عن عمرِه فيما أفناه.. العمر فرصة فاغتنِمها
اسم هذا الباب من “رياض الصالحين” “باب الحثِّ على الازدياد من الخير في أواخر العمر”، ورغم أنَّ الإمام النووي قصد قصدًا إلى أواخر العمر في اسم الباب إلا أنَّ فيه ما يُمكِّننا أنْ نستشفَّ رؤية الإسلام عن فكرة “العمر” ونظرته لها. والذي في تدبُّره النفع لنا بإذن الله.
سؤال الله المُفحِم
يبدأ الباب بسؤال شديد الأثر على النفس البشريَّة في الآية الكريمة (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) -فاطر 37-. ويا له من سؤال قد يصيبك بالحَرَج! والله عندما استشعر العبد الفقير الذي يكتب هذه السطور هذا السؤال أحسَّ أنَّه يريد أنْ يرفع يده اتِّقاء هذه الصاعقة التي نزلت عليه. هذا الاستفهام في البلاغة للتعجُّب والاستنكار، ويُنفى التعجُّب لأنَّه من الله فيبقى سؤالاً استنكاريًّا -أيْ غرضه الاستنكار لا حصول الإجابة عن السؤال-. ويزيد الآية وضوحًا إذا أتينا بأوَّلها:
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)
فهؤلاء الذين يدخلون النار على سوء أعمالهم يسألون الله -تعالى- أنْ يُرجعهم للدنيا ليعملوا خيرًا وصالحًا غير السُّوء الذي اقترفوه. فيصفعُهُم السؤال “أولمْ نعمِّركم”؟! وعندها يتوقَّف كلُّ شيء! ويا لها من قوَّة تسلبك حُججنا الباطلة التي قد نحتجّ بها؛ أولمْ نمدَّ في أعماركم فلماذا لمْ تتنبَّهوا؟! أولمْ تمرَّ عليك السنة تلو السنة وأنت لاهٍ عن حقيقة وجودك؟! أولمْ تحسب عُمرك كلَّ عام فتجده ازداد رقمًا فلِمَ لمْ يزِدْك هذا الرقم رَشَدًا؟ .. هذا الاحتجاج الذي تقدِّمه الآية هو “احتجاج بالعمر” قرينةً ضدَّ الإنسان.
وعندها تكتشف أنَّ العمر الذي قضيت وقتك في تعداد كَمِّه كان الأحرى أنْ تفعل فيه شيئًا آخر. ثمَّ يزيد من حَرَجك إكمال الاستفهام في قوله “وجاءكم النذير”؛ ألمْ يأتِك هذا الشيب؟ ألمْ تُبلِغك هذه الشعرات التي تمرَّدتْ على السَّواد فوق رأسك أنْ قد حان وقتٌ؟ ألمْ يُشعرك انتصاف العمر بعد ثلاثين وأربعين أنْ عليك أنْ تُجهد نفسك في التحرُّك؟ وأنَّك كبرت على التلهِّي وتمضية الوقت كما يفعل أبناء السادسة؟ وأنَّك في نصف المُضيّ لا في نصف الترحاب بالدنيا؟
يقول الإمام النووي عن تفسير “النذير”: “قال ابن عباس: هو النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وقِيل: الشَّيْب، قاله عكرمة وابن عُيَيْنة وغيرهما”. وعلى أيٍّ من التفسيرَيْن تدبَّرْ وستجد هذا دافعًا صادقًا حارًّا على أن تتحرَّك بجدٍّ نحو الحقّ -تبارك وتعالى- .. ولعلَّك الآن تدرك قيمة هذا القرآن الذي بين يدَيْك الذي يُبلغك وأنتَ على الأرض ماذا سيحدث عندما تصير تحتها. ولعلَّك تسجد لله شكرًا على ما نبَّه وأنذر، فهذا الإله الحكيم العليم لا يستحقُّ منك إلا صادق العبادة والمَحبَّة.
العمر بوصفه فرصةً لك أو عليك
سبق أنْ رأينا الآية تحتج بالعمر قرينةً ضدّ الإنسان، وبهذا ترسم فلسفة العمر في الإسلام. حيث هو حُجَّة على مالكه، وفي الوقت نفسه فرصة عُظمى؛ لأنَّه السياق الزمانيّ الذي يقع فيه اختبار كلّ إنسان. وقد يكون قرينة له أو عليه على حسب عمله فيه. إنَّ هذه الآية ترسم رؤية واضحة لعُمر الإنسان في نظر الإسلام. كما تنكر أشدَّ الإنكار هذا التعامُل الذي نراه بكثرة مع العمر والوقت؛ حيث يَمضي الإنسان في بعثرته كأنَّه نقود وجدها في بنطاله لا يدري لها مصدرًا فاستمرأ أنْ ينفقها كيف يشاء دون حساب!
والحديث الذي جاء به الإمام النووي يدلُّ على هذا المعنى بدقَّة، يقول فيه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
أعذَرَ الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنةً.
ثم يضيف بعدها: “قال العلماء: معناه لمْ يترك له عُذرًا إذْ أمهله هذه المدَّة. يُقال: أعذَرَ الرجلَ إذا بلغ الغاية من العُذر”. ومعنى الكلام أنَّ الله يُعطيك عُذرًا بعد عُذر حتى إذا بلغ الواحد مِنَّا الستين فقد بلغ منتهى الأعذار.
ولا يرى مَن هو أقلُّ من الستين في هذا الحديث فُسحةً من الوقت، بل إنَّ الذي دون الستين هو مقصود ثانٍ للحديث -حيث المقصود الأوَّل تابع للنصّ على الستين- فالحديث يُبلغك أنَّك تنفق من رصيد أعذارك يا عبد الله عامًا بعد عام. فبادِر ولا تنتظر إلى أنْ تردَّ إلى آخر العمر كما في الآية (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) -النحل 70-.
العمر بوصفه سِجلًّا
وتخبرنا الآيات أنَّ أعمارنا مُقدَّرة عند الله مكتوبة في قوله -تعالى- (وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) -فاطر 11-. وتخبرنا آيات أخرى عن هذا الكتاب الذي يُسجَّل فيه كلُّ صغيرة وكبيرة تفعلها، تقول الآيتان (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) -الإسراء 14،13-. ومن هُنا نرى أنَّ مجموع النصوص تنظر إلى العمر لا بوصفه فرصةً وحسب، بل بوصفه سِجلًّا يُكتب. فعُمرك طال أو قصر هو في كتاب، وعُملك فيه يقيَّد في كتاب سيُعرض عليك يوم العرض.
فهذه الآيات قد أعطتك ورقة بيضاء هي عُمرك اكتب فيها ما تشاء من عمل. اكتب ما تشاء أنْ تراه، واعلم أنَّك كُلَّما تقدَّمت يومًا وفعلتَ فعلاً سطرتَ فيه سطرًا، وأنفقتَ من فُرصك فرصةً. ولا يغرَّك أنَّك اليومَ ذو قوَّة وقدرة فإنَّ آية أخرى تبلغك أنَّ هذه القوَّة عن قريب مُفارقة. قال -تعالى- (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) -يس 68-. فانتبه إلى استفهام “أفلا يعقلون” يا عبد الله الصالح، وكُنْ عاقلاً واعمُرْ وقتك بما أمرك الله، ولا تنفقه فيما نهاك عنه.
كبر العمر ليس دليلاً على رجاحة العقل
وأثَرٌ آخر أورده النووي في الباب يتناول حياة الإنسان وفكرة التعقُّل، وأنَّ عُمرك الصغير ليس مَدعاةً للتقصير بل للاجتهاد، ويُريك كيف هُم الصالحون صغارًا أو كبارًا. دار الأثر مع الصحابيّ الجليل “ابن عباس” يقول: “كان عُمر -رضي الله عنه- يُدخلني مع أشياخ بدر (أكابر الصحابة سنًا وعملاً، وهم الذين شهدوا معركة بدر مع الرسول) فكأنَّ بعضهم وَجَدَ في نفسه (المقصود العموميّ هو أنَّهم استصغروا ابن عباس لأنَّه حديث السنّ بالقياس بهم) فقال: لِمَ يدخلُ هذا معنا ولنا أبناءٌ مثله؟ (أيْ في مثل عُمره). فقال عُمر: إنَّه من حيث علِمتُم (يقصد قرابته للنبيّ، ودعاء النبيّ له بالفهم والفقه). فدعاني ذات يومٍ فأدخلني معهم، فما رأيت أنَّه دعاني يومئذٍ إلا ليُريهم (يقصد يُشهدهم براعة ابن عباس).
قال: ما تقولون في قول الله (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). فقال بعضُهم: أُمرنا نحمَد الله ونستغفره إذا نصَرَنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلَمْ يقُل شيئًا. فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلتُ: لا. قال: فما تقول؟ قلتُ: هو أجَلُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أعلَمَه له؛ قال (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجَلِك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). فقال عُمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
ونستفيد من هذا الأثر أنْ ليس كبر العمر دليلاً على رجاحة العقل، ولا صغر العمر دليلاً على نقصان فيه، ويرمي الإمام النووي بإيراده الأثر أن يُنبِّه من طرف خفيّ على بعض الغفلة أو الغرور الذي يصيب الإنسان بكبره فيظنُّ أنَّه قد رأى تمام الرؤية والأمر واضح أنَّه على غير ذلك. وهُنا نتذكَّر أبيات الأستاذ “أحمد شوقي”:
فَرُبَّ صغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ
سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابَ
وَكانَ لِقَومِهِ نَفعًا وَفَخرًا
وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذًى وَعابَ
فَعَلِّمْ ما استطعتَ لعلَّ جيلاً
سيأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابَ
وينسب إلى الإمام الشافعيّ -رحمه الله- بيتان في هذا المعنى:
وإنَّ كبيرَ القومِ لا عِلمَ عنده
صغيرٌ إذا التفَّتْ عليه الجَحَافِلُ
وإنَّ صغيرَ القومِ إنْ كانَ عالِمًا
كبيرٌ إذا رُدَّتْ إليه المَحافِلُ
فعل الرسول عندما كبر
ويتعلَّق بالأثر السابق حديث أورده بعده عن “عائشة”-رضي الله عنها-: “ما صلَّى رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-صلاةً بعد أنْ نزلتْ عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلا يقول فيها “سبحانَك ربَّنا وبحمدك، اللهُمَّ اغفر لي”. وأدرج بعدها أحاديث تعضد المعنى نفسه. فإذا علمتَ يا عبد الله الصالح أنَّ النبيّ نفسه قد أحدث أمرًا في أمره عندما رأى علامات ربّه فما بالك بنفسك!
تحذير من هيئة الموت
وآخر أحاديث الباب شديد الأثر كما كان أوَّله. يقول
يُبعَث كلُّ عبد على ما مات عليه.
وبما أنَّ كلَّ عبد لا يعرف وقت موته، وبما أنَّنا جميعًا شهدنا أنَّ الموت لا يتعلَّق بصغر ولا بكبر فحشود الملايين ماتوا صغارًا، وأمثالهم ماتوا كبارًا؛ فلننتبه لعلَّ الموت قريب، ولينظر كلٌّ مِنَّا إلى هيئة فعله التي يفعلها ويسأل: هل هذه الهيئة هي التي أريد أنْ أبعَث عليها؟ وأقابل ربِّي بها؟
فالحديث كما هو نذير لفاعل السُّوء أنْ يكفَّ عن فعله، هو بشارة لعباد الله الصالحين ذوي الهيئة الصالحة أنَّهم سيُبعثون عليها. كفانا الله هيئة السُّوء وأهله، وألبسنا هيئة الصلاح وأهله، فاعمل على ذاك يا راجي رحمة ربِّه.