حقيقة الموت في التصور الإسلامي
لقد تعامَلَ الإسلامُ مع قضيَّة الموت تعامُلاً رشيدًا واضحًا؛ ليُطلق رؤية مُؤسِّسةً لنظرة المُسلمينَ للموت، مُؤسَّسةً على عقيدة الإسلام. ولمْ يكتفِ بالترهيب أو استخدام الموت فزَّاعةً كما يقول المبطلون في أقوال سخيفة يلصقونها بالدعاة المُسلمين، ويقصدون بفعل الإلصاق هذا الإسلامَ نفسَه، لا الدعاة.
الموت ليس فكرةً عاديَّة، بل ليس فكرةً وحسب، بل هو الحقيقة الأولى والأخيرة. وهو من الحقائق المُطلقة التي تُسلِّم بها كلُّ نفس، وتراها حاضرةً وتذوقها. وللموت الكثيرُ من الرؤى الفلسفيَّة والفكريَّة والأدبيَّة؛ فقد كُتب عنه في كلّ الثقافات وبكلّ اللغات. لذلك هو من الموادِّ الثريَّة، وهو أيضًا من الموادِّ التي يتنوَّع فيها تفسير تلك الظاهرة التي تنال من البشر جميعًا. ويكون التفسير على حسب الثقافة الغالبة.
ولا أريد الإطالة -وقد تتهيَّأ فرصة قادمة للحديث في هذا الموضوع الجاد- لكنَّ الرؤى للموت في الغالب تكون إمَّا مُشوَّشة في ذاتها، وإمَّا مُشوِّشة لمُعتنقها ووارثها. وتخيَّلْ مثلا فكرة الموت عند الوجوديِّيْنَ، وعند الماديِّيْنَ، وعند الهندوس كأمثلة بسيطة لتعرف كيف تكون رؤية الفعل المركزيّ الأكبر -بعد لحظة الحياة والميلاد- عوارًا ضخمًا في البناء الفكريّ لديهم. وعلى خلاف ذلك تمامًا تصوُّر الموت في الإسلام، والذي سنحاول إلقاء بعض الضوء عليه من خلال سياقنا.
وقد عقد الإمام النووي ثلاثة أبواب في كتابه الرائق “رياض الصالحين” تتناول قضيَّة الموت من جوانب مُتفرِّقة “باب ذِكر الموت، وقِصَر الأمل”، و”باب استحباب زيارة القبور للرجال، وما يقوله الزائر”، و”باب كراهية تمنِّي الموت بسبب ضُرّ نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين”. وأهمُّها هو الأوَّل ولنغتنمه فرصةً لتوضيح بعضٍ من رؤية الإسلام للموت، وبعض الحِكَم الجليلة التي تنفعنا باتخاذنا هذه الرؤية. وتوضيح هذا يؤدِّي إلى إزالة بعض الغيام من جهات عدَّة بإذن الله -تعالى-.
القواعد التي أسَّستها الآيات في الباب
وقد بدأ الإمام بآيات في الباب الأوَّل سأجرِّب الآن عدم ذكرها اختصارًا، والاكتفاء بتقعيدها -أيْ وضعها في شكل قواعد بسيطة- لتُحدِّد أكثر وتبلور رؤية الموت في الإسلام -أو بعضها-.
- كلُّ نفس مكتوب عليها الموت حتمًا مقضيًّا.
- يوم القيامة هو يوم الحساب الكامل لكُلِّ نفس، لا الدنيا التي قد يُعاقِب فيها الله عقابًا جُزئيًّا أو يُثيب ثوابًا جُزئيًّا.
- لا يعرف أحدٌ ميعاد موته، لا الزمانيّ ولا المكانيّ.
- لا أحد يستطيع أنْ يُقدِّم أو يُؤخِّر في موعد موته أو موت غيره.
- الموت هو حدّ وقف الأعمال؛ فليس للإنسان إلا ما فعل قبله.
- لا أحد سيعود إلى طور العمل الحياتيّ بعد مجيء موته.
