللذان عقدهما آل نتنياهو عن الإرهاب للتصور الشائع في إسرائيل؛ القاضي بأن هناك فرقًا مزدوجًا بين مقاتل حرب العصابات والإرهابي الشرير، مع أن هذه التفرقة لم يعرفها العالم حتى الستينيات. كان المؤتمر فرصةً ذهبيةً لكثير من المشاركين فيه لتحليل المقولة غير الصائبة بأن “الإرهابي في نظر شخص ما قد يكون مناضلًا من أجل الحرية في نظر شخص آخر”. وذلك لإظهار التماثل الزائف والفضيلة النسبية التي ينشرها الليبراليون المتعاونون مع الإرهابيين. لكن الصيغة الصحيحة هي أن الدول الغربية والجماعات السياسية غير الحكومية تنفذ عمليات حربية بموجب قوانين الحرب والمعاهدات الدولية، وتمارس الإرهاب في الوقت نفسه، أيْ أعمال الحرب الموجهة إلى المدنيين.

يُكوِّن الإرهاب أيضًا جزءًا لا يتجزأ من عقيدة نتنياهو الابن نفسه؛ إذ يقرر في كتابه “لا يجوز بكل حال من الأحوال رفض القيام برد عسكري، بسبب خطر سقوط ضحايا بين المدنيين. وهذا الموقف ينبع من أساس عملي وأخلاقي معًا”. وهكذا فإن دعاية طهارة سلاح الدول الديمقراطية الذي لا يستعمل إلا على القتلة الإرهابيين ليس لها أساس واقعي.

لم يكن للمؤتمرات التي عقدها آل نتنياهو سند بحثي؛ إذ من الصعب تأسيس علم ما على مفهوم مسموم مثل “الإرهاب” الذي تعد فرضيته الأساسية تعبيرًا عاطفيًا عن التحيز؛ لأن كلمة “إرهابي” تضم في داخلها فرضية أخلاقية، وهي صفة لأشخاص نراهم نحن أشرارًا. والواقع أن الإرهاب أقل من جميع أنواع العنف السياسي خطورة؛ فهو أقل من الإبادة الجماعية والقمع والاحتلال والإرهاب العسكري للسكان المحتلين أو الإرهاب الذي يمارسه النظام على مواطنيه. وقد فند البروفيسور “غاري لافري” (أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة ميريلاند ومدير المركز الوطني للإرهاب) في هذا المقطع:

 “الأساطير التسعة حول الإرهاب”. إن الحقيقة العلمية المجردة التي يقدمها هذا المقطع ليس لها نسب مشاهدة ولا يمكن أن تكون دعاية؛ لكنها تلقي ضوءًا مثيرًا للسخرية على ثمرة عمل نتنياهو الابن.

وفي الواقع، فإن التحليلات التي ألقاها بنيامين نتنياهو على مسامع الأمريكيين والتي تستند إلى أنه إسرائيلي “يفهم العرب”؛ هي مجرد ثرثرة لا طائل منها. فعلى سبيل المثال، يدَّعي نتنياهو في كتابه “الإرهاب: كيف يمكن أن ينتصر الغرب؟” أن العروبة هي قوة صاعدة، وهي نبوءة خاطئة تمامًا؛ لأن هزيمة حرب 1967 فكَّكت أفكار القومية العربية والقومياتيَّة في الدول العربية، وسمحت بصعود الإسلام. وبالمثل، فإن مزاعمه عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؛ ومن ثَمَّ يجب احتلاله هي مزاعم كاذبة في الواقع. زِد على ذلك أن تحليلات نتنياهو الجيوسياسية تستند إلى الموقف الذي اتخذه لنفسه بوصفه المنبه المحذر الذي يقف على البوابة لتحذير الشعب الأمريكي والغرب من خطر العدو الشيطاني. هذه التحليلات التي أصبحت عقيدةً أمريكيةً تكون بالغة التأثير في الواقع عندما يعرضها نتنياهو على شاشات التلفاز في الولايات المتحدة. لكن الأفكار التي تستند إلى فرضية أن العرب والمسلمين عرق مختلف عن بقية البشر، وأن دور الجنس الأبيض -واليهود في ضمنه- هو كبح جماحهم؛ تجعل من الصعب النظر إليها على أنها أفكار ذات قيمة أو أنها قادرة على أن تقدم صورة صادقة لقدرات العدو ونياته.

ويمكن النظر إلى مدى ما وصلت إليه راديكالية رؤية آل نتنياهو -حتى بالقياس إلى الصهاينة اليمينيين- بموازنتها برؤية مناحيم بيغن. صحيح أن بيغن كان محافظًا يمينيًا، لكنه كان ليبراليًا وفق النموذج الجمهوري الأمريكي القديم، بمعنى أنه آمن بسيادة القانون. ومع أن رؤيته هي رؤية رأسمالية، فقد آمن بدولة الرفاه ووجود النقابات العمالية. وفي المقابل، يمقت نتنياهو الأب والابن الليبرالية وقيمًا مثل المساواة، ويؤمنانِ بالرأسمالية القائمة على الداروينية الاجتماعية والنخبوية الجينية، ويؤمنانِ أنه يجوز تعطيل القانون من أجل تحقيق أغراض مقدسة مثل القضاء على العدو. وتتطابق هذه المبادئ ومبادئ الرجعية القديمة في أوروبا، ومبادئ الرجعية الجديدة لدوائر الحكم الأمريكي التي بدأت في عقد الثمانينيات.

يؤمن نتنياهو الأب والابن بقوة أن الأصل العرقي-الديني هو ما يجب أن يحدد مصير الإنسان (شريطة أن يكون اليهود جزءًا من الحضارة الغربية، أيْ في أعلى سلم التراتبية العرقية للإنسانية). واستُمد من هذا المبدأ “مفهوم الإرهاب الإسلامي”: المهم هو الهُويَّة العرقية الدينية للإرهابيين، فهي التي تحدد الحكم على أفعالهم. وقد تغلغل هذا الادعاء في داخل الشعب الأمريكية. فعلى سبيل المثال، عندما تقع حادثة إطلاق نار على المدنيين، تفحص على الفور هوية الجاني من أجل وصف فعلته، فإذا كان أبيض مسيحيًا، يوصف هذا العمل بأنه حادث إطلاق نار مؤسف، أما إذا كان مسلمًا عربيًا، فعندئذٍ يُوصَّف الحادث بأنه عمل إرهابي. وحتى عندما يوقع مطلق النار المسيحي الأبيض مذبحة بأطفال مدرسة أو بجمهور حفل موسيقي، لا يعد هذا العمل إرهابًا.

قبل عدة سنوات، قال نتنياهو أمام جماعة من المسيحيين الإنجيليين:

إن أعداءنا لا يكرهوننا بسبب ما نفعله، بل بسبب هويتنا.

وإذا كان المجتمع الإسرائيلي يسير في ضوء هذا المبدأ على مدى أجيال؛ فإن هذا المبدأ لدى آل نتنياهو هو المبدأ الرئيس والوحيد من دون تنوعات متوسطة. واستمد من هذا المبدأ أيضًا مبدأ آخر “ليس لدينا خيار سوى أن نكرهكم بسبب أصلكم العرقي-الديني”. وفي مثل هذه الحالة السياسية لا توجد إمكانية للأخذ والرد؛ لأن هذه الحالة تعني رفضًا بيولوجيًا عميقًا للجانب الآخر. هذه وصفة لحرب أبدية أو مثلما صاغها نتنياهو الأب “الاستعداد الدائم للحرب”.

وبسبب الانتماء إلى عرق معين ينفذ العدو جرائم غير عقلانية. ومن ثَمَّ من المستحيل أن نعزو إليه دوافع مثل الحرب على الظلم، أو مثلما يقرر نتنياهو الابن “إن السبب الرئيس للإرهاب لا يكمن في المظالم التي يثيرها، ولكن في النزعة المتأصلة للعنف من دون ضابط”. وهذه الدعوى هي نفس ما طرحه نتنياهو الأب في مقابلة صحفية، إذ قال “مشكلة اليسار أنه يظن أن الحرب مع العرب تشبه من حيث الأساس جميع الحروب المندلعة بين شعوب العالم. وهذه الحروب منها ما يصل إلى تسوية، أو تنتهي بانتصار أحد الطرفين، أو عندما يتوصل الطرفان إلى نتيجة أنهما أُرهقا من الحرب وأن تحقيق الانتصار غير ممكن. أما العدو العربي، فهو عدو صعب، لأن النزعة إلى الصراع  جزء جوهري من تكوينه ..  من بنية الشخصية العربية “.

وإذا كان الأمر قضية بيولوجية؛ فليس هناك إمكانية للتغيير والحل الوحيد هو القوة. وإذا كان العدو ما يزال يعلن حربًا شاملة على الغرب، فإن الاستنتاج الحتمي هو أنه لا يوجد خيار سوى شن حرب شاملة عليه وتدميره بوسائل تتخطى القانون. هذه الأيديولوجية هي الأكثر تأثيرًا من وجهة نظر اليمين الأمريكي، وتلبي احتياجاته إلى استعادة الإمبريالية، من دون استعمال الفكرة المعتادة في الماضي عن التفوق الأبيض في السياسة الخارجية علانية. ولكن التركيز بدلًا من ذلك على شيطنة العدو.

ويمكن النظر إلى مدى ترسخ مسألة الهوية العرقية-الدينية مبدأً للتمييز بين الأشخاص والحكم عليهم في داخل ذهن نتنياهو الابن، في شهادة الصحفي والمعلق السياسي، مارفن كالفن الذي قال إن نتنياهو خلال حواره معه أكد أن الاسم الأوسط لباراك أوباما هو حسين، وأن والده مسلم. وهكذا أراد نتنياهو إخافة الصحفي الأمريكي بكشف الجذور الإسلامية لأوباما المسيحي المزيف.

مراقبو الأهلية اليهود

نتنياهو

تُوج مشروع نتنياهو السياسي بتنفيذ جورج بوش الابن أيديولوجيته، عندما أعلن الحرب على الإرهاب. كان بوش الابن نفسه أحد المحافظين الجدد، وقد كرر في خطاباته كلمات نتنياهو التي أدمجت في عقيدة بول وولفويتز لغزو العراق. عرضت القوة العسكرية الهائلة للإمبراطورية الأمريكية على شاشات التلفاز في عام 2003 في غزو العراق؛ الذي لم تكن له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد عرض التلفزيون الأمريكي القصف المتتابع لمعاقبة سكان بغداد، فيما يعرف بتكتيك “الصدمة والرعب”. وقد نفذت عمليات القصف ليلًا بهدف إحداث تأثيرات دراماتيكية من النيران والدخان فوق المنازل المقصوفة. ولم تكن وسائل الإعلام معنية خلال لحظات النشوة تلك على مسرح الحرب بأن هناك مَن يلقى حتفه من الأطفال النائمين والمدنيين الأبرياء.

وإذا كانت الجيوش الغربية قد حاولت بعد الحرب العالمية الثانية إخفاء الاعتداءات على المدنيين؛ فإنها تتباهى الآن بهجمات متعمدة على المدنيين العاجزين وسط تصفيق الحشود. إن موازين القوى بين جيش الإمبراطورية ومن يواجهونها واضحة للجميع؛ إذ اعتاد مواطنو الإمبراطورية التندرَ أنه من الممكن غزو تلك الدولة أو غيرها حتى بفرقة الموسيقى العسكرية. ولذلك، فإن جوهر حروب الاستعراض الإمبريالية التي تستند من البداية إلى عدم وجود قوة عسكرية حقيقية تواجهها، هو الاعتداء المتعمد على المدنيين الأبرياء.

لمدة وجيزة بعد الحرب العالمية الثانية، ومع كفاح دول العالم الثالث من أجل الاستقلال، ونضال السود من أجل المساواة في الولايات المتحدة في الستينيات، بدا أن الباب قد أغلق أمام الإمبريالية والكولونيالية. وهنا ظهرت عائلة نتنياهو من النافذة بحل يستند في جوهره إلى تجاهل دوافع الثائرين والتركيز فقط على العنف السياسي الذي يمارسونه. وبلُغة نتنياهو “الحشوية” مَن ينفذون الأعمال الإرهابية هم الإرهابيون. ويرجع الفضل في السهولة والسرعة التي عادت بها هذه الأفكار إلى سياسة الحكومات الغربية إلى حقيقة أن دعاة هذه العنصرية أفراد يهود، إذ إن تفوق العرق الأبيض يحتاج إلى مراقبي أهلية يهود ليبعدوا هذا المفهوم بمسافة آمنة عن الاتهام بالنازية.

لا توجد اختلافات كثيرة بين مؤتمرات آل نتنياهو ومؤتمرات تفوّق العرق الأبيض التي عُقدت في الولايات المتحدة -باستثناء القضية الطبقية-؛ إذ طالب هذان النوعان من المؤتمرات بفرض الهيمنة على غير البيض سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ولكن في حين أن خطاب عائلة نتنياهو يلائم المشاركين في مؤتمراتها، ممن ينتمون إلى الطبقات العليا والقوية في المجتمع؛ فإن مؤتمرات التفوق الأبيض التي تتوجه عمومًا إلى الطبقات الدنيا تستعمل لغة أكثر حدة ومباشرة عن الأعراق الأخرى. ويبدو أن الفرق الرئيس بين هذين النوعين من المؤتمرات هو أن نتنياهو الأب والابن يريدان أن يدرج اليهود في العرق الأبيض الأوروبي، وهي الرغبة التي لم يُشفَ منها يهود شرق أوروبا بعد إقامة الدولة اليهودية في الشرق الأوسط، كما لم يُشفَ منها مَن يعلنون أنفسهم صهاينة فخورين مثل عائلة نتنياهو. وهؤلاء يطرقون أبواب الأوروبيين الأقوياء والأغنياء، مثلما توسل أسلافهم في المنفى في شرق أوروبا القبول في النادي السامي -من وجهة نظرهم- حتى عندما يرفضهم.

صنعت الصهيونية المعجزة، ومكنت اليهود في نهاية المطاف من القبول لدى المسيحيين البيض. أما الإنجيليون فهم مؤيدون للصهيونية ومعادون للسامية، وهم مستعدون لإدراج اليهود الأشكناز في العرق الأبيض بشرط أن يكونوا إسرائيليين يحاربون الإسلام، وليس مواطنين أمريكيين.

يعد بنيامين نتنياهو حتى اليوم من الشخصيات التي تتمتع بشعبية لدى الشعب الأمريكي، وفق استطلاعات الرأي، إلى حد أن منحنى شعبيته ارتفع على مر السنين في استطلاعات مؤسسة غالوب. كان نتنياهو أيضًا نجمًا لامعًا في مجموعة متنوعة من المؤامرات حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفي كثير من الكتب البحثية عن الإرهاب بوصفة شخصية مهمة. والغريب في الأمر أنه لم يُكتب في إسرائيل شيء تقريبًا عن مشروع نتنياهو، حتى بين منتقديه الذين ألصقوا به لقب “رجل الإرهاب”. أما الصحافة وكتاب السيرة الذاتية، فإن نشاط نتنياهو هو جزء من مشروع الدعاية الإسرائيلي في الخارج، بمعنى أنه موضوع بدهي لا يوجد فيه ما يستحق البحث.

أثرت هذه الدعاية في النظام الدولي، وساعدت منذ الثمانينيات على بدء حرب دينية جديدة بين المسيحيين والمسلمين، أيْ تحويل السياسة الخارجية الأمريكية إلى هجوم حربي على الحضارة الإسلامية. لقد تسبَّبَ نتنياهو فعليًا في إلحاق ضرر شديد بالشعوب العربية والإسلامية أكثر من كل جنرال أو سياسي إسرائيلي آخر، وأثر في تحويل الشعوب العربية والإسلامية إلى الجماعة العرقية الدينية الأبغض لدى الولايات المتحدة وأوروبا.

بدأ مشروع آل نتنياهو تحويل المسلمين إلى أعداء للإنسانية، وهو المشروع الذي حقق الابن بفضله نجاحات ضخمة في مسيرته المهنية، في وقت تعزَّزت فيه قوة إسرائيل. تولى بنيامين نتنياهو الحكم في إسرائيل عندما أصبحت قوة عظمى في محيط دول ضعيفة، ولكن هذا المنعطف في القوة الإسرائيلية نظر إليه الشعب الإسرائيلي لسبب ما، وحتى من يكرهون إسرائيل على أنه إنجاز لنتنياهو. وبدوره يُغذِّي نتنياهو الابن الخوف الوجودي لدى الإسرائيليين واليهود؛ بإشعال نيران الكراهية للمسلمين والعرب وتضخيمها، وهو ما يقع على مسامع الإسرائيليين بصفته “خطاب صارم” من شخص “يفهم العرب”. وهذه الكراهية في الواقع أنجع أداة للتعبئة السياسية في أوقات الأمن والازدهار، عندما لا تكون هناك مصلحة أمنية في التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، كما هو الحال خلال السنوات الثلاثين الأولى من إنشاء إسرائيل. ولا يتبقى سوى مشكلة أخلاقية تعالجها بنجاح عقيدة الإرهاب الأمريكية لدى نتنياهو حتى في داخل إسرائيل.

محمد حامد

حاصل على ليسانس اللغة العربية والدراسات الإسلامية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ثم ليسانس… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى