فقه التحيُّز عند المسيري
تحرير: عبد المنعم أديب
هل إدراكنا نابع من الواقع نفسه أم من نماذجنا المعرفية التي تراكمت في عقولنا أو التي نتبنَّاها؟! .. تكمن ضرورة هذا السؤال لمعرفة مدى أهمية النماذج المعرفية والإدراكية في فهم وإدراك الواقع؛ وذلك لأن النموذج المعرفي الإدراكي هو ما يحدد مجال الرؤية، كما أنَّ المقولات التحليلية توجِّه مسار البحث. ولا يخفى أن التبعية الإدراكية هي أولى محطات التبعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأنَّ استقلالها هي أولى مراحل الاستقلال.
من هنا ولأجل ذلك، قدَّم المسيري في سلسة أطروحاته الفكرية كتاب “العالَم من منظور غربي” ليناقش مُشكل النموذج المعرفي الإدراكي، وأهميته في توجيه مسارات البحوث والتفسير؛ وما يبنى عليه من استجابة المجتمعات وامتصاصها لهذه الرؤى، سواء كانت بوعي منها أو دونه. لذلك قام بتسليط الضوء على ما سمَّاه “التحيُّز في المنهج” وسماته وآلياته. وعلى الرغم مما تحويه كلمة تحيُّز من سلبيةٍ مصدرها تراكم تصوري معرفي قائم على رؤية ضيقة؛ فقد هدم المسيري هذا التصور ليصل بنا في آخر المطاف إلى حتمية التحيُّز، والدعوة إلى محاولة الوصول إلى نموذج معرفي بديل “فقه التحيّز”.
تقسيم المسيري لكتاب “العالم من منظور غربي”
يُقسِّم المسيري كتابه إلى شطرين: نظري وعملي. في القسم الأول يشرح التحيُّز ومعناه بشكل عام، ثم التحيُّز في المنهج، ويدرس إشكاليته، ويضرب الأمثلة التي توضِّحه؛ ليخرج بنتيجة مفادها أن “التحيُّز مسألة حتمية في الخطاب الإنساني؛ فهو مرتبط ببنية العقل الإنساني ذاتها، لأنه عقل ليس سلبيًّا أو متلقيًا يسجل تفاصيل الواقع كالآلة الصماء دون اختيار أو إبداع؛ وإنما هو عقل فعَّال لا يدرك الواقع مباشرةً، وإنما يدركه من خلال نموذج معرفي مُحمل بالأشواق والأوهام والأهواء والذكريات والأساطير والمصالح”. فهو ليس بنقص ولا بعيب، بل من الممكن أن يُجرَّد من معانيه السلبية وتكتشف معانيه الإيجابية. صـ 31.
وذهب أيضًا إلى أن النظريات التي تُنكر وجود التحيُّز؛ هي ذاتها متحيزة لرؤية محددة. وأكَّد على أن: “الإيمان بالتحيُّز هو رفض لفكرة بساطة الواقع، ولآلية الإدراك وسلبيته، ولفكرة القانون العام، وهو تأكيد أن عقل الانسان مبدع وفعال، وأن دوافعه مركبة، وهو دفاع عن مركزية الإنسان ضد الفلسفات المادية الطفولية”. صـ 34.
وأوضح أيضًا أنَّ الإيمان بذلك والاعتراف به سيؤدي بنا إلى التواضع العلمي: “فنحن لن نتصور البتة أنَّ وجهة نظرنا موضوعية وعالمية تتفق مع القانون العام؛ إذ إنَّنا سندرك أنَّ تحيزاتنا تقف بيننا وبين الواقع وتلوِّن إدراكنا بذاتيتنا؛ ولذا فإننا سنطرح رؤانا بقليل من التواضع والانفتاح وسنصغي لما يقوله الآخر؛ مدركين أيضًا أن ما سيقوله متأثر بتحيزاته، مما يجعلنا ندرك أنَّ العملية المعرفية عملية حوارية اجتهادية”. صـ 35.
وبعد أن أثبت أنَّ لكل مجتمع تحيزاته، أشار إلى ما حدث من قبل الشعوب؛ حيث إنَّها بدأت تتخلى عن تحيزاتها النابعة من واقعها وتاريخها الإنساني والوجودي، وتبنَّت التحيزات الغربية، وبدأت تنظر إلى نفسها من وجهة نظر غربية، وتسقط على واقعها هذه التحيزات الغربية، وتستخدمها في تفسير وإدراك واقعها؛ وطرح الأمثلة وأرجع هذه النماذج الغربية إلى أصولها المعرفية. ومن الأمثلة التي طرحها هو: “استخدام المصطلحين الشائعين “الحرب العالمية الأولى” و”الحرب العالمية الثانية”. هاتان الحربان كانتا عالميتين من منظور الإنسان الأوروبي وحسب؛ الذي كان يظن أن أوروبا هي العالم، أما ما عدا ذلك فأسواق ومستعمرات”. صـ 94.
ومن الأمثلة التي طرحها في التحيُّز إلى النموذج الغربي، وتدعو إلى التأمل هو ما سماه: (إعادة اكتشاف التراث من منظور غربي)؛ “فنكتشف أن المعتزلة عقلانيون، وأن الجرجاني أسلوبي، وأن الفن الإسلامي تجريدي، وأن الاغتراب موجود -والحمد لله- في تراثنا في شعر الخوارج والصعاليك، وأن أبا العلاء سبق ديكارت في الشك الفلسفي، وأن ابن خلدون اكتشف 85% من قوانين المادة الجديلة…ألخ”. صـ 52. أي أن أهمية التراث العربي لا تعود لأهميته بحد ذاته؛ بل بمدى توافقه مع النموذج الغربي المعرفي.
القسم الآخر من كتاب العالم من منظور غربي
أما في الشطر الثاني من الكتاب -وهو الشطر الأهم-، يقدم المسيري فيه آليات التحيُّز وذلك بـ:
1- إدراك حتمية التحيُّز.
2- الوصول إلى البعد المعرفي: “حيث إنَّ النموذج الغربي يظل على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا يصل أبدًا إلى المستوى المعرفي الذي يُشكِّل الإجابة عن الأسئلة النهائية التي تواجه الإنسان في الكون. ويعود ذلك لماديته”.
3- توضيح مزايا النموذج الغربي المعرفي. وقد قام المسيري هنا بتوضيح هذه المزايا التي حققها النموذج الغربي، ودعا للاستفادة منها مع ضرورة النقد كذلك.
خطوات تطوير منهج بديل
ثم ذكر خطوات أولية لا بد من اتخاذها لتزيد من قدرتنا على تطوير منهج بديل:
1- رفض تمجيد الذات.
2- إدراك أثر الإمبريالية.
3- إدراك الضعف الداخلي.
4- ليست عودة للوراء: “ويجب أن ندرك أن محاولة التوصل إلى نموذج بديل ليست دعوة للعودة إلى الوراء؛ وإنما هي تأكيد أن النماذج المستوردة لا تصلح لنا، وأنَّه لا بد من إعمال العقل والاجتهاد، وأخذ أوضاعنا بعين الاعتبار”. صـ 148.
ثم ذكر بعض المنطلقات الأساسية لهذا النموذج البديل؛ وهي منطلقات أفرد لها المسيري دراسات عدة موزعة في كتبه. ولهذا أقول: لا يمكن قراءة المسيري بشكل منفصل. وأذكر من هذه المنطلقات أهمها: (رفض الواحدية السببية، لا اختزال ولا تصفية للثنائيات، نموذج توليدي لا تراكمي، مقولة غير مادية…).
ختم المسيري دراسته قائلًا: إنَّ فقه التحيز هو فقه لكل ابن من أبناء هذه الأمة بأديانهم واتجاهاتهم، طالما أنَّه يدافع عن هويتنا الحضارية، ويرى أنها تستحق الحفاظ عليها. فالإسلام بالنسبة للمسلمين عقيدة يؤمنون بها، وهو بالنسبة لكل من ينتمي لهذه المنطقة النواة الأساسية للحضارة التي ينتمون إليها. ونحن إن لم ننتبه لخطورة الغزوة الحضارية ومنظوماتنا المعرفية والقيمية والجمالية؛ فربما قد يتحقق لنا البقاء، لا ككيان متماسك له هوية محددة، وإنما كقشرة خارجية لا مضمون لها. صـ 187.
نادراً ما يقرأ الشخص ملخص فيشجعه على قراءة الأصل. عرض مميز