الغرب يرانا من منظار العداوة والانتقاص، وصراعنا معه حضاري وسياسي حوار مع د. إبراهيم عوض، حول المعارك الفكرية والعلمانية والاستشراق
فضلًا عن كونه حاصلًا على الدكتوراه من جامعة أوكسفورد، وكذا كونه أستاذًا جامعيًّا بارزًا في مجال الدراسات الأدبية والنقد؛ تجلَّى إسهام الأستاذ الدكتور/إبراهيم عوض في مائة ونيِّف من الكُتُب والرسائل التي أثرى بها الأفق الثقافيّ العربيّ. كما يُشتهر بجسارته الوافرة في ولوج المعارك الفكريَّة؛ فمن معاركه الأدبيَّة، إلى معاركه مع العلمانيين العرب، مرورًا بمعاركه مع المستشرقين، ومع اليسار الإسلامي، ومع محاربي اللغة العربية، ومع القرآنيين. وهكذا قدَّر الله لضيفنا أنْ يمتاز بعُمر ثقافي عامر في مجالات المعارك الفكريَّة والأدبيَّة. هذه المعارك أحدثت حِراكًا فكريًّا عربيًّا يحسب لصاحبها ويحسد عليه.
وضيفنا ذو نزعة نقديَّة عميقة في تفكيره، يدافع عن الإسلام والعروبة، وصاحب فكاهة ولُطف في تعبيراته، وأحيانًا يمتشق سوط السخرية اللاذعة ليذيق البعض ألمًا ويترك البسمات لدى الكثيرين؛ حتى تغدو كتاباته سائغة سهلة التقبُّل رغم مادتها العلميَّة.
وها نحن نتشرَّف باستضافته في “تبيان”؛ لنستطلع رأيه الذي يحمل خبرة عقود، في مجالات فكريَّة وثقافية وأدبيَّة ونقديَّة؛ إثراءً لنا ولقارئنا الذي يتطلع إلى ذلك.
س/ اشتهرتَ بالكثير من المعارك الفكرية؛ حتى أطلق عليك البعضُ لقب “محامي الفكر الإسلامي” .. من هنا نسأل: هل صنعتْ المعارك الفكرية تراث إبراهيم عوض ووجَّهته توجيهًا أمْ أنَّ أبراهيم عوض هو مَن اختار أن يكون إنتاجه من أرض المعارك رأسًا؟
أنا أجتهد وأدافع عما أومن به؛ وبخاصة الدين الذى أعتنقه وأعتز به اعتزازًا عظيمًا. وأنا حين أكتب عن الإسلام وعظمته، وأبين عبقريته والدور العظيم الذي نهض به الرسول الكريم -عليه السلام- فى التاريخ ومسيرة الحضارة الإنسانية؛ إنما أدافع عن وجود الأمة التي أنتسب إليها، وأحاول فضح المؤامرات والعداوات التى تبغي كشط أمتنا من الوجود أو تصير تابعة ذليلة للقوى الكبرى. وإذا كان البعض قد تفضل فلقبنى بهذا اللقب أو ذلك فهو مشكور سواء كنت أستحقه أو لا.
س/ كيف تختار مَن تردُّ عليهم؟ في ظلّ آكام من الرؤى والأقوال والتنظيرات؛ ما الذي يدفع نفسك إلى رأي أو كتاب أو شخص بعينه كي تنبري للرد عليه دون آخر؟
قد يظهر كتاب مثلًا يشغل الناس فى الهجوم على الإسلام؛ فأجد من اللازم الوقوف إزاءه والكتابة عنه بما يبرز زيف منطقه، والنية السيئة المبيتة لتشويه ديننا؛ فتنشط نفسى لدراسته والرد عليه وتفنيد ما فيه من أفكار وآراء مزيفة منحرفة.
س/ لماذا نراك تقسو على البعض في النقد وتستخدم سخرية مريرة، ونراك مع البعض الآخر تكتفي بالاختلاف وحسب دون القسوة على الرأي الذي تناقشه أو أصحابه؟
أتصور أن هذا يرجع إلى ما يقوله أعداء الإسلام عن الكاتب الذى يهاجم الإسلام: فإن كانت له سمعة مدوية، ويوصف بأنه الكاتب الكبير وما إلى هذا كان ما أكتبه عنه شديدًا حتى يتبين المسلم أن هذه الأصنام أصنام تافهة ضعيفة لا قيمة لها، وأن ضخامة حجمها ما هي في الحقيقة سوى سمنة مرضية ليس إلا.
