قراءة في كتاب عَرَقْ البَرْنُوسْ: جرائم الاستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة‬

تأتي هذه القراءة لكتاب “عرق البرنوس” لكاتبه الفرنسي بول فينياي دوكتون، والذي عمل على تعريبه الأزهر الماجري؛ في سياق واقع معاش للاحتلال غير المباشر، وهي المرحلة التي تلت الاحتلال المباشر الذي كان الكتاب محور حديث جزء منها. فإذا كنا اليوم كشعوب نعيش حالة من الاحتلال القيمي الثقافي والاقتصادي المادي والاجتماعي المنظوماتي، فعلينا البحث عن جذور هذا الاحتلال، وعن أصوله التي لا زالت آثارها حية بيننا، تتجلى على وجوه الفقراء والمعدومين، وعلى الضغط العام الذي لا ينفجر في وجه الظلمة المحتلين في كل الأوقات، بل يتحول أحيانًا إلى سيل بشري من قوارب الهجرة السرية من بحار جنوب المتوسط إلى بلدان الاحتلال القديم .. الجديد.

فهذه القراءة إذن ليس المقصود منها إبراز جرائم المحتل فقط، ولا وصف معاناة شعب تحت الطغيان فقط، وإن كانت تلك الجرائم وتلك المعاناة لمن الجدير أن تحفر حفرًا في عقول وذاكرة الشعوب المحتلة، حتى لا تنسى عدو الأمس واليوم، وحتى تبقى حرارة الدماء الحرة متدفقة في قلوب أجيال وأجيال، غير أن المقصود الأساسي من هذه القراءة هو تلمس الأسس التي بني عليها احتلال الأمس، لندرك صورته التي هي كائنة اليوم.

الكاتب والكتاب والمُعرِّب

عرق البرنوس

أما الكاتب فهو بول فينياي دوكتون، فرنسي كانت ولادته سنة 1859 بمونبيلياي هيرو، ومماته سنة 1943 بأوكتون. وهو طبيب وسياسي وله اهتمامات أخرى، تجول في بداية حياته المهنية كطبيب ملحق بالجيش الفرنسي على عدد من المستعمرات الفرنسية، كغوادلوب و السنغال ومدغشقر. وكان شاهد عيان على وحشية آلة عساكر الفرنجة؛ مما جعله يندد بهذه المؤسسة العسكرية ثم يستقيل منها. تفرغ بعدها للكتابة، فكتب تحت اسم مستعار قيتون كيروال، في عدد من الجرائد اليسارية، ثم أصبح نائبًا في البرلمان الفرنسي لثلاث دورات بين 1893 و 1906؛ حيث مثل داخل البرلمان الصوت المناهض للاستعمار والمعادي لرموزه.

ثم جاء هذا كتاب عرق البرنوس، بعد تكليف الكاتب بول فينياي من طرف البرلمان الفرنسي، وبتشجيع من المقيم العام السابق بالبلاد التونسية ستيفان بيشون؛ لإعداد تحقيق رسمي حول المستعمرات الفرنسية في الشمال الإفريقي، لكنه عاد بتقرير صادم للتوقعات الرسمية عنوانه “جرائم الاستعمار الفرنسي في عهد الجمهورية الثالثة”. غير أن التقرير احتوى على ثلاثة أجزاء، لم يُنشر إلا جزؤه الأول، الذي سماه الكاتب “عَرَق البَرْنُوس”، والذي يصف الأوضاع السائدة في البلاد التونسية تحت الاحتلال الفرنسي حتى سنة 1909.

أما المُعرب فهو الكاتب الأزهر الماجري، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة – تونس. وقد كان حين اكتشف الكتاب أستاذًا لتلامذة المستوى الثانوي. مارست عليه دولة الاستعمار غير المباشر -وريثة الاستعمار المباشر- مظلمة تتمثل في نقله نقلة قصرية حولت وجهة عمله إلى مدن تعتبرها المنظومة أماكن مهمشة؛ تماما كما كانت تعتبرها سلطة الاحتلال. إذ تم نقله للتدريس في المعهد الثانوي بالمتلوي، ليدخل الماجري بهذه النفسية إلى عالم المناجم. وفي مدينة المتلوي ومن داخل المكتبة النائية لشركة فسفاط قفصة تعرف الماجري على النسخة الفرنسية للكتاب، فالتقت مظلمته بمظالم الاحتلال قديمًا وحديثًا، ومن رحم تلك المعاني والمعانات وقع ترجمة هذا الكتاب للغة الناس الذين يصف حالهم.

ويجدر بالذكر الإشارة إلى قيمة هذه الترجمة؛ خاصة في واقع تونسي تعتبر النخب العلمانية فيه هي الامتداد الواقعي للشخصية الاستعمارية؛ فولاء هؤلاء لفرنسا يجعل من نقد وفضح جرائمها القديمة-الجديدة أمرًا مستبعدًا. لهذا لم تترجم الكتب التي تصف بشاعة الاحتلال وتنشر الوعي بجرائمه رسميًا من قبل الدولة التونسية، بقدر ما وقع الاهتمام بالكتب التي تزرع الانبهار بفرنسا وبقيم فرنسا بين النخب الفرنكفونية؛ حتى يبقى الشعب ممتنًا لجلاده وأسير قبضته. وفي هذا الإطار تبرز قيمة هذه الترجمة لهذا الكتاب وغيرها من المبادرات الثمينة.

دلالة الاعتقاد الشعبي في الرومي

بدأ الكاتب الفرنسي تقريره بانطباعه عن أثر هذا التقرير على الفرنسيين الذين يعتبرون فعله نوعًا من الخيانة، بينما يعتبره سكان تونس المحتلة روميًا ينتمي إلى أمم الروم. ولهذا التعبير المتداول وقتها دلالة عميقة لتجذر حقيقة الصراع في وعي ووجدان الشعوب المسلمة.

إن الصراع -بوصفه حملات صليبية من الأمة الرومانية أو الرومية يستهدف هوية وثروات هذه البلدان- كان حاضرًا بقوة، وكان دافعًا كبيرًا لظهور وتواصل حركات المقاومة الشعبية، وحتى في أكثر اللحظات ضعفًا، كان العامي يدرك العداء الموجود خلف تلك الحروب، والذي تتخفى معالمه وراء شعارات نشر التمدن قديمًا ومثيلاتها في زماننا الذي نعيشه.

إن بوصلة الولاء كانت حاضرة في الأوساط الشعبية، واحتفظت بها تحت الرماد، حتى تتحول في كل مرة إلى مقاومة مباشرة لمغتصب الأرض.

عنصر: بنية منظومة الاحتلال

عرق البرنوس

على طول وقت مكوث الرومي بين ظهراني أهل القيروان، عملت الأدوات الصلبة والناعمة للاحتلال للحفاظ على هيكل تنظيمي وإداري لمنظومته؛ بحيث تقود الأيادي الفرنسية مسؤولي المنظومة من التونسيين لتنفيذ مآربها، ما حول هؤلاء المسؤولين لأدوات تنفيذ وبطش يستعملها الفرنسيون لاضطهاد وسلب الشعب التونسي.

بعد عقد اتفاقية الخيانة التي أمضاها باي الإيالة محمد الصادق باي، في باردو مع المحتل الفرنسي سنة 1881، والتي بموجبها استباحت فرنسا البلاد والعباد، كان السلم الوظيفي للسلطة على النحو التالي: قُسمت البلاد التونسية إداريًا حسب قرار سنة 1904 إلى ثلاث عشرة دائرة مدنية، إضافة إلى منطقة ترابية خاضعة للجيش تعرف “بالمنطقة العسكرية” وتهم الجنوب التونسي.