- يكتشف الإنسان أنَّ وقته في الدنيا كان قصيرًا جدًّا مَهمَا عمَّر، بعد أنْ يحلَّ في دار الخلود.
ثمَّ يُنهي الإمام آياته بمِسك الختام والغرض من التصوُّر الكُلِّيّ للموت في الآيات، وهي آية -الحديد 16-:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
فهذا هو الغرض الحقيقيّ من فهم الموت في الإسلام؛ طرح هذا السؤالِ اللطيفِ الحازمِ في الوقتِ عينِهِ. ألمْ يأنِ لك أن تعمل عملاً حقيقيًّا؟ ألمْ يحِنْ ويأتِ وقتُ أنْ تدرك أنَّ ما أنت فيه زينة قد وُضعِتْ وصُفَّتْ لتكون محض اختبار لك أيُّها المُؤمن؟ ألمْ يحِنْ أنْ تتيقَّن أنَّ الحقيقة ليست هُنا بل هُناك؟ ألمْ يحِن أنْ تُخالف فعل السابقِيْنَ الذين أعطاهم الله فضله، وأنعم عليهم بكتابٍ وهداية فتركوها ومضوا؟
تأسيس رؤية الموت على العقيدة
ولا شكَّ أنْ لحظتَ أنَّ القواعد السابقة والغرضَ منها نابعٌ من تصوُّر هو “العقيدة الإسلاميَّة“. حيث الإيمان أنَّ الله -تعالى- الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي خلق الدنيا وما عليها، وأنَّه مُدبِّر أمر ما خلق ومَن خلق، وأنَّ الدنيا دار عمل واختبار، وأنَّ الناس مجموعون ليوم الحساب بقُدرة خالقهم بعد أنْ أماتهم، وأنَّ الله يُقيم على الناس حُجَّةً ودليلاً بأنْ يُري كلُّ عائشٍ أنَّ مصير كلّ شيء للبِلى والموت.
وعندها يُفكِّر الإنسان ويسأل: إذا كان كلُّ شيء من حولي يموت، وأنا بالقياس حتمًا سأموت؛ فلا بُدَّ أنَّه تدبير عظيم، وقانون حازم حاسم لا ينتظر من أحد سؤالاً ولا استئذانًا، ولا بُدَّ لهذا القانون المُدبَّر من مُدبِّر قاهر يملك كلَّ السلطان حِيالَنا، ولا نملك حِيالَهُ أيَّ سلطان. ولو ملك أحدُنا سلطانًا لعصى عن نداء الزمن، وها هو نداء الزمن يقصم كُلَّ ظهر، ويُثني كُلَّ عزيمة، ويَحني رأس كُلِّ مُتجبِّر. فيا له من تدبير لا أملك لنفسي شيئًا فيه، بل نفسي فيه مملوكة لصاحب المُلك والملكوت، الله ذي الجلال والجبروت.
وهنا تحضرني أبيات للأستاذ الشاعر الكبير “محمود سامي البارودي” يصف فيها الموت. يقول:
كلُّ حيٍّ سيموتْ .. ليس في الدنيا ثُبُوتْ
حركاتٌ سوف تفنى .. ثُمَّ يتلوها خُفُوتْ
وكلامٌ ليس يحلُوْ .. بعدَه إلا السُّكوتْ
أيُّها السَّادرُ قُلْ ليْ .. أينَ ذاك الجَبروتْ؟!
كنتَ مطبوعًا على النُّطقِ .. فما هذا الصُّمُوتْ؟!
لَيْتَ شِعْريْ؛ أهُمُودٌ .. ما أراهُ أمْ قنوتْ؟!
أينَ أملاكٌ لهُم .. في كُلِّ أُفْقٍ مَلَكُوتْ؟!
حِكمة أنْ تعيش في الدنيا غريبًا
ثمَّ يُتحفنا الإمام بحديث يستحقُّ التأمُّل من كلّ وجه، وهو يتعلَّق تعلُّقًا كاشِفًا بتصوُّر الموت في الإسلام. يقول فيه رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
كُن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل.
ولنْ يأتي فهم الحديث فهمًا صحيحًا إلا بعد معرفة أنَّ الحديث تشبيه. شبَّه فيه الرسول الدنيا بأرض مجهولة، والمُسلم بالغريب أو عابر السبيل. وعابر السبيل هو عابر الطريق الذي يعبر على أماكن؛ ليمضي منها إلى أخرى، والغريب ضدّ أصحاب الديار.
والمُشترك بين المُشبَّه “المُسلِم” والمُشبَّه به “الغريب أو عابر السبيل” من جهات: فكلاهُما يُدرك أنَّ الأرض التي حلَّ فيها ليستْ أرضَه، وكلاهُما يريد أرضًا أخرى هي دياره وغرضه، وكلاهُما يعرف أنَّ لا مصلحة له من هذه الأرض التي هو عليها الآن، وكلاهُما يدرك أنَّ المصلحة على هذه الأرض وإنْ بدأتْ فهي مؤقتة بمِيقات بعدها سيرحل إلى دياره، وكلاهُما يأخذ حذره من الأرض التي هو عليها الآن فقد يكون ما فيها أو مَن فيها خطرًا عليه، وكلاهُما يتعامل بلُطف لأنَّه يُعامل غرباء غير مَأمونيْنَ من جهة وهو يعبر أرضهم من أخرى، وكلاهُما قد يتوقَّع السُّوء والحزن من هذه الأرض كما قد يتوقَّع الكرم والفرح، وكلاهُما لنْ يُعوِّل على هذه الأحزان ولا الأفراح لأنَّه يعرف يقينًا أنَّه تارك هذه وتلك إلى أرضه.
والكثير من المُشترك الذي يُنبئنا عن قيمة هذا التشبيه الضارب في عُمق المعنى. لكنْ هنا نسأل: ما الفائدة التي ستعود عليّ إنْ أنا اتَّبعت الحديث الشريف وعشت في الدنيا كغريب؟ وكثير من الإجابة في أوجه التشابُه ذُكِرتْ، لكنْ لا بأس أنْ نتأمَّل معًا بحُرِّيَّة قيمة هذا في نقاط مُحدَّدة ومُختصرة:
- المعنى الرئيسيّ والإفادة الأساس من تشبيه الرسول هو أنْ تعرف أنَّك لا تنتمي لهذه الحياة أصالةً، بل عَرَضًا. ولهذا وصفتْ الآية دار البقاء بأنَّها الحياة الحقيقيَّة، ولخَّصتْ قانون العالَم: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) -العنكبوت 64-.
- ترى الدنيا في صورتها الواضحة، وكذلك ترى أمورك الشخصيَّة وعلاقاتك مع الناس، وحال نفسك مع الله كذلك؛ فلا شكَّ أنَّ معرفة موقِعك من الحياة يجعلك ترى الأمور بشكل أفضل وتعرف غرضك الرئيسيّ. كما حال الغريب مع الأرض في الحديث.
- تعيش مُستقلَّ التبعيَّة إلا من تبعيَّة صاحب الدار الحقيقيَّة وخالقك أنت نفسك “الله” -تبارك وتعالى-. ومن هُنا تُحدِّد سلوكك على حسب بوصلتك؛ كما يستغلّ قطبان السفينة البوصلة في معرفة وجهته.
- تُرشِّد من انفعالاتك الجارفة من حُزن وفرح على السواء؛ لأنَّك تعرف أنَّ هذه وتلك حال مُؤقتة، وأنَّها وأسبابها جاءتك ليختبر الله فيها فعلَك كيفَ تفعل، لا لتستغرق في هذه الانفعالات وتستولي هي عليك.
- تطرح الدنيا خارج قلبك؛ فأنت تعلم أنَّ ما يصيبك منها وفيها مؤقَّت كذلك، وأنَّه أداة من أدوات اختبارك وحسب.
- تتخلَّص من عبوديَّة المال والسلطة وهذه الآلهة الزائفة؛ التي أخبرك الله أنَّها وهم وسراب سرعان ما يزول. وتجده ينقطع عنك كما جاءك، أو تجد نفسَك أنت قد فارقته.
- تعيش الحياة بواقعيَّة، وسيؤدي هذا إلى تغيير تصوُّرك عن الموت. فلنْ تهابه، بل أنت تعرف أنَّه مرحلة ستأتي حتمًا. وما عليك إلا الإعداد لها وحسب، بامتثال ما أمرك الله به.
وكثير من التأمُّل يزيد الصورة إيضاحًا في عقولنا، وقد حقَّ للبلاغة العربيَّة أنْ تقف أمام كثير من الأحاديث النبويَّة تستقي ما فيها من رحيق لا تنفد فوائده. وسأكتفي بهذا للاختصار يا عبد الله الصالح.
هل يعني هذا عدم مُشاركة المُسلم بالدنيا؟
وهنا قد يسأل البعض: هل معنى فهمي للموت وعيشي غريبًا كما أمرني الحديث أن أكفَّ عن المشاركة في الدنيا وما فيها؟ الإجابة أنْ ليس هذا غرض الحديث من الأساس. فالحديث فيه أنَّ الغريب -المُسلم- قد حلَّ بأرض -هي الحياة الدنيا-، ولنتذكَّر أنَّ الله نفسه هو واضعه فيها، وهو مُسبِّب اتصاله بهذه الدنيا. وأنَّ اتصاله بها مقصود مُدبَّر من قِبَله -تعالى-، وله غرض من ذلك هو اختبارك. والغرض من الحديث يقع فقط على “إرشادك” في طريقة التعامُل على هذه الأرض، ولا يتعلَّق بأنْ تُفوِّت غرض الشارع من وجودك فيها وتعتزل ما قد أتيتَ للاختبار به وفيه.
أعني أنَّ هذا الحديث وكذلك تصوُّر الموت في الإسلام يدفعانِ دفعًا إلى المبادرة في العمل الدنيويّ بكُلّ ما أرشدك إليه الإسلام من توجيهات أخلاقيَّة وسلوكيَّة. بل المُشاركة الفاعلة التي تنفع بها نفسك وتتزوَّد بها لما بعد موتك، وتُظهر فيها للآخرين أثر الإسلام فيك وفي سلوكك وفي حياتك؛ فتكون أنت الداعية لطريق الحقّ بتعبيرك عن طريق الحقّ هذا خيرَ تعبير.
تشبيه النبيّ لعُمر الإنسان
ومِمَّا يتعلَّق بالموت الحديثُ عن عُمر الإنسان. وقد أورد الإمام حديثًا فيه: “خطَّ النبيُّ خطًّا مُربَّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط. فقال: هذا الإنسان، وهذا أجُلُه مُحيطًا به -أو قد أحاط به-، وهذا الذي هو خارجٌ أملُهُ، وهذه الخُططُ الصِّغار الأعراضُ. فإنْ أخطأه هذا نهشه هذا، وإنْ أخطأه هذا نهشه هذا”.
والحديث صورة بليغة فيها عُمر الإنسان خطٌّ مَحدُودٌ تتقاطعُهُ كثيرٌ من الخطوط الصغيرة التي تُعبِّر عن حوادث الدنيا ومتغيِّراتها التي قد يموت الإنسان في أيَّة مرحلة منها. هذا عن عُمر الإنسان أمَّا أمله فهو خطّ خارج عن السياق كلِّه، وهذا تعبير عن اتساع أمل الإنسان وتزايُد أطماعه في الدنيا كما في وصف الآية الكريمة (إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) -الإسراء 37-. هذا الأمل وهذا الحال الذي وصفه الحديث يترشَّد ويتقوَّم بالتصوُّر الصحيح للموت الذي يُساعدك على أنْ تعرف على أيّ شيء يكون أملُك الحقيقيّ معقودًا؟ وفي أيّ غرض تأمل؟
فضل تذكير النفس بالموت
ولعلَّ هذا التصوُّر الواضح للموت يجعلنا لا نهابه، بل نريد ذكره. لأنَّنا ننسى الوجهة كُلَّما نسيناه، ونتيه في غرور الأرض بما فيها، ونظنُّ أنْ قد ملكنا شيئًا، ثمَّ نبدأ نتقاتل على هذا الشيء بضراوة وكأنَّه حقًّا لنا، وكأنَّه باقٍ لدينا، أو كأنَّنا باقون له. لهذا نجد الحديث ينصحنا: “أكثروا ذِكرَ هادم اللذات”. وعلَّق الإمام: “يعني الموت”.
ويبلغنا حديث آخر: “كان رسول الله إذا ذهب ثُلُث الليل قام، فقال: يا أيُّها الناسُ! اذكروا الله؛ جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة. جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه”. فانظر كيف هذا الحرص على تذكُّر حقيقة وجودك في الحياة، ثُمَّ تأمَّلْ كيف يكون فعلك في جميع حياتك بعدها. وتذكَّر أنْ ليس هذا دعوة للانكسار أمام الدنيا أو الآخرين، بل هي دعوة للتعامُل الرشيد معها ومعهم، والتزام ما أمر الإسلام به.
زيارة القبور للاتعاظ
وأدرج الإمام باب زيارة القبور لتطوير فهم الموت إلى مرحلة “المُشاهدة” التي تزيد المُسلم رسوخًا فيما يخبر به الإسلام عن حقيقة الدنيا الفانية، وعن عجز الإنسان فيها، وعن أنَّ تجبُّره بمالٍ أو سلطانٍ أو جاهٍ أو عِلمٍ أو نفوذٍ يعني أنَّه رسب في اختبار الله له، وإنْ بدا أحمقَ ناجحًا أمام الآخرين.
وفي هذا يأتي حديث: “كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزُورُوها”. وفي رواية أخرى: “فمَنْ أراد أنْ يزور القبور فليزُرها؛ فإنَّها تُذكِّرنا بالآخرة”. ولعلَّك تلحظ أنَّ الحديث سبَّبَ الزيارة بالوقوف على الحقيقة وسط كثير من الزيف حولك.
وكان يُعلِّم مَن خرج إلى المقابر أنْ يقول:
السلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين. وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون. أسأل اللهَ لنا ولكم العافية.
وفي إقباله على قبور المدينة وجَّه للقبور وجهه، ثمَّ سلَّم، وقال: “أنتم سلفُنا ونحن الأثر”. فانظر إلى التعامُل الرشيد مع الدنيا، وأثر تصوُّرك لفكرة الموت على حياتك.
النهي عن تمنِّي الموت بعد لحاق ضرر بالعبد
النهي هنا للكراهة وليس للتحريم. ولعلَّ المُسلم العاقل العارف لحقيقة تدبير الله يدرك أنَّ لوجوده حِكمةً، وأنَّ ما قد يصيبه من ضوائق يأتيه لحِكمة. فإمَّا هو لتنبيهه على فعل سُوء ليُقلع عنه، وإمَّا لاختبار فعله مع هذه الضوائق. وليستْ ضوائق الحياة دليلاً على سوء حال صاحبها؛ فأصحاب الابتلاء كلُّ البشر، أنبيائهم وأشرارهم. فإنَّه تدبير صاحب التدبير، وما عليك إلا أنْ تفعل صوابًا. لهذا أخبر الحديث: “لا يتمنَّ أحدُكم الموت؛ فإمَّا مُحسِنًا فلعلَّه يزداد، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّه يستعتب”.
وإذا ضاقتْ رُوحك في دُنياك، وأغلقتَ عينَيْك عن رؤية رحمة الله -التي تأتي في شكل ابتلاء أيضًا- فيُخبر الحديث:
لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموت لضُرٍّ أصابه. فإنْ كان لا بُدَّ فاعِلاً؛ فليقُل: اللهُمَّ أحيِنِيْ ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّنِيْ إذا كانت الوفاة خيرًا لي.
فاللهمَّ أحينا على الإسلام، وأمِتنا على الإسلام، وباعِدْ بيننا وبين معصيتك، وقرِّب بيننا وبين كلِّ طاعة لك.
جزاك الله خيرا