فورين أفيرز: «كيف تعمل الديكتاتوريات».. قصة صعود وسقوط الطواغيت

هل استدارت عجلة التاريخ لتسير إلى الخلف؟ بات العالم الآن يسير للخلف عائدًا صوب الاستبداد وتقلص مساحات الحرية والمساواة؛ على حد قول «أنا جرزيمالا-بوسي» أستاذة العلوم السياسية بجامعة ستانفود وعضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، في سياق تقديمها عرضا لكتاب «كيف تعمل الدكتاتوريات» How Dictatorships Work، الذي ألف ثلاثة من علماء السياسية.

وترى الباحثة في العرض المنشور في مجلة «فورين أفيرز»، عدد يناير-فبراير 2020، أن ما يبعث على القلق في الكتاب هو تآكل الديمقراطية حتى في الدول التي تعد راسخة في ممارستها، وليس في الديمقراطيات الجديدة فحسب.    

وتضيف: يعيش العالم مرحلة غير ليبرالية. ففي السنوات الأخيرة، عزز الطغاة قبضتهم على العديد من البلدان وشهدت العديد من الديمقراطيات صعود قادة وحركات ذوي عقلية استبدادية. هذه الاتجاهات تجعل مهمة فهم الحكم الديكتاتوري ذي أهمية كبرى.

والأبحاث حول الاستبداد واسعة: إذ يظهر مصطلح «استبدادي» أكثر من 800 ألف مرة على الباحث العلمي لجوجل. لكن معظم تحليلات الموضوع تميل إما إلى التركيز على ظهور الديكتاتوريات وسقوطها أو دراسة أعمالها الداخلية. أما التحليلات التي تدرس صعود الأنظمة الاستبدادية وكيف تحكم فهي قليلة. 

في كتاب «كيف تعمل الديكتاتوريات» يقدم علماء السياسة: باربرا جيديس وجوزيف رايت وإريكا فرانتز، وسيلة تصحيحية، لا تكشف فقط عن كيفية فوز المستبدين بالسلطة وفقدانهم لها، بل وأيضًا كيف يديرون ذلك. وقدم الكُتّاب الثلاثة ثروة من البيانات الجديدة إلى الجمهور، حيث تتبعت هذه البيانات الأنظمة الاستبدادية من المهد إلى اللحد، وأخضعت الأفكار السائدة للاختبار. 

يصور كتاب «كيف تعمل الديكتاتوريات» ببراعة الطرق التي يسلكها المستبدون إلى السلطة وطرق احتفاظهم بها. ويخلص إلى أن قليلًا من الطغاة لديهم استراتيجية واضحة، لكن أولئك الذين يسيطرون على قوات الأمن في بلد ما، أو يبنون أحزابًا سياسية حاكمة، يميلون إلى البقاء على القمة.

تشريح الدكتاتورية

يعرف الكتاب الثلاثة، جيديس ورايت وفرانتز، الأنظمة الاستبدادية بأنها: أنظمة لا تحدد فيها الانتخابات من الذي يقود، أو هي تلك الأنظمة التي لا يغير فيها القادة المنتخبون ديمقراطيا قواعد اللعبة بينما يقضون على كل فرص الآخرين لمنافستهم. وفي طريق كتابة دراستهم، اعتمد المؤلفون على قاعدة بيانات تضم 280 نظامًا استبداديًا تولت السلطة بين عامي 1945 و 2010. وجمعت جيديس البيانات أولا، ثم قدم كل من «رايت» و«فرانتز» تحليلا لهذه البيانات. 

أولى الحقائق الكبرى التي توصلوا إليها هو أن 45 في المئة من الأنظمة الاستبدادية في هذه الفترة جاءت نتيجة لانقلابات عسكرية. (تميل الديكتاتوريات أيضًا إلى الظهور عندما تدعم القوى الأجنبية حاكمًا غير منتخب أو عندما تغير الأحزاب المنتخبة القواعد لمنع إجراء المزيد من الانتخابات الحرة؛ وهي الخطوة التي يطلق عليها جيديس ورايت وفرانتز مصطلح «السلطوية»). 

وتبرز الجيوش والأحزاب السياسية باعتبارها هي الجماعات المرجح على نحو أكثر أن تستولي على السلطة. لكن على الرغم من خبرتهم المهنية، فإن هذه النخب في كثير من الأحيان لا تكون لديها خطط مفصلة لكيفية إدارة السلطة التي استولوا عليها.

على عكس ما يتوقعه كثيرون، نادرًا ما تدافع الانقلابات عن مصالح النخب الاقتصادية، كما أنها لا تخرج عمومًا من الحركات الشعبية. بدلًا من ذلك، وجدت جيديس ورايت وفرانتز أن العديد من الانقلابات تنبع من مظالم الضباط العسكريين؛ أولئك الذين استبعدوا من الترقية على أساس عرقهم، على سبيل المثال. ولا يتطلب الأمر الكثير من المتآمرين للقيام بانقلاب: ففي عام 1969، على سبيل المثال، استولى معمر القذافي على السلطة في ليبيا بمساعدة عدد صغير من الحلفاء و 48 طلقة ذخيرة.

وبمجرد وصوله إلى السلطة، يجب على الديكتاتور ودائرته الداخلية أن يوازنوا بين التعاون والصراع. ويجب أن يتعاون المستبدون مع المرؤوسين لإنشاء قاعدة سياسية يرتكز عليها حكمهم، لكنهم يريدون أولا الحفاظ على ولاء طاقمهم.

الديكتاتور يغدق على مؤيديه مقابل الولاء

تتمثل معضلة الديكتاتور في منح مؤيديه المباشرين منافع كافية لضمان ولائهم، لكنه يقدم هذه المنافع بشكل محدود حتى لا يصبح أي مؤيد منافسا حقيقيا له. ويتعين على الديكتاتور أن يقدم تدفقا مستمرا من المنافع لمن حوله، فالوعود وحدها لا تكفي، لأن وعود المستبد ليست موضع ثقة. 

وعلى أي حال، لا توجد مؤسسات تراجع الديكتاتور أو تحاسبه، مثل المحاكم أو البرلمانات المستقلة. لذلك غالبًا ما يستمر الحكام عن طريق تفويض السلطة والمحسوبية أو عن طريق إعادة توزيع الأراضي والموارد الأخرى.

أحد الدروس الرئيسية المستفادة من كتاب «كيف تعمل الديكتاتوريات» هو أن المستبد الطموح سيحسن صنعا إذا ما أسس حزبا سياسيا حاكما. (مثل الحزب الشيوعي بزعامة رئيس الوزراء الكوبي الراحل فيدل كاسترو، الذي تأسس عام 1965 واستمر حتى يومنا هذا). وتقوم الأحزاب بتعبئة المجتمع وتزويد المواطنين بالمنافع، وصناعة نوع من التبعية التي تشجع الدعم الشعبي، وربما بنفس الأهمية، التواطؤ. وبمجرد أن يعتمد التعليم والوظائف والسفر على الانتماء للحزب، يظل معظم أفراد المجتمع موالين أو على الأقل هادئين.

هذه المحسوبية الحزبية تكون من نتائجها غير المقصودة ملء صفوف الحزب بانتهازيين يهتمون بالحصول على منافع ملموسة أكثر من اهتمامهم بأيديولوجية النظام المفترضة. لكن جيديس ورايت وفرانتز يشيرون إلى أنه على الرغم من ذلك، فإن الأنظمة الاستبدادية التي تدار من خلال أحزاب سياسية مهيمنة تستمر ضعفي مدة الأنظمة التي لا تدار على هذا النحو. (كان من المثير للاهتمام معرفة المزيد حول كيفية إنشاء القادة للأحزاب وإدارتها؛ على سبيل المثال: كيف يقومون بتنفيذ عمليات التطهير دون تجاوز ودون إثارة رد فعل عنيف).

الانتخابات المزورة والهيئات التشريعية الضعيفة تخدم المستبدين

يقدم كتاب «كيف تعمل الدكتاتوريات» إجابة لسؤال: لماذا تعد الانتخابات المزورة والهيئات التشريعية الضعيفة مفيدة للمستبدين؟ ليس لأنهم يوفرون غطاءً شرعيا بقدر كونهم يوفرون وسيلة للمستبدين لمراقبة أنظمتهم الخاصة ورعاياهم. 

كما تكشف الانتخابات المحلية عن كفاءة صغار مسؤولي الحزب، ويشير الإقبال المتدني، على سبيل المثال، إلى أن القائد المحلي غير قادر على تعبئة السكان لصالحه. فيما تشير الانتخابات الوطنية إلى قوة الحكومة أمام المنافسين المحتملين. بينما لا يقتصر دور الهيئات التشريعية على وضع القوانين فقط، بل يتمثل دورها الأهم في تقسيم وتوزيع المكاسب غير المشروعة.

ولكن في بعض الأحيان ينهار كل شيء. حوالي ثلث الأنظمة الاستبدادية تنتهي بانقلاب، وينتهي نحو ربعها بانتخابات. وغالبًا ما تُسَرِّع الأزمات الاقتصادية من سقوط المستبدين، لكن شبكات المحسوبية والعملاء يمكن أن تدعم المستبدين أثناء سقوطهم. 

لنأخذ، على سبيل المثال، نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، الذي يعاني من انهيار أسعار النفط ولكنه لا يزال يتمسك بالسلطة. غير أنه في النهاية، لا يمكن للمحسوبية والنفوذ السياسي فعل الكثير. يبرز الاتحاد السوفيتي كمثال مذهل على كيفية أن تدهور الاقتصاد، والتصورات الخاطئة للإصلاح وعواقبه لدى النخبة، وسحب الدعم الدولي، يمكن أن يؤدي إلى انهيار سريع وحاسم.

توسيع نطاق المهمة

يصف العرض كتاب «كيف تعمل الديكتاتوريات» بأنه إنجاز رائع، خاصة وأن الأنظمة الاستبدادية تقيد المعلومات عن نفسها. ويكشف المؤلفون الذين قدموا الكثير من البيانات، عن أنماط عميقة الجذور قد تفوت المراقبين. لكن جيديس ورايت وفرانتز يقللون من أهمية الدراسات القائمة على «الخبرة المحلية المثيرة للإعجاب» باعتبار أنها تفتقر إلى «الأدلة». 

وباستخدام نماذج واضحة مثل «الديمقراطية» و«الاستبداد»، يقدمون تحليلا واضحًا ولكنهم يتجاهلون الأنظمة الهجينة التي يميل فيها مجال التنافس نحو القابعين في السلطة، حتى لو كانت نتائج الانتخابات ليست مقررة سلفا. أيضًا، نظرًا لأن قاعدة بيانات الكتاب تنتهي في عام 2010، في الوقت الذي بدأ فيه التآكل الديمقراطي في التسارع، فإن المؤلفين غير قادرين على إلقاء الكثير من الضوء على واحدة من أكثر الظواهر إلحاحًا في السياسة المعاصرة، وهو الاستبداد الزاحف الذي يتبع الانحلال الديمقراطي.

اليوم، في الديمقراطيات الراسخة في جميع أنحاء العالم، يمثل التقويض البطيء والمستمر للقواعد والمؤسسات تهديدًا أكبر من الانقلابات المفاجئة. وعلى أي حال، فإنه أمر ينطوي على المخاطرة والتكلفة أن تحاول الإطاحة بحكومة قائمة. قليل من الناس أو المنظمات لديهم الوسائل لتنفيذ مثل هذه المؤامرة. ولكن يمكن لمجموعة واسعة من الجهات الفاعلة تقويض الديمقراطية تدريجيا تحت غطاء القانون، مما يثير القلق الدولي والاحتجاجات الداخلية ولكن القليل من التحديات الحقيقية.

وسائل ديمقراطية في خدمة نظم استبدادية

هذا هو السبب في أن المستبدين المحتملين اليوم لا يعتمدون ببساطة على الرقابة والقمع والمحسوبية. وبدلا من ذلك، فإنهم يتبعون مسارا مشابها لذلك الذي رسمه رجال أقوياء منتخبون ديموقراطيًا في بلدان مثل المجر وتركيا؛ عبر الملاحقة القضائية وتخويف الصحافة وإعاقة المجتمع المدني واستخدام الأغلبية البرلمانية لتمرير قوانين ودساتير جديدة. 

إذا ألقى المرء نظرة سريعة، ستبدو له الأمور طبيعية: حيث تجري انتخابات ويمكن للناس السفر إلى داخل البلاد وخارجها والمقاهي ممتلئة كما أن سجون الشرطة السرية فارغة (تقريبًا). لكن تحت السطح، تتآكل وتتلاشى التوازنات التي كانت تمنع الدكتاتورية من الظهور في يوم من الأيام. 

حتى في الأماكن التي تكون فيها المؤسسات الرسمية أكثر قوة، مثل الولايات المتحدة، أصبحت المعايير غير الرسمية التي تدعم الديمقراطية هشة. 

وحدد علماء السياسية ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات التساهل (عدم استخدام القانون لترسيخ شاغل المنصب الحالي) والتسامح (قبول المعارضة والانتقاد) باعتبارهما حاسمين لصحة الديمقراطيات. ويمكن للمرء أن يضيف المساواة أمام القانون: فكرة أنه لا يمكن للحكومة ولا القانون أن يميزا لصالح بعض الجماعات على غيرها. هذه المعايير تنهار، في الديمقراطيات القديمة وليس فقط في الديمقراطيات الجديدة.

ما وراء استقرار أهم ديكتاتورية في العالم

هذه المعايير غير الرسمية تبقي الأنظمة الاستبدادية واقفة على قدميها لبعض الوقت. ويولي جيديس ورايت وفرانتز القليل من الاهتمام لأهم ديكتاتورية في العالم في هذا الصدد، إنها جمهورية الصين الشعبية، وهي دولة استبدادية لم تستمر فحسب بل ازدهرت من خلال التكيف مع الاستبداد. 

مؤلفو الكتاب حاولوا تفسير سبب استقرار النظام الاستبدادي في الصين، لأنه يحكمه حزب شيوعي مهيمن. لكن الأحزاب الشيوعية الأخرى حول العالم فشلت. كيف إذن تمكن الحزب الشيوعي الصيني من إعادة صياغة العلاقة بين الرأسمالية والمجتمع؟ ما الذي منحه القدرة على تغيير المسار بعد ماو وفتح اقتصاد الصين دون انفتاح نظامه السياسي؟ 

جادل الباحثون بأن القواعد والمؤسسات غير الرسمية لعبت دورا هاما، من خلال ضمان الحكم الرشيد والنمو الاقتصادي، من ناحية، والحفاظ على سيطرة الحزب على المجتمع، من ناحية أخرى. سمح هذا التوازن الدقيق للحزب بتغيير المسار دون زعزعة استقرار النظام.

«كيف تعمل الديكتاتوريات» كتاب باعث على الاطمئنان، بطريقة ما، إذ يوضح الكتاب أنه حتى الطغاة الأكثر غرابة يتصرفون وفقًا لأنماط مألوفة. لكن فهم الموجة الحالية من التآكل الديمقراطي يتطلب اهتمامًا أكبر بالمعايير غير الرسمية، وكيف تسهم في ديمومة النظام، وكيف تشكل المسار الذي يمكن أن تصبح فيه الديمقراطيات أنظمة استبدادية أو تكون قادرة على التوقف في مكان ما على طول الطريق.

تبيان

تبيان، مجلة رقمية تتناول ما يُهم أمّتنا ومشاكلها وقضاياها الحقيقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى