أين الطريق: تصنيع الله لشخصية الرسول ودورها في إخراج الناس من الظلمات إلى النور
في المرة الماضية كنا قد تحدثنا عن كيف أخرج هذا المنهج جيل الصحابة من الظلمات إلى النور، وفيه حلقنا فوق صفات جيل النور -جيل الصحابة- وأدركنا أن الفروق بيننا وبين ذاك الجيل هي فروق قلبية تمثلت في تقواهم لله عزوجل، وفي أمورهم التعبدية من صوم وصلاة وذكر وصدقات وعطاء. وخلصنا أن نفوس هذا الجيل لم يكن هنالك سلطان على قلوبهم إلا الله.
وتساءلنا كيف تحول هذا الجيل من جاهليته المظلمة إلى نورانيته تلك؟ فـ كانت الإجابة أنهم أفرغوا قلوبهم من استهداف الدنيا، وأنهم رابطوا طاعةً وإرضاء لله عزوجل. ثم أوردنا بعض من مظاهر نورانية الإسلام بعد استقاء هذا الجيل ذاك المنهج.
وحان الآن موعد سؤالنا الأول لك عزيزي القارئ، تُرى ما هو أول شيء رأته الجاهلية من نورانية هذا الدين؟
هل توصلت إلى الجواب؟ صحيح، أنت مُحق تمامًا، إن أول ما رأته الجاهلية من نورانية الإسلام هو شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- وشأن النبي أنه اُرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور (.. كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
وهذه الآية تبين لك، أن العلاقة ليست مباشرة بين الناس والمنهج، لكن هناك من يتلقى منهج هذا الكتاب ثم يُخرج بهذا المنهج الناسَ من الظلمات إلى النور، وهي مهمته وحده كُلف بها ووُجه إليها.
وهذا يصحح لدينا التصور بأن قراءتك للقرآن بذاتك تخرجك من الظلمات إلى النور، لكن الصواب أن تقرأ القرآن بـ هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وهناك العديد من الآيات التي استقينا منها هذا المعنى منها:
- (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
- (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
- (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
لكن، لماذا شخصية النبي مهمة في الدعوة؟
إن شخصية الداعي في حد ذاتها مهمة، فالمسلمون الأوائل لم يروا معجزة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم تتنزل عليهم آيات في بدايات الدعوة، فكان رأس مال الدعوة حينها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم ويصدقونه فيستجيبون. ولنعرف شخصية الرسول، سنرجع إلى الخلف لنرى كيف كان محمد؟
محمد بن عبد الله في عين قومه قبل البعثة
كانت صناعة الله لشخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- قد تمت على مدار أربعين عامًا قبل البعثة. فقد غُرست محبة محمد بن عبد الله في نفوس قومه قبل ابتعاثه، فهذا هو عبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- نذر أن يذبح أحد أبنائه إن رزقه الله بعشرة من الولد، فلما رزقه الله عشرة من الأولاد قام بإجراء القرعة ليختار أيهم يذبحه، فوقع الاختيار على ابنه عبد الله وهو أصغر أبنائه وأحبهم إليه. فقام عبد المطلب بالقرعة بين ابنه وبين فدائه بالإبل وقال: “اللهم هو أو مائة من الإبل” فوقعت القرعة على مائة من الإبل.
وبعد مرور قليل من الوقت على نجاة عبد الله من واقعة الذبح، تزوج عبد الله بـ آمنة بنت وهب وهي من أفضل نساء قريش نسبًا، وقد بلغ عمره حينها ثمانية عشرة عامًا. وتوفي عبد الله بعد حمل آمنة بشهرين! وكأنَّ المقصد من نجاة عبد الله من الذبح ليتزوج آمنة وتحمل آمنة بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مما زرع حب جارف لمحمد في قلوب أهل قريش من قبل ولادته.
وفي أثناء حمل آمنة بمحمد رأت منامًا وقصته على قومها فشاع فيهم وهو “أنها رأت كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام”. وبعدما أتم محمد بن عبد الله عامه السادس توفيت أمه، فأشفقت قريش على ذلك الطفل الذي فقد أبيه وهو لم يزل جنينًا ومن ثم فقد والدته وهو طفل.
لكن سرعان ما آواه إليه جده عبد المطلب واعتنى به، وقد كان عبد المطلب يُحب محمدًا حفيده حبًا شديدًا، وكان شديد الترفق به والعطف عليه وكان يُقدمه على بنيه. وما أكل عبد المطلب طعامًا إلا قال “عليَّ بابني” فيؤتى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إليه.
ولما بلغ محمد عامه الثامن توفى عبد المطلب، وقبيل وفاته قد أوصى عمه أبا طالب بكفالته، وقد كان أبو طالب يحب محمدًا ويحنو عليه. وقد اقتضت حكمة الله أن ينشأ محمد يتيمًا، لتتولاه عناية الله وحدها، وتوالى عليه الفقد فجعله رقيق القلب مرهف الحس؛ فالأحزان تُجلي النفس وتسمو بها.
وقد كان أبو طالب فقيرًا كثير الأولاد فعمل محمد برعي الأغنام مساعدةً له، وقد أعان محمد عمه وسأله أن يتكفل بعلي؛ تخفيفًا عليه. وقد أتاح له رعي الأغنام لونًا مختلفًا من التربية النفسية، فغرست في نفسه الصبر والرأفة والعناية بالضعيف.
وفي أحد المرات خرج أبو طالب إلى الشام وكان معه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب بحيرى وكانوا قبل ذلك يسيرون، فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، وجعل يتفرس وجوههم حتى أخذ بيد النبي وقال: “هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين” فقال له أحد أشياخ قريش: “ما علمك؟” فقال: “إنكم حين أشرفتم لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة”.
ثم صنع لهم طعامًا وقال لهم: “يا معشر قريش إني قد صنعت لكم طعامًا، فلا يتخلفن منكم صغيرًا أو كبيرًا ولا حرًا ولا عبدًا”، فتخلف محمد لصغر سنه، وجلس يهتم بأمتعتهم تحت الشجرة، فجعل ينظر بحيرى إلى القوم فلم ير أحدًا منهم تظله الغمامة، ورأها تحلق فوق محمد.
فأعاد بحيرى مقالته ثانية: “يا أهل قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي هذا”، فقالوا: “ما تخلف أحد منا إلا غلام صغير تركناه عند متاعنا”، قال: “ادعوه فليحضر طعامي”، فأرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله.
فلما فرغ القوم وتفرقوا، جعل بحيرى يسأل محمدًا عن حاله في بعض الأمور، فيخبره محمد فيوافق ذلك ما عند بحيرى الراهب من صفة رسول آخر الزمان، ثم سأله أن ينزع عنه جبته ونظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه.
فناشد بحيرى أبا طالب أن يقلل المكوث في الشام ويرده إلى مكة وأن يخشى عليه من اليهود، وقال لأبي طالب: “إنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم”، فعاد به أبو طالب مسرعًا مخافة أن يغتاله اليهود.
لقد تميز محمد بن عبد الله، ومن تفرده على قومه أنه شهد حلف الفضول، وهو ميثاق يقصد به نصرة المظلوم حتى يُرد إليه حقه. وقد كان هذا الحلف بمثابة نور في ظلام الجاهلية، وهو رسالة لك ولي على أن شيوع الظلام والفساد في أي مجتمع/نظام لا يجعله خالي من أي فضيلة.
وقد عَمِل محمد بالتجارة أيضًا، فهذه خديجة بنت خويلد الأرملة صاحبة الشرف والمال، كانت تستأجر الرجال ليتاجروا لها بمالها، فلما عرفت عن صدق محمد وأمانته وطيب أخلاقه عرضت عليه أن يتاجر لها بمالها في الشام فوافق وسافر مع غلامها ميسرة إلى الشام، وكانت هذه المرة الثانية التي يذهب فيها محمد إلى الشام لكن وهو شاب.
ولقد كانت هذه الرحلة سببًا في خير كثير، فلقد باعت خديجة ما أحضره محمد وتضاعف مالها ورأت بعينها بركة لم تشهدها من قبل، وكانت سببًا في زواج محمد من خديجة بعدما أخبرها ميسرة عن صدق محمد وأمانته وطيب أخلاقه. ورضي محمد بالزواج من خديجة، وكانت أول امرأة يتزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى توفاها الله.
ولعل في زواج محمد من السيدة خديجة عدة دروس وعبر منها: أنه لم يسعى للمتعة الجسدية برغم كونه في عنفوان شبابه، فلو كان لرغب بمن هي أصغر منه سنًا. لكنه رضي بالسيدة خديجة لعفتها وشرفها.
وما إن بلغ محمد الخامسة والثلاثين واجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة، وتم تقسيم العمل بين القبائل، وتولت كل قبيلة ناحية من نواحي الكعبة، حتى وصلوا إلى موضع الحجر الأسود، ودب الخلاف بينهم، وكادوا أن يقتتلوا، وجاء أبو أمية بن المغيرة واقترح عليهم أن يُحكّموا أول من يدخل عليهم من باب المسجد الحرام فوافقوا، فإذا أول داخل هو محمد بن عبد الله فهتفوا: هذا الأمين، هذا محمد رضينا حكمه، وأخبروه بالخبر، فما كان منه إلا أن أحضر ثوبًا ووضع الحجر في وسطه، وطلب من كل قبيلة أن تأخذ بناحية من الثوب فرفعوه، وما إن بلغوا موضع الحجر حتى رفعوا إليه ووضعه هو بيده الشريفة.
ونخلص من هذا الموقف إلى حكمة النبي وطريقته الموفقة في فض النزاع، وقد أظهرت لنا إذعان قريش الكامل لرأي محمد الصادق الأمين.
بعدما تتبعنا مسارات تصنيع شخصية الرسول على مدار أربعين عام، لعلك تتساءل الآن عن الجزء الثاني من العنوان الذي ابتدأنا به، وهو دور شخصية الرسول في إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
حسنًا، دعني أطرح عليك تساؤلاً جديدًا: هل إذا كان المنهج متوفرًا بدون شخص النبي -النموذج التطبيقي- هل كنا سنهتدي بهذا المنهج؟ إذا أردت أن تعرف الجواب، أدعوك سيدي القارئ لأن تكمل قراءة المقال بعناية.
المنهجيات التي اتبعها النبي ﷺ وراعاها في دعوة قومه
لقد كُلف النبي بالتعامل بمنهجية خاصة تتناسب مع قضايا هذا الجيل، وهذه المنهجيات استقاها النبي من الوحي، يقول الله -عز وجل-:
1. (.. وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..) أي: فلولا تطهير الله له من الغِلظة والشدة وجعله قريبًا رفيقًا رحيمًا بالمؤمنين، فلولا صناعة الله له لتركه الناس وتفرقوا من حوله.
2. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: ألن جانبك وكلامك وتواضع لهم، على الرغم من كون النبي لم يكن متكبرًا قط.
3. (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي: اعفوا عنهم في حال الخطأ.
4. (.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..) أي: يشاور أصحابه ويأخذ بأرائهم وهو الذي يأتيه وحي السماء؛ لأن ذلك أطيب لأنفسهم.
5. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..) أي: اصبر/ احبس نفسك مع أصحابك.
لابد أن يُؤخذ القُرآن بهدي من طبقه ودعا إليه.
طريقة النبي ﷺ في تقويم أمته
قد أسلم أبو بكر وعلي وزيد، لكن هؤلاء كانت نفوسهم عسرة، فهم نفوس نشأت على الإباء والكبرياء، لم يظنوا يومًا أن يكونوا تابعين، فلو أن طريقة النبي وسياسته لم تكن مناسبة، لما لانت نفوس هؤلاء القوم وما استجابوا وآمنوا.
فانظر إلى رُكانة ذاك المصارع المشرك قوي البنية، والذي لم يتمكن أحد من طرحه على الأرض أبدًا، يريد النبي له الهداية، فيحدثه بلغته التي يتقنها ويفهمها؛ حتى يلين جانبه إلى الرسول ويقبل دعوته.
“فجاء إليه النبي وقال: يا ركانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حقًا لاتبعتك. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق؟
قال: نعم، فصرعه النبي مرتين أو ثلاث! فقال له ركانة في الثالثة: يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليَّ منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
وقد قال رُكانة للنبي-صلى الله عليه وسلم-: والله لقد علمتُ إذ صرعتني أنك أعنت عليَّ من السماء“.
لقد كانت كل أفعال الرسول وطريقته إما بوحي من الله عز وجل، وإما أن يفعلها النبي ويتنزل الوحي يؤكد على الفعل أو يُعدله إلى شيء آخر.
فترى النبي مثلًا يقول لعمر حينما سمعه وهو يصلي قيام الليل “اخفض من صوتك”، ويقول لأبي بكر “ارفع من صوتك شيئًا”. وجاءت إليه امرأة تستفيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي يصرف وجه الفضل بيديه الشريفتين إلى الشق الآخر. كان هذا حال النبي وطريقته في تطبيق هذا المنهج.
ما الدور الذي قام به النبي ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور؟
لم يميز نفسه بشيء عن المسلمين
ساقت لنا السيرة مواقف عدة دللت على أن النبي لم يميز نفسه بشيء عن المسلمين، ففي غزوة الأحزاب وحفر الخندق وصف لنا البراء بن عازب -رضي الله عنه- وقال: “رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره وكان رجلًا كثير الشعر”.
وكان الرجل يأتي من الخارج يسأل ويقول: أيكم محمد؟! دلالة على أنه لا يعرف النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا شيء يميزه عن الآخرين.
رقة ولين وشدة النبي لإحقاق الحق
كان النبي حكيمًا، فتراه يحسم الأمور باللين تارة وبالشدة تارة أخرى، في يوم حنين، يوم آثر النبي ناسًا في القسمة، وكان مقصد النبي من هذه العطية تأليف قلوب من دخل في الإسلام حديثًا وتثبيتًا لهم على الإسلام.
فقال رجلًا: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما اُريد بها وجه الله، فأخبر ابن مسعود الرسول بمقالة الرجل، فغضب رسول الله، لكنه لان وصفح وغفر للرجل مقالته.
وعلى الجانب الآخر لا يحابي النبي أحدًا في الحق، فقد سرقت امرأة قرشية شريفة من بني مخزوم، وكره أهل قريش أن يتم تطبيق حد السرقة عليها وتُقطع يدها، وتساءلوا: من يشفع لها عند رسول الله؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله، فكلمه اسامة، فقال النبي: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب ثم قال:
إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وكان النبي يُقرب إليه من لا يقترب منه، فهذا زاهر بن حرام رجل ذميم، وكان النبي يُحبه، فأتاه النبي من خلفه وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أتركني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي، فقال رسول الله: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذًا تجدني كاسدًا، فقال رسول الله: لكنك -عند الله- لست بكاسد.
ومن صور تواضعه ولين جانبه أنه آتاه رجلًا، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: هون عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد. (ترعد فرائصه: أي تفزع وترتجف، وهي كناية عن شدة خوفه).
وهذا عمر بن الخطاب يستأذن النبي في العمرة، فأذن له، وقال له: “لا تنسانا يا أخي من دعائك”، فقال عمر: فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا.
وشملت رحمته ورِفقه الصغار، فكان -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى عُمير قال: يا أبا عُمير ما فعل النغير؟
يفجر الطاقات في أصحابه
كان النبي يستثمر طاقات الصحابة ويساعدهم في معرفة مواهبهم الكامنة، ولن يحدث هذا الأمر دون معرفته العميقة بأصحابه، ودون أن يعطيهم من أوقاته.
ففي أحد الأيام يسأل النبي قومه ويقول: “من يأخذ هذا السيف؟” فبسطوا أيديهم كل يقول: أنا أنا، فقال: “من يأخذه بحقه؟” فأحجم القوم، فقال أبو دُجانة: أنا آخذه بحقه يا رسول الله. وهذا زيد بن ثابت يقول: أمرني رسول الله أن أتعلم السريانية. وقد تعلم زيد السريانية في ثلاثة عشر يومًا.
وقد رأى عبد الله بن زيد النداء أي الآذان، فقال له النبي: “قُم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتًا منك” أي أعذب وأحسن.
يقوِّم من حوله باللطف
إن الأصل في النصيحة في منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- الستر والرفق واللطف، فعن عائشة رضي الله عنها: “خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النَّمَارِ، فقال: ما على أحدكم -إن وجد سعة- أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته؟”.
شرح الحديث:
في أحد الجُمع خطب النبي وقد ارتدى الأعراب ثياب النَّمار، أي أنها تشبه جلد النمر لما فيها من اللون الأبيض والأسود، وإذا عرق فيها لابسها فاحت منه روائح غير طيبة، فنصح النبي اﻷعراب وقال لهم من كان له فائض من مال فليكن له ثوب آخر غير ثوب مهنته؛ ليكون أجمل وأنظف في صلاة الجمعة.
وفي أحد المرات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله: “أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان”.
إذًا لن نهتدي بهذا القرآن دون معرفتنا بهدي من طبقه فـ “لابد أن يؤخذ القُرآن بهدي من طبقه ودعا إليه”.
وأخيرًا.. واجبك العملي
لعل ما جاء بك إلى هنا يعني أنك تسعى جاهدًا لأن تهتدي كما اهتدوا، لذا دعني أمدك بالواجب العملي:
- ارتبط بشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعش مع سنته، ليس في هديه الظاهر فحسب، لكن تلمس سنة الله في قلب النبي وطُهره وحكمته وطريقة تفكيره.
- أصلح من نفسك كمسلم وحقق صفات الخير بداخلك؛ لأنك رأس مال للدعوة.
وإذا رغبت في أن تتعرف على كيفية تحضير النفوس لاستقبال هذا النور من الرسول وكيف تنتفع بهذه السنة؟ فهذا ما سنتعرض له في تقريرنا القادم بإذن الله تعالى، فكونوا بالقرب.
ختامًا إذا اردت أن تهتدي بهذا المنهج فـ لابد أن يؤخذ القُرآن بهدي من طبقه ودعا إليه.
ممتاز جزاك الله خيرا
على الرحبِ والسعة دومًا، وإياكم.
هلا شاركتنا بالفوائد التي خرجت بها من المقال؟
شكرا
جزاكم الله خيرا