هل نسْتطيع القول بأنَّ أمريكا أدْركَها الهرم؟!
يبدو أن أمريكا قد وجدت في الحرب الروسية على أوكرانيا التي ناهزت الخمسة عشر شهرًا فرصةً سانحة تعيد لها مجدها الذي كاد يوشك على الرحيل، فقد كثر الحديث من السياسين ومراكز الأبحاث عن خُفوت دورها في العالم وبأنها تكاد تنزل عن مرتبتها كدولة أولى، فمن كوفيد الذي أظهر مدى هشاشتها الصحية إلى أزماتها المالية التي لا يكاد يمر أسبوع إلا وتعلن بُنوكها الكبرى الإفلاسَ أو نزول أسعار الأسهم في البورصات العالمية، ما أفقد المواطن الأمريكي الثقة في بلده، حتى وصل الحال بالكثير من أصحاب الأموال بأن يتركوا البلاد ويهاجروا هم وأموالهم.
وإزاء هذه المشاكل الصحية والمالية التي لا يُظن إصلاحها، فإن أمريكا تخشى من انفلات العالم من يدها وتخشى أن تقلَّ أوراقها التي تضغط بها على دول العالم، ما دعاها إلى تشكيل أحلاف عسكرية جديدة مثل (أوكوس) و(كواد) وغيرها، فهي تحاول في النواحي العسكرية أن تجمع الحلفاء والعملاء تحت مظلَّتها حتى إذا احتاجتهم وجدتهم، ولعل الجمع بين إيران والسعودية الذي أشرفت عليه عن قرب ورَعته ثم أوْعزت للصين أن توقِّعه عندها يأتي في هذا الإطار، ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أو متابع أن الصين تقوم أو قامت بهذا الدور بمعزل عن ضوء أخضر أمريكي؛ فالصين ليست من الدول التي تفكِّر سياسيًا خارج محيطها، وكذلك العمل على إعادة تأهيل نظام بشار الأسد ليعود عضوًا فاعلًا في الجامعة العربية، وكذلك التقارب الذي يجمع العراق وتركيا وإيران… كل هذا وغيره يأتي في إطار تحرُّك أمريكا للمْلَمة أوراقها من جديد حتى لو اقتضاها ذلك بأن تكشف عملاءها وتجعلهم فوق الطاولة، فما دام فضحهم لا يؤثر عليها -بل ويحقق لها ما تريد- فلا بأس إذن بكشفهم.
فأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أشرفت على تأسيس كل المنظمات الدولية والأنظمة المالية والعسكرية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة، ومجلس الأمن، وغيرها…. فكانت هذه المؤسسات هي القبضة الفولاذية التي أحْكمت أمريكا بواسطتها سيْطرتها على العالم، فمن الناحية العسكرية شكَّلت حلف شمال الأطلسي للوقوف ضد حلف (وارسو) الذي أنشأه الاتحاد السوفييتي آنذاك للوقوف ضد معسكر أمريكا الغربي، ومع زوال سبب وجوده بزوال الاتحاد السوفييتي إلا أن الحلف بقي حلفًا لأمريكا والدول الغربية وبعض من دول أوروبا الشرقية التي كانت يومًا حليفًا للاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، أما في الجانب الاقتصادي فإنه لا يخفى مدى تدخل الصندوق والبنك الدوليين في سياسات البلاد المَدِينة التي تجبرها أمريكا أحيانًا على الاسْتدانة من أجل أن ترْتمي في أحْضانها وتقبل بالتالي التدخُّل في شؤون البلاد الداخلية.
وقد كان مشروع (مارشال) الذي عملت عليه أمريكا لإنقاذ أوروبا -بُعيد الحرب العالمية الثانية- من الإفلاس، وإعادة إعمار ما دمَّرته الحرب الكونية شاهدًا حيًّا على ذلك، فقد ظفرت الشركات الأمريكية الكبرى بحصَّة الأسد في إعادة إعْمار أوروبا، ما جعل أمريكا وشركاتها تُشرف على الدول الأوروبِّية، فكان مشروع مارشال بحقٍّ مشروعًا استعماريًّا لأوروبا وبَسطَ يد أمريكا بعد ذلك على القارة الأوربية التي ما زالت تحت هيمنة أمريكا، ولا أدلَّ على ذلك من وقوفها إلى جانب أمريكا في كل حروبها المباشرة وغير المباشرة؛ كما حصل في العراق وأفغانستان، وأخيرًا -ولن يكون آخرًا- وقوف القارة العجوز إلى جانب أمريكا في حربها ضد روسيا في أوكرانيا مع علمها -أي أوروبا- أن الخاسر الأكبر في الحرب هم الأوربيون، هذا في الناحية العسكرية، أما في الناحية الاقتصادية فإن ما فعله الصندوق والبنك الدوليَّان في دول أمريكا اللاتينية ليس منا ببعيد؛ حيث ساهمت القروض الرِّبوية التي منحها الصندوق والبنك للدول المدِينة في زيادة المدْيونيَّة، الأمر الذي جعل أمريكا تُشرف على سياسات تلك البلدان لتتَّخذ بعد ذلك منها العملاء الذين لا يكادون يخالفون لها أمرًا أو يرفضون لها طلبا.
وبقِيت أمريكا تتربع على كرسي الدولة الأولى في العالم إلى يومنا هذا، إلا أنَّ صعودَ الصين والقوَّة العسكرية والنووية الروسية والحديثَ عن تحالف مستقبليٍّ ربما يجمع الصين بروسيا جعل أمريكا تفكر في سياسات جديدة تبقيها الدولة الأولى في العالم بلا منازع، فالصين مثلًا تشكل بالنسبة لأمريكا بُعبعًا اقتصاديًّا لا تستطيع القفز عنه أو تجاوزه، وقد بدأت الصين منذ سنوات تفكر في شقِّ الطريق الذي يوصلها إلى أن تكون قوة اقتصادية أولى في العالم، والدراسات البحثية تقول بأن الصين إذا بقيت تسير بهذه الخطى الثابتة والقوية دون حسيب أو رقيب فإنها ستصبح ذات ناتج قوميٍّ يفوق الناتج القومي الأمريكي بعد عشر سنوات على أبعد تقدير.
لذلك رأت أمريكا أنها إن لم تتدارك هذا الخطر فإنها ستنْزل عن مرتبتها الأولى في العالم، لذلك ورَّطت روسيا في أوكرانيا في حرب لا تبدو نهايتها قريبة، وكذلك فهي تَجُرُّ الصين لتتورط هي الأخرى في تايوان، وقد عملتْ خلال انشغال روسيا بأوكرانيا على جمع الحلفاء والأتباع من الدول الأوروبية و الآسيوية، وهي في نفس الوقت تنذر الصِّين إن هي ساعدت روسيا بالسلاح فإنها ستتعرض لعقوبات قاسية، والصين بدورها تدرك أن يد أمريكا في العالم ممتدَّة بحيث تستطيع عرْقلة طريقها إذا هي أرادت، وما زالت سياستها تلك وللآن مع الصين سياسة ناجحة وما زالت الصين تحاول إمساك العصا من منتصفها، فهي لا تريد أن تخسر روسيا إذا انتصرت في حربها في أوكرانيا، وبنفس الوقت لا تجرؤ أن تُواجه أمريكا التي تتبادل معها سِلعًا بمئات المليارات، وحتى الطريق والحزام الذي تناضل الصين لفتحه كي تصل لما يزيد على مائة دولة فإنها -أي أمريكا- إن أرادت قطع الطريق عليها فإنها تستطيع وشاهدنا ذلك في باكستان، لمَّا أراد عميل أمريكا عمران خان أن يذهب بعيدًا في علاقته مع الصين أبْعدته أمريكا واستبدلتْه بعميل آخر، فالصين تدرك حجْم أمريكا ومدى إمساكها بخيوط العالم لذلك تراها تتقدَّم خطوة وتعود اثنتين بل إنها في المرة الأخيرة قدَّمت مقترحًا لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
إن انشغال روسيا في أوكرانيا ومحاولة إبعاد الصين عنها هما بداية الطريق بالنسبة لأمريكا في محاولتها كتابة التاريخ من جديد، أو هكذا تتصور، فأوروبا كلها لا تنْبِس ببنت شفة إن قررت أمريكا أمرًا، فبالرغم من أنَّ أوروبا هي من تضرَّرت من الحرب الروسية الأوكرانية وبالرغم مما كان يبدو عليها من محاولة إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن، إلا أنها بعد ذلك بدأت تتحدث عن ضرورة هزيمة روسيا في أوكرانيا، وبدأت تمدُّ أوكرانيا بالسلاح الذي من شأنه أن يقْلِب موازين المعركة، فأمريكا تدرك أن انتصار روسيا في أوكرانيا سيؤثر على موْقفها كدولة أولى في العالم، وعلى أقل تقدير فإن ذلك سيجعلها تتشارك مُجبَرة مع دول لم تكن تجرؤ على مخالفتها مثل روسيا والصين، لذلك فإنها تضع بثقلها هي وأحْلافها من الأوربيين لمنع روسيا من تحقيق أي انتصار، وقد صرَّح بهذا كبار السياسيين والعسكريين الأمريكان والأوربيين بأنهم لن يسمحوا لروسيا بالانتصار في أوكرانيا حتى لو دامت الحرب لسنوات عديدة، ومن هنا فإن أمريكا الدولة الأولى في العالم تعمل على تجْميع قواها ولمْلمة أوراقها التي تحتاجها لتعيد صياغة العالم من جديد، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية يأتي في هذا السياق ومع أن الدولتين لم تكونا في أغلب الأحيان عدوَّتين إلا أن إعادة العلاقات بينهما سيحقق لأمريكا عدة أمور:
أولها: أن هناك مشاكلَ عالقة على الأقل من منظور إعلامي تربط الدَّولتين ببعضهما البعض، وعلى رأس ذلك المشكلةُ اليمنية والتي يظهر أن السعودية تدعم الشرعية فيها (عبد ربه منصور)، وإيران تقف وتدعم بقوة الحوثيين فقد استطاعت إيران بدعمها لهم أن تجعلهم قوة يُحسب لها حساب في الخريطة السياسية في اليمن فوق كونهم قوة عسكرية، ومع علْمنا أن كلًّا من السعودية وإيران يعملان لخدْمة نفس الجهة إلا أن تبادل الأدوار وسياسة إخفاء العملاء هو ما جعلهما يظْهران وكأنهما عدوَّان، وأمريكا يبدو أنها تريد تهْدئة جبهة اليمن عن طريق التنسيق المباشر بين إيران والسعودية، وترتيب الأوراق في اليمن حتى وإن جعلها ذلك تلعب فوق الطاولة، ومع أنَّ هذا المخفي قد أصبح معلنًا فإيران والسعودية لم تكونا عدوَّتين حقيقيتين يوماً، وإنما كانت أمريكا توزع بينهما الأدوار والآن رأت أن تجمع بينهما لتلزيم دول المنطقة لهما، وأمريكا والتي لا يشغلها الآن إلا روسيا والصين والاقتصاد الذي يتآكل عندها.. لا تريد أن يلفتها عن ذلك أية مشاكل وقد بدأ الحديث عن تهدئةٍ في اليمن بعد الاجتماع السعودي الإيراني.
ثانيها: أن أمريكا بالاتفاق السعودي الإيراني قطعت الطريق على كيانِ يهود الذي يطمع بأن يعمل منفردا مع دول المنطقة وتكون له يد على السعودية وغيرها دون المرور بالقنطرة الأمريكية، ولكن أمريكا وفي كل فترة تؤدِّب كيان يهود وتظهر له أنه لا يستطيع الاستغناء عنها وبالذات إذا خرج كيانهم من تحت العباءة الأمريكية ولسنا بحاجة أن نأتي بالأمثلة الكثيرة، ويكفينا مثال واحد: لمَّا أرادت حكومة الكيان تعديل قانون المحكمة العليا تدخَّلت أمريكا بشكل مباشر في المظاهرات ضدَّ نتنياهو وحكومته، ما دعا أحد وزراء الكيان لاتهام أمريكا بالتدخل في إشعال التظاهرات بل إنه قال إن أمريكا تظن أننا ولاية من ولاياتها، وهكذا فان التقارب الإيراني السعودي والاتفاقيات المزمَعِ عقدها بين الطرفين كان تحت إشرافٍ أمريكي مباشر، ومن أهدافه تأديب الكيان حتى يرضخ للمطالب الامريكية وعلى رأسها قبوله بحلِّ الدولتين.
ثالثها: صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت الدولة الأولى في العالم وما زالت جل أوراق العالم بيدها إلا أن دوام الحال من المحال، فأمريكا بدأ السوس ينخرُها من الداخل فالمجتمع بدأ يتفكَّك على أساس اللون والعرق، والشركات التكنولوجية تُنافس شركات السلاح والنفط، والحزْبان الجمهوري والديمقراطي يتصرَّفان بوصفهما عصابة… هذا من الداخل، أما من الخارج فإن التقارب التقني والعسكري بين الدول ظاهرٌ للعيان، فلم تعد أمريكا تفوق العالم عسكريًا وتقنيًا بشكل كبير بل إن بعض الدول بدأت تتفوق عليها في بعض مجالات الصِّناعة، لذلك فإنها -أي أمريكا- تتحرك الآن بسياسةِ تجميع العملاء والحلفاء، وهذه ليست علامة قوة وإنما علامة ضعف، فلم تعد أمريكا التي خاطبت دول العالم في حرب الخليج (إننا ذاهبون للْقتال بالعالم أو بدُونه) هي ذات أمريكا الآن.
وأخيرًا: فإن العالم اليوم ينتظر مبدأً جديدا يدير العالم بعدلٍ واقتدار وليس ذلك المبدأ إلا الإسلام؛ فهو وحده الذي يراعي إنسانية البشر ويراعي كرامتهم وينقل لهم الخير، فلعل الله يُكرم الأمة الإسلامية بما أكرمها به مع مبعث النبي عليه الصلاة والسلام فتعود خير أمة أخرجت للناس تأمر بالعدل وتحكم بالحق وما ذلك على الله بعزيز.
أمريكا ماتت فلا تكونوا كجن سليمان
رابط المادة: http://iswy.co/e4b7a
سرد منطقي وكلام موزون في علاقة الدولة ” العظمى ” مع المجتمع الدولي بكافة أطيافه وتكتلاته.
مقال موفق جدًا