س/ يحتاج إلى كثير من الشجاعة مَن يقتحم المعارك الفكرية؛ التي بدورها قد تكلِّف الإنسان خسائر اجتماعية -بل وظيفية وحياتية في بعض الأحيان- وتدخل المتعارك تحت طائلة التصنيفات .. هل هذا يجعلك تقدِّر موقف مَن يؤثر السلامة ولا يتداخل مع الآخرين أمْ تراه مُقصِّرًا في أمانة العلم والفكر -مع استطاعته العلمية والفكرية-؟
فلأتكلمْ عن نفسي: فأنا مثلًا لا أتطلع إلى جائزة أو منصب، وأعرف أن من بيدهم الجوائز لن يفكروا أبدًا في واحد مثلي. وقد وطَّنت نفسي على هذا منذ زمن بعيد. وإنْ كنت لا أكره الجوائز لو جاءت من تلقاء نفسها دون سعي من جانبي. وقد رشحت لجائزة الملك فيصل ولجائزة الدولة التقديرية وغيرهما من زملائي بقسم اللغة العربية عدة مرات. لكنى كنت -وما زلت- أعتذر عن قبول الترشيح، وأشكر زملائي الكرام.
س/ لماذا نشهد توغُّلًا للنشاط العلمانيّ في السنوات الأخيرة في المجتمع العربي؟ حتى ظهرتْ في الأيام الأخيرة بعض مواقف من أدباء ومثقفين -كنتَ قد تناولتَهم بالنقد القاسي-؛ بها الكثير من الشطط (مثل علاء الأسواني، وسلوى بكر).
خصومنا لا يهزلون مثلنا. نحن شعوب هازلة ولا تعرف الجد الحقيقي بل تتظاهر بهذا؛ بينما كل شيء يجري في مساره الفاسد المنحرف. وخصومنا يخططون لكل شيء، ويرتبون كل شيء “قبل الهنا بسنة”، بل بسنوات بل بقرون، ويعملون على أن نكون بقرون. هم يرصدون المال والجوائز ويلمعون من يصدع بأمرهم ويعينهم فى حربهم ضدنا. وما أكثر من يقول: أنا مسلم، وهو في ذات الوقت يكره الإسلام كراهية العمى والبرص!
س/ من خلال حسِّك النقديّ الذي تمتاز به؛ ما هي نقاط الضعف في التيار العلمانيّ العربيّ التي برزت لك خلال معاركك مع حاملي لوائه؟
هذا التيار يجري في ركاب الغرب في كل شيء تقريبًا. والصدام الحضاري مع الغرب -المستمر منذ قرون- يقتضي فضح هذا التيار وإظهار عوراته. لا جدال في أن الغرب متفوق علينا في الصناعة والزراعة والسياسة؛ بما يحمل ضعفاءَ الفكر والعقيدة على السير خلفه، لكننا -نحن المحبين لأوطاننا وديننا- نعمل جاهدين على التخلص من ضعفنا وتخلفنا، واضعين في أذهاننا وُجوب استرداد مقعدنا بين المتقدمين. صحيح أن ذلك يحتاج إلى وقت ونفس طويلين، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. الشعوب القوية المحترمة ترفض التبعية والانصياع للقوى، بل تعمل بكل طاقتها على أن تكون قوية مستقلة. وهذا يقتضي تقدمًا علميًا وعملًا متواصلًا ونشاطًا حميمًا في مجال الاختراع والابتكار. وما زالت أمامنا أشواط طويلة جدًا لكن لا ينبغي أبدًا أن نفقد الأمل والشعور بكرامتنا وقيمة ثقافتنا الإسلامية التي تحث على كل شيء عظيم وترفض لنا الهوان والعجز.
س/ في تقييم شامل غير مُجتزئ، ونظر صبور رشيد في النشاط العلماني العربي منذ دخوله؛ ما الفوائد الجانبية التي أتى بها التيار العلماني العربي على الثقافة العربية -إنْ وجدتْ في رأيك-؟
لقد دفعنا هذا النشاط إلى معاودة النظر في ديننا وثقافتنا؛ فرأينا جوانب عظيمة كانت غائبة عنا رغم أنها طوال الوقت تحت أعيننا. لكن أعيُننا لا تراها لأنها لم تكن تحسن النظر، وكانت تفتقر إلى التركيز والثقة بالنفس.
س/ من خلال خبرتك الطويلة في الاحتكاك بالنشاط الاستشراقيّ؛ هل تعدُّ الاستشراق أداة صراع وحسب -كما ينظر له الكثيرون-، أمْ أنَّ هناك جوانب أخرى نغفل عنها إذا عددناه كذلك؟
الاستشراق تخصص من التخصصات العلمية. وأنا أحب قراءة ما يكتبه المستشرقون، وأدرسه وأوضح حسنات ما يكتبه كل منهم وعيوبه. وهُم -بوجه عام- ينظرون إلينا بعين العداوة والانتقاص. والأمر أمر صراع حضاري وسياسي؛ فهم يريدون لنا أن نكون دائمًا شاعرين بالنقص والدونية، ويعملون على التشكيك في ثقافتنا وحضارتنا وديننا، ويبذلون كل جهودهم من أجل أن نظل تابعين لهم في كل شيء، وألَّا نصل إلى درجة القوة والاستقلال والمواجهة معهم. إنهم يعرفون أن الإسلام هو مفتاح قوتنا واستقلالنا الحقيقي، ويعلمون أن الإسلام هو سبب نهضتنا وقدرتنا على مواجهة مخططاتهم وإفشالها. فهم يعملون بكل سبيل على إلغائه من معادلة الصراع بيننا وبينهم أو على الأقل: تحييده.
س/ بما تنصح القارئ في تعامُله مع مؤلفات شُخوصٍ؛ يراهم المجتمع العام أعلامًا، لكنهم من زاوية أخرى أخطأوا -بتنوُّعات- في حقّ التراث العربي والإسلاميّ (طه حسين، ونجيب محفوظ مثلًا)؟
أنا أقرأ كل ما يكتب. ولم أضع في ذهني يومًا أنه لا ينبغي أن أقرأ فلانًا أو علانًا. وأنا أعشق قراءة ما يكتبه طه حسين مثلًا، وأعشق أيضًا دراسة أفكاره، وتوضيح إيجابياتها وسلبياتها. ولا أضع في ذهني أبدًا شيئًا آخر غير الوصول إلى الحقيقة، باذِلًا جهدي كله. ورغم تصوري أني على صواب واعتزازي بما أكتب؛ فإني دائمًا ما أقول إنَّ ما أكتبه جهد بشري يجوز عليه الصواب والخطأ.
س/ الترجمة في العالم العربي بطيئة وغير كافية لإطلاع المثقف العربي والقارئ العام على آخر المستجدات .. كيف ترى مُعوِّقات حركة الترجمة العربية المعاصرة؟
أيًا ما يكن الأمر، فالترجمة وحدها لا تكفي. بل لا بد لنا من تحويل الكتب والأبحاث المترجمة إلى واقع؛ واضعين في اعتبارنا أن نجتهد في الوصول إلى مستوى الغربيين واليابانيين في التقدم العلمي والحضاري. أما أن نظل ننقل ونترجم ثم لا شيء بعد ذلك؛ فلسوف نظل طول عمرنا متخلفين نقلد ونقلد فقط. لا يكفي مثلًا في الطب أن نعالج المرضى وأن نجري العمليات الجراحية بالطريقة التي تعلمناها على يد الغربيين؛ بل لا بد من اكتشاف أمراض جديدة والوصول إلى علاج لها وتركيب أدويتها، والقيام بما تتطلبه من عمليات جراحية لم يصل إليها الغربيون واليابانيون. وبذلك نكون مشاركين في صنع الحضارة لا في استهلاكها فقط.
س/ يرى القرَّاء عداءك المباشر للأدب الحداثيّ؛ فلماذا هذه المُعاداة؟ وكيف له أنْ يمثل خطرًا على الثقافة العربية؟
لا أظنني معاديًا للأدب الحداثي كمبدإ، بل أتهكم على من يعيشون في الدول المتخلفة وكل ما حولهم ضد الحداثة؛ ومع هذا تراهم يثرثرون بالحداثة ويتصورون أنهم صاروا حداثيين بهذه الثرثرة. وكثير من كتاباتهم غامض، ولغتهم مملوءة بالأخطاء، وقضاياهم لا علاقة لها بمجتمعاتنا وشعوبنا. وكثير منهم يكره العربية والإسلام، وهم يتقربون إلى الغرب بمهاجمة ديننا الكريم والانتصار لأي دين آخر حتى لو كان دين عبادة البقر، ويدعون إلى الإباحية الجنسية والشذوذ وما إلى ذلك.
س/ هل لشعر النثر تأثيرات ذات أبعاد أخرى ثقافية وحضارية؛ غير كونه “لونًا أدبيًّا” كما يصفه أصحابه؟
النماذج التى قرأتها نماذج تافهة وسخيفة، ولا تثير خيالًا أو عاطفة؛ فضلًا عن أن ترج الشخص رجا. وكثير منها غامض أو سطحي.
س/ لماذا طغى فنُّ الرواية على غيره من الفنون الأدبيَّة في العقود الأخيرة؛ حتى اختصرت قراءة الأدب عند العوام في قراءة الروايات؟ في ظلّ توارٍ شبه تامٍّ للفنون الأخرى؟
الرواية فن مُسلٍّ؛ ففيه تشويق والنفس تميل إلى سماع الحكايات وسرد الأحداث. كما أن لغة الرواية أسهل كثيرًا من لغة الشعر التي تحتاج إلى تعمق لغوي وبلاغي، فضلًا عن أنها في معظمها لغة مجازية، وموجزة. الشعر -بوجه عام- هو أدب الخاصة، أما القصص فهو -بوجه عام- أسهل على الجماهير والجموع.
س/ ما هي مهمة النقد في نظرك؛ هل هي تفسير النصّ أمْ تقويمه؟ أمْ أنَّ لك وجهة أخرى في الموضوع؟
الأمران معًا. الناقد كالرائد الذي يعتمد أهله على توجيهاته وتنبيهاته ويهتدون بهداه. لكن لا يصح أن نكتفى بقراءة النقد ونصدق ما يقال لنا تلقائيًا؛ بل لا بد من تنمية الحاسة النقدية لدينا بدورنا ونشارك فى النقد على نحو أو على آخر.
س/ تقترب في تجربتك النقدية من الواقع، ومن اللغة الدارجة -الصحيحة- كثيرًا؛ هل هذا في سبيل الاقتراب من أكبر قدر من الجمهور، أمْ لأنك تجد سياقات المقاربة هذه هي الشافية والمُجلِّية عن معانٍ في صدر ناقدنا وليس غيرها كمثلها في التعبير؟ وهل لهذا الأسلوب المُقارب والمُماسّ للدارج بعضُ خطر على التجربة النقدية عامةً في المستقبل إذا تُوسِّع استخدامها؟
ما يظن بعض القراء أنه لهجة عامية هو كلام فصيح في الأصل، كان يجري على قواعد اللغة لكن أهمل الإعراب فيه ودخلته بعض التحولات والتحورات. نعم العاميات هي فصحى في الأصل لكن بغير إعراب من جهة، وانحرفت بعض الانحراف عن الفصحى من جهة أخرى.
س/ بذِكر كتاب “إبراهيم عوض .. الأستاذ والفيلسوف والعالم” الذي أصدره الأستاذ محمود قاعود عن جهودكم .. إلى أي حد ترى النقد نشاطًا فلسفيًّا؟
الأستاذ القاعود شاب ظريف متحمس؛ فهو يطلق علىَّ ألقابًا ظريفة مثله لكني في الواقع لا أنا فيلسوف ولا حتى فلفوس.
س/ يلمح القارئ في سطور مُفكِّرنا تشاؤمًا من حال القراءة والتعليم والبلاد العربيَّة .. عندما يغمض الدكتور إبراهيم عينيه ماذا يرى للمستقبل تشاؤمًا أمْ تفاؤلًا؟
أي نهوض حضاري لا يمكن أن يتحقق مع الجهل وكراهية الكتاب والتفكير وتشغيل المخ. والطلاب بوجه عام ينفرون من التعلم ولا يريدون سوى الشهادة. والذي يده في النار ليس كالذي يده في الماء. ونحن المشتغلين بمهنة التدريس أيدينا في النار طوال الوقت.
س/ ومسك الختام .. تفضَّلتَ سابقًا في كتابات ولقاءات بذكر تحوُّلك من حبٍّ اعتياديّ لسيدنا “محمد” -صلى الله عليه وسلم- إلى حب اقتناعيّ عميق .. هلَّا تصف للقارئ المتشوق هذه التجربة، ودوافع التحوُّل، وكيف أثرت عليك داخليًّا؟
منذ صغري وأنا أحب النبي كأي مسلم. ولكنى كنت كلما قرأت كبار كتابنا ومفكرينا كالعقاد مثلًا تبينت عظمة النبي الكريم. لكن النقلة الهائلة وقعت حين اتصلت اتصالًا وثيقًا وواسعًا بكتابات المستشرقين والمبشرين؛ فقد كانت ولا تزال تدفعني إلى التعمق في دراسة شخصية النبي وإنجازاته ومقارنتها بإنجازات الأنبياء الآخرين والقادة والزعماء والحكام في كل الأمم. وعلى مدار التاريخ العالمي فأجده فذًا لم ينجز إنجازه أحد وبإمكانات صفرية في الغالب.