يقوم بالإشراف على كل دائرة ترابية مراقب مدني فرنسي، يدير هيكلًا إداريًا من الإداريين التونسيين. وتنقسم المراقبة المدنية إلى عدد من القيادات؛ بحيث يكون مركز القيادة محددًا جغرافيًا وسكانيًا، يشرف على القيادة قائد يستعين بخليفة أو أكثر، ويستخدم الخليفة عددًا من المشائخ في تسيير شؤون الأفراد والمجموعات داخل الإطار الجغرافي المحدد.

تخضع هذه الوظائف لمنطق البيع والشراء والرشوة، من بداية السلم الوظيفي الى آخره، في سباق ابتزاز وفساد وتزلف إلى المسؤولين الفرنسيين أو التونسيين للحصول على منصب يتيح لصاحبه عصر عرق البرنوس لفترة معينة، حتى يتم استبداله بمن يقدم رشوة أكبر. 

يدير منظومة الاحتلال في أعلى السلم مقيم عام فرنسي، بينما بقي الباي في قصره منشغلًا بالجواري والمجون والملذات، في حيازته فرق عسكرية تعمل مع الفرنسيين في قمع وحرب الشعب، ما عدا قطعة عسكرية في القصر، تخرج في أوقات محددة حسب برنامج الباي؛ لتقوم باستعراض عسكري أمام حامي الحمى، ليعود بعدها لجواريه، بينما يتجرع التونسيون مرارات القهر خارج أسوار ذلك القصر.

الدور الأمني والجبائي لمنظومة الاحتلال

“ويقصر العمل الإداري داخل هذه المجالات البدوية الشاسعة والتي تفتقر إلى المؤسسات العمومية والخدمات الدنيا، كمؤسسة التعليم والبريد والتلغراف، أساسًا على الدور الأمني والجبائي”.[1]

أما الدور الأمني فهو المراقبة التي تسلطها فرنسا عن طريق خدامها من المحليين على الشعب، خوفًا من تمرده وعصيانه وثورته في وجه المحتل وأزلامه؛ ما يعني أن الجهاز الأمني كانت مهمته الأساسية ضبط المجتمع بما يتيح بقاء الاحتلال. يدخل في هذا الحقوق المهدورة للتونسيين والتهم الجاهزة بمعادات البلد المستعمر (الإرهاب)، أو تهديد سلامة أحد المعمرين؛ والتي يؤخذ فيها الناس بالشبهة ليرموا في أقبية السجون المتعفنة التي تمثل كابوس لكل تونسي، إذ تمتلئ بالأمراض والأوبئة والإهانة، مع الإذلال الذي يمارسه هذا الجهاز الأمني لأهل المتهمين.

ومن الدور الأمني لمنظومة الاستعمار عسكرة بعض المناطق؛ كالذي حدث مع الجنوب التونسي، لحساسية تلك المناطق ضد الاحتلال، ولوجود ثروات طبيعية تعمل فرنسا على نهبها بعقود استعمارية.

أما الدور الجبائي فهو فصل آخر من فصل كسر بأس الأهالي، تتحرك عساكر الصبايحية رفقة الشيخ لعصر قطرات عرق البرنوس المتبقية فوق جلود الفقراء، ما يمثل كابوسًا من الرعب عند الأهالي؛ خاصة الغالبية من الفقراء الذين لا يجدون ما يكفي من مطعم وملبس فكيف سيجدون ثمن ضريبة جائرة تنزع منهم غصبًا. حتى إذا أحاط العساكر بأحد المعدمين، وتبين عجزه عن الدفع، تبدأ الإهانات بالكلام البذيء والشتم الخادش للشرف أمام أهل بيته. وقد يقتاد أحد الجنود إحدى بنات المنزل بعيدًا ويقوم باغتصابها، لتنزل صرخاتها على مسامع أهل البيت قهرًا فوق القهر، ثم يسلب العساكر المواشي والغنم من البيت ويربطونهم ويربطون معهم رجال البيت، ويقتادونهم في موكب الذل إلى مراكز الإدارة.

“إن مشهد القطعان الحيوانية المصادرة وكل ما يرافقها من أعمال عنف التي تتعرض لها الدواوير لا يختلف في شيء عن أعمال الغزو الفعلية، لاسيما وأن الخليفة، قائد هذه الحملات، لا يخضع لأي قانون أو رقابة، الأمر الذي يفتح أبواب النهب على مصراعيها. إنها غنيمة حرب أو اقتصاد غزو بأتم معنى الكلمة وعبارة غنيمة في هذه الحال شديدة البيان”.[2]

احتلال تونس احتلال بالوكالة

عرق البرنوس
رسم تخيلي لمعاهدة باردو.

احتلت فرنسا الجزائر في البداية وكان تدخلها عسكريًا مباشرًا، ونصبت منظومتها الاستعمارية بالأدوات الصلبة، لكنها أرادت تلافي خطئها الذي كان في بلاد ابن باديس عندما احتلت تونس؛ لذا كان الاحتلال الفرنسي عبر معاهدة باردو ثم باستغلال الكوادر الإدارية في تونس وإنشاء منظومة استعمار تعمل لتحقيق مآربه بالوكالة.

ولعل هذا ما سهل التغلغل العلماني في زمن ما بعد الاحتلال المباشر على رأس السلطة التي واصلت المضي في المشروع الفرنسي؛ من جهة نهب الثروات عبر عقود استعمارية أو التأسيس لمنظومة أمنية عسكرية كانت أم بوليسية، تعمل على ضبط المجتمع بطريقة لا تهدد المصالح الاستعمارية، وتحافظ على حالة نظام استعماري بالوكالة وإنشاء نظام اجتماعي علماني مستمد من مبادئ الثورة الفرنسية والحضارة الغربية وغيرها.

التمدن، مهمة فرنسا في تونس، إقطاعية عصور أوروبا المظلمة

على طول الكتاب، نجد إحالات كثيرة للكاتب على عصر الإقطاع والأقنان في أوروبا المظلمة، مقارنًا بها ما بلغ إليه حال الشعب التونسي الأسير والمقيد بأصفاد الاحتلال الفرنسي، غير أنه كان دائمًا ما يرى أن بشاعة العصر الإقطاعي لا تعد شيئًا يذكر مقارنة بتونس المستعمرة. لقد فند الكاتب ادعاء فرنسا بأن مهمتها التي جاءت لأجلها هي نشر التمدن ونشر الحضارة والتنوير، بل جاءت لتهدم التمدن التاريخي لتونس وحضارة الإسلام وتسلب أقوات هذا الشعب وتنشر الظلام في نفوس وعقول هذا الشعب.

 وإن كانت فرنسا قد أفقرت البلاد من البنية الأساسية كتجهيزات المياه والطرقات؛ إلا أنها لم تبخل بنشر الكازينوهات والملاهي الليلية، والتي كان المسؤولون من قياد وغيرهم يسهرون فيها على حلقات القمار، ويبددون أموال الشعب المعدم بمباركة التمدن الفرنسي. “إن السماح بفتح مثل هذه الفضاءات يعني خلق أبواب تفقير جديدة للمتساكنين ومنافذ نهب جديدة إلى القياد والمسؤولين الإداريين”.[3]

ويقول بول فينياي: “لقد كنت شاهد عيان حزينًا على بعض المشاهد الليلية التي جرت بكازينوهات كل من تونس وبسكرة. رأيت كيف يبدد المسؤولون الكبار الثروات الطائلة على طاولة القمار حيث تصل خسائرهم الليلية ما بين 20.000 فرنك و30.000 فرنك”.[4] وسهلت انتشار شرب الخمر في تونس. لكنها وإن عاشت مدة بقاء الاحتلال المباشر تحت شعار نشر التمدن في تونس؛ فقد خلفت وراءها من أبناء البلد المحتل من يسبح بحمدها إلى يومنا هذا.

كانت النظرة الفرنسية للشعوب المسلمة العربية وللتونسيين مرتكزة على أنهم من أجناس منحطة في سلم الإنسانية؛ لذا لا مانع من معاملتهم معاملة الحيوانات ولا قيمة لدمائهم وحقوقهم ولا ضير من الاستيلاء على أملاكهم، فقد نقل الكاتب تعبير الفرنسيين بقولهم: “إن هؤلاء -أي التونسيين- ليسوا من جنسنا بل ينتمون إلى الأجناس الدونية”. ويضيف آخرون “ليس بإمكاننا التقدم بهذا البلد والارتقاء به إلى الأفضل ما لم نقض على سكانه ونبيدهم”.[5]

لقد استباحت فرنسا إبادة الشعوب وأراقت الدماء تحت نظرية “عدم تكافؤ الأجناس”. وكانت شعارات التمدن هي الغلاف الذي غلفت به جرائمها، وهو الطعم الذي اصطادت به المهزومين نفسيًا وحولتهم لعبيد يحاربون أبناء جلدتهم صفًا لصف مع العدو.

الإعلام ودوره المركزي في استبقاء الاحتلال

عرق البرنوس

لتغطية جرائمها، وتوجيه الرأي العام والضغط على الساسة وتجريم المقاومة أو تثبيت التهم الكاذبة على الأبرياء من سكان البلاد؛ كان لا بد لفرنسا من إعلام يعمل لتكريس هذه الأفكار وتحقيق تلك الغايات في البلاد التونسية. كان للإعلام الفرنسي الأثر الكبير حتى قبل انتصاب الحماية بمعاهدة الاحتلال، ثم واصلت الجرائد الفرنسية في تونس المحتلة مهمتها على غرار جريدة لاديبيش تونيزيان – La dépêche Tunisienne التي كانت لسان حال الإقامة العامة الفرنسية بتونس، وتركز عملها على ربط علاقات بالأوساط المالية وتبني مصالح هؤلاء اللصوص والتستر على فضائحهم.[5]

ثروات الشعب والعقود الاستعمارية

كانت البلاد التونسية زمن الاحتلال المباشر مأوى للسياسيين الفاسدين الذين لم تعد فرنسا تحتمل لُصوصيتهم في بلادهم، لتقوم بإرسالهم عبر تكليفات استعمارية إلى تونس؛ مما فاقم من الفساد والنهب ليزداد بؤس الشعب فوق البؤس الذي يعانيه من انتصاب الاحتلال. لقد عملت الشخصيات الفرنسية المتنفذة رفقة منظومة الباي على إيجاد وضع قانوني للسرقة والاستيلاء على الأراضي الفلاحية وحرمان أهلها منها، وتهجير أعداد كبيرة من سكانها، أو إبقاء جزء منهم للعمل كعبيد أقنان بنظام الخماسة لصالح المغتصب الفرنسي.

لكن الأمر لم يتوقف عند الأراضي الفلاحية الخصبة، ولا على مياه الري ونظام توزيعها، ولا عند الموانئ البحرية وحقوق الصيد، ولا اتفاقيات الخطوط الحديدية، بل تواصل التوغل الهمجي لفرنسا إلى مصادر الفُوسفات والمناجم في الجنوب التونسي فيما يعرف بشركة فوسفات قفصة، وإذا كنا نتحدث عن بداية تأسيس الوضع الاستعماري في هذه الشركة كنموذج، فإننا نعيش في هذا زماننا هذا تواصلًا لسلسلة النهب والفساد، لكن بوجوه عربية بعد أن كانت الوجوه والأسماء غربية لكن المستفيد نفسه.

فوسفات قفصة .. كيف بدأت القصة؟

عرق البرنوس
مناجم فوسفات قفصة.

اكتشف فيليب توماس الثروات الباطنية المتمثلة في مناجم الفوسفات بقفصة، وهي تعتبر من أهم أحواض الفوسفات في العالم. وتوماس هو طبيب بيطري ملحق بالجيش الفرنسي, ثم أسندت امتيازات استغلال مناجم قفصة “إلى إحدى شركات النهب الكبرى في فضيحة جديدة تضاف إلى رصيد فضائح الجمهورية الثالثة”[7] حسب تعبير الكاتب. والذي وصف السيد بافيلياي المسؤول عن إمضاء الإتفاقية الإجرامية ليس بـ”إلا لص محترف ومكانه الطبيعي هو السجن المؤبد”.[8]

عمل بافيلياي على حث أحد أقربائه، وهو موريس دي روبارت على بعث شركة خاصة تضم بعض البرلمانيين الفرنسيين المتنفذين ومجموعة من الشخصيات البارزة في وزارة الخارجية الفرنسية. ليؤسس شركة مالية ضمت مساهمين أساسيين في رأس المال من البرلمانيين والموظفين السامين من وزارة الخارجية. ووضع بافيليياي بنفسه كرَّاس شروطها ليتفرد بنفسه بطلب امتيازات استغلال مناجم الفوسفات في قفصة.

وبتاريخ 15-08-1896 وقعت اتفاقية الاستغلال بين بافيلياي كممثل للحكومة التونسية والشركة من جهة أخرى، تمتد لستين سنة. ولعله من غير الصدفة أن يكون تاريخ انتهاء مدة الاستغلال سنة 1956 سنة الاستقلال المزعوم .

“وعلى هذا الأساس أصبحت شركة فوسفات قفصة تتمتع بحق التصرف المطلق في مجال يمسح حوالي 500.000 هكتار تفوق فيه نسبة الفوسفات الصافي 75%”.[9]

مشاهد من “الحڨرة” في زمن الاحتلال المباشر لأصحاب الثروة الحقيقيين

على مدخل مناجم الفوسفات تتهيأ النفوس إلى ولوج الأرخبيل السجني بقفصة.[10] هنا تتمثل صورة من أبشع صور استعباد البشر في التاريخ، تروي فيه مناجم المتلوي والرديف وعمالها قصص الدماء و الدموع والعذاب.

يقوم على إدارة منجم قفصة أقلية فرنسية وإيطالية، ويتكون العمال من فسيفساء جزائرية وليبية ومغربية وتونسية. “لقد استثمرت الشركة بدهاء كبير واقع التناحر العرقي ووظَّفته لتأبيد استغلالها لشريحة عمالية منقسمة وامتصاص قوة عملها”.[11]

كما ساعد البُعد الجغرافي لقفصة لتحويل منطقة المناجم إلى سجن حقيقي، معزول عن باقي الجهات، يبدأ العقاب السجني للعمال بسرقة أجورهم عبر سياسة الخصم والخطايا؛ حيث لا يمكن لعامل واحد أن يتحصل على راتبه الشهري  كاملًا دون خصوم عقابية. فمنذ الانتداب (في كثير من الأحيان يكون برشوة) في العمل تبدأ السرقة بقبول رئيس الحظيرة للعمال بصفة غير قانونية؛ ما يعني عدم إدراج أسمائهم في لوائح الإدارة. بالتالي لا يتحصل هؤلاء العمال على بطاقة خلاص في موعد تسديد الأجور، ما يجعل أجورهم تتدنى لأقصى حد، هذا فضلًا عن حالة الضغط والاستفزاز الدائم التي يعيش فيها العمال مما يدفعهم للانفجار الذي يساوي عقوبات جديدة.

تجني الشركة أرباحًا طائلة من وراء سرقة عرق العمال، وحين لا ينجز مجموعة من العمال القدر المطلوب تقع عقوبتهم جماعيًا، فيما لا يقع احتساب الأعمال الزائدة على القدر في أوقات أخرى. وفي طابور استخلاص الأجور يقف أحد الحراس بجانب شباك تسديد الأجور، لتعنيف العمال الذين نفد صبرهم نتيجة تعاظم المظالم. وفي حالة إصرار أحد العمال على معرفة حقه تتم إحالته الى السجن، ومن ثَمَّ إلى البطالة.

أما أماكن السكن التي يحشر فيها العمال فقصة أخرى من قصص وحشية الاحتلال الفرنسي. “إن حظائر الخنازير المنتشرة بمناطق اللوزا ولافايرون الفرنسية قد تعطيكم صورة على هذه المحتشدات البشرية حيث يقبع عمال مناجم الرديف وعائلاتهم داخل أكواخ  القصدير والخشب المتراصة، والتي تحيط بها الأوساخ والقَذَرات من كل الجوانب، والمصدر الأساسي لهذه الأوساخ المنتشرة في كل مكان هي المراحيض العارية المحفورة في الأرض”.[12]

وكثيرا ما تؤدي هذه الحالة المزرية إلى انتشار وباء التيفوس بين العمال، فكيف تتعامل الإدارة مع من يصيبهم هذا الوباء؟ يقع حشد المرضى في أكواخ معزولة ومتراصة بين جبال الفوسفات، تحت أشعة الشمس، يحيط بهم حفر المراحيض المحفورة في الأرض، ليجد المرضى أنفسهم بين ركام القذارة والأوساخ والتعفن، داخل الكوخ الواحد يحشر العشرات من مرضى التيفوس، ما يجعل من نسبة الوفيات بينهم مرتفعة .. إنها المدنية الفرنسية والحضارة الغربية التي جاؤوا بها لبلادنا!

ملاحظات حول الكتاب

عرق البرنوس

رغم أن الكاتب قد قام بنقد عميق للحالة الاستعمارية وفضح جرائمه، إلا أن كتاب عرق البرنوس لا يخلو من بعض المؤاخذات. منها أنه يبدو معاديًا لكبار المعمرين ومتعاطفًا مع صغار المعمرين، بل ويعتبر في بعض الأحيان أن لهم حقوقًا مهضومة. ولعل هذه النظرة جاءت من الزاوية الفكرية اليسارية التي ينطلق منها الكاتب، والذي يعتبر من خلالها وحدة معاناة البلوريتاريا بغض النظر عن أصولهم الجغرافية أو العرقية أو الدينية.

خاتمة

تعتبر فترة الاحتلال المباشر هي المرحلة التي تأسس عليها وضع الاحتلال المباشر، وعلى هذا الوضع قامت دولة الاحتلال غير المباشر. قامت على نفس الركائز الاستعمارية، ليبقى الشعب رهين الاحتلال القديم لكن بوجوه محلية، وشعارات وطنية. إذ لا يخفى على أي مراقب للشأن التونسي أن البلاد محتلة، سواء على مستوى الاقتصادي الذي تتواصل فيه عقود النهب الاستعمارية إلى يومنا هذا، بل قد ترفض النخب الحاكمة الكشف عن هذه العقود خوفًا على مصالح أسيادهم؛ سواء على المستوى القيمي الذي تهيمن فيه العلمانية والفرنكفونية على إعلام وتعليم وعقول الشعب، سواء على المستوى الاجتماعي الذي يحكم على تونس أن تكون تابعة لنظام اجتماعي بمرجعية فرنكفونية تلغي القيم الأصلية والحضارية للبلاد.

ومن مشاهد الكوميديا السوداء ذلك الموكب الرسمي الذي يتحرك سنويًا، وتتابعه الشاشات احتفالًا بعيد الاستقلال أو بعيد الجلاء أو بعيد الجمهورية، لتكتمل المسرحية!

المصادر

  1. كتاب عرق البرنوس لبول فينياي دوكتون، تعريب الأزهر الماجري، الطبعة الأولى، صفحة ص37.
  2. الكتاب صفحة 55.
  3. الكتاب صفحة 226.
  4. الكتاب صفحة 226.
  5. الكتاب صفحة 180.
  6. الكتاب صفحة 228.
  7. الكتاب صفحة 241.
  8. الكتاب صفحة 241.
  9. الكتاب صفحة 243.
  10. الكتاب صفحة 257.
  11. الكتاب صفحة 259.
  12. الكتاب صفحة 265.

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى