عبد الحميد بن باديس: المناضل الذي أنعش جيلًا
وقعت الجزائر تحت براثـن الاحتلال الفرنسي، وأراد الغاصب الفرنسي محو هوية الجزائر العربية والإسلامية وإعلانها جزءًا من فرنسا! وتعددت الوسائل من أجل هدم عقيدة الأمة والقضاء على روح المقاومة لديها، ومحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها لتكون لغة التعليم والثقافة والتواصل بين الناس.
ورغم الجهود المستميتة والمحاولات التي لا تعرف اليأس، إلا أن تلك العقيدة إذ تستقر في قلب أحدهم يقينـًا، لا يمكن أن تخمد أبدًا.. وكان من هؤلاء ابن باديس الذي أعلن عن إصرار أمته لرفض تلك المحاولات وتحديها بقوله:
إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسـا، ولا يُمكن أن تكون فرنسـا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسـا كل البعد في لغتها وأخلاقهـا وعنصرها وفي دينها ، ولا تريد أن تندمج.
المولد والنشأة
وُلد عبد الحميد بن باديس 1307هـ – 1889م بمدينة قسطنطينة، نـشأ في أسرة كريمة عنيت بتعليم ابنهـا، فأتم حفظ القرآن في الثالثة عـشر من عمره، وتعلم مبادئ العربية والعلوم الإسـلامية، ثم سـافر إلى تونس وانتسب إلى جامع الزيتونة وتلقي العلوم الإسلامية على يد جمـاعة من أكابر علمائه.
بعد أربع سنوات قضاها في تحصيل العلم بجدٍ ونشـاط، رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وقابل شيخه “حمدان الونيسي” كان قد هـاجر إلى المدينة المنورة ساخطًا على الاحتلال الفرنسي، واشتغل هناك بتدريس الحديث. لكن الشيخ حسين أحمد الهندي نصحه بالعودة إلى الجزائر واستثمار العلم في الإصـلاح إذ لا خير في علمٍ ليس يتبعه عمل.
ابن باديس ومنهج التربية
حرص على أن يكون التعليم مُتاحا لكل أبناء أمته، ولم يستثن الفتيات من مهمة الوعي والتعليم. وقد بيّن في رده على دعاة تحرير المرأة أن التحرير الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه هو تحريرها من الجهل، فقال: “وإذا أردتم إصلاحها الحقيقي فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكانة عالية ما ضرّها في العلم وهنّ متحجبات”. ونبه إلى ضرورة هذا الأمر لأن المرأة هي الركن الركين الذي تقوم عليه الأسـرة والمجتمع.
تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
يقول رحمه الله: “إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة.”
ثم يلتفت رحمه الله إلى العلماء والقادة فيقول: “ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم أمر الاجتماع ونظامه، إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتثار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، فعلى أهل العلم -وهم المسئولون عن المسلمين بمالهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى في كل ما يهمهم من أمر دينهم.”
وهكذا كان رحمه الله يمهد لما صمم عليه من تأسيس جمعية تلم شمل العلماء والدعاة الصادقين، ولا تقتصر على فئة دون فئة ولا على إقليم دون إقليم. ولعب الشيخ عبد الحميد بن باديس وإخوته في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أكبر الأدوار في إعادة بناء الإنسان الجزائري، ومنع مسخ الهوية الإسلامية العربية.
وأدرك أنّه يستحيل على الجزائريين أن يحاربوا فرنسا وهم مستلبون حضاريًّا وثقافيًا، فعكف على إقامة المعاهد التعليمية والمدارس القرآنية والعربية التي ألغتها فرنسا وحاربتها من باب تجفيف المنابع. وأنشطة الجمعية متشعبة وشاملة يصعب الحديث عنها كلها ولذلك سنقتصر على ذكر نشاطها التعليمي الذي كان من أهدافه الرئيسية إحياء اللغة العربية لغة القرآن والإسلام بعد أن حاول المستعمر إقصاء اللغة تمهيدًا لإقصاء الدين .
ولا شك أن هذه مهمة صعبة، وهي أمل كل المصلحين الذين عاشوا قبل هذه الفترة وبعدها، فقد كان من المجمع عليه عندهم أن أهم وسيلة لترقية الأمة ونقلها من ذلها وضعفها هو التربية والتعليم، لإنشاء أجيال جديدة تتسم بالسلوك الإسلامي والفهم العميق لهذا الدين، وقد حققت الجمعية كثيرًا من هذا مما يعتبر في عصرها من المعجزات.
لقد فهم الشيخ ابن باديس رحمه الله، أن الوعي هو سلاح الأمة الأول وأن المقاومة تبدأ بالوعي أولًا. كما وعى أن المقاومة تكون معركة الأمم لا النخب، فسعى جاهدًا لبث روح الوعي في الأمة حتى يصبح الشعب عليمًا بقضيته، مشاركًا في تحرير بلاده، لا عونًا للعدو بجهله.
وكتب في جريدة الشهاب: “أيها الشعب الجزائري، أيها الشعب المسلم، أيها الشعب العربي الأبي حذار من الذين يمنونك ويخدعونك، حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك، استوح الإسلام ثمّ استوح تاريخك وقلبك واعتمد على نفسك وسلام الله عليك.”
فلم يكن منفصلًا أبدًا عن الشعب، بل إن اتصاله بالشعب الجزائري كان جزءًا كبيرًا من نجاحه، ولنستكمل بعضًا من الخطوات العظيمة التي قاد بها ابن باديس أمته، في شهر سبتمبر 1937م، أصدر بيانًا ونداء إلى الشعب الجزائري وإلى النواب المنتخبين حرّمَ فيه طرق أبواب البرلمان الفرنسي، ودعا إلى اتحاد الصفوف، وتكوين جبهة لا تكون المفاهمة إلا معها وجاء فيه:
“أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام: اليوم وقد يئسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا، اليوم -وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا- اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا، يجب أن نقول نحن كلمتنا، اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحد صفوفنا، حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقَى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى -أو ترى أكثريتها- ذلك كثيرًا علينا، ويسمعنا كثير منها في شخصيتها الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا، لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها، ولنتمسك عن إيمان وأمل بشخصيتنا، قرروا عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها كوّنوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها، بَرْهنُوا للعالم أنكم أمةٌ تستحق الحياة.”
تلك الكلمات التي تطرق عزتها النفوس، على قوتها إلا أنها لم تكن محض شعارات رنانة جوفاء، بل كانت كلمات تؤسس لوعي أمة، إذ أنه يدرك أنه لا يستطيع المقاومة بإذن أو موافقة من المستعمر! ولأنه يدرك أن نجاح مقاومته يترتب على عمله خارج المنظومة المستعمرة منفصلًا عنها مُعاديا لها، لا مشاركًا لها متراميًا على أبواب برلماناتها، يدرك أن مجرد قبول المشاركة في البرلمانات لهو اعترافٌ بأن الجزائر جزء من المستعمر الفرنسي.
وكان يرى أنّه وبعد استكمال المعركة الثقافية والفكرية والانتصار للهوية العربية والإسلامية لابدّ أن يتبع ذلك مقاومة شعبية مسلحة ولعله عبر عن ذلك في قصيدته الخالدة:
شعب الجزائري مسلم وإلى العروبة ينتسب، من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب، يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب.
يشاء قدر الله تعالى أن يكون هذا النشء هو مفجّر الثورة الجزائرية في غرّة نوفمبر 1954 ومن هذا النشأ العقيد عميروش الذي كانت تسميه فرنسا وقوات احتلالها نمر الجبال والعربي بن المهيدي وأحمد زبانة وكل رعيل الثورة الجزائرية.
لم ينجح ابن باديس في تعزيز الهوية في قلب أمته فحسب بل ساهم في تكوين جيل الثورة الجزائرية الذي قال عنه يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب، وبعد مرور 14 عام على وفاته اندلعت ثورة التحرير الجزائرية والتي قادها النشء الذي تتلمذ ودرس في معاهد الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وهذا ما يجب أن يستقر في قلبك يقينـًا أن الله ينصر أمة الإسـلام ولو بعد حين وأن الله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، لكن مقومات النـصر قد تنقصنا حينها أنت تعمل وفقط ثم نتاج غرسك هذا قد لا تراه إلا يوم الدين.
المهم ألا تستسلم أو تترك واجبك حتى تلقى رب العالمين، واستأنس دومًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا”.. فسبحان الله الذي يعلمنا أن العمل حتى آخر اللحظات، ثم النتائج فإنها لله رب العالمين.
يقول عنه الدكتور محمد قاسم -مفكر مصري-: “لقد وضع ابن باديس خطة على أساس مبتكر تتلخص في أن يحاصر فرنسا في رفق وعزم صارم، في الوقت الذي تظن هي فيه أنها تحاصر الجزائر. ولم تفطن فرنسا إلى مهارة هذه الخطة إلا بعد فوات الوقت، فوجدت نفسها محاصرة، بعد أن نحّى ابن باديس أعوانها طائفة بعد أخرى. وكان من الضروري أن يفلح في تنفيذ خطته بعيدة المدى، وهي القيام بانقلاب جذري يرتكز في المقام الأول والأخير على إعداد جيل صالح ينهض نهضة إسلامية عربية، بحيث يأخذ من عظمة الماضي ومن يقظة الحاضر، ما يعصمه من الزلل والانحراف، ويسير به في طريق المستقبل المشرق”.
فعمل رحمه الله على إصـلاح العقول والنفوس، ثم رسم خارطة الطريق من أجل مقاومة مسلحة تقوم على الوعي.
ابن باديس رحمه الله عندما حُوصر وفُرِض عليه الخروج من الجزائر قال: فنحن لا نهاجر، نحن حرّاس الإسلام والعربيّة والقوميّة بجميع مدعماتها في هذا الوطن. وعندما حاول الشيخ البشير الابراهيمي التكلم معه في موضوع الهجرة قال: إنّ خروجك يا فلان أو خروجي يكتبه الله فرارا من الزّحف” ! قال الإبراهيمي:” فوالّذي وهب له العلم والبيان، لقد كانت كلمته تلك شؤبوبا من الماء صبّ على اللّهب “. وقال عن الهوية الجزائرية: ثمّ إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت.